كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء0%

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء مؤلف:
المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 700

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

مؤلف: محمد حسن بن معصوم القزويني
المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
تصنيف:

الصفحات: 700
المشاهدات: 91665
تحميل: 8742

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 700 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91665 / تحميل: 8742
الحجم الحجم الحجم
كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

مؤلف:
العربية

في الدعوات.

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الشحّ والايمان لايجتمعان في قلب واحد ».(١)

« وما من صباح الا وكلّ الله تعالى به ملكين يناديان : اللّهمّ اجعل لكلّ منفق خلفاً ولكلّ ممسك تلفاً ».(٢)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حلف الله بعزّته وجلاله لايدخلنّ الجنّة شحيح ولابخيل ».(٣)

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.

وعلاجه يتمّ بالعلم بمفاسده وآفاته ، وما ورد في ذمّه ، والعمل من البذل والانفاق [ تكلّفاً إلى أن يعتاد عليه ، وإذا هاجت رغبته إلى الانفاق ](٤) فلايتوقّف ولايعطي الشيطان فرصة بتوعيده الفقر وتخويفه بأنواع الوساوس فيمنعه عنه.

ومن معالجاته تحبيب الجاه والشهوة والعزّة بجلب القلوب إلى نفسه بالجواد والسخاء ، فيبذل ولو بقصد الرياء حتّى يعتاد نفسه على السخاوة ، ثم يعالج رياءه بما ذكر في علاج تلك الرذيلة ، وهذا من قبيل المعالجة السميّة ، فإن ذمائم الأخلاق ممّا ينبغي أن يسلّط بعضها على بعض حتّى يندفع الجميع فتكسر سورة الشهوة بالغضب وبالعكس ، وهذا عادة جارية من الله سبحانه وتعالى في دفع المؤذيات كتسليطه الظالمين بعضهم على بعض. ومثاله كما قيل أنّ الميّت يستحيل دوداً ثم تأكل الديدان بعضها على بعضاً إلى أن تنحصر في اثنين قوييّن فيتغالبان إلى أن يقتل أحدهما الآخر. فيأكله ويسمن به ، ثم

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ١١١ ، ونحوه في الوسائل : كتاب الزكاة ، ب٥ من أبواب ما تحب فيه ، ح ١٥.

٢ ـ جامع السعادات : ٢ / ١١٢ ، وفيه : « روي » ونسبه في المحجة (٦ / ٧٦) إلى كعب ، وراجع أيضاً الكافي : ٤ / ٤٢ ، كتاب الزكاة ، باب الانفاق ، ح ١.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٧٤.

٤ ـ ساقط من « ب ».

٢٢١

يبقى جائعاً فيموت. فكذا المتّصف بذمائم الصفات يدفع بعضها ببعض إلى أن ينحصر في واحدة ، فيسهل إزالتها بعد ذلك.

وأنفع العلاج في إزالة البخل إزالة سببه ، أعني حبّ المال بإزالة أسبابه التي أشرنا إليها.

وأمّا الثاني وهو ملكة التبذير الذي نهى الله تعالى عنه ووصف صاحبه بأنه من إخوان الشياطين( وكان الشيطان لربّه كفوراً ) .(١) فدواعيه مختلفة ، وتدخل في الجنس الذي يختصّ داعيها به ومنشؤة غالباً قلّة المعرفة بمنافع المال وصعوبة مسلكة ، والغالب حصول هذه الملكة لمن يحصل له مال بغتة بالارث والهبة ونحوهما من دون كدّ في تحصيله.

وعلاجه التأمّل في فوائده الدينية والدنيوية ممّا ذكرناه.

ثم في متاعب المدخل الحلال وكون تحصيل الموال في المكسب الطيّب في غاية الصعوبة والاشكال ونهاية سهولة مخرج المال ، ولذا شبّه الأوّل بحمل الصخرة العظيمة إلى قلل الجبال والثاني بإطلاقها من الأعلى إلى الأسفل في سهولة الانتقال ، ولاسيّما بالنسبة إلى الأحرار من الرجال ، ولذا تراهم ناقصي الحظوظ من زخارف الدنيا وأموالها لعلوّ همّتهم عن تحصيلها من الوجوه الغير المحمودة كلطمع ممّا في أيدي الخلق بالذلّة والملق وارتكاب أصناف المحرّمات من المكر والخديعة والكذب والسعاية والغمز وغيرها ممّا يتوسّل بها في أمثال زماننا لتحصيلها أو مايكون مشعراً بالدناءة وخسّة الهمّة من صنوف المكاسب الخسيسة وغيرها فإذا عرف هذه المراتب واطّلع عليها بالغ في حفظها.

ثم الاعتبار بكثير من السفهاء الذين أتلفوا أموالهم التي حصلت لهم بغتة بموت من تركها لهم بصرفها في الشهوات وقبائح الأفعال ومصاحبة الأداني وأهل التلهّي والأرذال الذين كانوا يدّعون الصداقة والمودّة معه في

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٧.

٢٢٢

حال وجود المال ، ولمّا أيقنوا بخلاصه(١) وصرف الأموال بالكلّية في مصاحبتهم وأنه لم يبق شيء بالمرّة تجنّبوا عنهم وأنكروا معرفتهم وصاروا كأنّهم لم يروهم ولم يعرفوهم أبداً ، فباتوا في أسوء عيش وأذلّة مع شماتة الأعداء والأقران وتواتر الهموم والأحزان وآلت بهم إلى ضياع الأهل والعيال ، وتلف النفس على أسوء حال ، ومحو آثار سلسلتهم عن صفحة الزمان الغدّار ، فجمعوا بين خسران هذه الدار والحرمان عن سعادة دار القرار.

