شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار الجزء ١

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار11%

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 502

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 502 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187785 / تحميل: 9852
الحجم الحجم الحجم
شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » (١) . وقوله عز وجل : «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ » (٢) .

فهذه رواية العامة في ذلك جاءت ، كما جاء عن علي صلوات الله عليه ، فكان ذلك أول جهاد بذل فيه نفسه دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقام فيه في مضجعه موطئا نفسه على القتل دونه ، وقام في وجوه من أرادوه بذلك ـ وهم عدد كثير ـ في حداثة من سنّه وقرب من عهده.

[ الهجرة ]

ودخل رسول الله صلوات الله عليه وآله المدينة يوم الاثنين قبل زوال الشمس شيء يسير لاثنتي عشرة ليلة مضين من شهر ربيع الاول(٣) وهو أول التاريخ. وكذلك ولد صلوات الله عليه وآله يوم الإثنين لا ثنتي عشرة ليلة مضين من شهر ربيع الاول ، وكانت سنّه يوم دخل المدينة أن كان ابن ثلاث وخمسين سنة كاملة ، وذلك بعد أن أقام بمكة ثلاث عشر سنة بعد أن بعثه الله عز وجل بالنبوة ، وكان مبعثه أيضا بالنبوة يوم الإثنين ، وهو ابن أربعين سنة(٤) .

__________________

(١) الانفال : ٣٠.

(٢) الطور : ٣٠.

(٣) وفي إعلام الورى ص ١٨ : الحادي عشر من ربيع الأول وروى في ص ٧٤ عن ابن شهاب الزهري في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه يوم الاثنين.

(٤) وقبض يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة ١١ ه‍. إعلام الورى ص ١٨.

٢٦١

[ غزوة بدر ]

ثم لحق به علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لما قضى ما أمره ، وأقام حولا بالمدينة(١) . ثم أذن له في الجهاد فغزا ثلاث غزوات : ـ غزوة الأبواء ، وغزوة العشيرة ، وغزوة بدر الاولى ، وعلي صلوات الله عليه وآله معه ، ولم يلق كيدا ولا حارب أحدا في الغزوات إلا وهو معه صلوات الله عليهما. ثم غزا بدرا في الغزوة الثانية ـ التي أصاب فيها ما أصاب من صناديد قريش وكانت أول غزوة قاتل فيها المشركون.

وبرز من المشركين ـ لقتال رسول الله صلوات الله عليه وآله ومن معه من المسلمين ـ رؤساء قريش : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، فأنهض رسول الله صلوات الله عليه وآله علياعليه‌السلام وحمزة رضوان الله عليه وعبيدة بن الحارثرضي‌الله‌عنه ، وعلي صلوات الله عليه أحدث القوم سنا ـ ابن ثمان عشرة سنة ، وقيل لم يبلغ العشرين ـ. فبارز الوليد بن عتبة ، فقتله الله بيده ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ، فقتله الله بيده ، وما أمهلاهما ، وبارز عبيدة بن الحارث وكان أسنّهم عتبة بن ربيعة ، فأثبت كل واحد منهما صاحبه جراحة ،

__________________

(١) وفي نسخة ـ أ ـ لما أقام من أمره وأقام حولا في المدينة.

٢٦٢

فعطف علي وحمزةعليهما‌السلام على عتبة فقتلاه(١) ، وفيه أنزل الله تعالى : «هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ » (٢) .

[ من قتلهم عليعليه‌السلام في يوم بدر ]

[٢٧٨] محمّد بن سلام باسناده عن أبي جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه يرفعه الى علي صلوات الله عليه إنه ذكر فيما امتحنه الله تعالى به : إن ابني ربيعة والوليد دعوا الى البراز ، وهم يومئذ فرسان قريش وشجعانها ، فأنهضني رسول الله صلوات الله عليه وآله مع صاحبيّ رضي الله عنهما ـ وقد فعل وأنا أحدث القوم سنّا وأقلّهم للحرب تجربة فقتل الله تعالى بيدي شيبة وعتبة والوليد سوى من قتلت يومئذ من جحاجحة(٣) قريش وفرسانها وسوى من أسرت ، وكان مني في ذلك اليوم اكثر ما كان من أحد من أصحابي.

وممن ذكره أصحاب المغازي : إن عليا صلوات الله عليه قتل يوم بدر من قريش غير عتبة(٤) والوليد ، حنظلة بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس قتله صلوات الله عليه(٥) ، وقال بعضهم : بل أشرك فيه

__________________

(١) المغازي للواقدي ١ / ٦٩.

(٢) الحج : ١٩. راجع الحديث ٢٩٣ من هذا الجزء.

(٣) الجحجاح بالفتح : السيد والجمع الجحاجح وجمع الجحاجح جحاجحة. مختار الصحاح ص ٩٢.

(٤) وفي نسخة ـ ب ـ : شيبة والوليد.

(٥) روى جابر بن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم وقد قتلت الوليد وعتبة إذ أقبل إليّ حنظلة بن أبي سفيان فلما دنى مني ضربته بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض قتيلا. إعلام الورى ص ٨٦.

٢٦٣

علي وحمزةعليهما‌السلام (١) وزيد بن الحارث(٢) .

قالوا جميعا : وقتل علي صلوات الله عليه يومئذ العاص بن سعيد ابن العاص بن أميّة.

قالوا : وقتل علي صلوات الله عليه أيضا عقبة بن أبي معيط بن أبي عمر بن أميّة بن عبد شمس.

قالوا : وقتل علي صلوات الله عليه يومئذ عامر بن عبد الله من بني أنمار حليفا لقريش.

قالوا : وقتل علي صلوات الله عليه أيضا يومئذ طعيمة بن عدي بن نوفل.

( قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وقال قوم : اشترك فيه حمزةعليه‌السلام وعلي ، وثابت بن الجزع )(٣) .

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أيضا عقيل بن الأسود بن المطلب ، وقال بعضهم : شاركه حمزة رضوان الله عليه في قتله.

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه نوفل بن خويلد بن أسد ، وكان من شياطين قريش(٤) وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة لما أسلما في حبل وعذبهما ، وكانا يسميان القرينين.

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه النضر بن الحارث بن كلدة

__________________

(١) المغازي للواقدي ١ / ١١٤.

(٢) كشف الغمة للاربلي ١ / ١٨٢.

(٣) وما بين القوسين موجودة في نسخة ـ ب ـ.

(٤) وهو عم الزبير بن العوام. إعلام الورى ص ٨٦.

٢٦٤

بن علقمة بن مناف(١) ، قتله صبرا بين يدي رسول الله صلوات الله عليه وآله.

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ [ عمير ](٢) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم(٣) .

( قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أبو مسافر الأشعري حليف لقريش كان معهم.

وقالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أيضا مسعود بن [ أبي ] أميّة بن المغيرة )(٤) .

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه حرملة بن الأسد.

( قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه أبو قيس بن الوليد بن المغيرة ابن هشام )(٥) .

قالوا : وممن قتله يومئذ علي صلوات الله عليه أبو قيس بن الفاكة بن المغيرة(٦) .

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة بن عابد(٧) .

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أيضا حاجب بن

__________________

(١) من بني عبد الدار بن قصي ، المغازي للواقدي ١ / ١٤٩.

(٢) وفي الاصل : عمر.

(٣) من بني تيم بن مرة.

(٤) من بني أميّة بن المغيرة ، وما بين القوسين زيادة في نسخة ـ ب ـ.

(٥) هكذا في نسخة ـ ب ـ ومن المحتمل : أبو قيس بن الوليد من بني الوليد بن المغيرة.

