طالب العلم والسيرة الأخلاقية

طالب العلم والسيرة الأخلاقية0%

طالب العلم والسيرة الأخلاقية مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 177

طالب العلم والسيرة الأخلاقية

مؤلف: السید عادل العلوی
تصنيف:

الصفحات: 177
المشاهدات: 23810
تحميل: 7471

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23810 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
طالب العلم والسيرة الأخلاقية

طالب العلم والسيرة الأخلاقية

مؤلف:
العربية

ثانياً : عندما يأكل يجب أن يكون ذلك بعد الجوع بساعة مثلا ، ثمّ يأكل بحيث لا يشبع تمام الشبع ، هذا في كمّ الطعام ، وأمّا كيفيّته ، فبالإضافة إلى الآداب المعروفة ، أن لا يأكل اللحم كثيراً ، بمعنى أن لا ياكله في وجبتي اليوم والليلة معاً ، ويتركه في كلّ اُسبوع مرّتين أو ثلاثاً في الليل وفي النهار ، ويتركه مرّة إذا استطاع للتكيّف ، ويجب أن لا يكون ممّن اعتاد غلي تناول البزورات (المخلوطة) ولا يترك صيام ثلاثة أيّام في كلّ شهر إذا استطاع.

وأمّا تقليل النوم فكان يقول : أن ينام في اليوم والليلة ستّ ساعات ، ويهتمّ طبعاً بحفظ اللسان واجتناب أهل الغفلة كثيراً.

هذه الاُمور تكفي في إضعاف البعد الحيواني ، وأمّا في تقوية البعد الروحاني :

أوّلا : يجب أن يكون دائماً متّصفاً بالهمّ والحزن القلبي لعدم وصوله إلى المطلوب.

ثانياً : أن لا يترك الذكر والفكر ما استطاع لأنّ هذين هما جناح سير سماء المعرفة.

وفي الذكر كان عمدة ما يوصي به : أذكار الصبح والعشاء ، أهمّها ما ورد في الأخبار ، وأهمّ ذلك تعقيبات الصلوات ، والأكثر أهمّية ذكر وقت النوم المأثور في الأخبار ، لا سيّما أن يغلب عليه النوم حال الذكر متطهّراً.

وحول قيام الليل كان يقول :

في الشتاء ثلاث ساعات ، وفي الصيف ساعة ونصف ، وكان يقول : لقد لمست آثاراً كثيرةً في سجدة الذكر اليونسي( لا إلـهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمينَ ) ، أي في المداومة على ذلك بحيث لا تترك في اليوم والليلة ، وكلّما كانت أكثر ، كلّما ازداد تأثيرها ، وأقلّ ذلك أربعمائة مرّة ، وأنا العبد جرّبت ذلك ، كما إدّعي

١٤١

تجربتها عدّة أشخاص ، وواحدة أيضاً قراءة القرآن بقصد هديّته إلى خاتم الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله)(١) .

وأخيراً : قال الله تعالى :

( إنَّ المُتَّقينَ في جَنَّات وَعُيون آخِذينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كانوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنينَ كانوا قَليلا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعونَ وَبِالأسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرونَ ) (٢) .

( تَتَجافى جُنوبُهُمْ عَنِ المَضاجِعِ يَدْعونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّـا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما اُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جَزاءً بِما كانوا يَعْمَلونَ ) (٣) .

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْموداً ) (٤) .

من وصايا النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) :

« عليك بصلاة الليل » ـ يكرّره أربعاً ـ.

« يا عليّ ، ثلاث فرحات للمؤمن : لقى الإخوان ، والإفطار من الصيام ، والتهجّد في الليل ».

« ما زال جبرئيل يوصيني بقيام الليل حتّى ظننت أنّ خيار اُمّتي لن يناموا ».

« ما اتّخذ الله إبراهيم خليلا إلاّ لإطعامه الطعام ، وصلاته بالليل والناس نيام ».

قال الإمام الباقر (عليه السلام) :

__________________

١ ـ من سيماء الصالحين : ١٧٥ ـ ٢٠٠.

٢ ـ الذاريات : ١٨.

٣ ـ السجدة : ١٦.

٤ ـ الإسراء : ٧٩.

١٤٢

« كان عليّ (عليه السلام) يقول : إنّا أهل بيت اُمرنا أن نطعم الطعام ، ونؤدّي في النائبة ، ونصلّي إذا نام الناس ».

« شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّ المؤمن كفّه عن أعراض الناس ».

« لا تدع قيام الليل ، فإنّ المغبون من حرم قيام الليل ».

يا طلاّب علوم آل محمّد (عليهم السلام) ، ويا تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) ، هذا الإمام الناطق يقول : « إنّي لأمقت الرجل قد قرأ القرآن ، ثمّ يستيقظ من الليل فلا يقوم حتّى إذا كان عند الصبح قام يبادر بالصلاة ».

وهذا ليس بالطالب نفسه ، بل قوا أهليكم ناراً ، ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

« إذا أيقظ الرجل أهله من الليل ، وتوضّيا وصلّيا ، كتبا من الذاكرين لله كثيراً والذاكرات ».