وبعد ذلك يبادر بالعلاج العملي بتقديم الفكر والتروّي في وجوه الانفاق وإمساك اليد عمّا لايليق بالاطلاق حتّى يتّصف بصفة الأحرار ويتحلّى بحلية الاقتصاد الممدوح في الأخبار والمحمود بحسب الاعتبار ، ويتحصّل فضيلة الجود والسخاء التي هي من شيم الأنبياء والأوصياء.

فصل

من رذائل القوّة الشهويّة ملكة كلّ معصية متعلّقة بها كالزنا واللواط وشرب الخمر واستعمال آلات الملاهي من العود والدفّ والغناء غيرها من الشهوات المحرّمة ، وقد ورد النهي من كلّ منها بخصوصه ، وفصّلت أحكامها في الكتب الفقهية فلا حاجة إلى ذكرها.

وعلاجها بالتوبة وتذكّر ما ورد من النهي والعقوبة والتخويف عليها ، والمواظبة على الطاعات سيّما الصلاة ، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

ومنها : الخوض في الباطل ، أي التكلّم في المحظورات الحاصلة في سالف الزمان بدون داع له سوى التشهّي فلا يدخل فيه مثل الغيبة والنميمة والفحش والمراء ممّا له داع مخصوص ، وليس له حدّ مخصوص ، لأنّ أنواع الباطل لاتحصى ، فكذا الخوض فيه وكلّه آفة للنفس ومؤدّ إلى هلاكها

__________________

١ ـ مراده من الخلاص نفاد المال واستهلاكه ، وكأنّه مصطلح فارسى.

٢٢٣

وخسرانها الا ما اشتملت على فائدة أخرويّة كالاعتبار والموعظة.

ويدخل فيه الخوض في المذاهب الفاسدة وحكايات البدع من غير إفادة الردّ والنقص.

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أعظم الناس خطاء يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل ».(١)

وقد ذمّ الله الكفّار بقولهم :( وكنّا نخوض مع الخائضين ) (٣)

وعلاجه العلم بمفاسده أوّلاً حتّى يمنعه عنه ثم المواظبة على الذكر والفكر والعمل ، حتّى يعتاد بها ، فتمنعه الاشتغال بها عنه ، إذ :( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) (٤)

ومنها : التكلّم بما لا حاجة إليه في دينه أو دنياه أو بما يزيد عن حاجته ، وهو الفضول من الكلام ، وهذا وإن لم يترتّب عليه إثم الا أنه مذموم ، ولكون الباعث عليه مجرّد التشهّي يكون من رداءة القوة الشهوية.

وعلاجه التفكّر لما ورد في ذمّه من الأخبار.

ففي الخبر أنّه استشهد يوم أحد غلام من أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع ، فمسحت أمّه التراب عن وجهه وقالت : هنيئاً لك بالجنّة يا بنيّ! فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وما يدريك لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه ويمنع ما لايضرّه ».(٥)

وما ورد في مدح الصمت من الأخبار الكثيرة التي نذكر بعضها

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٠٧ ، وفيه « خطايا ».

٢ ـ المدّثر : ٤٥.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٠٧.

٤ ـ الأحزاب : ٤.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٠٠.

٢٢٤

إن شاء الله تعالى.

ثم في كونه موجباً لتضييع أوقاته التي هي رأس ماله بحرمانه بسببه عن الذكر والفكر والعمل ، وقد عرفت أنّ بها تحصل الباقيات الصالحات المحصّلة للذّة اللقاء والمشاهدة التي هي اللذّة الحقيقية والسعادة الأبدية بعد الوفاة أعني صفاء القلب والحبّ والأنس ، فمن تركها واشتغل بما لايعنيه ممّا لا يترتّب عليه فائدة دينية ولا دنيوية فهو وإن لم يترتب على فعله إثم الا أنه مفوّت للربح العظيم الجسيم بشيء حقير لاوقع له أصلاً.

والغالب أنه يؤدّي إلى الخوض في الباطل ، بل الكذب والغيبة ، ولذا قال بعضهم : يهلك الناس في خصلتين : فضول المال وفضول الكلام.

وقال بعضهم : من كثر كلامه كثر كذبه.

وكما أنّ التكلّم بما لايعني مذموم ، فكذا سؤال ما لايعني عن الغير بل هو أشدّ ، لأنّه مضيّع به وقته ووقت المسؤول معاً مضافأ غلى تعريضه المسؤول لآفة غالباً ، كما إذا أراد إخفاء ما سألته عنك فإن سكت ولم يجب بشيء كان مستخفّاً بك ، وإن أجاب بغير الواقع كان كذباً وإن احتال للجواب وقع في تعب الفكر ، وكما إذا كان صائماً فسألته عنه ، فإن قال : نعم ، كان مرائياً أو ساقطاً عن درجة السرّ التي هي أفضل من الجهر بمراتب ، وإن قال : لا ، كان كاذباً ـ إلى آخر ما تقدّم(١) ـ فهذا وأمثاله مضافاً إلى كونها ممّا لاتعنيه تتضمّن إثماً وأذيّة.

__________________

١ ـ لم يتقدّم.