(٦) من بني الفاكة بن المغيرة. قال الواقدي في المغازي ١ / ١٥٠ : قتله حمزة بن عبد المطلب.

(٧) وفي المغازي : عبد الله بن أبي رفاعة.

٢٦٥

الشائب بن عويمر بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم ، ويقال : هو حاجز بن الشائب(١) .

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أيضا ، العاص بن [ امنية ](٢) بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم.

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أيضا ، أبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم.

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه يومئذ أيضا [ أويس بن المعير ](٣) بن لوذان بن سعد بن جمح.

قالوا : وممن قتله علي صلوات الله عليه معاوية بن عامر حليف لبني عامر بن لؤي وهو من عبد القيس.

فهؤلاء المعدودون من قتلى قريش المشركين يوم بدر ممن ثبت أن علياعليه‌السلام قتلهم غير من لم يوقف على صحيح قتله إياه ومن أثبته جراحة ، فمات. ومن أسر يومئذ هم ـ قبل ـ أكثر ممن قتل ، وهذا وما يذكره بعده ممن قتله عليعليه‌السلام من المشركين في جهاده بين يدي رسول الله صلوات الله عليه وآله هو الذي أورثه عداوة أهل النفاق من قريش وغيرهم الذي قتل أولياءهم في ذات الله عز وجل.

__________________

(١) هكذا في نسخة ـ ب ـ وذكر الواقدي : حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ قتله عليعليه‌السلام وعويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم قتله النعمان بن أبي مالك.

(٢) وفي الأصل : أميّة.

(٣) وفي الاصل نسخة ـ ب ـ مغيرة بن ودان بن جميح. وما صححناه عن البلاذري في أنساب الأشراف ١ / ٣٠٠.

٢٦٦

[ غزوة أحد ]

ثم كانت وقعة احد استنفر لها أبو سفيان ، جميع قريش وأحلافها ومن أمكنه أن يستنفره من قبائل العرب ، وأقبل الى المدينة طالبا بثار يوم بدر في جمع عظيم وانتهى ذلك الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وكان من رأيه المقام بالمدينة وأن يحاربهم منها ووافقه على ذلك بعض أهلها ، وأبى أكثرهم ذلك وقالوا : نخرج إليهم فنقاتلهم عن بعد من المدينة حيث لا يروع أمرهم نساؤنا وصبياننا ولا يرون إنا خفناهم واحتصرنا لذلك وأبوا أن يقبلوا من رسول الله صلوات الله عليه وآله ما رآه لهم. فدخل منزله ولبس لامته وخرج مغضبا وأمرهم بالخروج ، فلما رأوا ذلك منه قالوا : يا رسول الله ، إنا نخاف إن أسخطناك بخلافنا عليك! ، فارجع ، وافعل ما رأيته.

فقال : إن النبي إذا لبس لامته وأخذ سلاحه لم يكن له أن يرجع حتى يقاتل ، ومضى صلوات الله عليه وآله نحو أحد وخرجوا معه وانصرف عنه الذين كانوا رأوا معه المقام بالمدينة ، وقالوا : عصانا(١) واتبع هؤلاء ، وتنازعوا ، فقال لهم الناس : ما هذا! ترجعون عن رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وقد خرج لقتال أعداء الله وأعداء دينه؟؟

__________________

(١) وفي نسخة ـ أ ـ أغضبنا.

٢٦٧

فقال عبد الله بن أبي ـ وهو الذي رجع ورجع معه ـ فيما قيل ـ قدر ثلث من خرج من الناس ممن كان على النفاق لم يخرج لقتال ـ : ولو علمنا أنه يقاتل لا تبعناه. ففيهم أنزل الله عز وجل : «قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ » (١) .

قال عبد الله بن أبي لمن رجع معه : أطاعهم وعصانا ففيم نقتل أنفسنا معه؟؟ ، ورجعوا دون أن يبلغوا أحدا.

[ حمزة سيد الشهداء ]

ومضى رسول الله صلوات الله عليه وآله حتى بلغ احدا ، فعبّا الناس على مراتبهم ، واستقبل المشركين وتقدم علي وحمزة صلوات الله عليهما للقتال وكان منهما في ذلك اليوم ما لم ير من أحد قبلهما ، وأمعنا في قتل الشركين فانهزموا بهم فلما رأى الهزيمة من كان في المراتب التي رتبها رسول الله صلوات الله عليه وآله بين يديه انكشفوا عنه وذهبوا يطلبون الغنائم ، ورمى حمزة عليه السّلام وحشي الأسود عبد لجبير بن مطعم(٢) بحربة من حيث لا يراه ، فقتله.

قال وحشي : رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق(٣) يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يقوم له أحد ، فاستترت بشجرة ـ أو قال : بحجر ـ منه ليدنو إليّ فأرميه بالحربة من حيث لا يراني إذ لم أكن أقدر على مواجهته فاني على ذلك إذ بسباع بن عبد العزى(٤) قد سبقني إليه يريد نزاله ، فلما رآه حمزة مقبلا إليه قال :

__________________

(١) آل عمران : ١٦٧.

(٢) قال الواقدي في المغازي ١ / ٢٨٥ : وكان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل.

(٣) الاورق : مغبّر اللون.

(٤) الخزاعي.

٢٦٨

هلمّ إليّ يا بن مقطعة البظور ، ـ وكانت أمه تخفص الجواري ـ ثم حمل عليه حمزة حملة أسد ، فضربه بالسيف فكأنما أخطى رأسه ووقف عليه وقد خرّ ميتا وهو لا يراني ، وأرسلت الحربة إليه ، فأصبته في مقتل ، فسقط ميتا.

يخبر وحشي بذلك رسول الله صلوات الله عليه وآله وقد جاء مسلما ، وسأله عن ذلك ، فقال له رسول الله صلوات الله عليه وآله : يا وحشي غيّب عني وجهك فلا أراك.

فلما قتل حمزةرضي‌الله‌عنه ، ورأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله قد انكشفوا عنه وتفرقوا خالفوا إليه ، فقتلوا من كان بين يديه وجرحوه وكسروا ثنيّته(١) اليمنى السفلى ، وكلموا شفته وهشموا البيضة على رأسه وضرب نيفا وستين ضربة.

وكان رسول الله صلوات الله عليه وآله قد ظاهر يومئذ بين درعين ووقف على صخرة وانكشف الناس عنه.

[٢٧٩] وبقى علي صلوات الله عليه وحده بين يديه ، فقال له : امض يا علي. فقال : الى أين أمضي يا رسول الله؟ أرجع كافرا بعد أن أسلمت؟ وكانت كراديس المشركين تأتيهما ، فيحمل رسول الله صلوات الله عليه وآله على بعض(٢) ، ويقول لعلي : احمل أنت(٣) على هؤلاء الآخرين ، فيكشفان من آتاهما ويردانهم بعد أن يبليا فيهم ، وكان منهما صلوات الله عليهما يومئذ ما لم يكن أحد قبلهما مثله حتى كشف الله عز وجل المشركين وهرمهم بهما.

__________________

(١) وفي الأصل : سنه.

(٢) وفي نسخة ـ ب ـ : بعضها.

(٣) وفي الاصل : احمل أنت يا أسد الله على هؤلاء.

٢٦٩

وانصرف عامّة المسلمين الى المدينة يقولون : قتل محمد وعلي!!. وأرجف الناس بذلك ولم يروا إلا أنه قد كان ، ثم أقبل علي صلوات الله عليه على رسول الله صلوات الله عليه وآله فغسل وجهه مما به من الدم ، وأقبل معه.