« عليكم بقيام الليل ، فإنّه دأب الصالحين قبلكم ، وإنّ قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم ».

« عليكم بصلاة الليل فإنّها سنّة نبيّكم ، ودأب الصالحين قبلكم ، ومطردة الداء من أجسادكم ».

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :

« قيام الليل مصحّة للبدن ، وتمسّك بأخلاق النبيّين ، ورضى ربّ العالمين ».

« ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : صلاة الليل نور ، فقال ابن الكوّاء : ولا ليلة الهرير؟ قال : ولا ليلة الهرير ».

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى :( إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، قال :

« صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار ».

١٤٣

هذا وكما ورد في الخبر الشريف :

« ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم نورٌ يقذفه في قلب من يشاء هدايته ، وصلاة الليل نور ، ممّـا يزيد في العلم النافع صلاة الليل ».

« صلاة الليل تبيّض الوجه ، وصلاة الليل تطيّب الليل ، وصلاة الليل تجلب الرزق ».

سئل الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام) : ما بال المتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجهاً؟ قال : لإنّهم خلوا بالله فكساهم الله من نوره.

وأمّا العمل الذي يحرم الإنسان من توفيق صلاة الليل ، فقد جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : إنّي قد حرمت الصلاة بالليل ، فقال : « قد قيّدتك ذنوبك ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) :

« إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيُحرم بها صلاة الليل ».

« إنّ الرجل يذنب الذنب فيُحرم صلاة الليل ، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم »(١) .

يا طالب العلم ، بالله عليك هل تغمض العين في الأسحار لمن يقرأ هذه الآيات القرآنية والروايات الشريفة ، ويسمع حالات علمائنا الأعلام؟!

فمن هذه الليلة توكّل على الله سبحانه وصمّم على أن لا تترك صلاة الليل ، وعليك بالدعاء والمناجاة والأذكار ، ومن الله التوفيق والسداد والرشاد ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

__________________

١ ـ الروايات من ميزان الحكمة ٥ : ٤١٦.

١٤٤

وهذا شيخنا الأنصاري (قدس سره) إضافة على العبادات التي كان مواظباً عليها يومياً إلى آخر عمره الشريف من الفرائض والنوافل الليليّة والنهاريّة والأدعية والتعقيبات إضافة على ذلك ، كان يقرأ في كلّ يوم جزء من القرآن ويصلّي صلاة جعفر الطيّار ويقرأ الجامعة الكبيرة وزيارة عاشوراء.

وهذا هو العلاّمة الطباطبائي صاحب الميزان يحدّثنا عنه تلميذه ، أنّه كان من أهل الذكر والدعاء والمناجاة ، كنت أراه في الطريق كان في الغالب مشتغلا بذكر الله ، وفي الجلسات التي اشتركت فيها بين يديه ، عندما يخيّم السكوت على المجلس كانت شفتاه تتحرّكان بذكر الله ، وكان متلزماً بالنوافل ، وكان أحياناً يرى في الطريق يصلّي النافلة. كان يحيي ليالي شهر رمضان ، يطالع قليلا ، ويقضي باقي الوقت في الدعاء وقراءة القرآن والصلاة والأذكار.

وهذا صاحب الرياض على كبر سنّه دخل الحوزة ، ونال ما نال من العلم بالدعاء والعبادة والتوسّل بأهل بيت النبوّة (عليهم السلام).

ولو أردنا أن نذكر تراجم سلفنا الصالح في توجّههم للعبادة والدعاء والأذكار لاستدعى ذلك إلى مؤلّفات قطورة ، إنّما نكتفي بهذه النماذج الطيّبة ، ومن أراد الله هدايته يشرح صدره للإسلام ولنور العلم النافع والعمل الصالح ، وتكفيه هذه المواعظ إن كان من أهلها ، والله الموفّق والمعين.

ثمّ لا يخفى أنّ بعض الطلاّب بمجرّد أن تعلّم بعض المصطلحات يبتلى بالتكبّر ، فيترك جانب العبادة مدّعياً أنّ ذلك شغل العجائز ، وأنّه أمرٌ مستحبّ ، ولا يدري أنّ فطاحل العلم وأساطين الفقه والاُصول كان من دأبهم الدعاء والعبادات والزيارات ، والبعض الآخر يدّعي أنّ العلم هو الحجاب الأكبر فيفرط في العبادات غافلا عن العلم والتعليم والتعلّم ، فلا يدرسون أو يكتفوا بدرس واحد ، ويقضون

١٤٥

أكثر أوقاتهم بالبطالة ، هؤلاء كالصنف الأوّل أخطأوا الطريق أيضاً ، وينطبق عليهما معاً كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا ترى الجاهل إلاّ مفرطاً أو مفرّطاً » ونتيجة ذلك أنّ الإفراط والتفريط كلاهما خطأ ، بل كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) : « اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادّة ».

