منازل الآخرة والمطالب الفاخرة

منازل الآخرة والمطالب الفاخرة0%

منازل الآخرة والمطالب الفاخرة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: 964-470-223-9
الصفحات: 309

  • البداية
  • السابق
  • 309 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23671 / تحميل: 15429
الحجم الحجم الحجم
منازل الآخرة والمطالب الفاخرة

منازل الآخرة والمطالب الفاخرة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
ISBN: 964-470-223-9
العربية

* وروى الصدوق في الفقيه عن الامام الصادقعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« عليكم بالطلب ، ثمّ قال : انّي لأبغض الرجل فاغراً فاه الى ربّه يقول : ارزقني ، ويترك الطلب »(١) .

* وروى الكليني في الكافي بإسناده عن الامام الباقرعليه‌السلام قال :

« انّي لأبغض الرجل ، أو أبغض للرجل أن يكون كسلانا عن أمر دنياه ، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن آخرته أكسل »(٢) .

* وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتّى يغرسها فليغرسها »(٣) .

* وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال : « من غرس غرساً فأثمر أعطاه الله من الأجر قدر ما يخرج من الثمرة »(٤) .

* وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال : « إن الله حين اهبط آدم الى الارض أمره أن يحرث بيده فيأكل من كده »(٥) .

ومع اهتمام الرؤية الاسلامية من خلال نصوص الشريعة بتعمير الأرض والعمل لبناء الحضارة والمدنية الانسانية الصالحة ، فانّ الاسلام يؤكد على تعمير الآخرة وبنائها كما تقدمت بعض النصوص الشريفة المؤكدة لهذه الحقيقة ، لأنها تكشف أن الحياة الحقيقيّة هي الحياة الخالدة والتي تكون بعد الموت ، ولذلك فانّ عمران الدنيا لابدّ وأن ينسجم بالتوازي مع عمران الآخرة مع ملاحظة أخذ الشرط

__________________

(١) الفقه : ج ٣ ، ص ١٩٢ ، ح ٣٧٢١.

(٢) الكافي : ج ٥ ، ص ٨٥ ، ح ٤.

(٣) مستدرك الوسائل للشيخ النوري : ج ١٣ ، ص ٤٦٠ كتاب المزارعة والمساقاة باب : ١ ، ح ٥ وعنه في جامع أحاديث الشيعة : ١٨ ، ص ٤٣١ ، أبواب المزارعة والمساقاة باب : ١ ح ١٠.

(٤) مستدرك الوسائل : ج ١٣ ، ص ٤٦٠ ، أبواب المزارعة والمساقاة ، باب ١ ، ح ٤. وعنه جامع احاديث الشيعة : ج ١٨ ، ص ٤٣١ ، أبواب المزارعة والمساقاة ، باب ١ ، ح ٩.

(٥) مستدرك الوسائل : ج ٥٤ ، ص ٤٧٥ باب : ١٨ ، ح ٥٢٠٣. جامع احاديث الشيعة : ج ١٨ ، ص ٤٣٤ أبواب المزارعة والمساقاة باب : ٥ ، ح ٢. تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٤٠ ، ح ٢٤.

٤١

الغائي في العمران الدنيوي وهو الآخرة ، قال تعالى :( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (١) .

وبما أن هدف الآخرة لا ينسجم مع الانسياب وراء الدنيا واغراءاتها فلذلك كان الموقف العقائدي والأخلاقي الاسلامي أن يحدد السعي الدنيوي ، وليس هذا التحديد من حيث الكم ، وانّما هو من حيث النوع والنية والأهداف.

وهو المعبّر عنه في كثير من النصوص الاسلامية بطول الأمل ، وحبّ الدنيا.

وأهم الفوارق بين التحديد الكمّي والتحديد النوعي هو أن الاسلام العظيم يشجع على العمران والبناء الحضاري بمختلف أوجه النشاط المتعلق به ضمن قانون ( العمل الصالح ).

ولكنه يشترط في ذلك العمل أن يكون لخدمة الأهداف الالهية ، ولأجل رقي الحضارة الانسانية وتقدمها واصلاح نقاط الخلل في البنى الاجتماعية والانسانية والحضارية.

وأما الأهداف الشخصية فانّها محددة بالكم ، يعني أن لا يركض الانسان وراء هدف صغير بجمع المال لنفسه وأهله الخاصين به ، بل لابدّ وأن تكون حركته في هذا المجال محدودة بمقدار الحاجة ، وعليه ان يصبّ جلّ اهتماماته بالخدمة العامّة.

ونكتفي بهذا المقدار من توضيح معالم الرؤية الاسلامية المقدّسة لهذا الموضوع الفكري والحياتي المهم.

مع التأكد على أن ما سجلته هنا بهذه الأوراق لا يعدو عن أكثر من طرح الخطوط العامّة لهذا الموضوع الفكري والعقائدي المهم ، وقد يرزقنا الله تعالى التوفيق لتفصيله بموضوع مستقل من جهة المفهوم الاسلامي للعالم.

* * *

__________________

(١) سورة القصص : الآية ٧٧.

٤٢

حياة العلاّمة الشيخ القمّيرحمه‌الله

الحمد لله ربّ العالمين ثمّ الصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين :

وبعد ، يقول العبد الفقير ياسين الموسوي غفر الله تعالى ذنبه وأحسن عاقبته وحشره مع أجداده الطاهرين انّه جرت العادة بين المحققين والمترجمين أن يكتبوا ترجمة عن المؤلّف وأحواله وقد اقتفينا أثرهم في ذلك ، فخرجت من قلمنا هذه الأوراق المتواضعة عن المرحوم المؤلّف ، وقد راعينا فيه الاختصار سائلين المولى عزّوجلّ أن يتقبّله منّا بقبول حسن وأن يديم لطفه علينا بمحمّد وآله وهو حسبي.

هويته الشخصية :

اسمه : الشيخ عباس بن محمّد رضا بن أبي القاسم القمّي(١) .

اسرته : والده الحاجّ محمّد رضا كان من صلحاء أهل قم وزهادهم ، وله تعلّق بحضور مجالس الوعظ والارشاد ومجالس سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وكان يرجع إليه بعض معارفه لمعرفة بعض الأحكام الشرعية ، مع انّه كان يمتهن الاشغال الحرة(٢) .