وقيل : إن رسول الله صلوات الله عليه وآله كان أعطى الراية يومئذ عليا صلوات الله عليه وآله فلما رأى من أشراف المشركين ما رآه قال : تقدم يا علي. فتقدم ، ووقف رسول الله صلوات الله عليه وآله مع لواء الأنصار وهو بيد مصعب بن عمير ، كان لواء المشركين بيد أبي سعيد بن طلحة(١) ، فلما رأى علياعليه‌السلام بيده لواء رسول الله صلوات الله عليه وآله ، برز إليه [ قائلا ] :

إن على أهل اللواء حقا

أن تخضب الصعدة أو تندقا(٢)

[ ضبط الغريب ]

الصعدة : القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج الى تثقيف.

فبرز إليه علي صلوات الله عليه ـ فبرز كل واحد منهم على صاحبه ـ فقتله علي صلوات الله عليه. فعندها انهزم المشركون ثم عطفوا على رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فقتلوا مصعب بن عمير وبيده راية الأنصار بين يدي رسول الله صلوات الله عليه وآله وكان من أمرهم ما كان ، وقتل يومئذ سبعون رجلا من المسلمين ، وكانوا قد قتلوا وأسروا يوم بدر من المشركين مائة وأربعين

__________________

(١) إن لواء المشركين كان اولا بيد طلحة بن أبي طلحة ثم أبي سعيد بن طلحة قتلهما عليعليه‌السلام ( كشف الغمة ١ / ١٩٢ تفسير القمي ١ / ١١٢ المغازي ١ / ٢٢٦ ).

(٢) ونسب الواقدي في المغازي ١ / ٢٢٦ هذا البيت الى عثمان بن أبي طلحة ـ أبي شيبة ـ.

٢٧٠

رجلا ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ. فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ

٢٧١

آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ »(١) .

[ حنظلة غسيل الملائكة ]

وبارز يومئذ أبو سفيان حنظلة بن أبي عامر الغسيل من الأنصار ، فصرع حنظلة أبا سفيان وعلاه ليقتله فرآه شداد بن الأسود فجاءه من خلفه ، فضربه ، فقتله ، وقام أبو سفيان من تحته ، وقال : حنظلة بحنظلة ـ يعني ابنه حنظلة ـ المقتول ببدر الذي ذكرت أن عليا صلوات الله عليه قتله يومئذ.

ولما انهزم المشركون عن أحد ، وقف رسول الله صلوات الله عليه وآله على قتلى المسلمين ، وأمر بدفنهم في مصارعهم وردّ من حمل منهم فدفن هناك ، وأمر بدفنهم في ثيابهم وبدمائهم من غير أن يغسلوا كما يفعل بالشهداء. فرأى الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر الأنصاري.

فلما قدم المدينة ، قال : سلوا عنه امرأته. فقالت : فلما سمع بخروج رسول الله صلوات الله عليه وآله خرج مبادرا وهو جنب من قبل أن يغتسل.

فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : فلذلك ما رأيت من غسل الملائكة إياه.

وكانت هند بنت عتبة ـ أمّ معاوية ـ في ذلك اليوم مع المشركين تحرضهم ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥٢ ـ ١٦٧.

٢٧٢

وتقول :

إيها بني عبد الدار

إيها حماة الأدبار(١)

ضربا بكل بتار

وقالت أيضا متمثلة ، وهي تضرب بالدف :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق(٢)

والدرّ في المخانق

والمسك في المفارق

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق(٣)

[ أبو دجانة الأنصاري ]

وأخذ رسول الله صلوات الله عليه سيفا بيده فهزّه ، وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه؟؟ فقال الزبير بن [ ال ] عوام : أنا يا رسول الله. فأعرض عنه رسول الله صلوات الله عليه وآله. وقال : من يأخذ بحقه؟؟

فقام إليه أبو دجانة الأنصاري ـ وكان من أبطال الأنصار ـ فقال : وما حقه يا رسول الله؟؟ قال : ألا يقف به في الكبول ( يعني أواخر الصفوف ) وأن يضرب به في العدو حتى ينحني. فقال : أنا آخذه يا رسول الله صلّى الله عليك

__________________

(١) وقال الواقدي : النساء كنّ ينشدن خلف أبي سعد بن أبي طلحة :

ضربا بني عبد الدار

ضربا حماة الأدبار

ضربا بكلّ بتّار

( المغازي ١ / ٢٢٧ )

(٢) النمارق : الوسائل الصغيرة وكل ما يجلس عليه.

(٣) وفي الروض الأنف ٢ / ١٢٩ : ويقال إن هذا الرجز لهند بنت طارق بن بياضة الايادية. الموامق : المحب.

٢٧٣

وآلك. فدفعه إليه.

فأخذه أبو دجانة ـ وهو مالك بن حرشة أخو بني سعدة من الأنصار ـ ثم أخرج عصابة معه حمراء ، فتعصّب بها ( فقالت الأنصار : تعصّب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت ، وكان إذا تعصّب بها قبل ، كان ذلك من فعله )(١) .

ثم خرج يتبختر بين الصفين ، ويقول :

اني امرؤ عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لذي النخيل

ألا أقوم الدهر في الكبول

أضرب بسيف الله والرسول(٢)

فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : إنها مشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا المقام.

قال الزبير : فقلت : منعني رسول الله السيف وأعطاه أبا دجانة ، والله لأتبعنه حتى لأنظر ما يصنع ، فاتبعته حتى هجم في المشركين فجعل لا يلقى منهم أحدا إلا قتله ، فقلت : الله ورسوله أعلم.

قال : وكان في المشركين رجل قد أبلى ولم يدع منّا جريحا إلا دقّ عليه ـ أي قتله ـ فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما ، فالتقيا واختلفا بضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة ضربة بسيفه(٣) ، فاتقاها أبو دجانة بدرقته ، فعضب السيف ، وضربه أبو دجانة فرمى برأسه ، ثم رأيته حمل السيف على مفرق رأس هند ابنة عتبة ثم عدله عنها. فقيل : لأبي دجانة في ذلك!. فقال : رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا ـ يعني يحركهم القتال ـ ،

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة من نسخة ـ ب ـ.

(٢) ورواه ابن هشام في سيرته ٣ / ٢٠ :

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لدى النخيل

الا اقوم الدهر في الكبول

 ..........

(٣) وفي نسخة الأصل : بالسيف.

٢٧٤

فصدرت إليه ـ يعني قصدته ـ فلما حملت السيف على رأسه لأضربه ولول ، فإذا به امراة ، فأكرمت سيف رسول الله من أن أضرب به امرأة.

[ التمثيل بحمزة ]

ولما قتل حمزةرضي‌الله‌عنه أتت إليه هند ، فبقرت بطنه وأخذت قطعة من كبده ، فرمت بها في فيها ولاكتها لتأكلها ، فلم تستطع أن تبتلع(١) منها شيئا ، فلفظتها ، وذلك لأنه قتل يوم بدر أباها. ومثّلت به ، فأخبر بذلك رسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال : ما كانت لتأكلها ، ولو أكلتها ، لما أصابتها نار جهنم(٢) وقد خالط لحمها لحم حمزةعليه‌السلام .

ولما وقف صلوات الله عليه وآله على حمزة ورأى تمثيلهم به ، قال : لئن أمكنني الله تعالى منهم لامثلن منهم بسبعين رجلا. فأنزل الله عز وجل : «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ » (٣) .

وقال رسول الله صلوات الله عليه وآله للمسلمين : إنهم لن يصيبوا منكم مثلها أبدا وإن كنتم من أنفسكم اوتيتم.