فعلى الطالب أن يسلك طريقة الاعتدال ، فيشتغل بالدراسة بكلّ جهده وطاقته ويبذل ما في وسعه في طلب العلم ، وبجنبه يشتغل بالعبادات والزيارات والأدعية والأذكار ، فهما جناحان لطالب العلم يحلّق بهما في آفاق الكمال وسماء السعادة ، وهما عبارة اُخرى عن التزكية والعلم ، والتربية والتعليم ، فعبادة من دون دراسة يجرّه جهله إلى وادي الهلاك ، وعلم بلا عبادة يؤدّيه إلى وادي الشقاء ، فالعلم والعبادة معاً جنباً إلى جنب(١) .

قال الله تعالى :

( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمْهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ ) (٢) .

__________________

١ ـ مقتبس من سيماء الصالحين : ١٤٨.

٢ ـ آل عمران : ١٦٤ ، الجمعة : ٢.

١٤٦

الدرس التاسع

الأمر الخامس عشر

مداراة الناس ورعاية الآداب الاجتماعية

قال الله سبحانه وتعالى :

( خُذِ العَفْوَ وَأمُرْ بِالعُرْفِ وَأعْرِضْ عَنِ الجاهِلينَ ) (١) .

( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ في الأمْرِ ) (٢) .

( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ ) (٣) .

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

« أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض ».

« جاء جبرائيل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال : يا محمّد ، ربّك يقرئك السلام ويقول لك : دارِ خلقي ».

__________________

١ ـ الأعراف : ٩٩.

٢ ـ آل عمران : ١٥٩.

٣ ـ المائدة : ١٣.

١٤٧

« مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش ».

« إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله على خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء دين الله ، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله ».

« ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتمّ له عمل : ورعٌ يحجزه عن معاصي الله ، وخلقٌ يداري به الناس ، وحلمٌ يردّ به جهل الجاهل ».

يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) :

« المداراة أحمد الخِلال ».

« ثمرة العقل مداراة الناس ».

« رأس الحكمة مداراة الناس ».

« مداراة الرجال من أفضل الأعمال ».

« دارِ الناس تأمن غوائلهم وتسلم من مكائدهم ».

« سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس ».

« من دارى أضداده أمن المحارب ».

سئل الرضا (عليه السلام) : ما العقل؟ قال : التجرّع للغصّة ، ومداهنة الأعداء ، ومدارة الأصدقاء.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ قوماً من قريش قلّت مداراتهم للناس فنفوا من قريش ، وأيم الله ما كان بأحسابهم بأس ، وإنّ قوماً من غيرهم حسنت مداراتهم فاُلحقوا بالبيت الرفيع ، ثمّ قال : من كفّ يده عن الناس ، فإنّما يكفّ عنهم يداً واحدة ويكفّون عنه أيادي كثيرة »(١) .

__________________

١ ـ الروايات من ميزان الحكمة ٣ : ٢٣٨.

١٤٨

طالب العلم يمثّل بزيّه وسلوكه زيّ وسلوك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والناس يتقرّبون إليه ويتبرّكون به ويقتدون بفعله ويهتدون بعمله وقوله ، فهو الاُسوة والقدوة ، والقائد الناجح الموفّق من كان يحمل صدراً رحباً وسيعاً ، وخُلقاً سمحاً ، وروحاً لطيفة شفّافة ، وأحاسيس ظريفة مرهفة ، يحسّ آلام الناس ويعيش مشاكلهم وقضاياهم ، ويشاورهم في الأمر ، يفتح لهم صدره ويستقبلهم بثغر باسم ، ووجه بشوش ، وقلب عطوف رؤوف.

فلا بدّ له أن يراعي شعور الناس ويداريهم بخير مداراة ، فإنّ التودّد إلى الناس نصف العقل ، وربما يضيّع علمه بسوء خلقه ، وحتّى أهله وعياله لا بدّ لهم حفظاً لمقام والدهم من مراعاة الآداب والأحكام الشرعيّة.

فحسن الخلق ورعاية آداب المعاشرة والقضايا الاجتماعية أصل مهمّ في حياة طالب العلم ، وكان سلفنا الصالح يبالغون في حفظ ذلك ، ورعاية حال الناس لا سيّما الفقراء والمحرومين.

يقول شيخنا الاُستاذ آية الله الشيخ فاضل اللنكراني دام ظلّه : رافقت اُستاذي آية الله العظمى السيّد البروجردي عليه الرحمة إلى المياه المعدنيّة في مدينة محلاّت ، وهي تنفع لعلاج آلام العظام والمفاصل ، وكان السيّد الاُستاذ مصاباً بألم في رجله. بقينا هناك عدّة أيّام وكان الناس يزورون السيّد بشوق ولهفة ، فأمر السيّد بشراء كمّية من الأغنام وذبحها وتوزيع لحمها بين الفقراء ، وعزلوا شيئاً من اللحم لطعام الظهر يعملون منه كباباً للسيّد ، وحينما وضعوا الكباب في المائدة اكتفى السيّد بخبز ولبن وخيار ، ولم يأكل من الكباب ، قالوا للسيّد بأنّ الفقراء أخذوا سهمهم ، وهذا من حقّكم. فأجاب السيّد : من المستحيل أن آكل من كباب استنشق رائحته الفقراء ، فتركنا أكل الكباب احتراماً للسيّد واُعطي للفقراء مرّة اُخرى.