وأما اُمّه : فقد كانت من النساء الصالحات وكان الشيخ القمّي دائماً يذكرها

__________________

(١) الفوائد الرضوية للقمّي : ص ٢٢٠.

(٢) حاج شيخ عباس قمّي مرد تقوى وفضليت (فارسي) للشيخ علي الدواني : ص ٣٥.

٤٣

بالخير ويقول إن القسم المهم من التوفيق الذي حصل لي يعود الى امي فانّها كانت تمتنع عن ارضاعي بالمقدار اذا كانت غير طاهرة ، وكانت تسعى دائماً الى ارضاعي وهي على طهارة.

وكان يقول : إن امي من النساء المتّقيات وكانت تمتاز بعدم تفويتها الصلاة في وقتها(١) .

وأما ولادته : فقالرحمه‌الله : ( ولادتي على الظاهر سنة ١٢٩٤ )(٢) .

وقال العلاّمة الطهراني : ( ولد في قم في نيّف وتسعين ومائتين وألف )(٣) .

نشأته العلمية :

ولد القمّي في وسط اجتماعي امتاز بالتديّن وحبّ العلم ، وكانت قم تمتلىء بمجالس الذكر والوعظ وقد انتشرت فيها مظاهر اقامة الشعائر الدينية ، وفتح القمّي عينيه في حضن الجو الروحي فتأثر به ، وقد نقل عنه انّه كان ضعيف البنية ولكنه كان قوي الروح وصاحب قلب مطمئن بالله عزّوجلّ ، وقد تشبعت نفسيته بحب البحث والمعرفة من طفولته.

ووصف في طفولته بانّه كان يتكلم ويتحدّث وكأنه رجل صاحب تجارب ومع أنه كان طفلاً ولكنّه لم تكن لديه عادات الأطفال من حب اللعب وغيره.

كما نقل انّه حينما كان يرغب اليه اترابه أن يشاركهم في لعبهم البريء ، كان الطفل عباس يرفض ذلك ، وحينما يصرون عليه يجيبهم بشرط أن يقصّ عليهم بعض القصص الدينية ، وبما أن طبع الأطفال يميل الى القصة فكانوا يحلقون حوله ويقص عليهم من قصص الصالحين ، ثمّ يذكرهم بانّهم يعيشون في مكان مقدّس فهو يحتضن مرقد السيّدة المطهرة المعصومة فاطمة بنت الامام موسى بن جعفرعليهم‌السلام ، كما انّه مدفن جماعة كثيرة من عظماء الدين وعلماء الشيعة. ثمّ يدعوهم لترك الألعاب غير اللائقة والأعمال اللا مرضية لئلاّ يهتكوا حرمة هذا المكان المقدّس ،

__________________

(١) محدث قمّي حديث اخلاص تأليف عبدالله زاده : ص ١٥.

(٢) الفوائد الرضوية للقمي : ص ٢٢٠.

(٣) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩٨.

٤٤

ثمّ يعرجون بدعوة منه الى زيارة مرقد السيّدة الطاهرة سلام الله عليها(١) .

عند الشيخ أرباب :

وبما انّه كان متعلقاً من نعومه أظفاره بطلب العلوم الاسلامية وتحصيل المعارف الدينية ، فقد نشأ على حب العلم وأهله ، فقرأ مقدمات العلوم ، وسطوح الفقه والاصول على عدد من علماء قم وفضلائها كالميرزا محمّد الأرباب وغيره(٢) .

وقد أثرت شخصية استاذه فيه ، ويعتبر المؤثر الأول في نشأته العلمية ، ولذلك لم يذكر لنا التاريخ اسماً من اساتذته الآخرين في تلك المرحلة غير الشيخ محمّد أرباب. علماً انّ قم لم تكن آنذاك قد افتخرت بالحوزة العلمية الكبيرة التي فارقتها منذ زمن طويل نسبيّاً وانتقلت الى مدينة ( سلطان آباد ).

( والشيخ محمّد الأرباب من تلاميذ الميرزا الشيرازي الكبيررحمه‌الله ، وقد حضر عنده عدة سنوات ، ثمّ أكمل دراسته في النجف الأشرف ، وبقي هناك سنوات عدة ، ثم رجع الى قم وكان بها من المروجين المحققين المصنفين )(٣) .

ووصف أيضاً : بانّه كان من أعاظم علماء قم ، وأكابر فقهاء واُدباء الدهر ، فهو الخطيب الفحل والواعظ الشهير ، ونادرة العصر في فنّ الخطابة ، وكان له الدور البارز في تأسيس الجامعة العلمية مع المحروم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري ولكنه لم يعمّر في هذه الحوزة الفتية فقد توفي بعد سنة من تأسيسها ١٣٤١ هـ. ق(٤) .

وقد تأثّر المؤسس الحائريرحمه‌الله لوفاته كثيراً ، فخاطب عائلته ضمن تعزيته لهم بانّكم لستم وحدكم صرتم يتامى بل إنّي فقدت أخاً.

وقد تتلمذ على يدي الشيخ الارباب كثير من الفضلاء واساتذة قم من أمثال

__________________

(١) محدث قمّي حديث اخلاص : ص ٢٤ ـ ٢٥ باختصار.

(٢) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩٨.

(٣) هدية الرازي : ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٤) محدث قمّي : ص ٢٨.

٤٥

المرحوم آية الله الفيض(١) .

وقد نقل عن كتاب ( تحفة الفاطميين ) ما ترجمته ملخصاً :

( المرحوم الحاجّ الميرزا محمّد صاحب كتاب الأربعين الحسينية من الآيات الالهية والبراهين القاطعة له من الفقاهة والاجتهاد مقام سامي ، ورتبة عالية ، وقد سافر في اوائل شبابه الى العتبات الشريفة. وحضر عند الميرزا الشيرازي ، واستفاد منه وكانت عمدة تلمّذه في الفقه والاصول على يد الحاجّ الميرزا حبيب الله الرشتي ، والملاّ كاظم الخراساني ، وبعدما اكمل دراسته للعلوم الدينية وحصل على القوة القدسية واجيز بالاجتهاد عاد الى وطنه ( قم ) ، وظهرت له الرئاسة العامّة والشهرة التامّة ، وذاعت شهرة فقاهته وفضيلته جميع الأصقاع ، وقرعت كل الأسماع )(٢) .