[ حوار شداد مع أبي سفيان ]

وقال بعد ذلك شداد بن الأسود بن شعوب يذكر عند أبي سفيان لما خلصه من حنظلة [ بن أبي عامر ] وقد قعد عليه ليقتله ونجاه من تحته ، شعرا :

ولو لا دفاعي يا بن حرب ومشهدي

لألفيت يوم النعف(٤) غير مجيب

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ : تبلع.

(٢) وفي نسخة ـ ب ـ : النار.

(٣) النحل : ١٢٥.

(٤) النعف : أسفل الجبل. إشارة الى واقعة احد.

٢٧٥

ولو لا مكرى المهر بالنعف قرقرت

عليك ضباع أو ضراء كليب(١)

[ ضبط الغريب ]

قرقرت : أي صاحت. الكليب ، الكلاب : أي صاحت الكلاب. الضراء : الكلاب الضارية(٢) .

فقال أبو سفيان شعرا.

ولو شئت بختني كميت طمرة

ولم أحمل النعماء لابن شعوب

وما زال مهري مزجر الكلب منهم

لدن غدوة حتى دنت لغروب(٣)

__________________

(١) وفي السيرة لابن هشام ٣ / ٢٦ العجز هكذا : ضياع عليه أو ضراء كليب.

(٢) هذه الزيادة لم تكن في نسخة ـ ب ـ.

(٣) وروى ابن هشام في السيرة ٣ / ٢٥ بقية الأبيات :

اقاتلهم وأدعي بالغالب

وادفعهم عني بركن صليب

فبكي ولا ترعي مقالة عاذل

ولا تسأمي من عبرة ونحيب

أباك واخوانا قد تتابعوا

وحق لهم من عبرة وبنصيب

وسلي الذي قد كان في النفس أني

قتلت من النجار كل نجيب

ومن هاشم قرما كريما ومصعبا

وكان لدى الهيجاء غير هيوب

ولو أنني لم أشف نفسي منهم

لكانت شجا في القلب ذات ندوب

فأبوا وقد أودى الجلابيب منهم

بهم خدب من معطب وكئيب

أصابهم من لم يكر لدمائهم

كفاء ولا في خطة بضريب

فأجابه حسان بن ثابت :

ذكرت القروم الصيد من آل هاشم

ولست لزور قلته بمصيب

أتعجب أن قصدت حمزة منهم

نجيبا وقد سميته بنجيب

ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه

وشيبة والحجاج وابن حبيب

غداة دعا العاصي عليا فراعه

بضربة عضب بله بخضيب

والجلابيب : جمع جلباب. والجلباب في الأصل : الإزار الخشن ، وكان المشركون يسمون من أسلم الجلاليب. والخدب : الطعن النافذ.

٢٧٦

المزجر : الهرب.

فظنّ الحارث بن هشام أن أبا سفيان عرض به لما ذكر من صبره إذ قد هرب الحارث يوم بدر. فقال الحارث مجيبا لأبي سفيان في ذلك يذكر له وقعة بدر لأنه لم يكن شهدها ، شعرا :

وإنك لو عاينت ما كان منهم

لأبت بقلب ما بقيت نخيب

لدى صحن بدر أو أقمت نوائحا

عليك ولم تحفل مصاب حبيب(١)

[ صمود الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ]

وقيل : إن الذي كسر رباعية رسول الله صلوات الله عليه وآله وكلم شفته عتبة بن أبي وقاص(٢) رماه بحجر فأصاب ذلك منه. وإن عبد الله بن شهاب الزهري(٣) شجّه في جبهته. وان ابن قميئة جرحه في وجنته(٤) .

قالوا : وسقط رسول الله صلوات الله عليه وآله يومئذ في حفرة من الحفر التي

__________________

(١) وروى ابن هشام في السيرة ٣ / ٢٦ هذه الأبيات بتقديم وتأخير بعد البيتين الذين سلف ذكرهما ( ولو لا دفاعي ) وهي :

جزيتم يوما ببدر كمثله

على سائح ذي ميعة وشبيب

لدى صحن بدر أو أقمت نوائحا

عليك ولم تحفل مصاب حبيب

وإنك لو عاينت ما كان منهم

لأبت بقلب ما بقيت نخيب

السائح : الفرس السريع. والميعة : الخفة. والشبيب : أن يرفع الفرس يديه جميعا في الجري. النخيب : الجبان.

(٢) كشف الغمة ١ / ١٨٩ إعلام الورى ص ٩٢.

(٣) وفي نسخة ب : أبا عبد الله بن شهاب الزهري.

(٤) روى الاربلي في كشف الغمة ١ / ١٨٩ عن أبي بشير المازني قال : حضرت يوم احد وأنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلوات الله عليه وآله بالسيف ، فوقع على ركبتيه في حفرة امامه حتى توارى ، فجعلت اصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه.

٢٧٧

حفرها أبو عامر [ كالخنادق ](١) ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون.

قالوا : فأخذ علي صلوات الله عليه بيده حتى خرج منها واستوى قائما ، وأتاه مالك بن سنان أبو سعيد الخدري ـ فمصّ الدم من وجهه ، ثم ازدرده(٢) . فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : من مسّ دمي دمه لم تصبه النار ودخلت في وجنة رسول الله صلوات الله عليه وآله حلقتان من حلق المغفرة للضربة التي ضربه ابن قميئة ، فانتزعهما أبو عبيد بأسنانه ، فسقطت ثنيتاه لشدتهما.

ورمى رسول الله صلوات الله عليه وآله يومئذ عن قوسه حتى اندقت سيتها(٣) .

قالوا : وانتهى أنس بن النضر ـ وهو عم أنس بن مالك ، وبه سمّي ـ الى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار منصرفين الى المدينة ، قد ألقوا بأيديهم ، فقال [ أنس ] : ما لكم؟؟. قالوا : قتل رسول الله صلوات الله عليه وآله!. قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ ارجعوا ، وموتوا على ما مات عليه رسول الله صلوات الله عليه وآله. ثم استقبل القوم ، فقاتل حتى قتلرحمه‌الله .

قالوا : وأتى أبي بن خلف ، عدوّ الله الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وهو يقول : أين محمد؟؟ لا نجوت إن نجى!(٤) ، فقال علي صلوات الله عليه : يا رسول الله ، هذا ابي بن خلف ، أقوم إليه؟ فقال : بل ، أنا أقوم إليه!. فأمسكه علي صلوات الله عليه ومن معه ـ إشفاقا عليه ـ فانتفض من بينهم انتفاضة

__________________

(١) المغازي ١ / ٢٤٤.

(٢) المغازي ١ / ٢٤٧.

(٣) سيت القوس ـ بالكسر مخففة ـ : ما تمطى من طرفيها ، جمع سيات.

(٤) إعلام الورى ٩١ / ١ ، سيرة ابن هشام ٣ / ٣١.

٢٧٨

تطايروا منها حوله ، وأخذ حربة كانت بيد أحدهم ، ثم استقبله ، فطعنه بها ـ طعنة في عنقه ـ كاد أن يسقط لها عن فرسه ، وولّى هاربا. وكان قد لقي رسول الله صلوات الله عليه بمكة ، فقال : يا محمد ، والله لإن لم تنته عما أنت عليه لأقتلنك ، فنظر رسول الله صلوات الله عليه وآله إليه ، وقال : بل أنا والله أقتلك يا أبي فلما لحق بأصحابه جعل يتغاشى(١) . فقالوا له : ما بك ، وما الذي أرعب فؤادك؟؟ وإنما هو خدش. قال : ويحكم ، إنه قال لي بمكة : أنا أقتلك.

فو الله لو بصق عليّ لقتلني. فمات عدوّ الله بسرف(٢) ، وهم قافلون(٣) الى مكة.