١٤٩

قيل لبعض العرفاء المرتاضين : إنّ رجلا من المتصوّفة بلغ في ترويضه لنفسه إلى حدّ أنّه يمشي على الماء! فقال العارف : وكذلك يفعله الضفدع. فقيل له : وإنّ واحداً منهم يطير في الهواء! فقال : وكذلك يفعله الذباب. قيل له : ومنهم من يسير من بلد إلى بلد في لحظة بطيّ الأرض! فقال : وكذلك يفعل الشيطان ، يسير من المشرق إلى المغرب ، ثمّ قال : ليس بهذه الأشياء قيمة الرجل ، بل الرجل كلّ الرجل مَن كان يخالط الناس بحسن ويعاشرهم بمعروف ويخدمهم ولا يغفل عن الله طرفة عين.

وإليك ما فعله العلاّمة آية الله السيّد محسن العاملي صاحب (أعيان الشيعة) ، فإنّه كان يمشي خلف جنازة أحد كبار علماء السنّة في سوق الحميدية بالشام ، ثمّ صلّى عليه في المسجد الاُموي ، ثمّ أقبل الناس يقبّلون يد السيّد. فسئل السيّد : كيف هؤلاء السنّة يقبّلون يدك؟ فأجاب : هذه ثمرة حسن معاشرتي مع الناس لمدّة عشرة أعوام ، فإنّي لمّـا قدمت إلى الشام حرّض بعض الجهلة أشدّ الأعداء عليّ ، فكان أطفالهم يرمونني بالحجارة ، وأحيانا يجرّوا عمامتي من الخلف ، ولكنّي صبرت على الأذى وعاملتهم بلطف وإحسان ، وشاركت في تشييع جنائزهم ، وعدت مرضاهم ، وتفقّدت أحوالهم ، كنت أبتسم معهم دائماً اُظهر لهم حناني ، إلى أن استبدلوا العداء بالمحبّة(١) .

وهاك ما فعله العلاّمة المجلسي (قدس سره) عندما التجأ إليه أحد المؤمنين بأنّ جاره من المطربين وشقاوات إصفهان يؤذيه في الليالي ، فطلب منه العلاّمة أن يدعوهم إلى العشاء ويحضر هو أيضاً ، ولمّـا دخل المطربون المجلس وجدوا في زاوية الدار

__________________

١ ـ قصص وخواطر : ١٢٧.

١٥٠

العلاّمة المجلسي ، فتعجّب من حضوره ، فجلس بجواره ، فأراد أن يسخر من العلاّمة ليضحك أصحابه عليه فقال : يا شيخ ، سجاباكم أفضل أم سجايانا؟ فإنّا وإن كنّا من الفاسقين إلاّ أنّ لنا صفة وسجيّة تفقدونها أنتم المؤمنون. فقال العلاّمة : وما هي؟ فقال : نحن معاشر الشقاوات من أخلاقنا أنّه إذا أكلنا من طعام أحد لا نكسر مملحته ولا نخونه (كنايةً عن رعاية الذمّة والملح وعدم الخيانة بمال وناموس مَن يأكلون زاده). فقال له الشيخ : لا تصدق في كلامك. فغاض الشقيّ وقال : أنا وأصحابي كلّنا ملتزمون بهذه السجيّة ، فإمّا أن تثبت خلاف ذلك وإلاّ فأجابه العلاّمة : يا هذا ، ألست طيلة عمرك تأكل ملح الله وزاده وتكسر المملحة وتخالفه وتعصيه؟! ما أن سمع الرجل هذه الكلمة التي خرجت من الأعماق ، إلاّ وارتعدت فرائصه وأمر حاشيته بالخروج من المجلس ، وعند السحر أتى العلاّمة مع جماعته ، وقال له : يا شيخ ، حتّى الفجر فكّرنا في مقولتك هذه ، فوجدنا الحقّ معك وكسرنا المملحة ، وهذه ليست من شيمتنا ، والآن أتيناك تائبون مستغفرون ، فهل لنا توبة؟ فرحّب بهم العلاّمة ، واهتدى هو وأصحابه على يديه ، فحسن حالهم(١) .

وقد دخل سارق بيت أحد العلماء ، فأخذ يفتّش في كلّ زاوية من البيت فلم يجد شيئاً ، فلمّـا همّ بالخروج ناداه العالم : إنّك جئت في طلب الدنيا فليس عندنا منها شيء ، فهل تريد من الآخرة؟ فقال السارق : نعم ، فاحتضنه العالم وعلّمه التوبة حتّى أسفر الصباح ، وبعد الصلاة ذهب إلى المسجد للدرس ، فسأل التلامذة عن الرجل ، فأجاب : أراد أن يصيدني ولكنّي اصطدته فجئت به إلى المسجد ، وهكذا أصبح السارق من التائبين المؤمنين.

