مرآة العقول الجزء ١

مرآة العقول11%

مرآة العقول مؤلف:
المحقق: السيد هاشم الرسولي
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 358

المقدمة الجزء ١ المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦
  • البداية
  • السابق
  • 358 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40027 / تحميل: 6000
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي وهب الحياة والقوى، وأفاض العقل ليغلب به الهوى، وبيّن للورى نجدى الضلالة والهدى، ورفع أهل العلم والحجى، وذوى العقل والنّهى، من الثرى إلى الثريّا، ومن دركات الّردى إلى درجات العلى، وأثنى عليهم عدد الرّمل والحصى، وأوضح فضلهم لكلّ من سمع ودرى، فله الحمد على نعمه الّتي لا تحصى، وله الشكر على أياديه الّتي لا تستقصى، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ سيّد الأنبياء وصفوة الأصفياء محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله وخليله وحبيبه ونجيبه وخيرته من خلقه، وأنّ صهره المجتبى وأخاه المرتضى وخليفته المقتدى: عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه أشرف الأوصياء وإمام الأتقياء، وحجّة الله على أهل الأرض والسماء، وأنّ الأئمّة الراشدين والخلفاء الهادين من ذرّيته حجج الله على الخلق أجمعين، ومعاقل العباد في الدنيا والّدين، وسادات الأوصياء المنتجبين، وآيات الله في العالمين، فصلوات الله عليه وعليهم في الأوّلين والآخرين، ولعنة الله على أعدائهم دهر الداهرين.

أما بعد: فيقول المذنب الخاطى الخاسر القاصر، عن نيل المفاخر والمآثر ابن الغريق في بحار رحمة الله الغافر محمّد تقي قدس الله روحه: محمّد باقر غفر الله لهما وحشرهما مع أئمّتهما: إنّي لما ألفيت أهل دهرنا على آراء متشتّتة وأهواء مختلفة، قد طارت بهم الجهالات إلى أوكارها، وغاصت بهم الفتن في غمارها، وجذبتهم الدواعي المتنوّعة

١

 إلى أقطارها، وحيّرتهم الضلالة في فيافيها وقفارها، فمنهم من سمّى جهالة أخذها من حثالة(١) من أهل الكفر والضلالة، المنكرين لشرايع النبوّة وقواعد الرسالة: حكمة، واتّخذ من سبقه في تلك الحيرة والعمى أئمّة، يوالي من والاهم ويعادي من عاداهم، ويفدي بنفسه من إقتفى آثارهم، ويبذل نفسه في إذلال من أنكر آراءهم وأفكارهم، ويسعى بكلّ جهده في إخفاء أخبار الأئمّة الهادية صلوات الله عليهم وإطفاء أنوارهم( وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المشركون) .

ومنهم عن يسلك مسالك أهل البدع والأهواء المنتمين إلى الفقر والفناء ليس لهم في دنياهم و اُخراهم إلّا الشقاء والعناء فضحهم الله عند أهل الأرض كما خذلهم عند أهل السماء، فهم إتّخذوا الطعن على أهل الشرايع والأديان بضاعتهم وجعلوا تحريف العقائد الحقّة عن جهاتها وصرف النواميس الشرعيّة عن سماتها، بضمّ البدع إليها صناعتهم، ومنهم من تحيّر في جهالته يختطفهم شياطين الجنّ والإنس يميناً وشمالاً فهم في ريبهم يتردّدون، عمياناً وضلاّلاً، فبصّر الله نفسي بحمده تعالى هداها، وألهمها فجورها وتقويها، فاخترت طريق. الحقّ إذ هو حقيق بأن يبتغى، واتّبعت سبيل الهدى إذ هو جدير بأن يقتفى، فنظرت بعين مكحولة بكحل الإنصاف مشفية من رمد العناد والإعتساف، إلى ما نزل في القرآن الكريم من الآيات المتكاثرة، وما ورد في السنة النبوّية من الأخبار المتواترة، بين أهل الدراية والرواية، من جميع الامّة، فعلمت يقيناً أنّ الله تعالى لم يكلنا في شىء من أمورنا إلى آرائنا وأهوائنا بل أمرنا باتّباع نبيّه المصطفى، المبعوث لتكميل كافّة الورى، وتبيين طرق النجاة لمن آمن واهتدى، وأهل بيته الّذين جعلهم مصابيح الدّجى وأعلام سبيل الهدى، وأمرنا في كتابه وعلى لسان نبيّه بالردّ إليهم والتسليم لهم، والكون معهم، فقرنهم بالقرآن الكريم وأودعهم علم الكتاب، وآتاهم الحكمة وفصل الخطاب وجعلهم باب الحطّة وسفينة النجاة وأيّدهم بالبراهين والمعجزات، وبعد ما غيّب الله شمس الإمامة وراء

__________________

(١) بالحاء المهملة والثاء المثلثة: الردى من كلّ شىء وثفالته.

٢

السحاب، أصبح ماء الهداية والعلم غوراً، فمنعنا عن الوصول إلى البحر العباب، واستتر عنّا سلطان الدين خلف الحجاب، أمرنا بالرجوع إلى الزّبر والأسفار، والأخذ ممّن تحمّل عنهم من الثقات الأخيار، المأمونين على الرّوايات والأخبار فدريت بما القيت إليك انّ حقيقة العلم لا توجد إلّا في أخبارهم وانّ سبيل النجاة لا يعثر عليه إلّا بالفحص عن آثارهم، فصرفت الهمّة عن غيرها إليها واتّكلت في أخذ المعارف عليها، فلعمري لقد وجدتها بحوراً مشحونة بجواهر الحقايق ولآليها، وكنوزاً مخزونة عمن لم يأتها موقناً بها، مذعناً بما فيها، فأحييت بحمد الله ما اندرس من آثارها، وأعليت بفضل الله ما انخفض من أعلامها، وجاهدت في ذلك وما باليت بلؤم اللاّئمين، وتوكّلت على العزيز الرحيم، الّذي يراني حين أقوم، تقلّبي في الساجدين، ولقد كنت علّقت على كتب الأخبار حواشي متفرّقة، عند مذاكرة الإخوان، الطالبين للتحقيق والبيان وخفت ضياعها بكرور الدهور واندراسها بمرور الأزمان فشرعت في جمعها مع تشتّت البال وطفقت أن أدوّنها مع تبدّد الأحوال، وابتدأت بكتاب الكافي للشيخ الصدوق ثقة الإسلام، مقبول طوائف الأنام، ممدوح الخاص والعام: محمّد بن يعقوب الكليني حشره الله مع الأئمّة الكرام، لأنّه كان أضبط الأصول وأجمعها، وأحسن مؤلّفات الفرقة النّاجية وأعظمها، وأزمعت على أن أقتصر على ما لا بدّ منه في بيان حال أسانيد الأخبار، الّتي هي لها كالأساس والمباني، وأكتفى في حلّ معضلات الألفاظ وكشف مخيّبات المطالب بما يتفطّن به من يدرك بالإشارات الخفيّة، دقائق المعاني وسأذكر فيها إنشاء الله كلام بعض أفاضل المحشّين وفوائدهم، وما إستفدت من بركات أنفاس مشايخنا المحقّقين وعوايدهم، من غير تعرّض لذكر أسمائهم، أو ما يرد عليهم.

ثمّ إنه كان ممّا دعاني إليه، وحداني عليه، التماس ثمرة فؤادي وأعزّ أولادي ومن كان له أرقي وسهادي: محمّد صادق رزقه الله نيل الدقائق، وأوصله إلى ذرى(١) الحقايق وكان أهلاً للإجابة لبرّه ودقة نظره، ورعايته، وأرجو إن عاجلني الأجل أن

__________________

(١) جمع الذروة - بكسر الذال - المكان المرتفع. أعلى الشىء.

٣

يوفّقه الله سبحانه لإتمامهوسميته بكتاب مرآت العقول في شرح أخبار آل الرسول وأرجو من فضله تعالى وإنعامه أن يوفقني لإتمامه على أبلغ نظامه وأن ينفع به عامّة الطالبين للحق المبين وأن يجعله ذريعة لنجاتي من شدائد أهوال يوم الدين والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله محمّد وأهل بيته الأكرمين، ولنشرح الخطبة على الاختصار، فإنّ تفصيل شرح الفقرات سيأتي إنشاء الله تعالى متفرّقاً في شرح الأخبار.

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المحمود لنعمته المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى، ودنا فتعالى،

________________________________________________________

قوله: لنعمته، في بعض النسخ بنعمته، ويحتمل أن تكون النعمة محموداً بها، ومحموداً عليها، وآلة، فالمعنى على الأوّل انّه يحمد بذكر نعمه، وعلى الثاني أنّه يحمد شكراً على نعمه السابقة استزادة لنعمه اللاحقة، وعلى الثالث انّه يحمد بالآلات والأدوات، والتوفيقات الّتي وهبها، فيستحق بذلك محامد أخرى وهذا بالباء أنسب، وكذا الفقرة التالية تحتمل نظير تلك الوجوه، أي يعبد لقدرته وكماله، فهو بذلك مستحقّ للعبادة، أو لقدرته على الإثابة والانتقام، أو إنّما يعبد بقدرته الّتي أعطانا عليها.

قوله: في سلطانه، أي فيما أراده منّا على وجه القهر والسلطنة لا فيما أراده منا وأمرنا به على وجه الإقدار والاختيار، أو بسبب سلطنته وقدرته على ما يشاء.

قوله: فيما عنده، أي من النعم الظاهرة والباطنة، والبركات الدنيويّة والأخروية.

قوله: فاستعلى، الاستعلاء امّا مبالغة في العلوّ أو بمعنى إظهاره، أو للطلب، فعلى الأول لعلّ المعنى انّه تعالى علا علوّاً ذاتيّاً فصار ذلك سبباً لأنّ يكون مستعلياً عن مشابهة المخلوقات، وعن أن تدركه عقولهم وأوهامهم، وعلى الثاني: المعنى انّه كان عالياً من حيث الذات والصفات، فأظهرها علوّه بايجاد المخلوقات، وعلى الثالث لابدّ من إرتكاب تجوّز أي طلب من العباد أن يعدّوه عالياً، ويعبدوه، وعلى التقادير يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الواو.