٢٢٥

المقام الثاني

في بيان معظم الفضائل المختصّة بالقوّة الشهوية

وفيه فصول

فصل

جنس الفضائل المزبورة هو العفّة ، وهي انفياد القوّة الشهوية للعاقلة في ما تأمرها به وتنهاها عنه وهي الوسط المحمود فيما بين الشره والخمود ، لما عرفت من أنّ هذه الفضائل الأربع عبارة عن اعتدال كلّ من القوى الثلاث أو جميعها ، ولاينافيه ماورد في فضل الجوع ، بل يؤكّده ويحقّقه ، فإنّ الحكيم إذا علم كون الطبيعة حريصة وباعثة على الإفراط حثّ على التفريط حتّى يحصل من تدافعهما ملكة الاعتدال.

ولذا ورد في مدح العفاف أخبار لاتحصى.

قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : « أفضل العبادة العفاف ».(١)

وقال الباقرعليه‌السلام : « ما من عبادة أفضل من عفّة بطن وفرج ».(٢)

وقال الصادقعليه‌السلام : « أيّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج »(٣) إذ قد علمت أن المقصود من الأكل والشرب والجماع حفظ قوام البدن وبقاء النوع ، وأنّها ليست مقصوده لذاتها ، فالاعتدال في كلّ منها هو حصول غايته مع قصد تلك الغاية دون التلذّذ والشهوة ، وقد مرّ في النبوي تعيين الكمّ الضروري من الأكل.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٧٩ ، كتاب الايمان والكفر ، باب العفّة ، ح ٣.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٨٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب العفّة ، ح ٧.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٧٩ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب العفّة ، ح ٤ ، وفيه : « عن الباقرعليه‌السلام .

٢٢٦

وورد في الأخبار أيضاً بيان وجوهه وآدابه كمّا وكيفاً ، وذكرها علماء الأخلاق وغيرهم مع زيادات مذكورة في الكتب المطّولة المشهورة ، فلا حاجة إلى ذكرها.

ثم إنّ للعرفاء ترغيبات على الجوع بكثرة فوائده وتوقّف كشف الأسرار الالهية والوصول إلى المراتب العليّة عليه ، ولهم حكايات غريبة من إمكان الصبر عليه شهراً أو شهرين أو سنة ، ووقوعه من بعضهم.

قيل : وهذا خلاف ما ورد في ظاهر الشريعة ، وكلف به عموم الامّة ، فإن كان ممدوحاً فإنّما هو لقوم مخصوص.

أقول : الأخبار الواردة في فضل الجوع وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومولانا أميرالمؤمنينعليه‌السلام وكثيراً من خلّص الصحابة كانوا يمسكون عن الأكل يومين أو ثلاثة وكانوا يربطون الصخر على بطونهم من الجوع كثيرة ، وكذا ما نقل عن سائر الأنبياء والأولياء ، كما أشرنا إلى بعضهم ، ونشير إلى بعض آخر.

وغاية ما يدلّ عليه سائر الأخبار هي ما نبّهنا عليه من كون الراجح من الأكل مثلاً ما يحفظ به قوام البدن ، كما دلّ عليه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حسبه لقيمات يقمن صلبه »(١) .

وهو ممّا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، فربّما أطاق أحد الصبر عليه أيّاماً كثيرة ، ولم يتضرّر بالامساك عنه شهراً أو شهرين مثلاً ، ولم يطق آخر وتضرّر من أمساك يوم.

وربّما شبع أحد بثلث ما لا يشبع به آخر أو أقل ، فيكون في حقّه شبعاً مذموماً ، وفي حقّ الآخر جوعاً ممدوحاً.

والحاصل غاية ما يستفاد من الأخبار كون الممدوح منه ما يتقوّم به البدن(٢) ، وهذا مما لا أظن انّ أحداً ينكره ويدّعي حسن الموت جوعاً ، وأمّا

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٧.

٢ ـ في هامش « الف » : ما يبقى معه قوام البدن.

٢٢٧

الزائد عليه فهو وإن جاء ت به الرخصة من الشريعة حتّى إنّ الشبع المذموم ليس حراماً شرعاً ، لكن لاريب في رجحان تركه بالمرّة ، وكونه بحيث يترتّب عليه فوائد جليلة ومنافع عظيمة ، والتحديد الوارد في بعض الأخبار ليس الا بباناً لأقلّ مراتب الرجحان وأدناها الذي يلحق تاليه بالمرتبة البهيمية كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الحديث :

« فإن كان أولابدّ ـ فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث للنفس ».(١)

وهذا صريح في أنّه ليس راجحاً وممدوحاً في حدّ ذاته ، بل الممدوح كذلك ما أشار إليه أوّلاً وإنما هو أدون مراتبه الذي يلحق تاليه بمرتبة البهائم ، فإنّ التكاليف تختلف بالنسبة إلى الأشخاص والأحوال ، وكذا الحال في النكاح ، وهو واضح.

فصل

الزهد من أرفع منازل الدين وأعلى مقامات الساكين ، وهو ترك العلاقتين بالدنيا والعدول عن الدنيا إلى الآخرة ، أو عن غيره تعالى وهو أعلى مراتبه المختصّ بالصدّيقين ، فلا يكون في هذه المرتبة خوف من النار أو طمع في الجنّة ، فظهر أنّ تارك الدنيا للدنيا أو لعجزه عن تحصيلها أو لخوفه من آلامها ومشاقّها أو لثقل حفظها أو تحصيلها عليه ليس زاهداً.

والآيات في مدح ترك الدنيا متكاثرة ، والأخبار متظافرة ، وقد أشرنا إلى بعضها.

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا رأيتم العبد أعطي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة ».(٢)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلّم وهدى بغير هداية

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٧ مع اختلاف.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥١.