__________________

١ ـ قصص العلماء : ٢٣٣.

١٥١

وما أجمل المنطق الذي تحلّى به شيخنا الأعظم الأنصاري ، حينما اجتمع تجّار بغداد يوماً وجمعوا من أموالهم مبلغاً ، فجاؤوا به إلى الشيخ وقالوا : هذا المال ليس من الحقوق الشرعيّة (الخمس والزكاة) ، إنّما هو تبرّع وهديّة منّا إليك لتحسن به معيشك وترتاح في أواخر عمرك. رفض الشيخ ذلك وقال : يؤسف عليّ بعد عمر من مواساة الفقراء أن أعيش غنيّاً في آخر العمر ، فيمحى اسمي من قائمة الفقراء ، وأتخلّف عن مكانتهم السامية التي أعدّها الله لهم يوم القيامة في جنّة عرضها السماوات والأرض(١) .

وإليك هذه الحكاية الرائعة عن سلوكيّة مرجع من مراجعنا العظام : حكى أحد العلماء : كنت جالساً قرب تلّ الزينبيّة وبجانبي رجلٌ واقف ، وفي الأثناء وقعت عيني على المرحوم آية الله العظمى السيّد أبي الحسن الإصفهاني أكبر مرجع زمانه للشيعة ، قد خرج مع مرافقيه من حرم الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، والتفتّ فجأة إلى الرجل الذي كان واقفاً عندي فرأيته انطلق منفعلا نحو السيّد الإصفهاني وهو يقول بصوت عال : « سوف أشتمه بئس شتيمة » وبعد دقائق رأيته عاد باكياً عليه آثار الخجل والندامة! سألته عن السبب لهذه المفارقة بين الموقف الأوّل وهذا الموقف؟ فأجاب : لقد شتمت السيّد حتّى باب منزله ، وعند الباب طلب منّي الانتظار ، فرجع وبيده مبلغاً من المال ، أعطاني ذلك وقال لي : راجعنا لدى كلّ مضيقة تعترضك ، إذ أخشى أن تراجع غيرنا فلا يقضي حاجتك ، ولي إليك حاجة ، هي أنّني أتحمّل كلّ شتيمة موجّهة إليَّ شخصياً ، ولكن أرجوك أن لا تشتم عرضي وأهل بيتي ، فإنّي لا أتحمّل ذلك(٢) . وبمثل هذا الخلق الرفيع تغيّر الرجل.

__________________

١ ـ المصدر : ١٩٨.

٢ ـ قصص وخواطر : ٢٢٢.

١٥٢

وأمّا سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد النجفي المرعشي (قدس سره) ، فأتذكّر يوماً أنّه حينما كان صدّام اللعين يقصف مدينة قم المقدّسة وأكثر مدن إيران بالصواريخ والقذائف ، وقد خرج أهالي قم من المدينة خوفاً ورعباً وحفظاً للنفوس ، بقي سيّدنا لابثاً مع من كان ، وكان يركب من قبل السيارة من داره إلى الحرم الشريف لأداء صلاة الجماعة ، ولكن في تلك الأيّام العصيبة ، على كبر سنّه وشيخوخته ، كان يأتي إلى الحرم الشريف في مواعيد الصلاة مشياً على الأقدام ، فسئل عن ذلك؟ فأجاب : اُريد أن يراني الناس حتّى تطمئنّ القلوب ويرتاح البال ولو جزءاً يسيراً.

كنت جالساً في غرفته بجواره ، فدخل عليه رجل طاعن في السنّ من عوامّ الناس ، فقال بعد السلام والترحيب : سيّدي ، اُعرّفك بنفسي ، أنا غلام الدلاّك ، وأودّ أن أذكر لك قصّة من حياتك ، كنت دلاّكاً في حمّـام عامّ ، وكنت أيّام شبابك تأتي مع أولادك الصغار السيّد محمود والسيّد جواد إلى ذلك الحمّـام ، فدخلتم يوماً ورأيت أطفالا فسألتني عنهم ، فأخبرتكم أنّهم أيتام ، فقلت لأولادك لا تنادوني بكلمة (بابا) رعايةً لمشاعر هؤلاء اليتامى ، ثمّ أعطيتني نقوداً لأشتري لهم لوازم قرطاسية لمدرستهم ، فاشتريت لهم ذلك. أجل ، لم يكن بينه وبين الناس حاجب ، كان بابه مفتوحاً دائماً للوافدين والمراجعين ، رجالا ونساءً ، لا أنسى تلك الساعة التي كنت عنده قبل رحلته بيومين حينما دخلت عليه عجوز لأداء خمسها ، فطلبت منه أن يشفع لها يوم القيامة ، فقال (قدس سره) : إن كنت من أهل الشفاعة سأشفع لكِ. كان شفيقاً بأعدائه ، فكيف لا يداري أحبّائه وأصدقائه؟