٥

وارتفع فوق كلّ منظر، الّذي لا بدء لأوّليّته، ولا غاية لأزليّته، القائم قبل الأشياء، والدائم الّذي به قوامها، والقاهر الّذي لا يؤوده حفظها، والقادر الّذي بعظمته تفرّد بالملكوت، وبقدرته توحّد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه؛ اخترع الأشياء إنشاءً، وابتدعها ابتداءً، بقدرته وحكمته، لا من شيءٍ فيبطل الإختراع

________________________________________________________

قوله: وارتفع فوق كلّ منظر، المنظر مصدر نظرت إليه وما ينظر إليه، والموضع المرتفع، فالمعنى انّه تعالى إرتفع عن أنظار العباد أو عن كلّ ما يمكن أن ينظر إليه، ويخطر بالبال معنى لطيف وهو: أنّ المعنى انّه تعالى لظهور آثار صنعه في كلّ شيء، ظهر في كلّ شيء، فكأنّه علاه وارتفع عليه، فكلّما نظرت إليه فكأنّك وجدت الله عليه.

قوله: لا بدء لأوّليته، أي لسبقه الذاتي، فإنّه تعالى علة العلل، وليس له ولا لعليته علة، أو الزماني، أي لا يسبقه أحد في زمان ولا زمان.

قوله: القائم، أي الموجود القائم بذاته، أو القائم بتدبير الأشياء وتقديرها قبل خلقها، ويمكن أن يراد بالقبلية القبلية الذاتية.

قوله: والقاهر الذي، قال الوالد العلامة طيب الله رمسه: القاهر هو الّذي قهر العدم وأوجد الأشياء منه وحفظها بقدرته الكاملة، ولا يؤده أي لا يثقل عليه حفظها، ولعل فيه إشارة إلى احتياج الباقي في بقائه إلى المؤثر.

قوله: بالملكوت، هو فعلوت من الملك كالجبروت من الجبر، وقد يطلق عالم الملكوت على عالم المجردات والمفارقات، وعالم الملك على الجسمانيات والمقارنات، وقد يطلق الأول على السماويات، والثاني على الأرضيات، والظاهر ان المراد هنا تفرده تعالى بنهاية الملك والسلطنة.

قوله: حججه، أي آياته الّتي أظهرها في الآفاق والأنفس، أو الأنبياء والأوصياء عليهم السلام أو الأعم.

قوله: لا من شيء، قال بعض الأفاضل: الاختراع والابتداع متقاربان في المعنى

٦

ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء، متوحداً بذلك لإظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات.

احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، و

________________________________________________________

وكثر استعمال الاختراع في الايجاد لا بالأخذ من شيء يماثل الموجد ويشابهه، والابتداع في الايجاد لا لمادة وعلة فقوله: لا من شيء، أي لا بالأخذ من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة أي لمادة فيبطل الابتداع.

قوله: لإظهار حكمته، علة للخلق أو للتوحيد، والمعنى انه تعالى خلق الأشياء على هذا النظام العجيب والصنع الغريب، متوحداً بذلك بدون مشاركة أحد ليستدلوا بها على علمه وحكمته، وانه الرب حقيقة، أو ليستدلوا على انه تعالى لم يخلق هذا الخلق عبثا، وإن الحكمة في خلقها العبادة والمعرفة، وأن يطيعوه ويعبدوه، فإنه حقيقة الربوبية وما يحق لربوبيته ويلزمها، ولعل الأول أظهر.

قوله: لا تضبطه العقول، أي تبلغ العقول ادراكه بنحو قاصر عن الإحاطة به وضبطه، فهو غير محدود وغير منضبط الحقيقة، ولكنه مصدق بوجوده، منفيّاً عنه جميع ما تحيط به العقول والأفهام، ولا تبلغه الأوهام، حيث يتعالى عن أن يحس بها ولا تدركه الابصار حيث لا صورة له ولا مثال، ولا يتشكل بشكل، ولا يحاد بحد، ولا يتقدر بمقدار فقوله: ولا يحيط به مقدار، كالتأكيد لسابقتها إن أريد بالمقدار المقادير الجسمانية، وإن أريد به الأعم من المقادير العقلية فهي مؤكدة لسوابقها.

قوله: بغير حجاب محجوب، المحجوب أمّا مرفوع أو مجرور، فعلى الأول خبر مبتداء محذوف، أي هو محجوب بغير حجاب، فالجملة مستأنفة لبيان أن احتجابه ليس كإحتجاب المخلوقين، وعلى الثاني يحتمل جره بالإضافة أي بغير حجاب يكون للمحجوبين، أو بالتوصيف بأن يكون المحجوب بمعنى الحاجب، كما قيل في قوله

٧

وصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال، ضلت الأوهام عن

________________________________________________________

تعالى: « حجاباً مستوراً(١) » أو بمعناه أي ليس حجابه مستوراً، بل حجابه أمر ظاهر على العقول، وهو تجرده وتقدسه وكماله، ونقص الممكنات، أو المعنى انه ليس محجوباً بحجاب محجوب بحجاب آخر(٢) كما هو شأن المخلوقين المحجوبين، أو ليس احتجابه احتجاباً بالكلية، بحيث لا يصل إليه العقل أصلاً، أو المعنى: انه ليس محتجباً بحجاب محجوب فضلاً عن الحجاب الظاهر، فيكون نفياً للفرد الأخفى، ويحتمل أن يكون المراد بالحجاب من يكون واسطة بين الله تعالى وبين خلقه، كما ان الحجاب واسطة بين المحجوب والمحجوب عنه، وكثيراً ما يطلق على من يقف أبواب الملوك ليوصل إليهم خبر الناس حاجباً وحجاباً، فالمراد بالحجاب الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وقد أظهرهم الله تعالى للناس، وبين حجيتهم وصدقهم بالآيات البينات، والاحتمالات كلها جارية في الفقرة الثانية، ويحتمل أن تكون الثانية مؤكدة للأولى، وأن يكون المراد بالأولى الاحتجاب عن الحواس، وبالثانية الاحتجاب عن العقول، كلّ ذلك أفاده الوالد العلامة قدس الله روحه.

قوله: بغير رؤية، وربما يقرء روية بتشديد الياء بغير همزة، أي معرفة وجوده بديهي، ولا يخفى بعده.

قوله: بغير جسم، أي بغير أن يكون توصيفه بالجسمية، أو بما يستلزمها، وقيل أي غير جسم نعت له.

___________________

(١) سورة الاسراء: ٤٥.

(٢) في المطبوعة: « ليس محجوباً بالحجاب محجوب بحجاب آخر » وفي نسخة [ ب ] « ليس محجوباً بحجاب يكون محجوباً بحجاب آخر » وما اخترناه في المتن في المتن هو الموافق لنسخة [ ح ] المكتوب بخط الشارح قدس سره الشريف.

٨

بلوغ كنهه، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته، لا يبلغه حد وهم، ولا يدركه نفاذ بصر، وهو السميع العليم، احتج على خلقه برسله، وأوضح الأمور بدلائله، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه، فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه، ويوحدوه

________________________________________________________

قوله: عن بلوغ كنهه، لأنّه تعالى ليس بمركب وما ليس بمركب لا يمكن إدراك كنهه.

قوله: غاية نهايته، الغاية تطلق على المسافة وعلى نهايتها والأول هنا أظهر، أي لا تبلغ العقول إلى مسافة تنتهي إلى نهاية معرفته فكيف إليها، والحمل على الثاني بالإضافة البيانية بعيد.

قوله: حدوهم، أي حدة الأوهام، أو نهاية معرفة الأوهام.

قوله: نفاذ بصر، قال الجوهري نفذ السهم من الرمية ونفذ الكتاب إلى فلان ورجل نافذ في أمره أي ماض، والكل محتمل.

قوله: بدلائله، أي أوضح كلّ أمر بدليل نصبه عليها كوجوده وكمال ذاته بما أوجد في الآفاق والأنفس من آياته، والرسل والحجج عليهم السلام بالمعجزات والأحكام الشرعية بما بين في الكتاب والسنة.

قوله: وابتعث الرسل، الابتعاث الإرسال كالبعث.

قوله: ليهلك، قال البيضاوي: المعنى ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا تكون لهم حجة ومعذرة أو ليصدر كفر من كفر وايمان من آمن عن وضوح بينة، على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام، والمراد بمن هلك ومن حي: المشارف للهلاك والحياة، أو من هذا حاله في علم الله وقضائه، وقيل: يحتمل أن يكون من باب المجاز المرسل لأنّ الكفر سبب للهلكة الحقيقية الأخروية، والايمان سبب للحياة الحقيقية الأبدية، فأطلق المسبب على السبب مجازا.

قوله: عن ربهم، أي بتوسط الرسل.

٩

بالإلهية بعدما أضدوه، أحمده حمداً يشفي النفوس، ويبلغ رضاه، ويؤدي شكر ما وصل إلينا من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء وجميل البلاء.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحداً أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبد انتجبه، ورسوله ابتعثه، على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة وانتقاض من المبرم وعمى عن الحق، واعتساف من الجور وامتحاق من الدين.

________________________________________________________

قوله: أضدوه، أي جعلوا له أضدادا.

قوله: يشفى النفوس، أي من أمراض الكفر والجهل والأخلاق الذميمة وكأنه على سبيل الاستدعاء والرجاء، أي أرجو من فضله تعالى أن يكون حمدي كاملاً مؤثراً تلك التأثيرات وأطلب منه تعالى ذلك أو هي إنشاء لغاية الشكر وإظهار لنهاية التذلل، والجزيل: الكثير العظيم، والآلاء بالمد: النعم، واحدتها الألا، بالفتح، والبلاء: الاختبار بالخير والشر، وهنا الأول أنسب.