وقيل : إن رسول الله صلوات الله عليه وآله صلّى الظهر يوم احد جالسا لما به من ألم الجراح ، ولم يستطع القيام ، وصلّى معه من كان من المسلمين جلوسا.

قالوا : ولما لم يجد المشركون من رسول الله صلوات الله عليه وآله ما أرادوه كفوا واحتجزوا ، وبقى رسول الله صلوات الله عليه وآله بالشعب(٤) من أحد. وتسامع الناس بأنه حيّ لم يمت فأتاه كثير منهم وأتاه عمر فيمن أتاه وتحدث المشركون بأن رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلّم قد قتل ، وأتى ابن قميئة أبا سفيان ، وقال : أنا قتلته! ، فركب أبو سفيان فرسه ، وأتى نحو الشعب ، فوقف عن بعد منه ونظر الى عمر بن الخطاب. فدعاه ، فقال له رسول الله صلوات الله عليه وآله : قم ، فانظر ما يريد. فوقف إليه عمر ، فقال له أبو سفيان : اناشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟

قال : اللهم لا ، وانه ليسمع الآن كلامك!.

__________________

(١) أي مرتعدا فزعا خائفا.

(٢) السرف : مكان على ستة أميال من مكة.

(٣) أي عائدون.

(٤) الشعب بالكسر واحد الشعاب للطريق بين الجبلين ، أو ما انفجر بينهما. وشعب احد : هو الذي نهض المسلمون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه يوم احد. ( وفاء الوفاء للسمهودي ص ١٢٤٣ ).

٢٧٩

قال أبو سفيان : أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر(١) ، وذلك لقول ابن قميئة له : إنه قتل رسول الله صلوات الله عليه وآله. وانصرف. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله لعلي صلوات الله عليه : قم يا علي في آثار القوم ، فانظر ما ذا يصنعون. فان كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ، والذين نفسي بيده لأن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزنهم دونها ، فخرج علي صلوات الله عليه(٢) في آثارهم حتى لحق بهم ، وقد جنبوا الخيل وامتطوا الابل وساروا نحو مكة. فانصرف الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فأخبره.

ولما رأى الناس انصرافهم جاءوا الى قتلاهم. وخرج رسول الله صلوات الله عليه وآله من الشعب فيمن كان معه ممن لحق به ، فلما رآهم الناس مالوا إليهم ليعرفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه وآله. قال كعب بن مالك(٣) : فعرفت عينيه صلوات الله عليه وآله تزهران(٤) من تحت المغفر ، فناديت بأعلى

__________________

(١) روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ١ / ١١٧ : فقال أبو سفيان وهو على الجبل : أعل هبل.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين : قل له : الله أعلا وأجل. فقال : يا علي إنه قد أنعم علينا!!. فقال علي عليه‌السلام : بل الله أنعم علينا. ثم قال أبو سفيان : يا علي ، أسألك باللات والعزى ، هل قتل محمّد؟؟. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك ، والله ما قتل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يسمع كلامك. فقال : أنت أصدق. لعن الله ابن قميئة زعم انه قتل محمّدا.

(٢) وفي تفسير القمي أيضا ص ١ / ١٢٤ : فمضى أمير المؤمنينعليه‌السلام على ما به من الألم والجراحات حتى كان قريبا من القوم. وفي إعلام الورى أيضا ص ٩٣.

(٣) وفي السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٣١ عن ابن إسحاق قال : وكان أول من عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الهزيمة وقول الناس : قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ذكر لي ابن شهاب الزهري ـ كعب بن مالك قال : عرفت عينيه تزهران ...

(٤) أي تضيئان.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الْعِقابِ ) . انّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة ، كما لا يتوهّم أحدا انّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين ان يفعلوا ما يريدون. لانّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب ، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و( لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) مرهون بسلوك الإنسان نفسه.

* * *

ملاحظتان

1 ـ لماذا التعجّب في الخلق الجديد؟

يستفاد من خلال آيات متعدّده في القرآن الكريم انّ من جملة مشاكل الأنبياء مع المشركين اثبات «المعاد الجسماني» لانّهم كانوا يتعجّبون دائما من هذا الموضوع وهو : كيف يبعث الإنسان من جديد بعد ان صار ترابا؟ كما اشارت اليه الآية السابقة( أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهناك سبع آيات اخرى تشير الى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون 7 ـ 2 النمل 6 ـ 1 و 53 الصافات ـ 3 ق 7 ـ 4 الواقعة).

ومن هنا يتّضح انّ هذا التساؤل كان مهمّا بالنسبة إليهم حيث كانوا يكرّرونه في كلّ فرصة ، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة ، فمثلا الآية (29) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) تتكوّن من كلمات قليلة ولكنّها مفحمة لهم ، وفي مكان آخر يقول تعالى :( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) لانّكم في الخلق الاوّل لم تكونوا شيئا امّا الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبقّي منكم.

وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم الى التفكّر والإمعان في عظمة وقدرة الخالق( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) .

٣٤١

2 ـ هل انّ الله يعفو عن الظالمين؟

قرانا في الآيات المتقدّمة انّ الله يعفو ويغفر للذين ظلموا ، وهذا الغفران غير لازم لمن يصرّ على ظلمه ، ولكنّه من باب إعطاء الفرصة لهم لان يصلحوا أنفسهم ، والّا فهو تعالى شديد العقاب.

ويمكن ان نستفيد من هذه الآية انّ الذنوب الكبيرة ـ ومن جملتها الظلم ـ قابلة للغفران (ولكن بتحقّق شروطها) ، وهو ردّ على قول المعتزلة بأنّ الذنوب الكبيرة لا يغفرها الله ابدا.

وعلى ايّة حال فـ «المغفرة الواسعة» و «العقاب الشديد» في الواقع تجعل كل المعترفين بوجود الله بين «الخوف» و «الرجاء» الذي يعتبر من العوامل المهمّة لتربية الإنسان ، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب ، ولا يأمن من العذاب لقلّتها.

ولهذا جاء في الحديث عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنئ احد العيش ، ولولا وعيد الله وعقابه لاتّكل كلّ واحد»(1) .

ومن هنا يتّضح انّ الذين يقولون ـ أثناء ارتكابهم المعاصي ـ انّ الله كريم ، يكذبون في اتّكالهم على كرم الله ، فهم في الواقع يستهزءون بعقاب الله.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد 5 و 6 ، ص 278 ـ تفسير القرطبي ، المجلّد السّادس ، ص 3514.

٣٤٢

الآية

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ(7) )

التّفسير

ذريعة اخرى!

بعد ما أشرنا في الآيات السّابقة الى مسألة «التوحيد» و «المعاد» ، تتطرّق هذه الآية الى واحدة من اعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ومن الواضح انّ احدى وظائف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الالهي ، والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة ، او تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر.

ولكن يجب ان نلتفت الى هذه النقطة وهي : انّ اعداء الأنبياء لم يكن لديهم حسن نيّة او اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة ، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة واخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما

٣٤٣

يسمّى بـ «المعجزات الاخلاقية».

اقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة ، ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطاليبهم ، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعي القدرة على انجاز اي عمل خارق للعادة ، وايّ واحد منهم يقترح عليه انجاز عمل ما سوف يلبّي مطاليبه.

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي انّ المعاجز بيد الله ، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرا في تكملة الآية قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) .

