كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء0%

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء مؤلف:
المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 700

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

مؤلف: محمد حسن بن معصوم القزويني
المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
تصنيف:

الصفحات: 700
المشاهدات: 91643
تحميل: 8742

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 700 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91643 / تحميل: 8742
الحجم الحجم الحجم
كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

مؤلف:
العربية

قال الصادقعليه‌السلام : « المغرور في الدنيا مسكين وفي الآخرة مغبون ، لأنّه باع الأفضل بالأدنى ».(١)

ولما كان لمعرفة مداخل الآفات ومجاري الفساد مدخل في الاحتياط والاجتناب حسن التنبيه عليها إجمالاً.

فنقول : فرق المغترّين غير محصورة وجهات غرورهم موفورة.

فمنهم الكفّار بأسرهم. ومن جهات غرورهم كون نقد الدنيا أحسن من نسيئة الآخرة ، وفساده ظاهر ، لأنه صحيح مع التساوي في المقدار والمقصود والنفع والبقاء والا فالتاجر يتعب نفسه بأنواع المتاعب ويبذل نقوده مع إيقاعها في الأخطار لتحصيل النسيئة والمريض يصرف نقده في الدواء والطبيب للصحّة التي هي نسيئة والزارع يبثّ بذره في التراب طلباً للنسيئة وكذا سائر الناس في حرفهم وصنائعهم ، فإذا رجحت نسيئة الدنيا مع تناهيها وقلّتها وفنائها وشوبها بالكدورات وأنواع المنغّصات على نقدها فالآخرة لمن عرف نسبة الدنيا إليها أجدر بالتر جيح لكونها دائمة صافية عن الكدورات ، ولو حصل اليقين بوجود الواجب وحقّية الرسول بالبراهين صدّقهما في الأخبار الصادرة عنهم مما ذكر سيّما مع تأكّدها بالتجربة والعيان.

وإمّا أنّ لذّة الدنيا يقينية والآخرة لم يرها أحد حتى يعلم ما فيها ، وفساده أيضاً ظاهر ، إذ لاشكّ في الآخرة بعد ما يرى من اتّفاق العقلاء والعظماء من الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء عليها فمن لم يعرف المرض والداء يطمئنّ نفسه بما يقوله أرباب فنّ الطبّ فيهما ولا يطالبهم بالدليل أصلاً ، وهذا مدرك عامّ يشمل طبقات الناس بأسرهم لحصول اليقين ، وللخواصّ مسلك آخر ، وهو كشف حقائق الأشياء على ما هي عليها بطريق الوحي والالهام.

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٣٦ ، في الغرور.

٣٢١

وإما التقديرات الوهمية الكاذبة مثل أن المؤمن لو كان له حظ عند الله لكان ذاحظ من الدنيا ، فحسن حالنا فيها يدل عليه في الآخرة وأنه لو لم يحبنا لما أحسن إلينا ، وفسادها ظاهر أيضاً ، بل هذا هو الغرور بالله العظيم ، كما أشار إليه في كتابه الكريم ، لأن نعماء الدنيا مهلكات مبعدات عن الله يحمي بها أولياءه كما يحمي الوالد الشفيق ولده المريض عن لذائذ الأطعمة حباً له ، فمن كان له عبدان يمنع أحدهما من اللهو واللعب ويلزمه التعلم والأدب والاحتياط من لذائذ الأطعمة المضرة له ويأمره بالأدوية النافعة ويهمل الآخر فلا يسأل عن حاله ولا يبالي بأفعاله ، فهذا الفعل منه يدل على حبه للأول دون الثاني لا العكس ، وقد كان السلف يحزنون من إقبال الدنيا ويقولون : ذنب عجلت عقوبته ، ويفرحون بإدبارها ويقولون : مرحباً بشعار الصالحين ، والمغرور بالعكس ، حيث يظن الأول كرامة ، والثاني إهانة كما أخبر الله تعالى عنه ولو تدبر كلمات الله ورسله وأوليائه ولاحظ أحوالهم وأيقن بالله وصفاته لم يغتر بهذه الخيالات الفاسدة ، ونظر إلى حال الفراعنة الماضين وما انتهى إليه أمرهم من الهلاك والبوار وانقطاع الآثار.

( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) (١) ( سنستدرجهم من حيث لايعلمون ) (٢) ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) .(٣)

ومنهم عصاة أهل الحق وفساقهم ومن جهات غرورهم مضافاً إلى ما ذكر ، رحمة الله وفضله وحلمه وصفحه ، وما ورد في مدح الرجاء ، وربما اغتروا بالأنساب كالذرية العلوية ، فيطمئنون من كثرة المعاصي والخروج عن طريقة أجدادهم بذلك ، وقد تقدم في بحث الرجاء أن من رجا شيئاً طلبه ،

__________________

١ ـ المؤمنون : ٥٦ ـ ٥٧.

٢ ـ الأعراف : ١٨٢.

٣ ـ الأنعام : ٤٤.

٣٢٢

فالذي لم ينكح أو نكح ولم يجامع ولم ينزل وهو يرجو الولد فهو مغرور أحمق.

وقد قال الله :( وأن ليس للإنسان الا ما سعى * وأنّ سعيه سوف يرى * ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى ) .(١)

وقال :( كلّ نفس بما كسبت رهينة ) .(٢)

فالرجاء بدون العمل تمنّ وغرور.