قوله: فترة، الفترة الضعف والانكسار، وما بين الرسولين من رسل الله، والهجعة بالفتح: طائفة من الليل، والهجوع: النوع ليلاً، كذا في النهاية، وقال الجوهري: أتيت بعد هجعة من الليل، أي بعد نومة خفيفة، واستعيرت هنا لغفلة الأمم عمّا يصلحهم في الدارين.

قوله: واعتراض من الفتنة، أي انبساط منها، ويحتمل أن يكون مأخوذا من قوله اعترض الفرس: إذا مشى في عرض الطريق، من غير استقامة، تشبيها للفتنة بهذا الفرس واستعارة لفظ الاعتراض لها. والمبرم: المحكم.

قوله: وعمى عن الحق، في بعض النسخ: من الحق، فليست كلمة « من » على سياق ما مر، إذ كانت فيها ابتدائية، وهنا صلة بمعنى عن، إلا أن يكون من قولهم عمى عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ »(١) وفي قوله: وامتحاق من الدين، يحتمل الابتدائية والتبعيضية، والاعتساف: الأخذ على غير

____________________

(١) سورة القصص: ٦٦.

١٠

وأنزل إليه الكتاب، فيه البيان والتبيان، قرآنا عربيّاً غير ذي عوج لعلهم يتقون؛ قد بينه للناس ونهجه، يعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها، وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة، ومعالم تدعو إلى هداه.

فبلغ صلى الله عليه وآله وسلم ما أرسل به، وصدع بما أمر، وأدى ما حمل من أثقال النبوة، وصبر لربه، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، ودعاهم إلى النجاة، وحثهم على

________________________________________________________

الطريق، والامتحاق: البطلان والإمحاء، والتبيان مبالغة في البيان، أي مع الحجة والبرهان، وقوله: قرآنا، حال بعد حال عن الكتاب، أو بدل منه، أو منصوب على الاختصاص، والعوج: الاختلال والاختلاف والشك.

قوله: ونهجه، بالتخفيف أي أوضحه، وقوله: بعلم، إمّا متعلّق بقوله: قد بينه، أو نهجه، أو بهما على سبيل التنازع، أو حال عن الكتاب، والمستتر في قوله: « وفصله » وقراينه إمّا راجع إلى الله أو الرسول أو الكتاب.

قوله: فيها دلالة، الضمير راجع إلى الأمور المذكورة، وقوله: ومعالم، إمّا مرفوع بالعطف على دلالة، أو مجرور بالعطف على النجاة، والمعالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطريق والحدود، والمراد بها هنا مواضع العلوم، وما يستنبط منه الأحكام وعلى الجر يحتمل النبي والأئمّة عليهم السلام، والضمير في « هداه » راجع إلى الله أو الرسول أو الكتاب، وقيل: الهاء زايدة كما في «كِتَابِيَهْ »(١) ولا يخفى بعده، وربما يقرء هداة بالتاء.

قوله: وصدع، أي أظهره، وتكلم به جهاراً أو فرث به بين الحقّ والباطل، وفسر بكلا الوجهين قوله تعالى «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ »(٢) والأثقال جمع ثقل بالكسر، ضد الخفة، أو ثقل بالتحريك وهو متاع البيت والمسافر على الاستعارة.

قوله: على الذكر، أي القرآن أو كلّ ما يصير سبباً لذكره تعالى.

____________________

(١) سورة الحاقة: ١٩.

(٢) سورة الحجر: ٩٤.

١١

الذكر ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها ومنائر رفع لهم أعلامها، لكيلاً يضلّوا من بعده، وكان بهم رؤوفاً رحيماً.

فلما انقضت مدته، واستكملت أيامه، توفاه الله وقبضه إليه، وهو عند الله مرضي عمله، وافر حظه، عظيم خطره، فمضى صلى الله عليه وآله وسلم وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين، وإمام المتقين صلوات الله عليه، صاحبين مؤتلفين، يشهد كلّ واحد منهما لصاحبه بالتصديق، ينطق الإمام عن الله في الكتاب، بما أوجب الله فيه

________________________________________________________

قوله: أساسها، الضمير راجع إلى المناهج والدواعي، والمراد بسبيل الهدى منهج الشرع القويم، وبالمناهج والدواعي أوصياؤه عليهم السلام، وبالتأسيس نصب الأدلة على خلافتهم، ويحتمل أن يراد بالمناهج الأئمّة، وبالدواعي الأدلة على حجيتهم، ويحتمل وجوها أخرى لا تخفى، والمناير جمع المنارة، وهي ما يرفع لتوقد النار عليه لهداية الضال عن الطريق، واستعير هنا للأوصياء عليهم السلام لاهتداء الخلق بهم، ورفع الاعلام لنصب الأدلة، إذ رفع الاعلام الّتي يوضع عليها ما يستنار به يصير سبباً لكثرة الاهتداء به في الطرق الظاهرة، فكذا نصب الأدلة وتوضيحها يصير سبباً لكثرة الاهتداء بهم عليهم السلام.

قوله: وكان بهم رؤوفا رحيماً، الرأفة أشد الرحمة، وهذا رد على المخالفين بأنه كيف يدعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلاها وأمير وداع، مع شدة رأفته ورحمته بهم في أمور دنياهم وآخرتهم، وقوله: فلما انقضت، تفصيل وبيان لقوله دلهم، والخطر: القدر والمنزلة.

قوله: بالتصديق، أي بسببه أو متلبسا به، والحاصل: انه يشهد كلّ منهما بحقيقة الآخر، ويبين كلّ منهما ما هو المقصود من الآخر، وقوله: ينطق، استيناف لبيان هذه الجملة، وقوله: بما أوجب متعلّق بينطق، والحاصل: ان الإمام يبين من قبل الله تعالى ما أوجب في الكتاب من طاعته في أوامره ونواهيه، وطاعة الإمام وقوله: وواجب حقه، عطف إمّا على الموصول، أو على طاعته، والضمير عائد إليه تعالى، أو على ولايته والضمير راجع إلى الإمام، وفي بعض النسخ: وأوجب حقه، و

١٢

على العباد، من طاعته، وطاعة الإمام وولايته، وواجب حقه، الّذي أراد من استكمال دينه، وإظهار أمره، والاحتجاج بحججه، والاستضائة بنوره، في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته.

فأوضح الله بأئمّة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، وجعلهم مسالك لمعرفته، ومعالم لدينه، وحجاباً بينه وبين خلقه، والباب المؤدي إلى معرفة حقه، وأطلعهم على المكنون من غيب سره.

________________________________________________________

قوله: في معادن، صفة للنور أو حال منه، وإضافة المعادن إلى الأهل، إمّا بيانية أو لامية، وعلى الثاني المراد بالمعادن إمّا القلوب، فالمراد بالأهل الأئمّة عليهم السلام، أو الأئمّة، فالمراد بالأهل جميع الذرية الطيبة كما سيأتي الاحتمالان في الآية المقتبس منها، وهي قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا »(١) انشاء الله تعالى، وقوله: « مصطفى » إمّا مفرد أو جمع، ومعطوف على المعادن أو الأهل، وإضافته إلى الأهل إمّا بيانية أو لامية، والخيرة بكسر الخاء وسكون الياء أو فتحها: الاختيار، وإضافة الأهل إليها لامية.

قوله: عن دينه، تعديته بكلمة عن لتضمين معنى الكشف، كما في الفقرة الآتية، والبلوج: الإضاءة والوضوح، وأبلجه، أوضحه، والمراد بالمناهج كلّ ما يتقرب به إليه سبحانه، وسبيلها: دلائلها وما يوجب الوصول إليها.

قوله: ينابيع علمه، في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه العلم بالماء وإثبات الينابيع له، أو من قبيل: لجين الماء، وقيل: المراد بالينابيع: الآيات القرآنية.

قوله: وحجابا، هو بالضم والتشديد جمع حاجب، الّذي يكون للسلاطين، وقوله: أطلعهم بتخفيف الطاء أي جعلهم مطلعين على سره، المغيب عن غيرهم، والضمير

____________________

(١) سورة فاطر: ٣٢.

١٣

كلما مضى منهم إمام، نصب لخلقه من عقبه إماما بينا، وهادياً نيراً، وإماما قيماً، يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعته، ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، ويستهل بنورهم البلاد، جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم، والرد إليهم فيما جهل، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون و

________________________________________________________

المستتر في « نصب » راجع إلى الله تعالى أو إلى الإمام، والأخير بعيد.

قوله: من عقبه: أي بعده أو من ذريته تغليبا، ومنهم من قرأ [ من عقبه ] بالفتح اسم موصول أي من عقب الله الماضي، ولا يخفى بعده.

قوله: قيماً، أي قائما بأمر الأمة، وقيل: مستقيماً، وقوله: يهدون حال عن الأئمّة، أو خبر مبتدأ محذوف، وقوله: بالحق متعلّق بيهدون، أي بكلمة الحقّ أو الباء بمعنى إلى، أو ظرف مستقر أي محقين، و « به » أي بالحق يعدلون بين الناس في الحكم، وقوله: حجج الله، خبر مبتدأ محذوف، والدعاة والرعاة جمع الداعي والراعي، من رعى الأمير رعيته رعاية إذا حفظهم، أو من رعيت الأغنام، وقوله: على خلقه، متعلّق بالرعاة، أو بالثلاثة على التنازع.

قوله: بهديهم، بضم الهاء أي تعبد العباد بهدايتهم، أو بفتحها أي بسيرتهم، وقوله: يستهل أي يستضئ بنورهم أي بعلمهم وهدايتهم البلاد، أي أهلها.

قوله: حياة للأنام، أي سبباً لحياتهم الظاهرية وبقائهم، أو سبباً لحياتهم، بالايمان والعلم والكمالات أو الأعم.

قوله: نظام طاعته، أي ما ينتظم به طاعته، وتمام فرضه أي ما يتم به فرائضه، إذ مع عدم ولايتهم والتسليم لهم كلّ ما أدى من الفرائض تكون ناقصة، أو فرض ذلك بعد سائر الفرائض، لقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ »(١) وقوله: فيما علم، أمّا على بناء المجهول أي علم صدوره منهم، أو المعلوم أي علم العبد، والأول أظهر، وكذا فيما جهل،

____________________

(١) سورة المائدة: ٣.