٢٢٨

فليزهد في الدنيا ».(١)

وقالعليه‌السلام : « ازهد في الدنيا يحبّك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبّك الناس »(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « جعل الخير كلّه في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا ».(٣)

وقالعليه‌السلام : « إذا أراد الله بعبد خيراً زهّده في الدنيا وفقّهه في الدين وبصّره عيوبها ، ومن أوتيهنّ فقد أوتي خير الدنيا والآخرة ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « الزاهد الّذي يختار الآخرة على الدنيا والذلّ على العزّ ، والجهد على الراحة ، والجوع على الشبع ، وعافية الآجل على محنة العاجل ، والذكر على الغفلة ، ويكون نفسه في الدنيا ، وقلبه في الآخرة(٥)

وكفاه فضلاً كونه من أظهر صفات الأنبياء وخلّص عباد الله فقد أخبر أميرالمؤمنينعليه‌السلام في بعض خطب نهج البلاغة « بأنّ موسى الكليم كان غالب قوته نبت الأرض وأوراق الأشجار ، وكان ضعف بدنه من كثرة رياضته بحيث يرى الخضرة من صفاق بطنه.

وكان روح الله يلبس الشعر ، يأكل [ ورق ] الشجر ، ولم يكن له بيت يخرب ، وولد يموت ومال يدّخر ، أينما يدركه المساء نام ».(٦)

وقال الحواريّون : لو أمرتنا أن نبني لك بيتاً تعبد الله فيه؟ فقال : اذهبوا فابنوا لي بيتاً على الماء ، فقالوا : كيف يستقيم البنيان على الماء؟ قال : فكيف يستقيم العبادة مع حبّ الدنيا؟(٧)

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥٧.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥٦.

٣ ـ الكافي : ٢ / ١٢٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب ذم الدنيا والزهد فيها ، ح ٢.

٤ ـ الكافي : ٢ / ١٣٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب ذم الدنيا والزهد فيها ، ح ١٠.

٥ ـ مصباح الشريعة : الباب ٣١ ، في الزهد.

٦ ـ راجع نهج البلاغة : الخطبة ١٦٠.

٧ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥٥.

٢٢٩

وكان يحيى بن زكريّا يلبس المسوح حتى نقب جلدده تركاً للتنعّم والاستراحة ، فسألته أمّه ليس جبّة من الصوف ففعل ، فأوحى الله إليه : يا يحيى! [ عليّ ] الدنيا فنزع وعاد إلى ما كان عليه.(١)

وكان نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقصود من خلقة الدنيا من شدّة زهده لم يشبع هو وأهل بيته مدّة عمره غدوة الا وجاعوا عشية وبالعكس ، وإنّ بعض زوجاته بكت يوماً ممّا رأت به من الجوع وقالت له : ألا تستطعم الله فيطعمك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي نفسي بيده لو سألته أن يجري معي جبال الدنيا [ ذهباً ] لأجراها حيث شئت من الأرض ، ولكني اخترت جوع الدنيا على شعبها ، وفقرها على غنائها ، وحزنها على فرحها ، إن الدنيا لاينبغي لمحمد وآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ الله لم يرض لأولي العزم من الرسل الا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها الحديث ».(٢)

وأخبار زهد أميرالمؤمنينعليه‌السلام أشهر من أن يذكر ، وكذا من بعده من الأوصياء الماضين ، والسلف الصالحين ، فإنّ حكايات زهدهم مشهورة ، وفي السير وغيرها مسطورة.

ثم إنّ للزهد باعتبار نفسه درجات ثلاث :

أولاها : الزهد في الدنيا مع الميل إليها بالمجاهدة والرياضة ، وهو التزهّدو.

وثانيها(٣) : الزهد فيها بطوع وسهولة لاستحقاره لها ، بالاضافة إلى لذّات الآخرة ونعيمها ، كالذي يترك درهماً لألف درهم.

وثالثها : الزهد فيها لكراهته لها وعداوته إيّاها ، بعلمه بكونها أخباثاً قذرة وسموماً مهلكة فيهرب منها ويبغضها ، فهو كالتارك للحيّة القاتلة ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ، وفيه : « ثقب جلده ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥٣ ـ ٣٣٥٤.

٣ ـ كذا ، والظاهر : ثانيتها وثالثتها.

٢٣٠

وآخذ الجوهرة الثمينة ، فلا يعدّ من المعاوضة في شيء ، وهو أعلى مراتبه لكونه ناشئاً من كمال المعرفة بآفاتها ومفاسدها وعدم وفائها ، بل عداوتها ومكرها بأبنائها ، والعلم بدوام لذّات الآخرة وبقائها.

وصاحبه في أمن من الالتفات إليها ، ومثاله أنّه إذا كان على باب الملك الذي تقصده كلب يعضّ الناس ويمنعهم عن الوصول إليه ، فألقيت إليه شيئاً يضرّك وينفعه ممّا نلته من موائد الملك فشغلته بذلك الشيء عن نفسك ودخلت ونلت منه غاية القرب ونهاية اللطف والاكرام ، فهل ترى أنّ مانلته منه عوضاً لما ألقيته إلى كلبه ، مع كونه من أخسّ الأشياء وأردائها وكونه منه أيضاً.

فنعماء الدنيا وإن كثرت ، بالنسبة إلى نعيم الآخرة أخسّ شيء وأقبحه ، لكدورتها بالآلام وفنائها ، فلا نسبة لها بلذّات الآخرة ونعمائها مع مقائها وصفائها.

وله من حيث المرغوب عنه خمس درجات :

أوّلها : الزهد في الحرام ، وهو زهد الفرض.