وكذا النسب لا نفع له ، والله تعالى يقول :

( فلا أنساب بينهم يومئذ ولايتساءلون ) .(٣)

ويقول :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .(٤)

فمن زعم أنّه ينجو بصلاح أبيه كمن زعم أنّه يشبع بأكلة أبيه ويصل إلى المنزل بمشي أبيه أو يصير عالماً بعلم أبيه ، هيهات بل التقوى فرض عين على كلّ أحد ،( ولا يجزي والد عن ولده ) (٥) بل( يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه ) (٦) ولا شفاعة الا مع حصول شرائطها( ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) .(٧)

ومنهم العلماء أمّا في تحصيل العلوم فمنهم من يقتصر على الكلام والجدال ومعرفة آداب التعرّض في أندية الرجال من غير تحصيل العقائد الحقّة أو رسوخ فيها فهو كخيط مرسل في الهواء تفيّؤه الريح تارة كذا وتارة كذا ، وهو يظنّ أنّه أعلم الناس بالله وصفاته وأفعاله وآياته.

ومنهم المقتصر على العلوم الآلية ظنّاً منه أنّها مقدّمات للعلوم

__________________

١ ـ القمر : ٣٩ ـ ٤١.

٢ ـ المدثر : ٣٨.

٣ ـ المؤمنون : ١٠١.

٤ ـ الأنعام : ١٦٤.

٥ ـ لقمان : ٣٣.

٦ ـ عبس : ٣٤.

٧ ـ الأنبياء : ٢٨.

٣٢٣

الشرعية ، فيفني عمره في طلبها ولم يحصل شيئاً ممّا خلق لأجلها (لأجله ظ).

ومنهم المقتصر على الفقهيات أو بعضها أو بعضها كالمعاملات أو مع مقدّماتها القريبة كأصول الفقه معرضاً عمّا خلق لأجله من المعارف الحقّة ، وتزكية نفسه عن ذمائم الصفات وتحلّيها بمحاسن الملكات وشرائف الطاعات.

ومنهم من تعمّق في جميع العلوم بأسرها مهملاً للقوّة العملية معرضاً عن تزكية نفسه عن الرذائل الخلقية أو مكتفياً فيها بالظاهر الجلي بدون تعمّق في إدراك الخفايا المكنونة في الزوايا فإنّها أغمض وأدقّ من كلّ شيء كما أشرنا مراراً إليه.

وقد بيّنا لك ما به يحصل النجاة ويفوز المرء بالسعادات.

وإمّا في صفات القلب حيث يتكبّر ويسمّيه إعزازاً للدين وإرغاماً لأنف الجاهلين ويحسد ويغتاب ويسمّيه ردّاً على المبطلين وغضباً للحقّ والدين ويرائي ويسمّيه إرشاداً للمسلمين.

وكلّ هذا تغرير لنفسه والله مطلع على سريرته.

ومن أعظم ما اغترّ به [ بعض ] علماء عصرنا الخوض في أموال اليتامى والمساكين ، وصرفها في شهواتهم ومن يختلف إليهم بنوع من الأنصار والمريدين ظنّاً منهم أنهم يستحقّون بذلك جزيل الأجر والمثوبة بإعانة الفقراء ذوي المتربة وتخليص الأغنياء عن اشتغال الذمّة بالحقوق الواجبة وترويجاً للعلم بإعانة الطلبة والله مطّلع على سرائرهم عالم بما في ضمائرهم.

وبالجملة فجهات الغرور سيّما في هذا الزمان أكثر من أن يسطر ببنان البيان ، بل انتهى الأمر إلى كونهم قطّاع طريق الاسلام والمسلمين ، فهلاكهم

٣٢٤

أنفع للإيمان والمؤمنين ، لأنّهم عملة الجبت والطاغوت والشياطين ، فإلى الله المشتكى منهم ، ونسأله أن يخلّص الناس بظهور قائمهم عنهم.(١)

ومنهم الوعّاظ ، فمنهم المتكلّم في شرائف الملكات ومرغّب الناس في فضائل الصفات ، ومحذّرهم عن الذمائم والآفات مع كون المسكين مليّاً من الرذائل خليّاً من الفضائل ، فيزعم أنّه بمجرّد قوله واطّلاعه على الاصطلاحات وفهمه لمعاني الألفاظ والعبارات يعدّ من جملة السالكين وبإصلاحه الخلق وإهدائهم إلى الحقّ يستحقّ الأجر الجزيل من ربّ العالمين ، مع ما عرفت من أنّه من أعظم الناس حسرة يوم القيامة ، وأشدّهم تأسّفاً وندامة.

( يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا لا تفعلون ) .(٢)

ومنهم المشتغل بالطامّات وتلفيق كلمات خارجة عن قوانين الشرع والعقل مع تصنّعات في التشبيهات والاستعارات وتزيينات للألفاظ والعبارات طلباً للأعوان والأنصار بكثرة التواجد والرغبات والتذاذاً من ضجّة الناس وتحريك رؤوسهم على ما يلفّقه من الكلام وفرحاً من تكاثر المريدين من العوام الذين هم كالأنعام ، وربما لم يبال بالكذب في نقل

__________________

١ ـ من شؤون فقهائنا العظام الولاية على أموال اليتامى وتخليص الأغنياء عن اشتغال الذمة بالحقوق الواجبة وترويج العلم باعانة الطلبة وغير ذلك ، ولابدّ في كل عصر وزمان منهم حتّى يرجع الناس إليهم في الفتيا والحلال والحرام وسائر امورهم الدينية ويجب على الناس أيضاً الرجوع إليهم والأخذ منهم. نعم يمكن أن يوجد في كل زمان من يتصدّى هذا المقام وليس أهلاً له ولكن هذا لا يختص بهم فكم من مدّع للسير والسلوك أيضاً في كل عصر وزمان وليس عنده الا الدعوى الفارغ من الواقع.

٢ ـ الصف : ٢ ـ ٣.

٣٢٥

الأخبار الغريبة ، وتلفيق الحكايات العجيبة حرصاً منه على حصول وقع لمقالته في الصدور مع أنّه في غاية الحمق والغرور ، وإنّما هو شرّ الناس ، بل أضرّبهم من الخنّاس لقصر همّته على ذكر ما يؤدي إلى سرورهم ويزيد في غرورهم من تقوية رجائهم وازدياد رغبتهم في المعاصي واجترائهم ، وهو يظنّ انّه سالك مسلك الهداية وإنقاذ الهكى من الجهالة والغواية ، مع أنّ ضرره أبقى وأدوم وفساده أكثر وأعظم.

ومنهم من وصل إلى الدرجة العليا في تهذيب الصفات وتصفية النفس عن لوث الكدورات وتخليصها عن الشواغل والعوائق وقطع الموانع والعلائق ، وصرف طمعه عن الخلائق إلى الخالق ، وإنّما دعته إلى سلوك سبيل الهداية والارشاد مجرّد الرحمة والشفقة على العباد ، الا أنّه بعد الاشتغال بذلك وجد الشيطان سبيلاً إلى ما هنالك ، فدعاه إلى الرئاسة دعاء خفيّاً ، ثمّ لم يزل يربو وينمو إلى أن صار قويّاً فصار يتصنّع لهم في الألفاظ والنغمات ، ثم في الزيّ والهيأة والحركات ، فقبله الناس قبولاً عميماً وآثروه بأموالهم وأنفسهم إيثاراً عظيماً ، وصاروا له بمنزلة الخدم والعبيد ، فعند ذلك ذاق لذّة مالها من مزيد ، وابتلي بشهوة هي فوق الشهوات ، ووقع في آفة هي من أعظم الآفات ، بعد ما كان مطمئناً بتركه لجميع اللذّات ، فابتلاه الشيطان بالاثم الأعظم وغرّه من حيث لايعلم ، وربما ترقّى فاطّلع على هذه المكيدة واجتهد في استخلاص نفسه فترك ما كان يفعله خوفاً من المفسدة فأعجبه علمه بكيد الشيطان وفراره من شروره ، فوقع في غرور آخر بعد غروره ، ولو كان سالكاً مسلك النجاة لم يأمن كيد الشيطان في حال من الحالات ، بل كان مواظباً على التضرّع والابتهال والاستعانة في دفع غوائله من الكريم المتعال ، خائفاً على نفسه من سلب ما أوتي ثم من خطر الخاتمة الذي لايمكن منه التفصّي.

قيل : ظهر الشيطان لبعض الأولياء في حالة النزع وقد بقي له نفس ،

٣٢٦

فقال : أفلت منّي يا فلان؟ فقال : لابعد.

ومنهم : العبّاد والزهّاد.

فمنهم الغالب عليه الوسواس في الطهارات والنيّات ، والمبالغة في إجراء البعيد من الاحتمالات فيها ، وفي أداء الحروف من المخارج في الصلوات وأمثال ذلك من الجزئيات ، ثم يعكس تقديراته في المأكل وأخذ الأموال بطلب محامل بعيدة لتبديل الحرام بالحلال ، ظانّاً أنّه محتاط في تصحيح عباداته مع أنّه مضيع أوقاته ، وصارف عمره فيما لا يعنيه ، [ وتارك للتوجّه ](١) والحضور وغيرهما ممّا يعنيه ، فهو من أقبح أنواع الغرور والجهل بمواقع الأمور.

ثم من أغلب ما يقعون فيه العجب والرياء في العبادات ، مع ظنّهم أنّهم على تقوى وإخبات ، وربما يصومون في غالب الأوقات ، زعماً منهم انه مجرّد كفّ عن المفطرات ، مع عدم احتفاظهم عن الغيبة وسائر الأذيّات والافطار على المحرّمات وهم يرجون فيه جزيل الثواب من الكريم الوهّاب ، وكذا يحجّون بالمال الحرام من غير ردّ للمظالم وقضاء للديون الواجبات ، وعدم الاحتفاظ على الصوات والطهارات والتجنّب عن النجاسات ، مع قلوب ملوّثة بذمائم الصفات ورذائل الملكات ، وه يظنّون انّهم مسارعون إلى الخيرات.

ومنهم من يترك نفائس الملابس ولذائذ الممطاعم ، زعماً منه أنّه سالك مسلك الزهّاد مع حبّه للرئاسة باشتهاره بذلك بين العباد ، فقد ترك الأهون فساداً لأعظم الفساد.