١٤

منعهم جحد مالا يعلمون، لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه، من ملمات الظلم ومغشيات إليهم، وصلى الله على محمّد وأهل بيته الأخيار الّذين أذهب الله عنهم الرجس [ أهل البيت ] وطرهم تطهيرا.

أما بعد، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتّى كاد العلم معهم أن يأزر كله وينقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيعوا العلم وأهله.

وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم، إذا كانوا داخلين في الدين، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان، والنشوء عليه والتقليد

________________________________________________________

وسيأتي تفسير التسليم في بابه، والتهجم: الدخول في الأمر بغتة من غير روية، والحظر والمنع تأكيد للفقرتين الأوليين على خلاف الترتيب.

قوله: لما أراد الله، بالتخفيف تعليل للمذكورات سابقا، والملمات جمع ملمة وهي النازلة، والظلم جمع الظلمة، وهي البدعة والفتنة، وقوله: مغشيات البهم، أي مستورات البهم ومغطياتها، والبهم كصرد جمع بهمة بالضم، وهو الأمر الّذي لا يهتدى لوجهه، أي الأمور المشكلة الّتي خفى على الناس ما هو الحقّ فيها وستر عنهم، أو غشيت عليهم وأحاطت بهم، بأن يقرء على بناء المفعول من التفعيل.

قوله: من اصطلاح أهل دهرنا، أي تصالحهم وتوافقهم، والتوازر: التعاون.

قوله: أن يأزر، في بعض النسخ بتقديم المعجمة على المهملة، وهو جاء بمعنى القوة والضعف، والمراد هنا الثاني، والظاهر أنه بتقديم المهملة كما سيأتي إنشاء الله تعالى في باب الغيبة: فيأرز العلم كما يأرز الحية إلى حجرها، أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها.

قوله والنشؤ عليه، بفتح النون على فعل أو بالضم على فعول، قال الجوهري: نشأت في بنى فلان نشوءا إذا شببت فيهم، وفي بعض النسخ: « والنشق » بالقاف، قال

١٥

للآباء، والأسلاف والكبراء، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها.

فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي، وجعلهم جل ذكره صنفين صنفا منهم أهل الصحة والسلامة، وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم،

________________________________________________________

الجوهري: نشق الظبي في الحبالة، أي علق فيها، ورجل نشيق إذا كان ممّن يدخل في أمور لا يكاد يتخلص منها، وفي بعضها: والسبق إليه، والأول أصوب.

قوله: على عقولهم، الضمير راجع إلى الأسلاف والكبراء، أو إلى أنفسهم والأول أظهر. قوله: محتملة صفة بعد أخرى لقوله خلقه، أو حال عن العقول، ويحتمل أن يكون العقول مبتداء، ومحتملة خبره.

قوله: صنفا، بدل أو عطف بيان للمفعول الأول، وقوله: أهل الصحة مفعول ثان. ويحتمل تقدير الفعل ثانيا، ثمّ انه يحتمل أن يكون المراد بالصنف الأول المكلفين مطلقا، وبالصنف الثاني غير المكلفين أصلاً من الصبيان والمجانين، ويمكن أن يكون المراد بالأول من كان قابلاً لتحصيل المعارف والعلوم والكمالات، وبالثاني: الضعفاء العقول من المكلفين الّذين ليس لهم قوة تحصيل العلوم والمعارف والتميز التام بين الحقّ والباطل، واستنباط الاحكام من أدلتها، وهذا أظهر، وإن كان بعض الفقرات الآتية يؤيد الأول، فعلى الثاني المراد بالأمر والنهي: الأمر بتحصيل المعارف والأحكام، والنهي عن الاكتفاء بالتقليد كالعوام، وكذا المراد بوضع التكليف رفع التكليف بتحصيل العلم، وإن أمكن حمله في الثاني على رفع التكليف مطلقا، إذ مع رفع

١٦

وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب، وفي الكتب والرسل والآداب فساد التدبير، والرجوع إلى قول أهل الدهر، فوجب في عدل الله عز وجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي، بالأمر والنهي، لئلا يكونوا سدى مهملين، وليعظموه ويوحدوه، ويقروا له بالربوبية، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم، إذ شواهد ربوبيته دالّة ظاهرة، وحججه نيرة واضحة، وأعلامه لائحة تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية، لما فيها من آثار صنعه، وعجائب تدبيره، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه، لأنّ الحكيم لا يبيح الجهل به، والانكار لدينه، فقال جل ثناؤه: «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ »(١) وقال: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ »(٢) فكانوا محصورين بالأمر والنهي

________________________________________________________

العلم مطلقاً لا يتأتي التكليف أصلاً، وعلى الأول بطلان الكتب والرسل لأنّ الغرض الأصلي من البعثة تكميل النفوس القابلة.

قوله: ان يخص، بالخاء المعجمة والصاد المهملة، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة والضاد المعجمة، بمعنى التحريص والترغيب، والأول أظهر، وقوله: بالأمر والنهي، متعلّق بيخص، والسدي بضم السين وقد يفتح وكلاهما للواحد والجمع بمعنى المهمل وقوله: مهملين عطف بيان أو صفة موضحة.

قوله تعالى: « ميثاق الكتاب » أي ميثاق المأخوذ في الكتاب، وهو التوراة وقوله: « أن لا يقولوا » عطف بيان للميثاق أو متعلّق به، أي بأن لا يقولوا، وقيل: المراد بالميثاق قوله في التوراة: من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر [ له ] إلا بالتوبة وحينئذ قوله: أن لا يقولوا مفعول له أي لئلا يقولوا.

قوله تعالى: « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » أقول: تتمة الآية « ولما

___________________

(١) سورة الأعراف: ١٦٩.

(٢) سورة يونس: ٣٩.

١٧

مأمورين بقول الحق، غير مرخص لهم في المقام على الجهل، أمرهم بالسؤال، والتفقه في الدين فقال: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ »(١) وقال: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »(٢) . فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة، المقام على الجهل، لما أمر هم بالسؤال، ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب، وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم، ومنزلة أهل الضرر والزمانة، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم، وجب أنه لابد لكل صحيح الخلقة، كامل الآلة من مؤدب، ودليل، ومشير، وآمر، وناه، وأدب، وتعليم، وسؤال، ومسألة.

فأحق ما اقتبسه العاقل، والتمسه المتدبّر الفطن، وسعى له الموفق المصيب، العلم بالدين، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده، وشرائعه وأحكامه، وأمره ونهيه وزواجره وآدابه، إذ كانت الحجة ثابتة، والتكليف لازماً، والعمر يسيراً، والتسويف غير مقبول، والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا

________________________________________________________

يأتهم تأويله » والمعنى كما قيل: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يفقهوا ويتدبّروا آياته، ويقفوا على تأويله ومعانيه.

قوله: أمرهم بالسؤال، لما كان بمنزلة التعليل للسابق ترك العاطف.

قوله تعالى « ليتفقهوا »، الظاهر ان ضمير الجمع فيه وفي « ولينذروا » وفي « رجعوا » راجع إلى الطائفة، فالمراد بالنفور الخروج للتفقه لينذر ويعلم الباقون الساكنون، النافرين بعد رجوع النافرين إليهم فالضمير في « يتفقهوا » و « ينذروا » راجع إلى الفرقة أي بقيتهم، وفي « رجعوا » إلى القوم.

قوله: من توحيده، بيان للدين، وما بعده بيان لما استعبد الله به خلقه.

___________________

(١) سورة التوبة: ١٢٢.

(٢) سورة النحل: ٤٣.

١٨

جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة، ليكون المؤدي لها محموداً عند ربه، مستوجباً لثوابه، وعظيم جزائه، لأنّ الّذي يؤدي بغير علم وبصيرة، لا يدري ما يؤدي، ولا يدري إلى من يؤدي، وإذا كان جاهلاً لم يكن على ثقة مما أدى، ولا مصدقا، لأنّ الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عز وجل: «إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولو لا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة، إلى الله جل ذكره، إن شاء تطول عليه فقبل عمله، وإن شاء رد عليه، لأنّ الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصرة ويقين، كيلاً يكونوا ممّن وصفه الله فقال تبارك وتعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ »(٢) لأنّه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين، وقد قال العالم عليه السلام:

________________________________________________________

قوله: بعلم ويقين، لقوله تعالى «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(٣) وأمثاله كثيرة.

قوله: بالشهادة، أي الأمر المشهود به.

قوله: والأمر في الشاك، الظاهر أن المراد بالشك هنا مقابل اليقين، فيشمل الظن المستند إلى التقليد وغيره أيضا.

قوله تعالى: «عَلَىٰ حَرْفٍ » أي على وجه واحد كأن يعبده على السراء لا الضراء، أو على شك، أو على غير طمأنينة، والحاصل أنه لا يدخل في الدين متمكنا مستقراً، وقال القاضي: أي على طرف من الدين لاثبات له فيه، كالذي يكون على طرف الجيش، فان أحس بظفر قر وإلا فر.

قوله: وقد قال العالم، أي المعصوم، وتخصيصه بالكاظم عليه السلام غير معلوم.

___________________

(١) سورة الزخرف: ٨٦.

(٢) سورة الحج: ١١.

(٣) سورة الاسراء: ٣٦.

١٩

« من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه »، وقال عليه السلام: « من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال »، وقال عليه السلام: « من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن ».

ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة الّتي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه، فمن أرد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقراً، سبب له الأسباب الّتي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معاراً مستودعاً - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه، وإن شاء سلبه إياه، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً، لأنّه كلما رأي كبيراً من الكبراء ما معه، وكلما رأي شيئاً استحسن

________________________________________________________

قوله: قبل أن يزول، الضمير المستتر إمّا راجع إلى الموصول أو إلى الدين.

قوله: لم يتنكب، قال في القاموس: نكب عنه كنصر وفرح نكباً ونكباً ونكوباً: عدل كنكب وتنكب.