وثانيها : الزهد في الشبهات ، وهو زهد السلامة.

وثالثها : الزهد في الزائد عن الحاجة من الحلال أيضاً ، لكن مع التمتّع والتلذّذ ممّا يحتاج إلى صرفه.

ورابعها : الزهد فيه بدون التمتّع والتلذّذ من القدر الضروري ، بل لأجل الاضطرار من قبيل أكل لحم الميتة مع كراهة له باطناً ، وهذا وما قبله يسمّى زهد ثقل.

قال الصادقعليه‌السلام : « الزاهد في الدنيا الذي يترك حلالها مخافة حسابه ويترك حرامها مخافة عذابه ».(١)

وخامسها : الزهد في جميع ما سوى الله حتّى النفس والبدن ، بحيث

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٦٢.

٢٣١

يكون ما يصحبه ويرتكبه إجاء.

قال الصادقعليه‌السلام في بيان الزهد : « هو تركك كلّ شيء يشغلك عن الله من غير تأسّف على فوتها ، ولا إعجاب في تركها ، ولا انتظار فرج منها لا طلب محمدة عليها ، ولا عرض بها ، بل يرى فوتها راحة وكونها آفة الحديث ».(١)

ولا ينافيه الاشتغال بالضروريات والالتفات إليها ، فإنّ قصد حفظ البدن وامتثال أمره تعالى في الاتيان بها للاستعانة على العبادة وسائر القربات أيضاً إقبال على الله واشتغال به ، فكما أنّ من يعلف دابّته في طريق الحجّ لايكون معرضاً عنه تعالى فكذا الاشتغال بتهيئة ما يحتاج إليه البدن الذي هو كالدابّة للنفس في الوصول إلى المقصد لايكون معرضاً عنه تعالى إذا لم يكن متنعّماً متلذّذاً بها ، بل قاصداً للتقوّي بها على الطاعة ، فهو لاينافي الزهد ، بل هو شرطه.

ثم إنّه قد يتطرّق إلى القدر المهمّ الضروري شائبة فضول في القدر والجنس باختلاف الأوقات والأحوال ، فينبغي أن يراعى فيه الزهد أيضاً.

وغاية الزهد فيه الاقتصار في القوت على ما يكفي ليومه وليلته من خبز الشعير وإن كان الحنطة أو ضمّ إليها شيئاً من الإدوام الخفيف أو اللحم في بعض الأحيان لم ينافه ، وفي اللبس على الصوف الساتر للأعضاء الحافظ لها عن الحرّ والبرد ، وفي المسكن كذلك ، وفي أثاثه على ما يدفع الحاجة ويزول به الضرورة من أخفّ الأجناس وأهونها ، ومن المنكح على ما يحفظه عن الوساوس المانعة من الحضور في طاعته ، ويؤدي إلى حفظ النوع ، ومن المال ما يقضي به حاجة يومه بليلته إن كان كاسباً ، والا فما يكفيه لسنته ، بل قيل : إن مثله وإنّ عد من الزهّاد الا أنه لايلحق المرتبة العليا ممّا اعد لهم ، فإنّ من وصل إلى درجة التوكّل التامّ واليقين لم يحتط لغده مع حصول قوت يومه ،

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٣١ ، في الزهد.

٢٣٢

كما كانت عليه طوائف النبيّين وكافة الأصياء وخلّص الأتقياء الماضين.

والحقّ أنّه يختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأوقات ، فإنّ أمر المتفرّد في ذلك أخفّ من المعيل ، ومن اقتصر على العلم والعمل ولم يقدر على الكسب يخالف حاله حال الكالسب وكذا يمكن في بعض الأوقات والأماكن تحصيل الاجة كلّ يوم دون بعض ، فبالحريّ أن يلاحظ حاله ووقته ومكانه ، وأن الأصلح بحاله والأعون على تحصيل ما خلق لأجله ماذا ، فإن المعيار الصحيح في هذا الباب صحّة القصد وخلوص النيّة خاصّة.

وأمّا الجاه فقيل : إنّ القدر الذي يحصل به وقع في قلب الخادم ليخدمه أو في قلب السلطان ليدفع عنه شرّ الأشرار عن نفسه أو عن غيره ، ممّا لاينافي الزهد.

وقيل : إنّه يتمادى إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، وإن الحاجة إليه إما لجلب النفع ، والمال يغني عنه وإن لم يكن له قدر عند الخادم ، وإنما يحتاج إليه من أراد الخدمة بغير أجرة وهو ظالم حينئذ لا زاهد ، أو دفع الضر وهو مما يكفي عنه اشتغاله بالعبادة مع الأخلاص ، فإنّ الله تعالى أقدر على دفع الأذى عنه من الحكّام والسلاطين ، مضافاً إلى أنّه يحصل له من الله تعالى من دون كسب الوقع في قلب الكفّار فضلاً عن المسلمين.

وأمّا التصوّرات والتقديرات الباعثة على تحصيل الزائد من ذلك ، فهي أوهام كاذبة على سبيل التخمين ، إذ المحصّل له أقرب إلى أذى الناس من عادمه ، فالعلاج بالصبر والتحمّل أولى من العلاج بطلب الجاه وتسخير قلوب أعداء الله الظالمين ، فإنّ اليسير يدعو إلى الكثير ، والحفنة إلى البيدر الكبير ، وضراوته أشدّ من الخمر كما لا يخفى على من له أدنى إدراك ، فليحترز عن قليله وكثيره حتّى لايسلك به إلى الهلاك.