ومنهم المغترّ بفعل النوافل والمستحبّات مع عدم معرفته بحدود الفرائض والواجبات ولأ أخذٍ لمسائله الدينية على وجه يحصل له البراءة ، اليقينيّة.

__________________

١ ـ ساقط من « الف » و « ب ».

٣٢٧

ومنهم الصوفية.

وفمنهم القلندرية المنكرون لعقائد أهل الايمان ، والتاركون لشعائر الاسلام ، والجاهلون بمسائل الحلال والحرام ، الصارفون عمرهم في في التكدّي وإيذاء الأنام ، ظنّاً منهم أنّهم معرضون من كلّ لذّة وشهوة ، ولو أقبل عليهم شيء منها بغتة ماتوا من الفرح فجأة ، فهم أرذل البريّة ، وأجهلهم في الفكر والرويّة.

ومنهم من اكتفى من التصوّف بالنطق والزيّ واللبس وخفض الصوت وإطراق الرأس وتنفّس الصعداء وفعل ما يشبه البكاء سيّما إذا سمعوا كلاماً في العشق والوحدة مع عدم معرفة معناه بالمرّة ، وربما يتجاوز بعضهم إلى الرقص والصعيق وإبداء الشهيق والنهيق واختراع الأذكار والتغنّي بالأشعار وسائر الحركات الشنيعة والهيئات القبيحة الفظيعة ، ظنّاً منهم الوصول بأمثال هذه الحركات إلى أعلى المنازل والمقامات ، مع أنّها يقرب العبد إلى سخطه تعالى وعذابه ، ويستوجب بها الأليم من عقابه ، وبعض منهم يطوي بساط الشرع والأحكام ، والفصل بين الحلال والحرام متكالباً على الشبهات والمحرّمات تاركاً للسنن بل الواجبات مدّعياً أن الله غنّي عن الطاعات وأنّه لا عبرة بعمل الجوارح بل العبرة بالقلوب وأنّها واصلة إلى المطلوب والهة في مشاهدة المحبوب فيخوض في الشهوات الدنيوية زاعماً أنّها لاتصدّ عن المعارف الحقيقية مع قوة النفوس وثبات الأقدام ، وإنّما المحتاج إلى رياضة البدن خصوص العوام ، ولا يتفكّرون في أنّ أنبياء الله المرسلين وأولياء الله المقرّبين مع كونهم المقصود من خلق السماوات والأرضين وعن أدناس السيّئات والمعاصي طاهرين معصومين يبكون على ترك الراجح بل المرجوح(١) سنين متوالية ويحسبونها صادّة عن الدرجات الرفعية العالية ، فهم أضعف الناس عقلاً وأشدّهم حمقاً وجهلاً ، وربّما ادّعى بعضهم غاية

__________________

١ ـ كذا ، ولعل الصحيح : يبكون على فعل المرجوح ، بل ترك الراجح.

٣٢٨

المعرفة واليقين ، والوصول إلى أعلى درجات المقرّبين ومشاهدة المعبود ومجاورة المقام المحمود ، ووالملازمة في عين الشهود ملفّقاً من الطامّات كلمات مزخرفات ، زاعماً أنّه المطلع على عالم الملك والملكوت ، بل ساحة القدس والجبروت ، ناظراً إلى الصلحاء والفقهاء والمحدّثين وسائر العلماء بعين الحقارة والازدراء ، مدّعياً لنفسه من خوارق العادات مالم يدّعه أحد من الأنبياء والأولياء مع أنّه لم يعرف من المعارف الا ألفاظاً مسموعة وكلمات موضوعة لم يتفطّن لحقائقها ولا أدرك دقائقها ، وربما ارتكب بعضهم قبائح الأعمال وشنائع الأفعال المزيلة للمروءات ، زعماً منه أنّه كسر النفس وإزالة لرذائل الملكات ، ولايدري أنّها بنفسها من ذمائم الصفات.

ومنهم من اشتغل بالرياضات وقطع بعض المراحل ووصل إلى بعض المقامات ، فتوقّف في البين ظنّاً منه الوصول إلى العين ، فإنّ لله سبعين حجاباً من نور لايصل السالك إلى واحد منها ، [ الا ](١) وهو يظنّ أنّه لامجال للتعدّي عنها.

قال بعض العرفاء(٢) : وإليه الاشارةت في الكتاب الكريم في حكاية إبراهيم ـ على نبيّنا وعليه أفضل التحيّة والتسليم ـ حيث رأى كوكباً فقال : « هذا ربّي » ثم انتقل إلى القمر ، ثم إلى الشمس ، إذ ليس المراد منها الأجسام المضيئة ، لأنّ شأنه أرفع من ذلك وأجلّ من أن يكون سلوكه من هذه المسالك ، بل استعيرت للأنوار الالهيّة المرئيّة للسالك الحاجبة عن الوصول إلى ما هنالك مع عدم إمكانه الا بالوصول إليها والتعدّي عنها ، وبعضها أعظم من بعض ، فلم يزل الخليل يصل عند سيره إلى حجاب أكبر بعد تجاوزه عن الحجاب الأصغر فيترائى له في باديء الرأي الوصول إلى المقصد ، ثم يكشف له أن وراءه أمراً آخر فيترقّى إليه ، فيقول : « هذا أكبر » ، ومتى

__________________

١ ـ ساقط من « الف » و « ج ».

٢ ـ هو أبو حامد الغزالي.