قوله: انبثقت، يقال: بثق الماء بثوقا: فتحه بأن خرق الشط، وانبثق هو: إذا جرى بنفسه من غير فجر، والبثق بالفتح والكسر الاسم، كذا في المغرب، والبثوق فاعل ابنثقت، فان كان المراد بالبثوق الشقوق، أي المواضع المنخرقة، فالمراد بالانبثاق التشقق، ولو حمل على الجريان فالاسناد مجازى، وكذا لو حمل البثوق على المعنى المصدري لابد من ارتكاب تجوز في الاسناد، ويحتمل على بعد إرجاع ضمير انبثقت إلى الفتن، فيكون البثوق مفعولاً مطلقاً من غير بابه، وقيل: شبه الأديان الفاسدة بالسيول، وأثبت لها البثوق، ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وفيه مالا يخفى على

٢٠

ظاهره قبله، وقد قال العالم عليه السلام: « إنّ الله عز وجل خلق النبيين على النبوة، فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية، فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قوماً إيماناً فإن شاء تممه لهم، وأن شاء سلبهم إياه، قال: وفيهم جرى قوله: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ »(١) .

وذكرت أن أموراً قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها، وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممّن تثق بعلمه فيها، وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كان يجمع [ فيه ] من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين

________________________________________________________

المتأمل، وسيأتي تحقيق معنى التوفيق والخذلان على وجه يوافق أصول أهل العدل في كتاب الإيمان والكفر إنشاء الله تعالى.

قوله تعالى «فَمُسْتَقَرٌّ »: بفتح القاف وكسرها على اختلاف القراءة جار في النبي والوصي، فبالفتح اسم مفعول يعني مثبت في الإيمان، أو اسم مكان يعنى له موضع استقرار وثبات فيه، وبالكسر اسم فاعل يعنى مستقر ثابت فيه، «وَمُسْتَوْدَعٌ » بفتح الدال اسم مفعول أو اسم مكان جار في المعار، وقال البيضاوي في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، وقرء ابن كثير والبصريان بكسر القاف، على أنه فاعل، والمستودع مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع.

قوله: بالآثار الصحيحة، استدل به الأخباريون على جواز العمل بجميع اخبار الكافي وكون كلها صحيحة وإن الصحة عندهم غير الصحة باصطلاح المتأخرين، وزعموا أن حكمهم بالصحة لا تقصر عن توثيق الشيخ أو النجاشي أو غيرهما رجال السند، بل ادعى بعضهم أن الصحة عندهم بمعنى التواتر، والكلام فيها طويل، و

___________________

(١) سورة الانعام: ٩٨.

٢١

عليهم السلام والسنن القائمة الّتي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سبباً يتدارك الله [ تعالى ] بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم.

فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحداً تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه، إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليهم السلام: « اعرضوها على كتاب الله فما وافي كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه » وقوله عليه السلام: « دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام « خذوا

________________________________________________________

قد فصلنا القول في ذلك في المجلد الآخر من كتاب بحار الأنوار، وخلاصة القول في ذلك والحق عندي فيه: أن وجود الخبر في أمثال تلك الأصول المعتبرة مما يورث جواز العمل به، لكن لابد من الرجوع إلى الأسانيد لترجيح تبعضها على بعض عند التعارض، فان كون جميعها معتبراً لا ينافي كون بعضها أقوى، وأمّا جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضا على القائم عليه السلام لكونه في بلدة السفراء فلا يخفى ما فيه على ذي لب، نعم عدم إنكار القائم وآبائه صلوات الله عليه وعليهم، عليه وعلى أمثاله في تأليفاتهم ورواياتهم مما يورث الظن المتاخم للعلم بكونهم عليهم السلام راضين بفعلهم ومجوزين للعمل بأخبارهم.

قوله: بمعونته وتوفيقه، قيل، الضميران عائدان إلى السبب لا إلى الله تعالى، لخلو الجملة الوصفية عن العائد ويمكن تقدير العائد.

قوله: مما اختلفت الرواية فيه، قيل: المراد بالروايات المختلفة الّتي لا يحتمل الحمل على معنى يرتفع به الاختلاف بملاحظة جميعها، وكون بعضها قرينة على المراد من البعض، لا الّتي يتراءي فيها الاختلاف في بادي الرأي، وطرق العمل في المختلفات الحقيقية كما ذكره بعد شهرتها واعتبارها العرض على كتاب الله والأخذ بموافقه دون مخالفه، ثمّ الأخذ بمخالف القوم، ثمّ الأخذ من باب التسليم بأيها تيسر « انتهى ».

٢٢

بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه » ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام: « بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم ».

وقد يسر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة، إذ كان واجبة لإخواننا وأهل ملتنا، مع ما رجونا أن تكون مشاركين لكل من اقتبس منه، وعمل بما فيه في دهرنا هذا، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا، إذ الرب جل وعز واحد والرسول محمّد خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليه وآله - واحد، والشريعة واحدة وحلال محمّد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ووسعنا قليلاً كتاب الحجة وإن لم نكمله على استحقاقه، لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها.

________________________________________________________

قوله: إلا أقله، أي أقل ذلك الجميع، والمعنى إنا لا نعرف من أفراد التمييز الحاصل من جهة تلك القوانين المذكورة إلا الأقل، أولاً نعرف من جميع ذلك المذكور من القوانين الثلاثة إلا الأقل، والحاصل أن الاطلاع على تلك الأمور والتوسل بها في رفع الاختلاف بين الاخبار مشكل، إذا لعرض على الكتاب موقوف على معرفته وفهمه، ودونه خرط القتاد، وأيضا أكثر الاحكام لا يستنبط ظاهراً منه، وأمّا أقوال المخالفين فان الاطلاع عليها مشكل لأكثر المحصلين ومع الاطلاع عليها قل ما يوجد مسئلة لم يختلفوا فيها، ومع اختلافهم لا يعرف ما يخالفهم إلا أن يعلم ما كان أشهر وأقوى عند القضاة والحكام في زمان من صدر عنه الخبر عليه السلام وهذا يتوقف على تتبع تام لكتب المخالفين وأقوالهم، ولا يتسر لكل أحد، وأمّا الأخذ بالمجمع عليه فإن كان المراد به ما أجمع على الإفتاء به كما فهمه أكثر المتأخرين، فالاطلاع عليه متعسر بال متعذر، إلا أن يحمل على الشهرة فإنها وإن لم تكن حجة في نفسها يمكن كونها مرجحة لبعض الأخبار المتعارضة، لكن يرد عليه أن الفتوى لم تكن شايعاً في تلك الأزمنة السالفة، بل كان مدارهم على نقل الأخبار، وكانت تصانيفهم

٢٣

وأرجو أن يسهل الله جل وعز إمضاء ما قدمنا من النية، إن تأخر الأجل صنفا كتاباً أوسع وأكمل منه، نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة والتوفيق. والصلاة على سيدنا محمّد النبي وآله الطاهرين الأخيار.

وأول ما أبدأ به وأفتتح به كتابي هذا: كتاب العقل، وفضائل العلم، وارتفاع درجة أهله، وعلو قدرهم، ونقص الجهل، وخساسة أهله، وسقوط منزلتهم، إذ كان العقل هو القطب الّذي عليه المدار وبه يحتج وله الثواب؛ وعليه العقاب،[ والله الموفق ].

________________________________________________________

مقصورة على جمع الأخبار وروايتها وتدوينها، وإن كان المراد به الإجماع في النقل والرواية، وتكرره في الأصول المعتبرة كما هو الظاهر من دأبهم، فهذا أيضاً مما يعسر الاطلاع عليه، ويتوقف على تتبع كلّ الأصول المعتبرة، فظهر ان ما ذكره (ره) من قلّة ما يعرف من ذلك حق، لكن كلامه يحتمل وجهين:

الأول: انه لما كان الاطلاع عليها عسراً، والانتفاع بها نزراً فينبغي تركها والأخذ بالتخيير، وهذا هو الظاهر من كلامه، فيرد عليه ان ذلك لا يصير سبباً لتركها فيما يمكن الرجوع إليها مع ورودها في الاخبار المعتبرة.

والثاني: أن يكون المراد أن الانتفاع بقاعدة التخيير أكثر، والانتفاع بغيرها أقل، ولا بد من العمل بها جميعاً في مواردها، وهذا صحيح لكنه بعيد من العبارة، ويؤيد الأول ترك المصنف (ره) إيراد الاخبار المتعارضة، واختبار ما هو أقوى عنده وفيه ما فيه، ولذا وجه بعض المعاصرين ذلك بأنه إنما فعل ذلك برخصة الإمام عليه السلام، وقد عرفت ما فيه، وأمّا سند خبر التخيير وطريق الجمع بينه وبين مقبولة عمر بن حنظلة، فسيأتي بعض القول فيهما في باب اختلاف الحديث إنشاء الله تعالى، وتمام القول فيهما موكول إلى كتابنا الكبير.

٢٤

كتاب العقل والجهل

١ - أخبرنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب قال حدثني عدة من أصحابنا منهم محمد

________________________________________________________

كتاب العقل والجهل

كذا في النسخ والأظهر باب العقل أو ذكر الباب بعد الكتاب كما يظهر من فهرست الشيخ (ره).

الحديث الأول صحيح.

والظاهر أن قائل أخبرنا أحد رواة الكافي من النعماني والصفواني وغيرهما، ويحتمل أن يكون القائل هو المصنف (ره) كما هو دأب القدماء، ثمّ اعلم أن فهم أخبار أبواب العقل يتوقف على بيان ماهية العقل واختلاف الآراء والمصطلحات فيه.

فنقول: إنّ العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة، واصطلح إطلاقه على أمور:

الأول: هو قوة إدراك الخير والشر والتميز بينهما، والتمكن من معرفة أسباب الأمور ذوات الأسباب، وما يؤدي إليها وما يمنع منها، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.