وقال الشيخ عباس القمّي عن استاذه الارباب وقد عنونه تحت ( محمّد بن محمّد تقي القمّي : شيخنا العالم الفاضل الفقيه المحدّث الحكيم المتكلم الشاعر المنشي الأديب الأريب ، حسن المحاضرة ، جيد التقرير والتحرير ، جامع المعقول والمنقول أدام الله تعالى بقاءه ، صاحب الأربعين الحسينية ، وشرح قصيدة « لاُم عمرو » للسيد الحميري ، وشرح البيان للشيخ الشهيد ، ورسالة في الرد على البابية ، وتعليقات وحواشي كثيرة على العلوم ، وله أشعار لطيفة في مرثية مولانا أبي عبداللهعليه‌السلام .

وكان حفظه الله تعالى كمحمد بن أحمد بن عبدالله البصري الملقب بالمفجع المعروف بكثرة بكائه وتفجعه على أهل البيتعليهم‌السلام اسأل الله أن يمتعنا بطول بقائه )(٣) .

وذكر اسمه مع السيّد حسن متولي حرم السيّدة المعصومة سلام الله عليها والشيخ محمّد تقي البافقي والميرزا محمود الروحاني الذين جاؤوا وطلبوا

__________________

(١) آثار الحجة للشيخ محمّد الرازي : ج ١ ، ص ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق : ١ ، ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٤٦

بإلحاح من آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري البقاء والسكنى في قم وتأسيس الحوزة العلمية المباركة فيها ، وبعد اصرارهم وما كان من استخارته وقد كانت الآية الشريفة( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) وافق على البقاء ، وتأسست بواسطة تلك المساعي الحميدة الحوزة العلمية في قم(١) .

هجرته العلمية الى النجف الأشرف :

وكانت النجف عاصمة العلم الشيعي من يوم هجرة شيخ الطائفة ورئيسها الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ. الى هذه المدينة المقدّسة بعد حوادث سنة ٤٤٩ هـ. وذكر ابن الاثير في تاريخه في حوادث هذه السنة أن (فيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ ، وهو فقيه الامامية ، وأُخِذ ما فيها ، وكان قد فارقها الى المشهد الغربي)(٢) .

وقال ابن حجر العسقلاني نقلاً عن ابن النجار انّه ( احرقت كتبه واستتر هو مات بمشهد علي )(٣) .

وذكر ابن كثير انّه ( احرقت داره بالكرخ وكتبه سنة ثمان وأربعين )(٤) .

وعن بداية هذه الجامعة العلمية الكبرى تحدث المؤرخ الكبير المرحوم العلاّمة الشيخ اغا بزرك الطهراني فقال : ( ولما رأى الشيخ الخطر محدقاً به هاجر بنفسه الى النجف الأشرف ، لائذاً بجوار مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وصيّرها مركزاً للعلم ، واخذت تشدّ اليها الرحال ، وتعلق بها الآمال ، وأصبحت مهوى رجال العلم ، ومهوى افئدتهم ، وقام فيها صرح الاسلام ، وكان الفضل في ذلك لشيخ الطائفة )(٥) .

نعم كانت النجف ( مأوى للعلماء ، ونادياً للمعارف قبل هجرة الشيخ إليها ،

__________________

(١) تاريخ قم لناصر الشريعة : في الحاشية للشيخ علي الدواني : ص ٢٧٦.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٦ ، ص ١٩٨ تحقيق علي شيري.

(٣) لسان الميزان : ج ٥ ، ص ١٥٣ ، الرقم العام ٧٢٣٧ ، والرقم الخاص ٤٥٢.

(٤) البداية والنهاية : ج ١٢ ، ص ١٠٤ ، في حوادث سنة ستين وأربعمائة.

(٥) حياة الشيخ الطوسي / الطهراني : ص (ز) في مقدمة تفسير التبيان ، للشيخ الطوسي : ج ١.

٤٧

وكان هذا الموضع ملجأ للشيعة منذ انشأت فيه العمارة الاُولى على مرقد الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لكن حيث لم تأمن الشيعة على نفوسها من تحكمات الأمويّين والعباسيين ، ولم يستطيعوا بث علومهم ورواياتهم كان الفقهاء والمحدّثون لا يتجاهرون بشيء مما عندهم ، وكانوا متبددين حتّى عصر الشيخ الطوسي والى أيّامه. وبعد هجرته انتظم الوضع الدارسي ، وتشكلت الحلقات )(١) .

( وقد تخرّج منها خلال هذه القرون المتطاولة آلاف مؤلفة من أساطين العلم وأعاظم الفقهاء ، وكبار الفلاسفة ، ونوابغ المتكمين ، وأفاضل المفسرين ، وأجلاء اللغويين ، وغيرهم ممن خبروا العلوم الاسلامية بأنواعها ، وبرعوا فيها ايّما براعة ، وليس أدل على ذلك من آثارهم المهمّة التي هي في طليعة التراث الاسلامي ، ولم تزل زاهية حتّى هذا اليوم ، يرتحل إليها رواد العلوم والمعارف من سائر الأقطار والقارات فيرتوون من مناهلها العذبة وعيونها الصافية )(٢) .

وكان المنهاج الدراسي العلمي عند الامامية الى قبل الهجمة الاستعمارية الكافرة على النجف الأشرف التي شهدت غاية عنفها من سنة ١٩٦٩ م وما زالت المعركة حامية الوطيس ـ ان يبدأ الدراس للعلوم الاسلامية دراساته في احدى الحوزات العلمية المبثوثة في كثير من بلدان الشيعة حتّى اذا انتهى من مراحله الاُولى والمتوسطة فانّه يلزمه الهجرة الى النجف الأشرف ليكمل دراسته وتربيته العلمية ، لما جمعت من فحول علمائها وكبار مجتهدي الامامية ، والمدارس ودور السكن للطلاب والعلماء وغير ذلك من الوسائل اللازمة لعيش العلماء والطلاب(٣) .

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق : ص (و) ـ (ز).