٣٢٩

ظهر له إنّه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص عن ذروة الكمال ، قال : « لا أحبّ الآفلين »(١) .

ومن أصغر تلك الحجب القلب لكونه من سنخ عالم الربوبية ونوراً من أنوار الحضرة الالهية يتجلّى فيه صور الأشياء بأسرها ، فيشرق إشراقاً عظيماً يظهر به عوالم الوجود على ماهي عليها ، وقد كان محجوباً عنه في الابتداء ، فلمّا أشرق نور الله الأسنى ورأى بعد الالتفات إليه جمالاً فائقاً أسنى أدهشه ذلك ، فربّما سبق إلى لسانه كلمة أنا الحقّ ، فإن لم يتّضح له بعد ذلك ماكان محجوباً عنه من الحجب الاخر كان فيه هلاكه ، مع أنّه كان مغترّاً بأصغرها.

وهذا محلّ الالتباس لأنّ المتجلّي ملتبس بما يتجلّى فيه كالمرآة الملتبس نورها بنور ماظهر فيها ، ولذا قيل :

رقّ الزجاج ورقّت الخمر

فتشابها وتشاكل الأمر

فكأنّما خمر ولا قدح

وكأنّما قدح ولا خمر

وبهذه العين نظرت النصارى في المسيح فرأوا إشراق نور الله متلألئاً فيه فغلطوا فيه كمن يرى كوكباً في المرآة فيظنّ أنّه فيها أو في الماء فيمدّ يده إليه وهو مغرور.

انتهى ملخّصاً(٢) .

ومنهم الأغنياء وأصحاب الدول ، فمنهم من يحرص على بناء المساجد

__________________

١ ـ راجع سورة الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣. لا يخفى أن الصوفية ـ خذلهم الله ـ هم أصحاب البدع والتأويلات يحرّفون الكلم عن مواضعه ، يفسرون القرآن بالرأي ويؤوّلون الروايات حسب أهوائهم ويعتمدون على آرائهم وآراء أقطابهم الفاسدين ومرشديهم المبطلين في الدين فالتفصيل بين فرقهم والحكم بأنّ بعضهم مغترّون والسكوت بالنسبة إلى آخرين منهم لاوجه له.

٣٣٠

والمدارس والرباطات وغيرها بالأموال المحرّمة ، بل في الأراضي المغصوبة من دون باعث سوى الرياء والشهرة ويظنّ بفعله ذلك استحقاق المثوبة والمغفرة مع أنّه قد تعرّض للسخط والعذاب في كسبها وإنفاقها ، وكان اللازم عليه الامتناع من أخذها ، ثم الردّ على أهلها والتوبة منها ، وربما طلب فقير منهم درهماً فيبخلون منه ، ومنهم من ينفق جهراً على المشاهير ، ويكره الانفاق سرّاً على المستور الفقير للسمعة والرياء والاشتهار بالبذل والعطاء والجود والسخاء ، ومنهم من يمنّ ويؤذي بالاعطاء ، ومنهم من يبخل في الحقوق المالية ويصرف عمره في العبادات البدنية وكلّ ذلك محض الغرور الناشيء عن الجهل بحقائق الأمور.

تذنيب

إذ قد عرفت أنّ الغرور من فروع الجهل وآثاره ، فضدّه العلم واليقين بما يقرّبه إلى الله ويبعّده عن سخطه وبآفات طريقهما وغوائله ، فلا يتمكّن الشيطان من تغريره ولا تسكن نفسه إلى الشهوات ، ولا يطمئن بلذّات الدنيا لما فيها من الآفات.

قال الصادقعليه‌السلام : « واعلم أنّك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمنّي الا بصدق الانابة إلى الله تعالى والإخبات له ، ومعرفة عيوب نفسك من حيث لايوافق العلم والعقل ولايحمله الدين والشريعة وسنن القدوة وأئمّة الهدى ، وإن كنت راغباً بما أنت فيه ، فما أحد أشقى منك وأضيع عمراً ، فأورثت حسرة يوم القيامة ».(١)

فصل

الاضطراب من حصول الآلام والمصائب والمشاقّ فعلاً وتركاً من رذائل الملكات المتفرّعة على صغر النفس وضعفه ، فيشمل ما يحصل عند التمكّن

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٣٦ ، في الغرور ، مع اختلاف.

٣٣١

من الشهوات والمعاصي من اضطراب النفس وميلها إلى فعلها ، وما يحصل عند إرادة فعل الطاعات الشاقّة كالحجّ والجهاد وغيرهما من الاضطراب والميل إلى الترك ، فإنّ كلّ طاعة مكروهة للنفس كما سنشير إليه ، وما يحصل عند عروض المصائب والنوائب من احتراق القلب واضطرابه المترتّب عليه بعض الأعمال الركيكة كشقّ الجيب ولطم الخد والتضجّر والتبرّم وغيره ويختصّ هذا القسم منه باسم الجزع فهو فرد منه.