نعم ما يحصل للعبد منه تعالى من دون كسب لاتّصافه بالعلم أو غيره

٢٣٣

من الكمالات المقتضية له فهو من نعمائه سبحانه الغير المنافية للزهد ، فإنّ جاه الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أعظمه مع كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أزهد الخلق.

وله من غايته النجاة من عذاب الآخرة سمّي زهد الخائفين.

فإن كانت الطمع في نعيم الجنان كان زهد الراجين.

وإن كانت الرغبة في لقاء الله تعالى واستغراق الهمّ به تعالى من دون التفات إلى الخلاص من الآلام ، أو الوصول إلى اللذّات كان زهد العارفين ، فإنّ الوصول إلى هذه المرتبة العلية لايمكن الا من كمال المعرفة بصفاته الكمالية ، فإنها تستتبع المحبّة ، فكما أنّ العارف بمنافع الدرهم والدينار وكمالاتها يحصل له محبّة تامّة بهما بحسب معرفته بهما ، فكذا من عرف لذّة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أنها لاتجتمع مع لذّة الجنان بما فيها من الحور والقصور والغلمان ولا مع الخوف من عذاب النيران ، لم يؤثر غيرها عليها ، وكانت همّته مستغرقة في الوصول إليها ، بل كان طالب نعيم الجنّة في نظر العارف المذكور كالصبيّ الجاهل المغرور الطالب لللعب بالعصفور التارك لذّة الملك لما فيه من الجهل والقصور.

تنبيه

قد نبّهناك فيما مضى على أنّ كثيراً من الفضائل تشتبه بالرذائل ، ومنها الزهد ، فإنّه قد يترك التنّعم بزخارف الدنيا ويتكلّف في الخشونة في المأكل والملبس حبّاً المحجة البيضاء : للتسمّي بالزّهد والاشتهار بين الناس به وجلباً لقلوبهم بنيل الجاه ، فهذا ترك الدنيا للدنيا وليس زهداً ، فإنّه عبارة عن ترك جميع حظوظ الدنيا لله خاصّةً كما عرفت ، وعلامته استواء جميع ما يعرضه من الأحوال لديه.

فصل

الفقر هوالاحتياج إلى الغير فيما هو فاقده ، والغناء عدمه فيما هو

٢٣٤

واجده ، ومن البيّن أنّ الغناء من أشرف الصفات ، كيف وهو صفة وجود وكمال وهما من لوازم وجوب الوجود ، وما يكون كذلك فهو أشرف ممّا يستلزم النّقص والعدم والحاجة التي هي من لوازم الامكان ، ولذا انحصر الغني الحقيقي في الواجب تعالى لا حتياج ما سواه من الممكنات في كلّ آن إلى إفاضة الوجود ولوازمه وكمالاته منه تعالى عليها كما نبّه تعالى عليه بقوله :

( والله الغنّي وأنتم الفقراء ) .(١)

ثم الغناء على ما عرفت معنى واحد بسيط ، وإنّما يكثر افراده ويختلف باختلاف ما به يتحقّق ، فإن ما به الغنى قد يكون ذات الشيء كالواجب تعالى ، فإنّه الغنيّ بذاته عن غيره ، وقد يكون غيره كالممكنات ، وهي وإن كانت مشتركة بأسرها في احتياجها في غناها إلى خارج عن حقائقها فيكون ذلك لها نقصاً وفقراً ، وفي كون غناها مستفادة من الغنيّ بالذات الميض على كافة الموجودات بقدر قابليّتها واستعدادها ، فيكون ذلك لها شرفاً واستكمالاً ، الا أنها مختلة في وجوه الاستفادة منه اختلافاً فاحشاً ، فإنّ منها ما يكون غناه عن جميع الأشياء به تعالى ، فيتساوى وجود كلّ شيء وعدمه بالنظر إلى ذاته لعدم احتياجه إليه مطلقاً ، وإن أحبّ فقدانه أو وجدانه بحسب ما قدّر الله له ، فإنّ هذا الشخص لعلمه بأنه تعالى لا يفعل الا ما هو الأصلح ، في مقام الرضا بما يقدّر له ، ومن أحبّ أحداً أحبّ كلّ ما يصدر عنه من الأفعال ، لكنه بالعرض لا بالذات ، وهذا مبلغ الصديقين المقربين ، والشائع عند القوم إطلاق الفقير على مثله ، ولعلّه لكون الباعث على غناه كمال معرفته بالله تعالى وبكونه غنيّاً بالذات ومغنياً لكافة الموجودات ومفيضاً عليها بقدر ما اعدّت لها ، وكون ما سواه تعالى مماثلاً له في الفقر والحاجة إليه تعالى ، وكيف يسأل محتاج محتاجاً ، وأنّى يرغب

__________________

١ ـ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٣٨.

٢٣٥

معدم إلى معدم.

ويستتبع المعرفة التامّة بما ذكر قصداً ورغبة وانقطاعاً إليه تعالى وإعراضاً عمّا سواه بأسرها ، فكأنّه المحتاج لوجود خواصّه فيه من معرفة معناه ثم العمل بمقتضاه.

وأمّا سائر الناس فكأنّهم ليسوا بمحتاجين لفقد خواصّ الاحتياج ، وأماراته فيهم ، وهذا من قبيل اختصاص العبدية بنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يتلوه في العبودية مع كونها عامّة لجميع البريّة ، وإطلاق الغنيّ على هذا الفرد أحقّ وأولى منه على سائر الأفراد لكون غناه أشرف غناء ، وكذا ما به غناه فهو أقرب في استفادته من الله تعالى من غيره ، ولتشبهه بالمبدأ غي حقيقة ما به الغنى وكونه دائماً لايزول ولايفنى ، وقد عرفت انّ كمال النفس في التشبّه بمبدأها.