* * *

بحثان

هنا يرد سؤالان :

1 ـ هل الآية «انّما أنت منذر ...» جواب للكفّار؟

كيف يمكن لجملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ان تكون جوابا للكفّار عند طلبهم المعجزة؟

الجواب : بالاضافة الى ما قلناه سابقا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست له القدرة الغيبية المطلقة كي يطلبوا منه الاعجاز ، لانّ الوظيفة الاولى له هي إنذار أولئك الذين يسيرون في طريق الضلال ، والدعوة الى الصراط المستقيم ، وإذا ما احتاجت هذه الدعوة الى المعجزة فسوف يأتي بها النّبي ، ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين عن هذه المسيرة.

فمعنى الآية : انّ الكفّار نسوا انّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة الى الله ، واعتقدوا انّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

٣٤٤

2 ـ ما هو المقصود من جملة( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ؟

قال بعض المفسّرين : انّ هاتين الصفتين (منذر) و (هاد) صفتان للرسول ، فأصل الجملة تكون (أنت منذر وهاد لكلّ قوم).

ولكن هذا التّفسير خلاف الظاهر ، لانّ الواو في جملة( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) تفصل بين جملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) ولو كانت كلمة «هاد» قبل «لِكُلِّ قَوْمٍ » كان المعنى السّابق صحيحا. ولكن الأمر ليس كذلك.

والشيء الآخر هو انّ هدف الآية بيان انّ هناك قسمين من الدعوة الى الله : أحدهما ان يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط. والآخر : ان يكون العمل هو الهداية.

وسوف تسألون حتما : ما هو وجه التفاوت بين (الإنذار) و (الهداية)؟ نقول في جواب هذا السؤال : انّ الإنذار للذين اضلّوا الطريق ودعوتهم تكون الى الصراط المستقيم ، ولكن الهداية والاستقامة للذين آمنوا.

وفي الحقيقة انّ المنذر مثل العلّة المحدثة ، امّا الهادي فبمنزلة العلّة الباقية وهذه هي التي تعبّر عنها بالرّسول والامام ، فالرّسول يقوم بتأسيس الشريعة والامام يقوم بحفظها وحراستها. (ليس من شكّ انّ الهداية في آيات اخرى مطلقة للرسول ، ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم انّ المقصود من الهادي هو الشخص الحافظ والحامي للشريعة).

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقا ، فقد قال الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انا المنذر وعلي الهادي».

ولا بأس ان نشير الى عدّة من هذه الرّوايات :

1 ـ في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعا عن ابن عبّاس قال : وضع رسول الله يده على صدره فقال : «انا المنذر» ثمّ اومأ الى منكب عليعليه‌السلام وقال : (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي) هذه الرّواية ذكرها العلّامة

٣٤٥

«ابن كثير» في تفسيره ، والعلّامة «ابن الصبّاغ المالكي» في الفصول المهمّة ، و «الكنجي» الشافعي في كفاية الطالب و «الطبري» في تفسيره ، و «ابو حيّان الاندلسي» في تفسيره البحر المحيط ، وكذلك «العلّامة النيسابوري» في تفسيره الكشّاف ، وعدد آخر من المفسّرين.

2 ـ نقل «الحمويني» وهو من علماء اهل السنّة المعروفين في كتابه فرائد السمطين عن ابو هريرة قال «ان المراد بالهادي عليعليه‌السلام ».

3 ـ «مير غياث الدين» مؤلّف كتاب (حبيب السيّد) كتب يقول في المجلّد الثّاني صفحة 12 : «قد ثبت بطرق متعدّدة انّه لمّا نزل قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال لعلي : «انا المنذر وأنت الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي».

كما نقل هذا الحديث «الآلوسي» في (روح المعاني) و «الشبلنجي» في (نور الأبصار) والشيخ «سليمان القندوزي» في (ينابيع المودّة).

وبما انّ اكثر هذه الرّوايات مسنده الى ابن عبّاس فإنّه لم يكن الشخص الوحيد الذي روى ذلك ، فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني ، وحتّى علي نفسه ـ طبقا لما نقله الثعلبي ـ قد قال : «المنذر النّبي والهادي رجل من بني هاشم» يعني نفسه(1) .

لا شكّ انّ هذه الأحاديث لا تصرّح بالخلافة ، ولكن بالنظر الى ما تحتويه هذه الكلمة (الهداية) من المعنى الواسع ، فإنّها غير منحصرة بعليعليه‌السلام بل تشمل جميع العلماء واصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يقومون بنفس المهمّة ، فإنّه يتّضح لنا تخصيص علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذه الرّوايات بهذا العنوان يدلّ على انّه المصداق البارز له ، وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات ، وهذا المطلب لا يكون منفصلا عن خلافة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

* * *

__________________

(1) للمزيد من الاطلاع راجع كتاب احقاق الحقّ ، المجلّد الثّالث ، ص 87 وما بعدها.

٣٤٦

الآيات

( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) )

التّفسير

علم الله المطلق :

نقرا في هذه الآيات قسما من صفات الخالق ، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد ، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكلّ شيء ، هو ذاك العلم الذي يقوم عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد ، وهو العلم الذي يكون أساسا للمعاد والعدالة الالهيّة يوم القيامة وهذه الآيات استندت الى هذين القسمين : (العلم بنظام التكوين ، والعلم بأعمال العباد).

تقول الآية اوّلا :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) في رحمها ، سواء من أنثى الإنسان او الحيوان( وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) اي تنقص قبل موعدها المقرّر( وَما

٣٤٧

تَزْدادُ ) (1) اي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسّرين :

يعتقد البعض ـ انّها تشير ـ كما ذكرنا آنفا ـ الى وقت الولادة ، وهي على ثلاثة انواع : فمرّة يولد المولود قبل موعده. ومرّة في موعده ، واخرى بعد الموعد المقرّر. فالله يعلم كلّ ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد ، وهذه من الأمور التي لا يستطيع اي احد او جهاز ان يحدّد موعده ، وهذا العلم خاص بذات الله المنزّهة ، وسببه واضح لانّ استعدادات الأرحام والاجنّة مختلفة ، ولا احد يعلم بهذا التفاوت.

وقال بعض آخر : انّها تشير الى ثلاث حالات مختلفة للرحم ايّام الحمل ، فالجملة الاولى تشير الى نفس الجنين الذي تحفظه ، والجملة الثانية تشير الى دم الحيض الذي ينصبفي الرحم ويمصّه الجنين ، والجملة الثالثة اشارة الى الدم الاضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحيانا ، او دم النفاس أثناء الولادة(2) .

وهناك عدّة احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية دون ان تكون متناقضة فيما بينها ، ويمكن ان يكون مراد الآية اشارة الى مجموع هذه التفاسير ، ولكن الظاهر انّ التّفسير الاوّل اقرب ، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير الى الزيادة والنقصان في فترات الحمل.

روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام الصادقعليه‌السلام او الامام الباقرعليه‌السلام

__________________

(1) «تغيض» أصلها الغيض بمعنى ابتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد ، و «الغيضة» المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه ، و «ليلة غائضة» اي مظلمة.

(2) يقول صاحب الميزان مؤيّدا هذا الراي : إنّ بعض روايات ائمّة اهل البيت يؤيّد هذا الراي. وابن عبّاس ممّن يؤيّد هذا الراي ايضا ، ولكن بالنظر الى الرّوايات المنقولة في تفسير نور الثقلين في ذيل الآية فإنّ أكثرها يؤيّد ما قلناه في الراي الاوّل.

٣٤٨

في تفسير الآية انّ «الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر ، وما تزداد كلّ شيء حمل على تسعة أشهر». وفي تكملة الحديث يقول : «كلّما رأت المراة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد وبعدد الايّام التي زاد فيها في حملها من الدم»(1) .

( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) ولكي لا يتصوّر احد انّ هذه الزيادة والنقصان بدون حساب ودليل ، بل انّ كلّ ساعة وثانية ولحظة لا تمرّ دون حساب ، كما انّ للجنين ودم الرحم حساب وكتاب ايضا. فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) فهو يحيط بكلّ شيء ، ولا يخفى عنه شيء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم :( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ ) (2) وهذا هو الحقّ فالذي يوجد في كلّ مكان لا معنى للغيب والشهادة او الليل والنهار عنده ، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.

* * *

بحوث

1 ـ القرآن وعلم الاجنّة

أشار القرآن المجيد مرارا الى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون احد الادلّة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق ، وبالطبع فإنّ علم الاجنّة واحد من العلوم الحديثة وكان سابقا عبارة عن معلومات اوّليّة محدودة ثمّ توسعت في هذا العصر. ولكن بتقدّم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشف عن

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، صفحة 485.

(2) «سارب» من سرب على وزن ضرر ، بمعنى الماء الجاري ، ويقال للشخص الذاهب الى عمل ايضا.

٣٤٩

كثير من اسرار هذا العالم الساكن والهادىء وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع ان نقول : انّ اكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامن في تكوين الجنين ومراحل تكامله.

فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع «في ظلمات ثلاث» الذي يمتاز بالظرافة ودقّة التكوين وان يوصل له المقدار اللازم من الغذاء ويرشده مراحل حياته؟

وعند ما تقول الآية السابقة :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) فليس المقصود من علمه بالذكر والأنثى فقط ، بل بكلّ خصائصه والطاقة الكامنة فيه ، هذه الأشياء لا يستطيع احد وبأي وسيلة ان يتعرّف عليها ، وعلى هذا فإنّ وجود هذا النظام الدقيق والمعقّد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن ان يكون بدون صانع عالم وقدير.

2 ـ كلّ شيء له مقدار

نحن نقرا في آيات مختلفة من القرآن الكريم انّ كلّ شيء له حدّ محدود ولا يتجاوزه ، ففي الآية (3) من سورة الطلاق يقول تعالى :( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) والآية التي نحن بصددها( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) .

كلّ هذه تشير الى انّه ليس هناك شيء في العالم بدون حساب ، حتّى الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمّة ، فإنّ وجودها على أساس حساب دقيق ، علمنا بذلك ام لم نعلم ، وأساسا فإنّ معنى حكمة الله هو ان يجعل لكلّ ما في الكون حدّا ومقدارا ونظاما.

وكلّ ما حصلناه اليوم من اسرار الكون بواسطة العلوم يؤكّد هذه الحقيقة ، فمثلا نرى انّ دم الإنسان ـ الذي هو المادّة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم

٣٥٠

بنقل المواد الضروريّة اللازمة لخلايا الجسم ـ يتركّب من عشرين مادّة او اكثر ، وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تمّ اي تغيير فيها لتعرّضت سلامة الإنسان للخطر ، ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس نسبة السكر والدهن وسائر مركّبات الدم الاخرى ، ويتمّ تشخيص العلّة بواسطة معرفة زيادة او نقصان هذه النسب ، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة ، بل كلّ ما في الوجود له نفس هذه الدقّة في النظام.

ولا بدّ هنا من التنبيه على انّ ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا ، فالإنسان الذي يؤمن بالله لا يمكن ان يتصوّر ذلك ، وبتطوّر العلوم تتأكّد لنا هذه الحقيقة.

وكي نستطيع ان نتعلّم هذا الدرس وهو انّ المجتمع الانساني الذي هو جزء من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام ، فعليه ان يجعل شعار( كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) يسود جميع جوانبه ، ويجتنب الإفراط والتفريط في اعماله وتخضع جميع مؤسساته الاجتماعية للحساب والموازين.

3 ـ الغيب والشهادة سواء عند الله

استندت هذه الآيات الى انّ الغيب والشهادة معلومان عند الله ، فهما مفهومان نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود ، وعلى سبيل المثال نحن نمتلك حواسا ذات مدى نسبي ، فمتى ما كان الشيء داخلا في هذا المدى فهو شاهد بالنسبة لنا ، وما كان خارجا عنه فهو غيب ، فلو فرضنا انّ أبصارنا لها قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها ، فإنّ كلّ شيء يعتبر شاهد عندنا.

وبما انّ كلّ شيء له حدّ محدود غير الذات الالهيّة ، فإنّ لغير الله تعالى غيب وشهادة ، ولانّ ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإنّ كلّ شيء بالنسبة

٣٥١

اليه شهادة ، ولا معنى للغيب بالنسبة اليه ، وإذا ما قلنا ـ انّ الله عالم الغيب والشهادة فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة ، امّا هو فهما عنده سواء. لنفترض انّنا ننظر ما في أيدينا في النهار ، فهل نجهل ما فيها؟! جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من هذا واظهر.

4 ـ الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله

أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول : انّ الله يعلم السرّ والجهر من القول وحركاتكم في الليل والنهار وكلّها مشهودة عنده ، هل نجد في أنفسنا ايمانا بهذه الحقيقة؟ لو كنّا مؤمنين بذلك حقّا ونشعر بأنّ الله تعالى مطّلع علينا فإنّ هذا الايمان والاحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا وضمائرنا؟.

نقل عن الامام الصادقعليه‌السلام في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال : «علمت انّ الله مطلع عليّ فاستحييت».

كما نشاهد كثيرا من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلّى فيها هذه الحقيقة ، يقال : دخل أب وابنه في بستان ، فتسلّق الأب شجرة ليقطف ثمارها دون اذن صاحبها ، بينما بقي الابن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع. وفجأة صاح الابن الذي كان مؤمنا ومتعلّما ونادى أباه بأن ينزل بسرعة ، عندها خاف الأب ونزل فورا وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، فقال الابن : كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعا ، كيف يمكن ان تخاف ان يراك الإنسان ، ولا تخاف ان يراك الله؟! اين الايمان؟!

* * *

٣٥٢

الآية

( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) )

التّفسير

المعقّبات الغيبية!

علمنا في الآيات السابقة انّ الله بما انّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم ، وتضيف هذه الآية انّه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإنّ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (1) .

ولكي لا يتصوّر احد انّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمس في المزلّات ، او يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب ، ومع كلّ ذلك ينتظر من الله او الملائكة ان يحفظوه ، يعلّل القرآن ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما

__________________

(1) هناك حديث بين المفسرين في ان الضمير (له) لمن يعود ، وكما تشير الآية فإنه يعود للإنسان كما تؤكد عليه الآيات السابقة ، ولكن بعضهم قال : يعود للنبي او لله. وهذا يخالف ما جاء في ذيل الآية [فتأمل].

٣٥٣

بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وكي لا يتبادر الى الأذهان انّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب او الجزاء؟ هنا تضيف الآية( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الالهي على قوم او امّة ، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضة للحوادث

* * *

بحوث

1 ـ ما هي المعقّبات؟

«المعقّبات» كما جاء في مجمع البيان للعلّامة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقّب) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية انّ الله سبحانه وتعالى امر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.

انّ الإنسان ـ بدون شك ـ معرّض في حياته الى كثير من الحوادث الروحية والجسمية ، فالامراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان ، وخصوصا في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفا سهلا للإصابة بها ، فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث ، وخصوصا في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الامكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للامراض اكثر من غيرهم.

وإذا ما امعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد انّ هناك قوى محافظة ، تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.

وكثيرا ما يتعرّض الإنسان الى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل

٣٥٤

اعجازي تجعله يشعر انّ كلّ ذلك ليس صدفة وانّما هناك قوى محافظة تحميه.

وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن ائمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها : الحديث المروي عن الامام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية يقول : «يحفظ بأمر الله من ان يقع في ركي او يقع عليه حائط او يصيبه شيء ، حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه الى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه».

وفي حديث آخر عن الامام الصادقعليه‌السلام يقول : «ما من عبد الّا ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين امر الله».

ونقرا في نهج البلاغة عن امير المؤمنينعليه‌السلام «انّ مع كلّ انسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه».

كما نقرا في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الاولى «ومنهم الحفظة لعباده».

انّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ او التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم ، لانّه غير منحصر في هذا المجال فقط ، فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الاخرى اشارت الى امور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية. واكثر من ذلك ما قلنا سابقا من انّنا نتعرّض في حياتنا الى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها الّا بوجود هذه القوى المحافظة (ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيّرة ، والتي كانت بالنسبة لي كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقّب اللامرئي).

2 ـ التغيير يبدأ من النفس (قانون عام)

تبيّن الجملة( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم ، انّها قانون عام ، قانون حاسم ومنذر!

٣٥٥

هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الاساسيّة لعلم الاجتماع في الإسلام ، يقول لنا : انّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم ، وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو ممّا عملت أيديهم ، وما يقال من الحظّ والصدفة وما يحتمله المنجّمون ليس له أساس من الصحّة ، فالأساس والقاعدة هي ارادة الامّة إذا أرادت العزّة والافتخار والتقدّم ، او العكس ان أرادت هي الذلّة والهزيمة ، حتّى اللطف الالهي او العقاب لا يكون الّا بمقدّمة. فتلك ارادة الأمم في تغيير ما بأنفسهم حتّى يشملهم اللطف او العذاب الالهي.

وبتعبير آخر : انّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحدا من اهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام ، يؤكّد لنا ان اي تغيير خارجي للأمم مرتبط بالتغيير الداخلي لها ، واي نجاح او فشل يصيب الامّة ناشئ من هذا الأمر ، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير اعمالهم وتصرّفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلّطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير ، لانّ هذه القوى الجهنميّة لا تستطيع ان تفعل شيئا إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

المهمّ ان نطهّر مجتمعاتنا من هذه المقرّات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها تنفذ في داخل مجتمعنا ، فهؤلاء بمنزلة الشياطين ، ونحن نعلم انّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين ، فهو يتسلّط على الذي مهّد له السبيل في داخله.

يقول هذا الأصل القرآني : انّنا يجب ان نثور من الداخل كي ننهي حالة الشقاء والحرمان ، ثورة فكرية وثقافية ، ثورة ايمانيّة وأخلاقية ، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب ان نبحث فورا عن نقاط الضعف فينا ، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع الى الله ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنّور والحركة ، كي نستطيع في ظلّها ان نبدّل الهزيمة الى نصر ، لا ان نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظلّ ندور في الطرق الملتوية.

٣٥٦

هناك كتب ومؤلّفات كثيرة كتبت عن عوامل انتصار المسلمين الأوائل ثمّ تضعضع سلطانهم بعد حين ، وكثير من تلك الأبحاث ظلّت تتعثّر في الطرق الملتوية ، ولكن إذا ما أردنا ان نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي فيجب ان نبحث عن ذاك النصر او تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية والاخلاقية في المسلمين. ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الاسلامية في ايران ، او ثورة الجزائر او ثورة المسلمين الافغان ، نشاهد بوضوح انطباق هذا الأصل القرآني عليها. فقبل ان تغيّر الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في التعامل معنا ، غيّرنا نحن ما بأنفسنا فتغيّر كلّ شيء.

وعلى ايّة حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكلّ المسلمين والأجيال القادمة. ونحن نرى انّ القيادات المنتصرة فقط هي التي استطاعت ان تقود وتغيّر شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد ، وفي تاريخ المسلمين والإسلام شواهد على ذلك كثيرة.

* * *

٣٥٧

الآيات

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) )

التّفسير

قسم آخر من دلائل عظمة الله :

يتطرّق القرآن الكريم مرّة ثانية الى آيات التوحيد وعلائم العظمة واسرار الخلقة. فهذه الآيات تحاول ان تقرّب العلاقة بين الإنسان وربّه من خلال الاشارة الى بعض الظواهر الطبيعيّة بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشعّ نور الايمان في

٣٥٨

قلوب الناس ، فتشير اوّلا الى البرق( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب ، ويحدث صوتا مخيفا وهو الرعد من جانب آخر ، وقد يسبّب أحيانا الحرائق للناس وخصوصا في المناطق الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس ، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حسّاسة. ثمّ تضيف الآية( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) القادرة على ارواء ظمأ الاراضي الزراعية.

بركات الرعد والبرق :

نحن نعلم انّ ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي اقتراب سحابتين إحداهما من الاخرى ، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة ، فيتمّ تفريغ الشحنات بين السحابتين فتحدث شرارة عظيمة ، ويحدث مثل ذلك عند اقتراب سلكين أحدهما سالب والآخر موجب ، وإذا كنّا قريبين منهما فإنّنا نسمع صوتا خفيفا ، ولكن لاحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الالكترونات فانّهما تحدثان صوتا شديدا يسمّى الرعد.

وإذا ما اقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمّى بالصاعقة ، وخطورتها تكمن في انّ الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر راس السلك السالب ، حتّى الإنسان في الصحراء يمكن ان يمثّل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحوّل الإنسان الى رماد في لحظة واحدة ، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب ان يلجأ الإنسان الى شجرة او حائط او الى الجبال او الى اي مرتفع آخر ، او ان يستلقي في ارض منخفضة.

وعلى ايّة حال فإنّ للبرق ـ الذي يسمّى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة ـ

٣٥٩

فوائد جمّة عرفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا الى ثلاثة منها :

1 ـ السقي : ـ من الطبيعي انّ البرق تتولّد منه حرارة عالية جدّا قد تصل بعض الأحيان الى (15) الف درجة مئوية ، وهذه الحرارة كافية لان تحرق الهواء المحيط بها ، وفي النتيجة يقلّ الضغط الجوي ، فيسبّب سقوط الأمطار. ولهذا السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.

وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).

2 ـ التعقيم : ـ ونتيجة للحرارة العالية التي يسبّبها البرق فسوف يزداد مقدار الاوكسجين في قطرات الماء ، ويسمّى هذا الماء بالماء الثقيل او الماء المؤكسد (2 O 2 H ) ومن آثاره قتل المكروبات ، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح ، فعند نزول هذه القطرات الى الأرض سوف تبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية ، ولهذا السبب يقال انّ السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق والرعد.

3 ـ التغذية والتسميد : ـ تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج حامض الكاربون ، وعند نزولها الى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعا من السّماد النباتي ، فتتمّ تغذية النبات من هذا الطريق.

يقول بعض العلماء : انّ مقدار ما ينتجه البرق من الاسمدة في السنة يصل الى عشرات الملايين من الاطنان ، وهذه كميّة كبيرة جدّا.

وعلى ايّة حال نرى من خلال ظاهرة طبيعيّة صغيرة كلّ هذه المنافع والبركات ، فهي تقوم بالسقي ورشّ السموم والتغذية ، فيمكن ان تكون دليلا واضحا لمعرفة الله ، كلّ ذلك من بركات البرق. كما انّه يمكن ان يكون البرق عاملا مهمّا في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة ، وقد تحرق الإنسان او الأشجار ، ومع انّها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها ، فهي مع ذلك عامل خوف للناس ، فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون اشارة الى جميع هذه الأمور.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502