حدّثني يوماً عمّـا جرى عليه من حسّاده وأعدائه ، حيث كان يأتمّ به عشرات الصفوف في الصحن الشريف ، وآل الأمر إثر وشاية الأعداء وسعاية الحسّاد أن يأتمّ به نفرٌ قليلٌ من المؤمنين ، فصبر وقاوم حتّى عادت الاُلوف تصلّي

١٥٣

خلفه. قال : في تلك الأيّام المرّة دخلت مجلساً ، كان فيه شخص من المعمّمين ، فجلست بجنبه ، ولكن من شدّة عداوته أدار ظهره عليَّ أمام الناس ، فهضمت ذلك في نفسي واحتسبتها لله ، وحينما أردت الخروج ، من حيث لا يشعر ألقيت في حجره بعض المال ، وبعد هذا كان يحدّث الناس أنّه في تلك الليلة لم يكن عنده شيء من المال وكان في حيرة ، وأنّه من كراماته قد وجد مالا في حجره ، ولم يشعر أنّه أنا الذي وضعت في حجره المال. كان يقضي حوائج الناس بالمقدار الممكن ، ولا تثني عزيمته كبر سنّه ، ولا الأمراض والأسقام ، ولا الهموم والأحزان ، ولا القيل والقال ، بل بكلّ صلابة وقوّة وحول من الله سبحانه يقاوم المصاعب والمشاكل. فكان خير مثال للخلق الاجتماعي ، وأفضل آية للآداب الاجتماعية ومداراة الناس ، وبمثل هؤلاء الفقهاء العظام وعلمائنا الكرام نقتدي ونتأسّى في رعاية حقوق الآخرين ، وملاطفة الناس ، وإدارة شؤونهم ، بثغر باسم ، ووجه بشوش ، وصدر رحب ، وقلب وسيع ، وأخلاق رفيعة ، وسجايا حميدة ، نتقرّب إلى الله سبحانه بذلك ، ولنا اُسوةٌ حسنة برسول الله (صلى الله عليه وآله) :( وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم ) (١) .

الله الله في مداراة الناس ، والتواضع في المجتمع ، فما أعظم الإمام الخميني ، مع علوّ مقامه الشامخ يتواضع للمجاهدين في الجبهات قائلا : اُقبّل أياديكم وسواعدكم ، لأنّ الله معها ، وأفتخر بذلك.

ويقول سماحته مخاطباً نوّاب مجلس الشورى الإسلامي : فكّروا جميعاً بالناس دائماً ، هؤلاء هم عباد الله ، هؤلاء هم الذين يقتلون الآن على الحدود ، هم الذين يواجهون صعوبات الحرب ، وهم الذين تشرّدوا ، وهم يعيشون في هذه الأماكن

__________________

١ ـ القلم : ٤.

١٥٤

وهذه الخيم دون أبسط المقوّمات ، هؤلاء هم عباد الله وهم أفضل ، هم أفضل منّي ، ويحتمل أن يكونوا أفضل منكم ، فلماذا لا نفكّر بهم دائماً.

كان يقول (قدس سره) : « أنا طلبة » أي طالب علم ، أنا خادم الناس ، لا تقولوا لي قائداً ، يا ليتني كنت أحد حرّاس الثورة الإسلامية

وهذا الآخوند الخراساني المحقّق الكبير كان متواضعاً جدّاً خصوصاً مع أهل العلم ، كان يبادر أصغر الطلاّب بالسلام ، ويقف لهم في المجالس احتراماً ، كان يجلّ أهل العلم كثيراً. وعندما يطرق أحد الطلبة داره بعد منتصف الليل ليرسل خادمه معه إلى قابلة لوضع حمل زوجته ، فيأبى الآخوند على أنّ الخادم نائم وأنا شخصيّاً أذهب معك ، فيذهب معه حاملا الفانوس ينتقل معه من زقاق إلى زقاق حتّى قضى حاجته.

وهذا الشيخ الأنصاري الشيخ الأعظم كان يداري الناس ويعاملهم معاملة جميلة ، لا سيّما طلاّب العلوم الدينية ، في بعض الأيّام كان يتأخّر عن وقت الدرس المحدّد ، فسئل عن سبب ذلك؟ فأجاب : أحد السادة الهاشميّين يحبّ دراسة العلوم الدينيّة ، وفاتح بذلك عدّة أشخاص ليدرّسوه المقدّمات ، إلاّ أنّ أحداً منهم لم يوافق ، واعتبروا أنّ شأنهم أجلّ من أن يتصدّوا لهذا الدرس ، وقد تولّيت تدريسه.

رأى أحد زوّار أمير المؤمنين (عليه السلام) المقدّس الأردبيلي في الطريق ولم يعرفه ، وكان ذلك الزائر يبحث عمّن يغسل له ثيابه ، فقال للمقدّس : خذ ثيابي واغسلها وائتني بها ، فأخذها وغسلها وجاء بها ليدفعها إليه ، فعرف بعض من كان بما جرى ، فعاتب ذلك الزائر وأنكر عليه ، فقال المقدّس (قدس سره) : ولِمَ تلومه ، وماذا حدث؟ إنّ حقوق المؤمن على المؤمن أكثر من هذا بكثير.