ومنها : ما كان غناه عن بعض الممكنات ببعض آخر منها ، كالغنى بالمال الحاضر عن الكسبوبالعكس ، أو عن الرجال بالمال أو ببعض الأموال عن بعض وغير ذلك ممّا يختلف بالختلاف الحاجات بالنظر إلى اختلاف الأشخاص والأحوال.

ولابدّ فيه من تمهيد مقدمّة تتّضح بها جليّة الحال.

فنقول : الموجودات بأسرها لا نتسابها إليه تعالى وكونها من آثار صنعه تعالى ، وهو خير محض لايصدر منه الا الخير ، لاتكون الا خيراً.

وعروض الشرية لها من أجل خصوصيات عرضيّة واعتبارات إضافيّة ، ولو كانت محض الشرور أو جهة شرّيتها أغلب لم توجد أصلاً. ففقدان شيء منها من حيث إنّه خير نقص ووجدانه كمال ، بل هو من أشرف الكمالات ، فإن ملكيّة الأشياء بقصد استفادة خيراتها الباعثة لوجودها ومنع تحقّق آثار شرورها العرضيّة الاضافيّة ، هي الاستيلاء والتصرّف الحقيقي في الأشياء ، الذي به يحصل التشبّه بالمبدأ الأعلى ، كما أشرنا إليه فيما مضى.

٢٣٦

نعم فقدانها باعتبار استفادة وجوه الشرّ منها كمال بالاضافة إلى وجدانها كذلك الاعتبار الا انه في نفسه وبالاضافة إلى الاشتغناء بوجوه خيرها والاستكسال بها كمال وخير ، كما لايخفى.

إذا تمهّد هذا ، فاعلم أنّ القسم المذكور من الغنى أي من كان غناه بالممكن إن كان ممّن لايسعى في طلبه سعياً بليغاً يصرفه عمّا هو الأهمّ له ، ولا يرغب فيه رغبة ذاتية شديدة ، ولا يتألّم بفقده ألماً طبيعيّاً الا أنّ حبّه لوجوده أكثر من عدمه إمّا بالذات لأنّه من أثار صنعه تعالى كما أشرنا إليه ، أو للتشبّه به تعالى في كون رزق بعض عباده بيده ، وأنّ له مدخلاً في نظام العالم الذي هو أحسن النظام ، أو لأجل اقتناء الخيرات وتحصيل السعادات ، فهذا أيضاً يتلو الأوّل في الشرافة والفضيلة ، ولذا ورد الحثّ الأكيد بالكسب والمتجر وتحصيل الرزق الحلال ، كما أشرنا إليه فيما مضى.

وإن كان حريصاً في جمعها متعباً نفسه في تحصيلها ولو من غير وجهها فرحاً بحصولها جزوعاً من فقدها متعشّقاً إمّا نفسها أو بمصارفها المضرّة بدينه مهملاً بسببه ما هو الأهمّ من كمالات نفسه المقصوة من إيجاده فهو بعينه ما بسطنا الكلام فيه في حبّ المال والبخل والحرص وغيرها ، وهذا بإطلاق الفقير عليه أجدر ، لعدم استغنائه بماله من الأموال وغيرها ، بل ازدادت حاجته إليها برقيته لشهوته.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ مثل هذا كلما يزداد مالاً تزداد شهوته وحرصه لما هو فاقده توالداً ، وتتوالى إلى غير نهاية تقف ولا يتصوّر له حدّ من الغناء يعرف.

ولذا قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : « يابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإنّ أيسر ما فيها يكفيك ، وإن أيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنت [ إنّما ] تريد منها ما لا يكفيك فإن كلّ ما فيها لا يكفيك ».(١)

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، كتاب الأيمان والكفر ، باب القناعة ، ح ٦.

٢٣٧

فظهر ممّا ذكر أنّ جميع أفراد الغنى في نفسها خير وكمال ، نوبالنظر إلى ما به الغنى أيضاً وإنّما يعرض الذمّ والشرّ لبعض غاياته في بعض أفراده مع قصدها ، بخلاف الفقر فإنّه نقص بالذّات وحرمان عن وجوه الخيرات وإنّما يعرض المدح والخيرية لبعض غاياته في بعض أفراده مع قصدها.

فتبيّن أنّ الغني من حيث إنّه غني أي واجد للشيء أشرف من الفقير من حيث إنه فقير ومعدم له.

يبقى كلام وهو أنّ الآيات والأخبار الدالّة على ذمّ الأغنياء ومدح الفقراء بقول مطلق كثيرة فماذا يفعل بها؟

فنقول : لمّا كانت استفادة وجود الشرّ من الدنيا أيسر وأسهل والطباع إليه أميل ، وجنود الشرّ أقوى ودواعيه أظهر وأجلى كان صرفها في وجوه الخيرات من الأعمال والأفعال في غاية الصعوبة والاشكال.

ولذا لاترى من الأغنياء من يصف نفسه بالحرّية واستيلاء قوّته العقلية على الشهويّة والغضبية الا قليلاً من الماضين الذين سمعنا حكاياتهم ولم نطّلع بالمشاهدة على حقائق حالاتهم.