(٣) لقد كانت مهبط الشيعة وعاصمة العلم ، ومقرّ كبار العلماء ، كما كانت النجف تضم أكبر حورزة علمية اسلامية في العالم الاسلامي ، ولكنّ الكفّار سعوا الى تفتيت تلك العاصمة الطاهرة ، فضربوها بشتى الوسائل ، وكادوا ينجحوا اخيراً ويصلوا الى اُمنيتهم الشيطانية على يد المجرم صدام التكريتي عندما ضرب هذه العاصمة المقدسة بأقوى ضربات الكفار بما عمله من المصائب التي تقطع الاحشاء والقلوب مع آية الله العظمى المرحوم الامام السيد محسن الحكيم الى ان ذهب الى ربّه شاكياً ما لاقاه من محن وخطوب.

٤٨

فكان من الطبيعي ان يهاجر المرحوم الشيخ عباس القمّي الى النجف الأشرف بعد ان أكمل دراساته الاولية المسمّاة بالمقدمات والسطوح في مدينة قم المقدّسة على يد مجموعة من العلماء والأفاضل.

وفي سنة ١٣١٦ هاجر الى النجف الأشرف ، فأخذ يحضر حلقات دروس العلماء ، إلاّ انّه لازم خاتمة المحدّثين الشيخ حسين النوريرحمه‌الله وكان يقضي معه أكثر أوقاته في استنساخ مؤلفاته ومقابلة بعض كتاباته. وتحدث الطهراني ، زميل القمّي عن بداية نشوء هذه العلاقة العلمية بين العَلَمين ، حيث قال :

( وفي سنة ١٣١٦ هاجر الى النجف الأشرف ، فأخذ يحضر حلقات دروس العلماء ، إلاّ انّه لازم شخينا الحجة الميرزا حسين النوري. وكان يصرف معه أكثر وقته في استنساخ مؤلفاته ومقابلة كتاباته وكنت سبقته في الهجرة الى النجف بثلاث سنين ، وفي الصلة بالمحدّث النوري بسنتين حيث هاجر النوري الى النجف في سنة ١٣١٤ هـ ولا أزال أتذكر جيداً يوم تعرّف المترجم له على شيخنا النوري ، وأول زيارته له ، كما أتذكر ان واسطة التعارف كان العلاّمة الشيخ علي القمّي لأنه من أصحابه الأوائل ومساعديه الافاضل ).

ومع أن العمر قصر في حياة الاستاذ النوريرحمه‌الله فلم تدم العلاقة بينهما أكثر من أربع سنوات تقريباً(١) ومع ذلك فقد كان له تأثير كبير في شخصية القمّي وبنائها ،

__________________

وباخراج المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم آية الله العظمى ، ومجدد المذهب الامام الخميني رحمه‌الله ، وتضييق الخناق عليه ، وشدّ الحصار على داره. وقتل المرجع الديني آية الله العظمى الامام الشهيد السيّد محمد باقر الصدر. وتهجير الآلاف من المجتهدين ، وكبار العلماء. والفضلاء والمؤلفين ، والمحققين ، والمحصلين ، والاساتذة ، والطلاب ، وقتل المئات منهم ، وحبس وتشريد مئات آخرين. نسأل الله تعالى بحق محمّد وآل محمّد أن يردّ كيده الى نحره ، ويعجل هلاكه ، ويعجل النصر للاسلام والمسلمين ، وأن يعيد عزّ وجلّ الى النجف الأشرف حياتها ونضارتها ، فترجع كما كانت دائماً حيّةً معطاءةً.

(١) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩. فقد قرأت قبل قليل أن بداية نشوء العلاقة بينهما كانت بعد هجرة القمّي الى النجف الأشرف سنة ١٣١٦ هـ ، وكانت وفاة استاذه النوري في سنة ١٣٢٠ هـ.

٤٩

كما صرّح هو بذلك في كتاب ( الفوائد الرضوية ) وغيره.

وبعد وفاة الشيخ النوريرحمه‌الله فقد أتمّ دراسته بالحضور على المجتهدين الآخرين من اساتذة الحورة العلمية النجفية.

وبقي يتحرك بسيره العلمي ضمن البرنامج الذي اختطه في حياة استاذه النوري ، مواصلاً مع زملائه الآخرين طريقه ، يقول الطهراني : ( بقيت الصلة بيننا نحن تلاميذ النوري وملازميه ، فقد كانت حلقات دورس العلماء والمشاهير تجمعنا في الغالب الاّ ان صلتي بالمترجم له كانت أوثق من صلاتي بغيره ، حيث كنّا نسكن غرفة واحدة في بعض مدارس النجف ، ونعيش سوية ، ونتعاون على قضاء لوازمنا وحاجاتنا الضرورية حتّى تهيئة الطعام وبقينا على ذلك بعد وفاة شيخنا أيضاً ، ونحن نواصل القراءة على مشايخنا الاجلاّء الآخرين )(١) .

وقد تخلل وجوده في النجف الأشرف للتحصيل العلمي ، سفره الى حج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة البقيععليهم‌السلام ، في حياة استاذه النوريرحمه‌الله في سنة ١٣١٨ هـ. وعاد من هناك الى ايران عن طريق مدينة شيراز من دون أن يمرّ على النجف الأشرف ، فزار وطنه قم ، وجدد العهد بوالديه وذويه ، ثمّ رجع الى النجف وعاد الى ملازمة الشيخ النوري وحصل على الاجازة منه(٢) .

واستمرّ بعد وفاة الاستاذ يواصل دراسته العلمية عند أساطين العلم الآخرين الى سنة ١٣٢٢ هـ فعاد فيها الى ايران فهبط الى قم وبقي يمارس أعماله العلمية ، ولم يذكر المؤرخون لحياته انّه حضر ـ بعد رجوعه من النجف الأشرف ـ عند أحد من علماء قم المقدّسة وانما اكدوا أن بعد عودته من النجف الأشرف الى موطنه الأصلي انصرف الى البحث والتأليف(٣) ويظهر مما سجّلوه عن حياته انّه وبعد عودته سنة ١٣٢٢ هـ بدأت حياته الفكرية بالانتاج.

في قم المقدّسة :

وقد رجع الى وطنه بسبب المرض الذي اعتراه ولازمه الى آخر عمره ، حيث

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩٩.

(٢ و ٣) المصدر السابق.