الثاني: ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع، واجتناب الشرور والمضار، وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية، والوساوس الشيطانية، وهل هذا هو الكامل من الأول أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى، كلّ منهما محتمل، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيرية بعض الأمور، مع عدم إتيانهم بها، وبشرية بعض الأمور مع كونهم مولعين بها، يدل على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشر، والذي ظهر لنا من تتبع الأخبار المنتهية إلى الأئمّة الأبرار سلام الله عليهم، هو أن الله خلق في كلّ شخص من أشخاص

٢٥

بن يحيى العطار عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين

________________________________________________________

المكلفين قوة واستعداداً لإدراك الأمور من المضار والمنافع وغيرها على اختلاف كثير بينهم فيها، وأقل درجاتها مناط التكاليف وبها يتميز عن المجانين وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف، فكلما كانت هذه القوة أكمل، كانت التكاليف أشق وأكثر، وتكمل هذه القوة في كلّ شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل، فكلما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة، وعمل بها تقوى تلك القوة، ثمّ العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال، وكلما ازدادت قوة تكثر آثارها، وتحت صاحبها بحسب قوتها على العمل بها، فأكثر الناس علمهم بالمبدء والمعاد وسائر أركان الإيمان علم تصوري يسمونه تصديقا، وفي بعضهم تصديق ظني، وفي بعضهم تصديق اضطراري، فلذا لا يعملون بما يدعون، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين تظهر آثاره على صاحبه كلّ حين، وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الإيمان والكفر إن شاء الله تعالى.

الثالث: القوة الّتي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم، فإن وافقت قانون الشرع، واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمى بعقل المعاش، وهو ممدوح في الأخبار ومغايرته لما قد مر بنوع من الاعتبار وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع، ومنهم من ثبتوا لذلك قوة أخرى وهو غير معلوم.

الرابع: مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات وقربها وبعدها من ذلك وأثبتوا لها مراتب أربعاً سموها بالعقل الهيولاني والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب، وتفصيلها مذكور في مظانها ويرجع إلى ما ذكرنا أو لا، فإن الظاهر أنها قوة واحدة، تختلف أسماؤها بحسب متعلّقاتها وما تستعمل فيه.

الخامس: النفس الناطقة الإنسانية الّتي بها يتميز عن سائر البهائم.

٢٦

عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال لما خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له

________________________________________________________

السادس: ما ذهب إليه الفلاسفة وأثبتوه بزعمهم من جوهر مجرد قديم لا تعلّق له بالمادة ذاتا ولا فعلا، والقول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريات الدين من حدوث العالم وغيره، مما لا يسع المقام ذكره، وبعض المنتحلين منهم للإسلام أثبتوا عقولاً حادثة وهي أيضاً على ما أثبتوها مستلزمة لإنكار كثير من الأصول المقررة الإسلامية، مع أنه لا يظهر من الأخبار وجود مجرد سوى الله تعالى، وقال بعض محققيهم: إن نسبة العقل العاشر الّذي يسمونه بالعقل الفعال إلى النفس كنسبة النفس إلى البدن، فكما أن النفس صورة للبدن، والبدن مادتها، فكذلك العقل صورة للنفس والنفس مادته، وهو مشرق عليها، وعلومها مقتبسة منه، ويكمل هذا الارتباط إلى حد تطالع العلوم فيه، وتتصل به، وليس لهم على هذه الأمور دليل إلا مموهات شبهات، أو خيالات غريبة، زينوها بلطائف عبارات.

فإذا عرفت ما مهدنا فاعلم أن الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأولين، الّذي مالهما إلى واحد، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر، وبعض الأخبار يحتمل بعض المعاني الأخرى، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة، المستلزم لحصول السعادات، فأمّا أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره، فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا، أو ما يشملها جميعاً وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير كما ورد في اللغة، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتصاف النفس بها، ويكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والإقبال والأدبار وغيرها استعارة تمثيلية لبيان أن مدار التكاليف والكمالات والترقيات على العقل، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلاً لأنّ يدرك به العلوم، ويكون الأمر بالإقبال والأدبار أمراً تكوينيّاً بجعله قابلاً لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة والسعادة والشقاوة معا، وآلة للاستعمال في تعرف حقائق الأمور والتفكّر في دقائق الحيل أيضا، وفي بعض الأخبار: بك آمر وبك

٢٧

أقبل فأقبل ثمّ قال له أدبر فأدبر ثمّ قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب

________________________________________________________

أنهى وبك أعاقب وبك أثيب، وهو منطبق على هذا المعنى لأنّ أقل درجاته مناط صحة أصل التكليف، وكل درجة من درجاته مناط صحة بعض التكاليف وفي بعض الأخبار « إياك » مكان « بك » في كلّ المواضع، وفي بعضها في بعضها، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به، فكأنه هو المكلف حقيقة، وما في بعض الأخبار: من أنه أوّل خلق من الروحانيين فيحتمل أن يكون المراد أوّل مقدر من الصفات المتعلّقة بالروح، وأول غريزة تطبع عليه النفس، وتودع فيها، أو يكون أوليته باعتبار أولية ما يتعلّق به من النفوس، وأمّا إذا حملت على المعنى الخامس، فيحتمل أن يكون أيضاً على التمثيل كما مر وكونها مخلوقة ظاهر، وكونها أوّل مخلوق إمّا باعتبار أن النفوس خلقت قبل الأجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة، فيحتمل أن يكون خلق الأرواح مقدما على خلق جميع المخلوقات غيرها، لكن خبر: « أوّل ما خلق العقل » لم أجده في الأخبار المعتبرة، وإنما هو مأخوذ من أخبار العامة، وظاهر أكثر أخبارنا أن أوّل المخلوقات الماء أو الهواء كما بيناه في كتاب السماء والعالم من كتابنا الكبير.

نعم ورد في أخبارنا أن العقل أوّل خلق من الروحانيين، وهو لا ينافي تقدم خلق بعض الأجسام على خلقه، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناء أعلى ما ذهب إليه جماعة من تجرد النفس: إقبالها إلى عالم المجردات، وبإدبارها تعلّقها بالبدن والماديات، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات، وتوجهها إلى تحصيل الأمور الدنية الدنيوية، وتشبهها بالبهائم والحيوانات، فعلى ما ذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أن لها هذه الاستعدادات المختلفة، وهذه الشؤون المتباعدة، وإن لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيّاً وأن يكون كناية عن جعلها مدركة للكليات، وكذا الأمر بالإقبال والأدبار يمكن أن يكون حقيقيّاً لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها، وأن يكون أمراً تكوينيّاً لتكون قابلة للأمرين أي الصعود إلى الكمال و

٢٨

إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب أمّا إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك

________________________________________________________

القرب والوصال، والهبوط إلى النفس وما يوجب الوبال أو لتكون في درجة متوسطة من التجرد لتعلّقها بالماديات لكن تجرد النفس لم يثبت لنا من الأخبار، بل الظاهر منها ماديتها كما بيناه في مظانه.

وربما يقال: المراد بالإقبال، الإقبال إلى عالم الملك بتعلّقه بالبدن، لاستكمال القوة النظرية والعملية، وبالإدبار: الأدبار عن هذا العالم، وقطع التعلّق عن البدن، والرجوع إلى عالم الملكوت.

وقيل: يحتمل أن يكون قوله « استنطقه » محمولاً على معناه اللغوي إشارة إلى ما وقع في يوم الميثاق، وإن كان كيفيته غير معلوم لنا، والمراد بالإقبال الإقبال إلى الحقّ من التصديق بالألوهية والتوحيد والعدل وغير ذلك مما يجب تصديقه، وبالإدبار الأدبار عن الباطل بأن يقولوا على الله بغير علم، وأمثاله وحينئذ لا حاجة في الحديث إلى تأويل.

وأما المعنى السادس فلو قال أحد بجوهر مجرد لا يقول بقدمه، ولا بتوقف تأثير الواجب في الممكنات عليه، ولا بتأثيره في خلق الأشياء، ويسميه العقل، ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقاً على ما سماه عقلاً، فيمكنه أن يقول: إن إقباله عبارة عن توجهه إلى المبدأ وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لإشراقه عليها واستكمالها به.

فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحقّ الحقيق بالبيان، وبأن لا يبالي بما يشمئز عنه من نواقص الأذهان، فاعلم أن أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبي والأئمّةعليه‌السلام في أخبارنا المتواترة على وجه آخر، فإنهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدم في الخلق لأرواحهم إمّا على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة، وأيضا أثبتوا لها التوسط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الأخبار كونهم علة غائية لجميع المخلوقات، وأنه لولاهم لما

٢٩

أعاقب وإياك أثيب.

________________________________________________________

خلق الله الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط من إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الأخبار أن جميع العلوم والحقائق في المعارف بتوسطهم يفيض على سائر الخلق حتّى الملائكة والأنبياء، والحاصل أنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة: أنهمعليه‌السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق، فكلما يكون التوسل بهم والإذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله تعالى أكثر، ولما سلكوا سبيل الرياضات والتفكّرات مستبدين بآرائهم على غير قانون الشريعة المقدسة، ظهرت عليهم حقيقة هذا الأمر ملبسا مشبها فأخطأوا في ذلك وأثبتوا عقولاً وتكلموا في ذلك فضولا، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبي صلوات الله عليه وآله الّذي انشعبت منه أنوار الأئمّةعليه‌السلام واستنطاقه على الحقيقة، أو بجعله محلاً للمعارف الغير المتناهية، والمراد بالأمر بالإقبال ترقيه على مراتب الكمال وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال، وبإدباره إمّا إنزاله إلى البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال، فإنه يلزم التنزل عن غاية مراتب القرب، بسبب معاشرة الخلق ويومئ إليه قوله تعالى( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً ) (١) وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة.

ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلى الخلق، وبالإدبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الأدبار على الإقبال.

وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى« ولا أكملتك» يمكن أن يكون المراد ولا أكملت محبتك والارتباط بك، وكونك واسطة بينه وبيني إلا فيمن أحبه أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهمعليهم‌السلام ، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة،

__________________

(١) سورة الطلاق: ١٠.