ثم أنّ ترتبّه على صغر النفس يقتضي إدخاله تحت رذائل الغضبية وهو وإن كان كذلك مطلقاً لما ذكر الا أنّ بعض أفراده ممّا يمكن إدخالها تحت الشهويّة أيضاً لكون الباعث عليها ميل النفس إلى الشهوات وعدم ائتمار القوّة الشهويّة تحت حكم العاقلة وإن كان الباعث للميل المذكور كبر الدنيا على النفس كما أشير إليه فيما سبق ، فإنّ هذا الباعث يعمّ جميع الرذائل الشهوية ، فلو صار ذلك سبباً لعدّها في رذائل الغضبية خاصّة لزم أن يكون جميع الرذائل الشهوية منها ، ولا يكون لها نوع خاصّ بها ، وهذا غير عزيز في باب الفضائل والرذائل حيث تكون لفضيلة واحدة جهتان يعدّ كلّ منهما في كلّ منهما ، فالاضطراب المذكور من حيث كونه مترتّباً على ميل النفس إلى الشهوات يمكن عدّها من رذائل الشهوية ، بل هذه الحيثية أظهر لكونها أخصّ ، ولذا عدّ القوم الصبر المقابل للجزع في أنواع الشجاعة لاختصاصها بتلك الحيثية الاولى خاصة وهذا القسم من أنواع العفّة لكون الحيثية الثانية فيه أظهر فافهم ، فإنّ هذا المقام من مزالق الأقدام.

ثم إنّه يدلّ على قبح هذه الخصلة وذمّها العقل والنقل.

أمّا الأوّل فلأنّه كراهة لقضاء الله وحكمه والمقدّر كائن فلا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه.

وفي الحديث القدسي : « من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي

٣٣٢

فليخرج من أرضي وسمائي [ وليطلب ربّاً سوائي ] ».(١)

ونقل أنّه مات ابن لبعض الأكابر فعزّاه مجوسي فقال : ينبغي للعاقل أن يفعل في يومه ما يفعل الجاهل بعد خمسة أيّام ، فقال : اكتبوا عنه.

وأمّا الاضطراب في مشقّة الطاعة فلأنّه يدلّ على جهله وقلّة إدراكه ، فإنّ أهل الدنيا يرتكبون أنواع المشاقّ والمتاعب ويوقعون أنفسهم في صنوف الأخطار والمهالك لأجل جزاء منقطع مشوب بأنواع الكدورات ، فمن عرف نسبة لذّات الآخرة الموعود بها لجزاء العبادات مع دوامها وشرافتها ، إلى لذّات الدنيا لما شقّ عليه العمل ، بل كان مثل المستسقي الذي يزيد عطشه ولايروي بشرب الماء ، ولو تفكّر في نعمائه المتواترة عليه في كلّ يوم ، بل في كلّ آن ، وعرف وجوب شكر المنعم عقلاً لما فرغ نفسه لشغل الا للعبادة والطاعة ، ولو حصل أدنى معرفة بالله وعظمته وصفاته وآياته حصلت له من المحبّة والانس ما عظمت به لذّة العبادة ، بحيث لم ير فوقها لذّة ، بل كان منتهى آماله وغاية مناه.

وأمّا الاضطراب في ترك المعصية فهو يدلّ على عدم تعديله لقوّتيه الشهوية والغضبية وعدم تحصيله العلم بغوائل النفس وجنود الشيطان وما يلحقها من البعد والبوار وعدم تذكّره لما ورد في ذمّ كلّ منهما من الأخبار والآثار وعدم تفطّنه لغوائله ومفاسده ، فلو حصل المعرفة المزبورة سهل عليه ترك الخصلة المذكورة المانعة له عن الاتّصاف بشرائف الصفات والاتّصاف بضدّه الصّبر الذي هو من أمّهات فضائل الملكات.

قال الله تعالى :( وكايّن من نبيّ قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبّ الصابرين ) .(٢)

__________________

١ ـ لم أجده بهذا اللفظ ، نعم يوجد نحوه في جامع الأخبار : ص ١٣٣. وما بين المعقوفتين في « ج » فقط.

٢ ـ آل عمران : ١٤٦.

٣٣٣

وممّا ذكر يظهر علاجه العلمي مضافاً إلى التذكّر لما ورد في مدح ضدّه من الآيات والأخبار ، ودلّ عليه الاعتبار ممّا سيذكر إن شاء الله تعالى ، والعلمي تقديم التروّي في كلّ فعل يريده حتّى يتفطّن بمفاسده فيسهل عليه تركه أو بمحاسنه وفوائده حتى يسهل عليه فعله إلى أن يصير ملكة.

فصل

الحزن ألم نفساني يعرض من فوت مطلوب أو فقد محبوب أو الخوف من مكروه ، وعدّه بعض المحقّقين من رذائل الشهوة من طرف التفريط. وفيه نظر ، فإنّ الباعث عليه إن كان شدّة الشوق إلى المشتهيات فيحزن لفقدها أو فوتها كان من رذائل الشهوة لكن كونه من جانب التفريط ممنوع ، بل هو من تنائج الشره. وإن كان باعثه الميل إلى مقتضيات الغضب فيحزن على فوت ما يميل إليه قلبه من الاستيلاء والغلبة على الخصم أو الانتقام أو الكبر أو التعزّز أو غيرها كان من رذائل الغضب. وإن بني الأمر على ترتّبه على صغر النفس وضعفها كان الأوّل أيضاً منها من جانب التفريط وتعميم المعروض بالنسبة إلى الخوف مع عدم ذكر القوم له ، لأنّه قد يكون حزنه من حصول أمر يتوقّع فيه أثر السوء ، فمن حيث حصول تشويش الخاطر والاضطراب بذلك يسمّى خوفاً ، ومن حيث حصول الهمّ والغمّ له والتضجّر والتألّم يسمّى حزناً وإن كان هذا متفرّعاً على ذلك ، على أنّ الخوف إنّما يستعمل فيما يحتمل العدم ، والحزن أعم ، إذ يشمل ما يتيقّن كالذي يأكل ولده السمّ المهلك.