٥٠

اصيب بمرض (الربو) ، ولكنه لم يتمكن من منعه عن ممارسة ابحاثه ونشاطه العلمي ، بل استمر بعمله العلمي بقوة وحيوية.

وتعددت أوجه حركته بالتأليف والوعظ والارشاد والخطابة ، وبطبيعي الحال فإنه لم يكن مشهوراً في هذه الفترة من حياته ولكنه تمكن أن يفتتح أبواباً لحركته العلمية.

وفي سنة ١٣٢٩ هـ سافر الى الحج للمرّة الثانية من قم(١) .

هجرته الى مشهد المقدّسة :

ولم يطل العهد بالقمّي ببقائه في قم المقدّسة فما لبث ان عزم على الهجرة الى مشهد المقدّسة سنة ١٣٣١ هـ(٢) أو سنة ١٣٣٢ ، فهبط الامامعليه‌السلام في خراسان واتخذ منه مقراً دائماً له.

وقد ذكر انّه نزح من موطنه الأصلي بسبب بعض المشاكل التي أشار إليها في مقدمة كتابه الفوائد الرضوية حيث قال ما تعريبه ملخصاً : (حتّى كانت سنة ١٣٣٢ فخطر في ذهني أن التجأ الى إمام الاتقياء وزبدة الاصفياء ، معين الغرباء ، والشهيد بالسم أبي الحسن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه وعلى آبائه وابنائه وذلك لشدة البلايا والمحن وكثرة الهموم والغموم التي حلت بهذا الداعي وتفصيلها طويل )(٣) وقيل أن سبب بقائه في مشهد انّه كان بطلب من آية الله الحاجّ السيّد حسين القمّي ، فاستجاب العلاّمة المحدّث لهذا الطلب وعزم على البقاء الدائم في هذه الأرض الطيبة(٤) .

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩٩.

(٢) المصدر السابق : وفي رسالة له باللغة الفارسية الى مؤلف كتاب آثار الحجّة : ج ٢ ، ص ١٣٤ ، قال ما تعريبه ملخصاً : وقد هاجرت الى قم (دار الايمان) وبقيت فيها الى سنة ١٣٢٩ ثمّ تشرفت بالحج مرّة ثانية ، ورجعت الى قم وبقيت هناك حوالي السنتين ثمّ هاجرت الى مولانا الامام المعصوم أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ومازلنا حتّى هذه السنة وهي سنة ١٣٤٦ في هذا المكان الشريف ....

(٣) الفوائد الرضوية : ص ٢.

(٤) راجع كتاب : ( حاج شيخ عباس قمّي مرد تقوى وفضليت ).

٥١

وانصرف في مشهد الى طبع بعض مؤلفاته ، وعكف على تصنيف غيرها(١) .

ووفق الى حجّ بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة البقيععليهم‌السلام للمرّة الثالثة من مشهد(٢) .

وقد لمع اسم الشيخ القمّي في هذه المدينة المقدّسة وانتشر في بلدان العالم الشيعي خصوصاً بعد طبع كتابه مفاتيح الجنان.

كما أنّه كان لمجالس وعظه الأثر الكبير في اقبال المؤمنين وأهل المعرفة إليه وكان يرتقي المنبر في بيت آية الله السيد حسين القمّي في العشرة الاُولى من محرم الحرام للوعظ والارشاد وذكر الحسينعليه‌السلام .

ولم يمتهن الخطابة الحسينية ، وانّما اتخذها وسيلة لتبليغ رسالته الإلهية وقد نحج في ذلك بمقدار كبير.

كما أنه دعي الى إمامة صلاة الجماعة في أحد أروقة الحرم الرضوي على مشرفه آلاف التحية والسلام ، ولكنه انقطع ولم يستمر.

كما أنّه كان يدرس الأخلاق في ليالي الخميس والجمعة في مدرسة (ميرزا جعفر) العلمية في مشهد وكان يحضر تحت منبره حدود الألف مستمع(٣) .

رجوعه الى قم المقدّسة :

ومع أنه قد شدّ العزم على البقاء الدائمي في مشهد الامام الرضاعليه‌السلام ولكنه قد انثى عن عزمه الأول بعد قدوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري الى قم المقدّسة سنة ١٣٤٠ هـ فهاجر الى قم المقدّسة وصمم على البقاء في هذه المدينة المقدّسة بطلب من علمائها وشخصياتها.

وبدأ الحائري يرتّب الحوزة العلمية ويمدّها بالعلماء الأبرار (فنظم من كان فيها من طلاب العلم تنظيماً عالياً ، وأعلن عن عزمه على جعلها مركزاً علمياً يكون

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩٩.

(٢) آثار الحجّة : ج ٢ ، ص ١٣٤.

(٣) راجع محدث قمّي حديث اخلاص : ص ٣٨.

٥٢

له شأنه في خدمة الاسلام واشادة دعائمه فوضع العطاء على الطلاب والعلماء ، وبذل عليهم بسخاء ، وسنّ نظاماً للدارسة ، وقرر ترتيباً مقبولاً للاشراف على تعليم الطلاب واجراء الامتحان السنوي وغصت المدارس باهاليها ، وزاد عدد الطلاب والعلماء في أوائل هجرته إليها على الألف ، وقام بأعباء اعاشتهم ، وتنظيم أدوارهم بهدوء وحكمة )(١) .

وقد شارك العلماء الافذاذ مؤسسو الحوزة العلمية فهرعوا من كل صوبٍ ومكان لمآزرته ومساعدته واعانته على مشروعه الالهي الكبير خصوصاً بعد ما اشتدت المحن والبلايا بالضغوط الجائرة التي أوجدها رضا بهلوي بتطبيق علمنة البلاد الايرانية ومنع المظاهر الاسلامية بكل اشكالها حتّى انّه منع الحجاب ولبس الزي العلمائي وغيرها من الأعمال القبيحة.

وكلّما اشتدت المحنة كلما ازداد دعم العلماء للحوزة العلمية في قم ، ويبدو أن فكرة انتقال الشيخ القمّي الى قم المقدسة بعد ما كان قد عزم على البقاء في مشهد ، جاءت أثر تصاعد تلك المضايقات ، واشتداد المحن ، فان الشيخ القمّي قد كتب رسالة عن حياته وذكر فيها انه ما زال مستوطناً المشهد الرضوي المقدّس ، وكانت السنة هي سنة ١٣٤٦(٢) .