٣٠

________________________________________________________

أي هذا النور بعد تشعبه، بأي بدن تعلّق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحب الخلق إلى الله تعالى، وقوله: « إياك آمر » التخصيص إمّا لكونهم صلوات الله عليهم مكلفين بما لم يكلف به غيرهم، ويتأتى منهم من حق عبادته تعالى ما لا يتأتى من غيرهم، أو لاشتراط صحة أعمال العباد بولايتهم، والإقرار بفضلهم بنحو ما مر من التجوز، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن أوّل ما خلق الله نوري، وبين ما روي: أن أوّل ما خلق الله العقل، وما روي أن أوّل ما خلق الله النور، إن صحت أسانيدها، وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والإطناب ولو وفينا حقه، لكنا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.

وأما ما رواه الصدوق في كتاب علل الشرائع بإسناده عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل مما خلق الله عز وجل العقل؟ قال: خلقة ملك له رؤوس بعدد الخلائق، من خلق ومن يخلق إلى يوم القيامة، ولكل رأس وجه ولكل آدمي رأس من رؤوس العقل، واسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب، وعلى كلّ وجه ستر ملقى لا يكشف ذلك الستر من ذلك الوجه حتّى يولد هذا المولود، ويبلغ حد الرجال أو حد النساء، فإذا بلغ كشف ذلك الستر فيقع في قلب هذا الإنسان نور، فيفهم الفريضة والسنة والجيد والرديء، ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت.

فهو من غوامض الأخبار، والظاهر أن الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والأسرار، ويحتمل أن يكون كناية عن تعلّقه بكل مكلف وأن لذلك التعلّق وقتا خاصاً وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلّق العقل من الأغشية الظلمانية، والكدورات الهيولانية، كستر مسدول على وجه العقل، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة، وقوله: خلقة ملك، لعله بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيته، ويحتمل أن يكون خلقه مضافاً إلى الضمير مبتدأ، وملك خبره، أي خلقته خلقة ملك، أو هو ملك حقيقة والله يعلم.

٣١

٢ - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن مفضل بن صالح، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن عليعليه‌السلام قال هبط جبرئيل على آدمعليه‌السلام فقال يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم يا جبرئيل وما الثلاث فقال العقل والحياء والدين فقال آدم إني قد اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه فقالا يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان قال فشأنكما وعرج.

٣ - أحمد بن إدريس، عن محمّد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قلت له ما العقل قال ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان

________________________________________________________

الحديث الثاني: ضعيف.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هبط جبرئيل، الظاهر أن آدمعليه‌السلام حين هبوط جبرئيل عليه كان ذا حياء وعقل ودين، والأمر باختيار واحدة لا ينافي حصولها على أنه يحتمل أن يكون المراد كمال تلك الخلال بحسب قابلية آدمعليه‌السلام وقول جبريلعليه‌السلام للحياء والدين بعد اختيار العقل: انصرفا لإظهار ملازمتها للعقل بقولهما: إنا أمرنا أن نكون مع العقل، ولعل الغرض من ذلك أن ينبه آدمعليه‌السلام على عظمة نعمة العقل، ويحثه على شكر الله على إنعامه.

قوله: « فشأنكما » الشأن بالهمزة: الأمر والحال، أي ألزما شأنكما أو شأنكما معكما، ثمّ إنه يحتمل أن يكون ذلك استعارة تمثيلية كما مر أو أن الله تعالى خلق صورة مناسبة لكل واحد منها، وبعثها مع جبرئيلعليه‌السلام والحياء صفة تنبعث عنها ترك القبيح عقلاً مخافة الذم، والمراد بالدين التصديق بما يجب التصديق به والعمل بالشرائع، والنواميس الإلهية، والمراد بالعقل، هنا ما يشمل الثلاثة الأول.

الحديث الثالث: مرسل.

قوله عليه‌السلام : ما عبد به الرحمن، الظاهر أن المراد بالعقل هنا المعنى الثاني من المعاني الّتي أسلفنا، ويحتمل بعض المعاني الأخر كما لا يخفى، وقيل: يراد به هنا

٣٢

قال قلت فالذي كان في معاوية فقال تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل.

٤ - محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال سمعت الرضاعليه‌السلام يقول صديق كلّ امرئ عقله وعدوه جهله.

٥ - وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال قلت لأبي الحسنعليه‌السلام إن عندنا قوماً لهم محبة وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول فقال ليس أولئك ممّن عاتب الله إنما قال الله( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ )

________________________________________________________

ما يعد به المرء عاقلاً عرفا وهو قوة التميز بين الباطل والحق، والضار والنافع الّتي لا تكون منغمرة في جنود الجهل، فعند غلبة جنوده لا يسمى الفطن المميز عاقلاً، حيث لا يعمل بمقتضى التميز والفطانة، ويستعملها في مشتهيات جنود الجهل.

قوله: فالذي كان في معاوية، أي ما هو؟ وفي بعض النسخ فما الذي؟ فلا يحتاج إلى تقدير.

قولهعليه‌السلام : تلك النكراء، يعني الدهاء والفطنة، وهي جودة الرأي وحسن الفهم، وإذا استعملت في مشتهيات جنود الجهل يقال لها الشيطنة ونبهعليه‌السلام عليه بقوله: تلك الشيطنة بعد قوله: تلك النكراء.

الحديث الرابع: موثق ولا يقصر عن الصحيح.

والمراد بالعقل هنا كماله بأحد المعاني السابقة.

الحديث الخامس: مثل السابق سندا.

قوله: وليست لهم تلك العزيمة، أي الرسوخ في الدين أو الاعتقاد الجازم بالإمامة، اعتقاداً ناشئاً من الحجة والبرهان، وعلى التقديرين المراد بهم المستضعفون الّذين لا يمكنهم التميز التام بين الحقّ والباطل.

قوله: ممّن عاتب الله، أي عاتبه الله على ترك الاستدلال والعمل بالتقليد،

٣٣

٦ - أحمد بن إدريس، عن محمّد بن حسان، عن أبي محمّد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام من كان عاقلاً كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة.

٧ - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إنما يداق الله العباد في الحساب - يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا.

٨ - علي بن محمّد بن عبد الله، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام فلان من عبادته ودينه وفضله فقال كيف عقله قلت لا أدري فقال إنّ الثواب على قدر العقل إن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة

________________________________________________________

والمراد بالاعتبار الاستدلال، وبالأبصار هنا العقول كما يظهر من كلامهعليه‌السلام .

الحديث السادس: ضعيف.

وأريد بالعقل هنا ما أريد به في الخبر الثالث، والقياس ينتج أن من كان متصفا بالعقل بهذا المعنى يدخل الجنة.

الحديث السابع: ضعيف.

قوله: إنما يداق الله، المداقة مفاعلة من الدقة، يعني أن مناقشتهم في الحساب وأخذهم على جليلة ودقيقة على قدر عقولهم.

الحديث الثامن: ضعيف والظاهر أن علي بن محمّد هو علي بن محمّد بن عبد الله بن أذينة الّذي ذكر العلامة أنه داخل في العدة الّتي تروي عن البرقي.

قوله: من عبادته، بيان لقوله كذا وكذا، خبر لقوله فلان، ويحتمل أن يكون متعلّقاً بمقدر أي فذكرت من عبادته، وأن يكون متعلّقاً بما عبر عنه بكذا كقوله فاضل كامل، فكلمة « من » بمعنى « في » أو للسببية، والنضارة: الحسن، والطهارة هنا بمعناها اللغوي أي الصفا واللطافة، وفي بعض النسخ بالظاء المعجمة أي كان جاريا

٣٤

الشجر ظاهرة الماء وإنملكاً من الملائكة مر به فقال يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه الله تعالى ذلك فاستقله الملك فأوحى الله تعالى إليه أن اصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له من أنت قال أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك فكان معه يومه ذلك فلما أصبح قال له الملك إن مكانك لنزه وما يصلح إلا للعبادة فقال له العابد إن لمكاننا هذا عيباً فقال له وما هو قال ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فإن هذا الحشيش يضيع فقال له ذلك الملك وما لربك حمار فقال لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش فأوحى الله إلى الملك إنما أثيبه على قدر عقله.

________________________________________________________

على وجه الأرض، وفي الخبر إشكال من أن ظاهره كون العابد قائلاً بالجسم، وهو ينافي استحقاقه للثواب مطلقاً وظاهر الخبر كونه مع هذه العقيدة الفاسدة مستحقاً للثواب لقلة عقله وبلاهته، فيمكن أن يكون اللام فيقوله: لربنا بهيمة للملك لا للانتفاع، ويكون مراده تمنى أن يكون في هذا المكان بهيمة من بهائم الرب لئلا يضيع الحشيش، فيكون نقصان عقله باعتبار عدم معرفته بفوائد مصنوعات الله تعالى، وبأنها غير مقصورة على أكل البهيمة، لكن يأبى عنه جواب الملك إلا أن يكون لدفع ما يوهم كلامه، أو يكون استفهاما إنكاريّاً أي خلق الله تعالى بهائم كثيرة ينتفعون بحشيش الأرض، وهذه إحدى منافع خلق الحشيش، وقد ترتبت بقدر المصلحة، ولا يلزم أن يكون في هذا المكان حمار، بل يكفي وجودك وانتفاعك، ويحتمل أن يكون اللام للاختصاص لا على محض المالكية، بل بأن يكون لهذه البهيمة اختصاص بالرب تعالى كاختصاص بيته به تعالى، مع عدم حاجته إليه، ويكون جواب الملك أنه لا فائدة في مثل هذا الخلق حتّى يخلق الله تعالى حماراً وينسبه إلى مقدس جنابه تعالى كما في البيت، فإن فيه حكما كثيرة، وبالجملة لا بد إمّا من ارتكاب تكلف تام في الكلام، أو التزام فساد بعض الأصول

٣٥

٩ - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله.