وأمّا أهل هذه الأعصار ممّن نشاهدهم في الأمصار فنفوس أغلبهم متّصفة بالرقية منقادة لقوتيه البهيمية والسبعيّة وجلّ هذه المعاصي والشرور والفضائح الحادثة على كرّ الدهور ناشئة من أرباب الدول ، وإن حدثت من الفقراء أيضاً لكنه أقل لحرمانهم من أسبابها وتعذّر الدخول عليهم من أبوابها ، فإذا كان اجتناب المعاصي والسيّئات واقتناء الفضائل والسعادات مع الفقر أيسر وأسهل ومع الغناء أصعب وإن كان بطريق أكمل ، فالحري اللائق بطبيب رفقاً بها ، وإهداء لها إلى الطريق الذي هو أقرب إلى الوصول ، فالتكاليف مختلفة باختلاف القابليات ، فمن لم يكن مستعداً للمرتبة العليا يجب الرفق به حتّى يصل إلى ما يتلوه ، وإن كان أدنى ، خوفاً من أن يحرم

٢٣٨

عنها أصلاً ورأساً ، وهذا كما أنه السرّ في مدحهم للفقراء وذمّهم للأغنياء فكذلك هو السرّ في هرب الأنبياء والأولياء من أمتعة الدنيا وإعراضهم عنها وترجيحه فقدها على وجودها ، فإنّ شأن أرباب الهداية من المقربين النزول عن مرتبتهم القصوى إلى درجة المستضعفين حتّى يتمكّنوا من الاهتداء بهم والاقتداء بسيرتهم كالمعزّم الحاذق الذي يغيّر بين يدي أولاده عن أخذ الحية لا لضعفه عنه بل لعلمه بأنّهم يتبعونه ولا يقدرون فيهلكون ، وهذا مما لا يخفى على أولي البصائر والأفهام من التأمّل في الآيات والأخبار الواردة في المقام.

فصل

لما كان الفقر والغنى متقابلين فكلّ مرتبة من الغنى يقابلها مرتبة من الفقر ، الا أنّ المرتبة الاولى لعد صدق الفقر عليها أصلاً يقابلها مطلق الحاجة الشاملة أيضاً لسائر مراتب الغنى وسائرها إضافية يصدق على كل منها الغنى والفقر باعتبارين.

وحيثما تبيّن لك أنها بأسرها من الفضائل والكمالات فما يقابلها بأسرها من نقائص الممكنات الا إنّك لما عرفت أنّه لايمكن صرف ما يتحقّق به الغنى من الممكنات فيما خلقت لأجلها من الخيرات الا بعد استخدام العاقة للشهوية الذي هوالغني الحقيقي ، كان الغني الحقيقي المذكور لمن لم يؤيّد بالنفس القدسية من الأنبياء والأئمّة متوقّفاً على الفقر أوّلاً أي من حين سلوك هذا المسلك إلى أن يوفّقه الله للحرّية فيكون الأصلح بحاله بعد ذلك هو الغني.

ثم إنك لما عرفت أنّ المذموم في كلّ ما عددناه من الأقسام هوالقصد إلى غايات الشر المطلوبة للقوّة الشهوية ومن البيّن انّ وجود المال وحصول الغنى به كما يترتّب عليه تلك الغايات ويصير من جملة أسبابها فكذا يترتّب على فقده وحصول الحاجة إليه غايات شرّ لاتحصى كالحرص والجزع

٢٣٩

والشكوى من الله تعالى ، بل الكفر في بعض الأشخاص ولذا قال تعالى في خبر المعراج : « يا محمّد! إنّ من عبادي من لا يصلحه الا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإنّ من عبادي من لايصلحه الا الفقر ولم صرفته إلى غير ذلك لهلك ».(١)

فإذن يظهر أنّ الأولى لكل أحد ملاحظة حاله ، فإن كانت إعانة الفقر له على سولك طريق الآخرة أكثر كان هو الأولى له ، والا فالغنى أرجح ، فما تراه في كلام الأئمةعليهم‌السلام والعلماء الأعلام من الاختلاف في ذمّها ومدحها مبنيّ على ذلك.

ثم إذ تبين لك أنّ أولوّية الفقر عرضية وأنّه في نفسه نقص الا أنّه صار مقدّمة لرفع ما هو أعظم منه بالنسبة إلى من يريد أن يستخد قوّته الشهوية ولم بتّصف بصفة الحرّية ، وكان طالباً لتحصيل السعادة الأبدية ، فهو إمّا أن يكون قصده في اختياره والصبر عليه إلى تحصيل ما يتوقّف عليه من الفضائل طمعاً في عظيم الثواب ورجاء لمام عند الكريم الوهّاب ، فهذا فقر الراجين ، وإن كان الخوف من الاتّصاف بالرذائل والابتلاء بالمعاصي التي بها يستحقّ العذاب في الآجل فهذا فقر الخائفين.

وأمّا من كان مستغنياً بالله عن غيره فهو وبأن كان بأن يسمّى غنيّاً أحقّ ممّن تعارف إطلاق الغني عليه ، أي من كانت له أموال كثيرة كما عرفت الا أنّه لما امتاز فقره عن سائر مراتب الفقر بكون فقره إلى الله خاصّة في جميع حالاته ، وغناه بالاستغناء عن كلّ شيء بأن يسمّى فقيراً أحرى ، فإن معاملته مع من هو فقير إليه دون من هو غنيّ عنه ، مع أنه الأوفق بالأدب لأنه تعالى هو المسمّى بالغني والمتّصف به حقيقة ، وقد سمّى غيره فقيراً ، فينبغي التأسّي به

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٥٢ ، كتاب الايمان والكفر ، باب من أذى المسلمين ، ح ٨ ، وفيه : « من عبادي المؤمنين ».

٢٤٠