قال العلاّمة الطهراني : ( ولما حلّ العلاّمة المؤسس الشيخ عبد الكريم الحائري مدينة قم ، وطلب اليه علماؤها البقاء فيها لتشييد حوزة علمية ومركز ديني واجابهم الى ذلك كان المترجم له من أعوانه وانصاره ، فقد أسهم بقسط بالغ في ذلك ، وكان من أكبر المروجين للحائري ، والمؤيدين لفكرته ، والعاملين معه باليد واللسان )(٣) .

وكتب العلاّمة الطهراني عن حركة الحائري :

« وقد برهن الحائري على بطولة ورجولة وشجاعة وصبر وجلد وثبات

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ١١٥٩ ـ ١١٦٠.

(٢) آثار الحجة : ج ٢ ، ص ١٣٤.

(٣) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ١٠٠٠.

٥٣

وعزيمة جبارة ، فقد لاقى في طريق العمل من الصعاب والمتاعب ما يكفي لتراجع أكبر الرجال قلباً ، وأقواهم شكيمة ، وأوسعهم صدراً ، حيث كان لانتهاء حكم القاجاريين وتولي البهلوي تأثير بارز في تقليص جهوده والحدّ من نشاطه اذ رافقت ذلك احداث ووقائع جسام. وكانت سيرة البهلوي واضحة في عزمه الأكيد وتصميمه على القضاء على الدّين ومحمو كل أثر لرجاله وشعائرة ورسومه ؛ فقد سجن العلماء الكبار ، ونفى عدداً منهم ، ودس السمّ لأخرين ، وفعل الأفاعيل من هذا القبيل.

وفي هذه الظروف كان الحائري يعمل على توسيع دائرة الحوزة العلمية في قم ونشر الدعوة ودعم هيكل الدين ، واشادة مجد الاسلام باعمال أحكامه وتطبيق نظامه.

في ذلك الوقت ، وفي تلك الظروف السود ، قاوم هذا العالم المخلص ديكتاتورية الملك واباحيته ، ووقف في وجهه مجنّداً كل امكانياته وقابلياته ، وموطناً نفسه للعظائم ، ومضحياً في سبيل دعوته بكل ما يملك ، ولم تفتّ في عضده ، أو توهن من عزيمته ، أو تسرب ألياس والقنوط الى نفسه كل تلك المحاولات اللئيمة والمساعي الخبيثة التي بذلها سماسرة السوء ، وزبانية الشر ، وأعداد الدين والخير والفضيلة.

وهكذا بقي يقاوم كل ما يعترض طريقه من عقبات وعراقيل حتّى كلّل سعيه بالنجاح وانتصر ، وباء خصومه بالصفقة الخاسرة ، وعادوا يجرون أذيال الفشل( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) (٢) ».

ولكن الاسلام في ايران قد لاقى عدواً وحشياً تحت الحماية الغريبة والشرقية استطاع لفترة حكمه أن يحدّ من أي نشاط ديني في ايران بالارهاب وهتك الحرمات وقتل آلاف الشيعة في المشهد الرضوي في حادثة كوهر شاد

__________________

(١) سورة فصّلت : الآية ١٦.

(٢) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ١١٦١ ـ ١١٦٢.

٥٤

ومنع الحجاب ومنع الزي العلمائي ومنع اقامة العزاء على سيد الشهداءعليه‌السلام وتدنيس حرمة الحوزات العلمية والمراقد المطهرة ونفي عشرات العلماء من كبار المجتهدين والخطباء. وأدت تلك الأعمال القبيحة للمدعو رضا بهلوي الى هجرة كبار علماء ايران الى النجف الأشرف ، وانزواء آية الله الحائري قابعاً في زاوية بيته ولكنه لم يرفع اليد عن الحوزة وشؤونها بل استمرّ بالتدريس والادارة ، فانّه قد تحمل كل شيء من أجل هذا البناء المقدّس المهم ، وبالفعل فقد تمكن الحائري أن ينتصر بمشروعه على كل مؤامرات الاستعمار وتمكنت هذه الحوزة المباركة ان تقود حركة الامة والتي كان نتاجها الجمهورية الاسلامية المباركة. ويبدو أن فاجعة كوهر شاد قد أثرت على حياة الشيخ الحائري فان وفاته كانت في ١٨ ـ ذي القعدة الحرام ـ من سنة ١٣٥٥ هـ. ق بينما كانت حادثة الهجوم على المرقد الرضوي الشريف في ١٢ ـ ربيع الثاني سنة ١٣٥٤ هـ. ق.

وأما شيخنا القمّي (أعلى الله مقامه) فانه كان في مدينة همدان وقد سمع بالفاجعة الكبرى بهتك حرمة الحرم الرضوي وقتل المؤمنين والعلماء ، واعتقال الآيات العظام حبسهم وتهجير بعضهم ، فعجل بالمجيء الى قم المقدّسة ليرى موقف العلماء الآخرين ، ولكنه فوجىء كالباقين بالأحداث العظام والضربات المتتاليات وقتل أو حبس أو تهجير كل انسان يقف أمام مشاريع البهلوي ، مهما كان عنوانه وبالفعل فقد نفى آية الله السيّد حسين القمي(١) الى العراق ، وجرّد آية

__________________

(١) السيّد حسين ابن السيّد محمود القمّي ، ولد في قم المقدّسة في ١٢٨٢ هـ. ق ودرس فيها مقدّمات العلوم ثمّ هاجر الى العراق فحضر أبحاث كبار علمائه ومنهم السيّد المجدد الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي والمولى علي النهاوندي والشيخ محمّد كاظم الخراساني والسيّد محمّد كاظم اليزدي ، والشيخ محمّد تقي الشيرازي وحاز على درجة سامية من العلم وكان معروفاً بالصلاح والتقى والنسك والزهد وكثرة العبادة ، أما في الفقه والاصول فقد كان فاضلاً للغاية وخبيراً جداً له تسلط عليهما واستحضار وتضلع وبراعة ، وفي سنة ١٣٣١ هبط المشهد الرضوي عليه‌السلام فصار من أكبر مراجع التقليد في ايران ، وعندما أعلن المقبور المدعو رضا بهلوي الإسفار الالزامي ومنع الحجاب تحرك السيّد القمّي الى طهران للوقوف أمام

٥٥

الله الشيخ آقا زادة ـ نجل آية الله العظمى الشيخ محمّد كاظم الخراساني صاحب كتاب كفاية الاصول وقائد حركة المشروطة من الزي العلمائي ، ونفى آية الله السيّد يونس الاردبيلي وآية الله الشيخ محمّد تقي البافقي الى ري سنة ١٣٤٦ هـ. ق الى أن توفي هناك في ١٢ جمادى الاولى سنة ١٣٦٥ هـ. ق وغيرهم من الأعلام فلم يطل الشيخ القمّي المكث في قم فهاجر مرّة اُخرى الى النجف الأشرف منثنياً عن عزمه الأول بالبقاء في مشهد المقدّسة.