كان العلاّمة الشيخ محمّد جواد البلاغي (رحمه الله) يتواضع لله ، فكان يذهب بنفسه إلى السوق ويشتري ما يحتاجه ويحمله في الشارع والزقاق كسائر الناس ، ولم يكن

١٥٥

يرضى أبداً أن يساعده أحد في شؤونه ، وكان يقول : المرء أولى بحمل متاعه ـ كما ورد في الخبر الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ.

كان مراجعنا الكرام من تواضعهم يصدّرون أسمائهم في التوقيع بقولهم : الأحقر ، أقلّ الطلاّب ، وكان صدر المتألّهين يكتب بعض الفقراء من الاُمّة المرحومة.

كان آقا رضا الهمداني ، ذلك الرجل المحقّق الكبير ، من شدّة تواضعه يقوم للطلاّب جميعهم حتّى في أثناء الدرس ، وكان يشتري لوازم بيته بنفسه ، ويعيش بين الناس ، وهكذا رجال الدين اقتداءً برسول الله من الناس وإلى الناس ومع الناس ، كان فينا كأحدنا ، من دون امتياز واستعلاء ، بل في خدمة الناس ، فخير الناس من نفع الناس ، تقرّباً إلى الله تعالى ، وبهذا يمتاز طالب العلم في سيرته الأخلاقية عن الباقين.

فرجل الدين يحمل هموم الناس :( حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رَؤوفٌ رَحيمٌ ) .

فيعاملهم معاملة الأب العطوف الذي يتمنّى لأبنائه الصالحين السعادة الأبديّة. ويشهد التأريخ أنّ أنفع الناس للناس ، وأشدّهم خدمةً لهم ، يشاركونهم في أفراحهم وأحزانهم بعد الأنبياء والأوصياء هم العلماء ، فإنّهم تحمّلوا المشاقّ والصعاب وواجهوا التحدّيات وأنواع الجور والظلم والجنايات ، وبذلوا جهوداً جبّارة في خدمة الناس وحلّ مشاكلهم ، وفي سبيل تحريرهم من نير الفقر والظلم ، وإحياء القيم الإلهية والإنسانية ، ووضع إصر الأغلال عن الناس.

فالعالم جماهيريّ العقليّة والروح ، يكنّ بين أضلعه حبّ الناس.

كان والدي (قدس سره) حينما تسأله والدتي عن كثرة لقائه بالناس ليل نهار ، فكان في خدمتهم حتّى منتصف الليل ، فأجابها تكراراً : من حين لبسنا هذا الزيّ ـ العمّة والعباءة ـ فإنّا وقف للناس ، وصاحب الزمان (عليه السلام) يرضى منّا بذلك.

كان الشيخ زين العابدين المازندراني من أوتاد الأرض ، يروي ولده أنّه

١٥٦

يوماً جاءته امرأة بعد صلاة المغرب ، وبعد سويعة تحرّك والدي وذهب إلى بيت ، فطرق الباب فخرج صاحب مقهى ، ما أن رأى الشيخ إلاّ انحنى على يده يقبّلها ، فأمره الشيخ أن يرجع زوجته ، فعرفنا أنّ الرجل قد طلّق زوجته مع أنّ لها أولاد وأخرجها من المنزل ، فاستنجدت بالشيخ ليتوسّط لها مع زوجها ، فرجع إليها.

وعندما طغى الماء في كربلاء خرج الشيخ من المدينة وبدأ بنقل التراب بعباءته ليضعه في طريق الماء ، فعندما رأى الناس ذلك من الشيخ خرجوا جميعاً ينقلون التراب ، فأقاموا سدّاً بقي لعدّة سنوات.

كان الشيخ الأعظم كاشف الغطاء يرهن بيته من أجل الفقراء والمساكين ، وكان الشيخ الأنصاري آية في مساعدة الفقراء والمحرومين ، كان يصلّي استيجاراً ليسهّل عليهم إمرار المعاش ولقمة العيش.

فيا طالب العلم ، الله الله بمداراة الناس وخدمتهم ، لا سيّما البؤساء والفقراء ، فهم عيال الله سبحانه وتعالى ، فكن مباركاً ومنشأً للخيرات والمبرّات والمشاريع الخيريّة والاجتماعية ، وعند الله الحساب ، جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار ورضوان الله أكبر ، ولمثل هذا فليعمل العاملون ، وليتنافس المتنافسون.

فرجل الدين كالأنبياء دائماً يفكّر في الناس ، ويعيش مثل أفقرهم.