ومن جملة هذا القسم من الحزن كلّ حزن يترتّب على الخوف الممدوح ، إذ لايمكن حصول الخوف بدون الحزن ولو لم يعمّم بما ذكرناه شمله أيضاً فإنّ محبوب أهل الدنيا ومطلوبهم شهواتها ، ومحبوب أهل الآخرة ومطلوبهم لذّاتهامن لقاء الله والاعتزال عن أبناء الدنيا وعدم مشاهدة

٣٣٤

أطوارهم فحزنهم أيضاً على ما يفقدونه.

فظهر أنّ عدّ الحزن من الرذائل مطلقاً ممّا لا وجه له ، كيف لا والدنيا سجن المؤمن ، ولا وجه له لفرحه فيها.

ويؤيّده ما ورد من ذمّ الغفلة والسرور وكثرة الضحك ومدح الخشوع والبكاء من حشية الله ، فإنّ البكاء يحدث من ألم القلب بالاحتراق لا بتشويش الخاطر والاضطراب ، فالحزن بهذا المعنى من أمّهات الفضائل.

وأمّا قوله تعالى :( ألا أنّ أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون ) (١) فلا يحسن الاستشهاد به لذمّ الحزن بعد تخصيصه بالحزن على فقد لذّات الدنيا ، بل الأولى إما تفسيره بعدم بقاء هذا القسم من الحزن الممدوح الذي كانوا عليه في الدنيا لهم في الآخرة ، وكذا الخوف ، لوصولهم إلى ماكانوا يفقدونه في دار الدنيا من نعيم الجنان وخلاصهم عن أهوال يوم القيام ويؤيّده سوق الآية كما لايخفى.

وإمّا تفسيره بعدم حصولهما لهم في الدنيا أيضاً بناء على ما أشير إليه سابقاً من أنّ شأن أولياء الله المقرّبين أجلّ وأعظم من أن يخافوا من شيء أو يطمعوا في شيء ، إذ لا مطمع لهم الا النظر إلى وجهه الكريم ، وقد فازوا بالاستغراق في بحار جلاله وعظمته ، فلم يبق منهم خائف ولا مخوف عليه ولا طامع لهم ولا مطموع فيه ، كما قيل :

نترسد زو كسى كورا شناسد

كه طفل از سايه خود مى هراسد

نماند خوف اگر گردى روانه

نخواهد اسب تازى تازيانه

ترا از آتش دوزخ چه باك است

كه از هستى تن وجان تو پاك است

ز آتش زر خالص برفروزد

چه غشى نبود اندر وى بسوزد(٢)

__________________

١ ـ يونس : ٦٢.

٢ ـ گلشن راز : ٥٤.

٣٣٥

ثم إنّه لا يحصل هذا القسم من الحزن الا بقطع العلاقة عن الدنيا واليقين التامّ بما وعد [ وأوعد ](١) الله به عباده في الآخرة.

ويتفرّع عليه آثار محمودة كالسعي في تدارك مافات بتحصيل شرائف الصفات والاهتمام في العبادة وأداء الطاعات.

وأما القسم الأول الشائع في كلام القوم فهو مع اشتماله على كراهة التقديرات الالهية متفرّع على الميل إلى مقتضيات الشهوة والغضب والجهل بفنائها وأنّ مالا يفني هو ما خلق لأجله من المعارف الحقيقية والفضائل النفسية ، فلو حصل اليقين بذلك صرفه الاشتغال والسعي في تحصيلها وحفظها عن الهمّ لفوات حطام الدنيا.

وفي أخبار داود : « يا داود! ما لأوليائي والهمّ بالدنيا ، إن لهمّ يذهب حلاوة مناجاتي عن قلوبهم ، إنّ محبّتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لايغتمّون ».(٢)

مع أن الحزن كما قاله بعض الحكماء ليس أمراً طبيعيّاً للنفس ، بل ملكة حادثة من سوء اختيارها ، لأنّ كلّ محزون على فقد شيء يزول حزنه بيسير من الأوقات(٣) ويتبدّل بالسرور ولو كان طبيعياً لكان حاصلاً لكلّ أحد ، إذ لابدّ من فقد محبوب له.

ثم ما أشبه حاله بمن دعي في جماعة إلى دعوة في مجلس مشتمل على صنوف النفائس والشمائم الطيّبة ليتفرّج ألأصناف المدعوّ برؤيتها وينتفعو من روائحها خاصة ، فكان يأخذها كل منهم ساعة للتفرّج والاستشمام ويودعها إلى آخر ، فلو أخذها أحدهم وطمع في تملّكه واغتمّ من أخذ آخر منه نسب إلى الجنون وخفّة العقل ، فالعاقل لايصرف عمره في

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ جامع السعادات : ٣ / ٢١٤ ، الجواهر السنية : ٩٤ نقلاً عن مسكنّ الفؤاد.