علماً انّه عندما كان في مشهد المقدّسة فانّه كان يقضي شتاء كل سنة في النجف الأشرف ويبقى هناك حوالي ستة أشهر ثمّ يرجع الى مشهد المقدّسة فيقيم الستة الأشهر الباقية ، ولكنه بعد حادثة كوهر شاد غيّر برنامجه السكني وبقى في النجف الأشرف الى آخر عمره ، وهجر موطنه الاصلي قم المقدّسة.

حياته العلمية :

بقراءة ما كتبه المؤرخون عن الشيخ القمّيرحمه‌الله تنطبع صورة تتلازم فيها شخصيته بالعلم تلازماً شديداً يكاد لا ينفك ، فترى القمّي من نعومة أظفاره الى ساعة وفاته لم يفارق البحث والتدريس والقلم والقرطاس ؛ وكانت لشخصية استاذه النوريرحمه‌الله الأثر الواضح في تعميق هذه الصورة الجميلة فيه ، وتتضح من خلال تتبع حياته العلمية ولو بشكل مختصر وسريع بالنقاط التالية :

أساتذته :

سبق وإن عرفت من كلام زميلهالعلاّمة الطهراني رحمه‌الله أن القمّي حضر في

__________________

أعماله القبيحة ، ولكنه اعتقل ونفاه الى العتبات المقدّسة في العراق فسكن كربلاء والتف العلماء حوله وصار مهوى قلوب الشيعة ومن كبار مراجع التقليد في البلد ولما توفي السيّد أبو الحسن في ١٣٦٥ هـ. ق رشح السيّد القمّي للزعامة العامّة إلاّ أن الأجل لم يمهله حيث كانت وفاته يوم الاربعاء ١٤ ربيع الأول ١٣٦٦ هـ. ق ونقل الى النجف الأشرف ودفن في الصحن وكان السيّد القمّي هو الذي زوج الشيخ عباس القمّي ـ المترجم ـ بابنة أخيه السيّد أحمد وطلب منه البقاء في مشهد المقدّسة فاتخذها في ذلك الوقت ـ وطناً دائمياً له.

٥٦

النجف الأشرف حلقات دروس العلماء في حياة استاذهم النوري ولكنه لازم الشيخ حسين النوري وكان يصرف معه أكثر وقته في المجالات العلمية(١) وأكد الطهراني انّه بقيت تلك الحلقات الدراسية للعلماء والمشاهير تجمعهم(٢) يعني بقي العلاّمة القمّي ملازماً لدروس اولئك العلماء حيث صرح الطهراني بقوله : ( وبقينا على ذلك بعد وفاة شيخنا أيضاً ونحن نواصل القراءة على مشايخنا الأجلاء الآخرين )(٣) .

ولكن المؤسف انّه لم يذكر أحد ممن ترجم القمّي أسماء اساتذته الآخرين واقتصروا على ذكر خاتمة المحدّثين النوري ، وصرحوا بانّه حضر عند الاساتذة الآخرين ، ومع احتمال أن مدة حضوره عندهم أكثر من فترة حضوره عند العلاّمة النوريرحمه‌الله من حيث الزمن ، ولكن بقي النوري مختصاً بتأثيره الواضح عليه كما صرح هو نفسه في أكثر من موضع كما سيأتي الاشارة إليه في محله.

ولكن يمكننا معرفة اولئك الاساتذة من خلال ما سجّله زميله من الدرس والتحصيل العلاّمة الطهراني فأنه قد صرح وبمواضع عدة انّهما كانا يشتركان بالحضور في الدرس والمباحثة عند العلماء المعروفين. وقد عدّ ضمن اساتذة الطهراني كلٌّ من :

١ ـ خاتمة المحدّثين الحاج ميرزا حسين النوري المتوفى سنة ١٣٢٠ هـ.

٢ ـ السيّد مرتضى الكشميري المتوفى سنة ١٣٢٣ هـ.

٣ ـ الشيخ محمّد طه نجف المتوفى سنة ١٣٢٣ هـ.

٤ ـ الحاج ميرزا حسين بن الحاج ميرزا خليل المتوفى سنة ١٣٢٦ هـ.

٥ ـ الشيخ محمّد كاظم الخراساني صاحب الكفاية المتوفى سنة ١٣٢٩ هـ.

٦ ـ السيّد محمّد كاظم اليزدي المتوفى سنة ١٣٣٧ هـ.

٧ ـ الميرزا محمّد تقي الشيرازي المتوفى سنة ١٣٣٨ هـ.

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٣ ، ص ٩٩.

(٢ و ٣) المصدر السابق : ص ٩٩٩.

٥٧

٨ ـ شيخ الشريعة الاصفهاني المتوفى سنة ١٣٣٩ هـ.

ونظراً لتأثير استاذه النوري وتأثره في شخصيته ومنهجه العلمي يلزمنا معرفة شيء من أحواله.

اُستاذه النوري :

لقد كان أهم تحصيله العلمي والذي أثر في مستقبل حياته عند الشيخ النوريرحمه‌الله كما تقدمت الاشارة به ، وقد سجل هذه الملاحظة جميع المؤرخين له ، قال المدرس ما ترجمته مختصراً : ( ولازم الحاج الميرزا حسين النوري واستفاد منه كثيراً ، وفي نفس الوقت قام بمساعدات كثيرة لاستاذه المعظم في بعض تأليفاته )(١) .