١٠ - محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال ذكرت لأبي عبد اللهعليه‌السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل فقال أبو عبد الله وأي عقل له وهو يطيع الشيطان فقلت له وكيف يطيع الشيطان - فقال سله هذا الّذي يأتيه من أي شيء هو فإنه يقول لك من عمل الشيطان.

١١ - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن بعض أصحابه رفعه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل فنوم العاقل

________________________________________________________

المقررة في الكلام.

الحديث التاسع: ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : فإنما يجازى بعقله، أي على أعماله بقدر عقله فكل من كان عقله أكمل كان ثوابه أجزل.

الحديث العاشر: صحيح.

قوله: مبتلى بالوضوء والصلاة، أي بالوسواس في نيتهما أو في فعلهما بالإبطال والتكرير على غير جهة الشرع، أو بالمخاطرات الّتي تشتغل القلب عنهما، وتوجب الشك فيهما، والأوسط أظهر نظراً إلى عادة ذلك الزمان.

قوله: وهو يطيع الشيطان، أي يفعل ما يأمره به من الوسواس، أو يطيعه فيما يصير سبباً لذلك، فسأله السائل عن إبانة أنه يطيع بفعله الشيطان فنبهعليه‌السلام بأنه لو سئل عن مستنده لم يكن له بد من أن يسنده إلى الشيطان حيث لا شبهة أنه لا مستند له في الشرع ولا في العقل، وعلى الأخير المراد أنه يعلم أن ما يعرض له من الخواطر والوساوس إنما هو بما أطاع الشيطان في سائر أفعاله.

الحديث الحادي عشر: مرسل.

قوله: فنوم العاقل، إمّا لأنّه لا ينام إلا بقدر الضرورة لتحصيل قوة العبادة

٣٦

أفضل من سهر الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتّى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين وما أدى العبد فرائض الله حتى

________________________________________________________

فيكون نومه عبادة، وسهر الجاهل للعبادة لما لم يكن موافقاً للشرائط المعتبرة ومقرونا بالنيات الصحيحة تكون عبادة باطلة أو ناقصة، فذاك النوم خير منه، أو أن نوم العقلاًء وكمل المؤمنين يوجب ارتباطهم بأرواح الأنبياء والمرسلين والملائكة المقر بين وما يضاهيهم من المقدسين، واطلاعهم على الألواح السماوية ورجوعهم إلى عوالمهم القدسية الّتي كانوا فيها قبل نزولهم إلى الأبدان، فهو معراج لهم وما يرون فيه بمنزلة الوحي، فلذا عدت الرؤيا الصادقة من أجزاء النبوة، وسنبسط القول في ذلك في شرح كتاب الروضة.

قوله عليه‌السلام : من شخوص الجاهل، أي خروجه من بلده ومسافرته إلى البلاد طلباً لمرضاته تعالى كالجهاد والحج وغيرهما.

قوله:حتّى يستكمل العقل، أي يسعى في كماله بتوفيقه تعالى فإن أصل العقل موهبي ويكمل بالعلم والعمل وقراءته على بناء المفعول، أو إرجاع الضمير إلى الله تعالى بعيد.

قوله: وما يضمر النبي في نفسه، أي من النيات الصحيحة والتفكّرات الكاملة والعقائد اليقينية.

قوله: وما أدى العبد، أي لا يمكن للعبد أداء الفرائض كما ينبغي إلا بأن يعقل ويعلم من جهة مأخوذة عن الله تعالى بالوحي، أو بأن يلهمه الله معرفته أو بأن يعطيه الله عقلاً به يسلك سبيل النجاة، وفي نسخ محاسن البرقي حتّى عقل منه أي لا يعمل فريضة حتّى يعقل من الله ويعلم أن الله أراد تلك منه، ويعلم آداب إيقاعها ويحتمل أن يكون المراد أعم من ذلك، أي يعقل ويعرف ما يلزمه معرفته، فمن ابتدائية

٣٧

عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل والعقلاًء هم أولو الألباب الّذين قال الله تعالى - وما يتذكر( إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١) .

١٢ - أبو عبد الله الأشعري، عن بعض أصحابنا رفعه، عن هشام بن الحكم قال قال لي أبو الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٢) .

يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين

________________________________________________________

على التقديرين، ويحتمل على بعد أن تكون تبعيضية، أي عقل من صفاته وعظمته وجلاله ما يليق بفهمه ويناسب قابليته واستعداده.

الحديث الثاني عشر: مرسل وهو مختصر مما أورده الشيخ الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول وأوردته بطوله في كتاب بحار الأنوار مشروحا.

قوله تعالى( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) : المراد بالقول إمّا القرآن أو مطلق المواعظ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) أي إذا رد دوابين أمرين منها لا يمكن الجمع بينهما يختارون أحسنهما، وعلى الأول يحتمل أن يكون المراد بالأحسن، المحكمات أو غير المنسوخات ويمكن أن يحمل القول على مطلق الكلام، إذ ما من قول حق إلا وله ضد باطل، فإذا سمعها اختار الحقّ منهما، وعلى تقدير أن يكون المراد بالقول القرآن أو مطلق المواعظ، يمكن إرجاع الضمير إلى المصدر المذكور ضمنا أي يتبعونه أحسن اتباع.

قوله عليه‌السلام : الحجج، أي البراهين أو الأنبياء والأوصياءعليه‌السلام أو الاحتجاج وقطع العذر أي أكمل حجته على الناس بما آتاهم من العقول، ويمكن أن يكون المراد أن الله تعالى أكمل حجج الناس بعضهم على بعض، بما آتاهم من العقل إذ غايته الانتهاء إلى البديهي ولو لا العقل لأنكره، والأدلة ما بين في كتابه من دلائل الربوبية

__________________

(١) سورة البقرة: ٢٦٩. وفيها « وما يذكر اه ».

(٢) سورة زمر: ١٨.

٣٨

بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

________________________________________________________

والوحدانية أو ما أظهر من آثار صنعته وقدرته في الآفاق وفي أنفسهم، والأول أنسب بالتفريع، والمراد بالبيان أمّا الفصاحة أو المعجزات أو قدرتهم على إتمام كلّ حجة، وجواب كلّ شبهة، وإبانة كلّ حق على كلّ أحد بما يناسب حاله وعلمهم بكل شيء كما قال صلوات الله عليه « وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب ».

قوله تعالى: ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) : أي المستحق لعبادتكم واحد حقيقي لا شريك له في استحقاق العبادة، ولا في وجوب الوجود الذاتي ولا في صفاته ووحدته الحقيقية، وقوله تعالى( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) استئناف لبيان الوحدة أو تأكيد للفقرة السابقة، أو تعميم بعد التخصيص دفعاً لما يتوهم من جواز أن يكون المستحق لعبودية غيركم متعدداً أو الإله في الأولى الخالق، وفي الثانية المستحق للعبادة، فتكون الثانية متفرعة على الأولى، ويحتمل العكس، فيكون من قبيل اتباع المدعى بالدليل( الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) خبران لمبتدء محذوف، أو خبران آخران لقوله( إِلهُكُمْ ) ولعل التوصيف بهما لبيان أنه تعالى يستحق العبادة لذاته الكاملة ونعمة الشاملة معاً فتدبّر.

ثم استدل سبحانه على تلك الدعاويبقوله ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي إيجادهما من كتم العدم( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) أي تعاقبهما على هذا النظام المشاهد بأن يذهب أحدهما ويجيء الآخر خلفه، وبه فسر قوله تعالى( هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ) أو تفاوتهما في النور والظلمة، أو في الزيادة والنقصان، ودخول أحدهما في الآخر، أو في الطول والقصر، بحسب العروض أو اختلاف كلّ ساعة من ساعاتهما بالنظر إلى الأمكنة المختلفة، فأية ساعة فرضت فهي صبح لموضع وظهر لآخر، وهكذا، والفلك يجيء مفرداً وجمعاً وهو السفينة، وما في قوله تعالى

٣٩

وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١)

________________________________________________________

( بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ) إمّا مصدرية أي بنفعهم أو موصولة أي بالذي ينفعهم من المحمولات والمجلوبات،( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ) من الأولى للابتداء، والثانية للبيان والسماء يحتمل الفلك والسحاب، وجهة العلو وإحياء الأرض بالنباتات والأزهار والثمرات( وَبَثَّ فِيها ) عطف على « أنزل » أو على « أحيى » فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر، والبث: النشر والتفريق والمراد بتصريف الرياح إمّا تصريفها في مهابها قبولاً ودبوراً، وجنوباً وشمالاً أو في أحوالها حارة وباردة، وعاصفة ولينة، وعقيمة ولواقح، أو جعلها تارة للرحمة وتارة للعذاب( وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ ) أي لا ينزل ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتّى يأتي أمر الله، وقيل مسخر للرياح تقلبه في الجو بمشية الله تعالى، أو سخره الله وهيأه لمصالحنا( لَآياتٍ ) أي علامات ودلالات وبراهين تدل لإمكانها على صانع واجب الوجود بالذات، ترفع الحاجة من الممكنات إذ الممكن لا يرفع حاجة الممكن، ولإتقانها وكونها على وفق الحكم والمصالح الّتي تعجز جميع العقول عن الإحاطة بعشر أعشارها، على كون صانعها حكيما عليما قادراً رحيماً بعباده، لا يفوت شيئاً من مصالحهم، وللجهتين جميعاً على كونه مستحقاً للعبادة، إذ العقل يحكم بديهة بأن الكامل من جميع الجهات، العاري من جميع النقائص والآفات، القادر على إيصال جميع الخيرات والمضرات، هو أحق بالمعبودية من غيره لجميع الجهات، وأيضا لما دلت الأحكام والانتظام على وحدة المدبر كما سيأتي بيانه دل على وحدة المستحق للعبادة، وكل ذلك ظاهر لقوم عقلهم في درجة الكمال، وفي الآية دلالة على لزوم النظر في خواص مصنوعاته تعالى، والاستدلال بها على وجوده ووحدته وعمله وقدرته وحكمته وسائر صفاته، وعلى جواز ركوب البحر والتجارات والمسافرات لجلب الأقوات والأمتعة.

__________________

(١) سورة البقرة: ١٦٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358