٣ ـ في « ج » : الالتفات.

٣٣٦

تحصيل ما يحزن على فقده بعد علمه بأنّه يصير مفقوداً ولا يعلّق قلبه به مع حصوله له ، بل يهتمّ في تحصيل الباقيات التي لاتفنى واللذّات التي ليس لها انتهاء ، ولنعم ما قيل :

ومن سرّه أن لايرى ما يسوؤه

فلايتّخذ شيئاً يخاف له فقدا

 

٣٣٧

المقام الثاني

في الفضائل المتعلّقة بالقوتين أو الثلاث

أو المحتملة لكل منها

وفيه فصول

فصل

الصدق من شرائف الصفات ونفاش الملكات ، وقد كثر مدحه في الآيات والأخبار.

( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) (١) ( الصابرين والصادقين والقانتين والمستغفرين بالأسحار ) (٢) ( رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه ) (٣)

وقال الصادقعليه‌السلام : « انّ الرجل ليصدق حتّى يكتبه الله صدّيقاً ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « من صدق لسانه زكى عمله ».(٥)

وقالعليه‌السلام : « لاتنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإنّ ذلك شيء اعتاده ، ولو تركه لاستوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه

__________________

١ ـ التوبة : ١١٩.

٢ ـ آل عمران : ١٧.

٣ ـ الأحزاب : ٢٣.

٤ ـ الكافي : ٢ / ١٠٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصدق وأداء الأمانة ، ح ٨ ، عن الباقرعليه‌السلام .

٥ ـ الكافي : ٢ / ١٠٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصدق وأداء الأمانة ، ح ٣ ، عن الباقرعليه‌السلام .

٣٣٨

وأداء أمانته ».(١)

وقال : « إنّ عليّاًعليه‌السلام إنّما بلغ به عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة ».(٢)

والأخبار كثيرة لاتحصى.

وله أنواع :

منها : الصدق في الشهادة ، ويقابله شهادة الزور ، والصدق في اليمين ، ويقابله اليمين الكاذبة ، والوفاء بالعهد ، ويقابله خلف الوعد وهو أفضل أنواعه.

وقد أثنى الله نبيّه إسماعيل به(٣) ويشمله نوع واحد ، وهو الصدق في القول ، ولايكمل في هذا النوع الا بترك المعاريض من غير ضرورة ورعاية معاني الألفاظ عند قراءتها ، فمن يقول :

( وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض ) (٤) وهو مقبل على الدنيا فهو كاذب.

وكذا من يقول( أيّاك نعبد ) (٥) وقلبه مقيّد بالدنيا ، فإنّه عبادة للدنيا كما ورد.

ومنها : الصدق في النيّة ، أي تخليصها في الأقوال والأفعال لله تعالى وهوالاخلاص ، وسيأتي في مباحث النيّة إن شاء الله تعالى.

ومنها : الصدق في العزم ، فإنّ الانسان قد يعزم على عمل ، فإن كان مصمّماً جازماً كان صادقاً أي تاماً كما يقال : فلان صادق الشهوة أو كاذبها ، وإن كان فيه ضعف وشكّ كان كاذباً.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ١٠٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصدق وأداء الأمانة ، ح ١٢.

٢ ـ الكافي : ٢ / ١٠٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصدق وأداء الأمانة ، ح ٥ ، مع زيادة.

٣ ـ مريم : ٥٤.

٤ ـ الأنعام : ٧٩ ، وفي النسخ : للذي فطرني.

٥ ـ الفاتحة : ٥.

٣٣٩

ومنها : الصدق في الوفاء بالعزم ، فإنّ الانسان ربما يعزم يعزم على فعل معلّق بشرط أو صفة ، ثم بعد حصولها تمنعه الشهوات عن أدائه.

قال الله تعالى :( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) .(١)

ومنها : الصدق في الافعال ، أي مطابقة الظاهر والباطن واستواء السرّ والعلانية ، أو كون الباطن أحسن من الظاهر ، وهو أعزّ الأنواع السابقة وأعلاها.

إذا السرّ والإعلان المؤمن استوى

فقد عزّ في الدارين واستوجب الثنا

وإن خالف الاعلان سرّاً فما له

على سعيه فضل سوى الكدّ والعنا

كما خالص الدينار في السوق نافق

ومردوده المغشوش لايقتضي المنى

ويستلزم هذا النوع أن لا يقول ما لايفعل.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب فانظر إلى قصد معناك وغور دعواك وغيّرهما بقسطاس من الله عزّوجلّ كأنّك في القيامة ، قال الله تعالى :( والوزن يومئذ الحق ) (٢) فإذا اعتدل معناك بدعواك ثبت لك الصدق » ، وأدنى حقّ الصدق أن لايخالف اللسان » القلب ، ولا القلب اللسان ».(٣)

ومنها : الصدق في مقامات الدين ، كالصبر والشكر والخوف والرجاء والزهد والتوكّل والتعظيم والرضا والحبّ والتسليم لتقديراته تعالى ، وهو من أعظم أنواعه ، كما أشير إليه في الكذب ، ومن علاماته كتمان الطاعات والمصائب جميعاً.

__________________

١ ـ الأحزاب : ٢٣.

٢ ـ الأعراف : ٨.

٣ ـ مصباح الشريعة : الباب ٧٤ ، في الصدق.

٣٤٠