من طريف ما يحكى عن حياة السيّد الإمام (قدس سره) ، أنّه عندما كان قبيل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان في ضاحية باريس ، وظهرت أزمة نفط في إيران ، فلم يعد باستطاعة الناس تدفئة بيوتهم إلاّ بمشقّة وعسر ، قال الإمام : اتركوا غرفتي بدون تدفئة مواساةً للناس(١) . وجاءه شخص وقال له : إنّ عباءتي ممزّقة فساعدني ،

__________________

١ ـ سيماء الصالحين : ٣٨٥ ، وفي هذا الكتاب قصص نافعة وكثيرة ، اُوصي الطلاّب بمطالعته ولو تكراراً كما فعلت. ومثله كتاب (قصص العلماء) للمحقّق التنكابني ، و (قصص وخواطر).

١٥٧

فتناول الإمام عباءته وقال له : اُنظر إنّ عباءتي أيضاً ممزّقة.

كان صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني (رحمهما الله) لا يدّخر أبداً ما يزيد على قوته لمدّة اُسبوع ، مواساةً للفقراء والمحتاجين وحرصاً على عدم التشبّه بالأثرياء.

وكان صدر المتألّهين يقول : حيث إنّ قسماً من الذنوب ينشأ من كثرة الأكل والاهتمام بالبطن ، فيجب التقليل من الطعام ، وكان دائماً يردّد بيتاً لسعدي ـ الشاعر الإيراني ـ مضمونه : (إبقِ داخلك خالياً من الطعام ، لترى فيه نور المعرفة). كان يعيش البساطة ، وكان يتحدّث مع الناس مباشرةً ومن دون حاجب وكاتب.

بلغ زهد الوحيد البهبهاني حدّاً بحيث أنّ ثيابه كانت من (الكرباس الردي) ـ نوع من القماش ينسج باليد ـ وغالباً ما كانت زوجته المكرّمة هي تهيّؤها وتنسجها ، ولم يكن يرغب أبداً بألبسة الدنيا وأقمشتها.

لم يبالِ أبداً بجمع زخارف الدنيا التي كانت في متناول أصغر طلاّبه وبأدنى التفاتة منه ، اعتزل الذين يكنزون الذهب ، اجتنب معاشرتهم ومحادثتهم ، وكان يأنس بالفقراء ويواسيهم في مأكلهم وملبسهم ، وكان يطلب من اُسرته أن يراعوا ذلك لكي يقتدي الناس به وبعائلته ، ولا ينتقدوا اُسرة الروحانيين ، كما نرى ومع كلّ الأسف هذه الظاهرة الخطرة على الحوزة والعلماء والدين في مجتمعنا الحاضر.

اللهمّ أصلح كلّ فاسد من اُمور المسلمين ، ووفّقنا وعوائلنا للزهد والعلم النافع والعمل الصالح.

يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً

تالله ما لخراب الدهر عمران

ودع الفؤاد عن الدنيا وزخرفها

فصفوها كِدرٌ والوصل هجران

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

١٥٨

الدرس العاشر

الأمر السادس عشر

الزهد والحياة المتواضعة

قال الله سبحانه وتعالى :

( إذْ تصْعدونَ وَلا تَلـْوونَ عَلى أحَد وَالرَّسولُ يَدْعوكُمْ في اُخْراكُمْ فَأثابَكُمُ غَمَّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أصابَكُمْ وَاللهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلونَ ) (١) .

( لِكَيْلا تَأسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتال فَخور ) (٢) .

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قول الله تعالى :( وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيَّاً ) ، يعني الزهد في الدنيا. وقال الله تعالى لموسى : « يا موسى ، إنّه لن يتزيّن المتزيّنون بزينة أزين في عيني مثل الزهد » ، « ما اتّخذ الله نبيّاً إلاّ زاهداً ».

__________________

١ ـ آل عمران : ١٥٣.

٢ ـ الحديد : ٢٣.

١٥٩

وورد في الخبر : « العلماء ورثة الأنبياء » ، وهذا يعني أنّ كلّ عالم لا بدّ أن يكون زاهداً ، فإنّه يرث النبيّ في زهده ، وإذا أراد أن يتوفّق في حياته العلميّة فمن أقرب الوسائل الزهد. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « النار لمن ركب محرّماً ، والجنّة لمن ترك الحلال ، فعليك بالزهد ، فإنّ ذلك ممّـا يباهي الله به الملائكة ، وبه يقبل الله عليك بوجهه ، ويصلّي عليك الجبّار ».

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :

« الزهد أقلّ ما يوجد وأجلّ ما يعهد ، ويمدحه الكلّ ويتركه الجُلّ ».

« الزهد شيمة المتّقين وسجيّة الأوّابين ».

« الزهد متجر رابح ».

« إنّ علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا ».

« الزهد أصل الدين ».

« الزهد ثمرة الدين ».

« الزهد أساس اليقين ».

« عليك بالزهد فإنّه عون الدين ».

« إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا ».

« الزهد كلّه في كلمتين من القرآن ، قال الله تعالى :

( لِكَيْلا تَأسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحوا بِما آتاكُمْ ) .

فمن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فهو الزاهد ».

« أيّها الناس ، إنّما الناس ثلاثة : زاهد وراغب وصابر ، فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها فاته ، وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه فإن أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها ، وأمّا الراغب فلا يبالي

١٦٠