ومهما تكن نوعية تلك المشاركة والمساعدات لاستاذه فلا ينقص من حظ استاذه شيء ، وانّما تعكس اهتمام الاستاذ به وتشخيصه لجوانب الميول العلمية في نفس التلميذ ، كما انّها تعكس طريقة الاستاذ في تربية تلاميذه التربية العلمية بايجاد حالة تحسيسهم بمواقع القوة العلمية في نفوسهم وتقويتها والاشراف بنفسه على عملية النمو العملي ، كما تظهر تلك المشاركة ان هذا التلميذ كان محط اهتمام وعناية استاذه وتثبت انّه كانت للتلميذ ملكات وقدرات هائلة استحق بها هذا الاهتمام.

وبالفعل فإن جهود الاستاذ لم تذهب سدىً ، وانّما جاءت على أحسن ما يرام فصنعت من القمّي مؤلفاً ناجحاً وخطيباً بارعاً ، ولم يئس القمّي ذلك لاستاذه وانّما أظهر فضل الاستاذ عليه في كل مناسبة وفرت له أن يصرح بذلك فقد قال وهو يصف قربه إليه وتعلقه به ، وانّه لم يفارقه حتّى وقت ارتحاله من هذه الدنيا ما ترجمته :

( وكنت وقت ارتحاله في خدمته وكنت عنده بمنزله أولاده ، وكم كانت

__________________

(١) ريحانة الادب : ج ٤ ، ص ٤٨٧.

٥٨

المصيبة مرّة ومازلت أحس بمرارتها في فمي ، ومازلت أتجرع الغصص لفقدانه )(١) .

ويقول أيضاً : ( ويحق لي أن أقول : ولقد عشت بعد الشيخ عيشة الحوت في البر ، وبقيت في الدهر ولكن بقاء الثلج في الحرّ ، فلقد كانت له عليّ من الحقوق الواجب شكرها ما يكل شبا براعتي ويراعي عن ذكرها.

وهو شيخي الذي أخذت عنه في بدء حالي ، وانضويت الى موائد فؤائده يعملات رحالي ، فوهبني من فضله ما لا يضيع ، وحنّ عليّ حنو الظئر على الرضيع.

ففرش لي حجر علومه ، وألقمني ثَدي معلومه ، فعادت علي تركات انفاسه ، واستضأت من ضياء نبراسه ، فما يسفح به قلمي انّما هو من فيض بحاره ، وما يفنح به كلمي انّما هو نسيم أسحاره ، وأنا أتوسل الى ربّ الثواب والجزاء أن يجعل نصيبه من رضوانه أوفى الانصباء ، وكم لهرحمه‌الله من الله تعالى ألطاف خفيه ، ومواهب غيبية ونِعَم جليلة )(٢) .

وقال أيضاً : ( لازمت خدمته برهة من الدّهر في السفر والحضر ، والليل والنهار ، وكنت استفيد من جنابه في البين الى أن نعب بيننا غراب البين فطوى الدهر ما نشر ، والدهر ليس بمأمون على بشر )(٣) .

وأما شيخه النوري فهو : الحسين بن محمّد تقي بن علي محمّد النوري الطبرسي ولد في ١٨ شوال سنة ١٢٥٤ في قرية نور احدى كور طبرستان وهي ( مازندران ).

وكان والده من العلماء الأجلاء درس في اصفهان على المحقّق المولى علي النوري وفي كربلاء عند السيّد محمّد المجاهد نجل صاحب الرياض ، ثمّ هاجر الى النجف الأشرف وحضر عند علمائها ثمّ عاد الى بلاده حائزاً على درجة

__________________

(١) الفوائد الرضوية : ص ١٥٠.

(٢) الفوائد الرضوية : ص ١٥٠ ـ ١٥١ بتصرف يسير.

(٣) المصدر السابق : ص ١٥٢.

٥٩

الاجتهاد وأسس حوزة علمية في منطقته وصار مرجعاً للتقليد فيها.

وقد توفي أبوه في ربيع الأول سنة ١٢٦٣ هـ. وكان للنوري من العمر ثمان سنوات(١) وأثر اليتم فيه فلم ينسه الى آخر حياته حيث كتب في ترجمة حياته : ( وتوفي والدي العلاّمة أعلا الله تعالى مقامه وأنا ابن ثمان سنين ، فبقيت سنين لا أحد يربيني )(٢) .

فنشأرحمه‌الله تعالى عصامياً معتمداً على نفسه ، وقد وضحت عصاميته جلية في مستقبل حياته ، وهو تفسر صبره وتحمله المشاق واصراره ومثابرته(٣) .

وكان له شغف خاص بالعلم وتحصيله فحين بلغ أوان حلمه لازم العالم الجليل الفقيه النبيه الزاهد الورع النبيل المولى محمّد علي المحلاتي.

ثمّ هاجر الى النجف الأشرف فحضر عن الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الانصاري المتوفى سنة ١٢٨١ هـ ، ولازم الآية الكبرى الشيخ عبد الحسين الطهراني الشهير بشيخ العراقيين ، كما انّه لازم درس السيّد المجدد الشيرازي حتّى وفاته سنة ١٣١٢ هـ.

وعدّ من شيوخه الشيخ فتح علي السلطان آبادي والحاجّ الملا علي كني ومن مشايخ اجارته السيّد مهدي القزويني كما أنّه تتلمذ على الفقيه الكبير الشيخ علي الخليلي.

وخرّجت مدرسته العلمية مجموعة من الفضلاء والعلماء الاجلاء أشهرهم الشيخ عباس القمّي ، والشيخ اغا بزرك الطهراني(٤) والشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء(٥) والسيد عبد الحسين شرف الدين(٦) .

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٢ ، ص ٥٤٤.

(٢) خاتمة المستدرك / النوري : ج ٣ ، ص ٨٧٧ ، الطبعة الحجرية.

(٣) حياة العلاّمة الشيخ حسين النوري / السيّد ياسين الموسوي : ص ٩ ، ط ١.

(٤) نقباء البشر : ج ٢ ، ص ٥٤٥.

(٥) نقباء البشر : ج ٢ ، ص ٦١٧. معارف الرجال : ج ٢ ، ص ٢٧٥.

(٦) معارف الرجال : ج ١ ، ص ٢٧٣ ، ج ٢ ، ص ٥٢.

٦٠