شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار الجزء ١

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار15%

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 502

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 502 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187809 / تحميل: 9853
الحجم الحجم الحجم
شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

[ غزوة خيبر ]

ثم كان يوم خيبر فمما يؤثر من علي صلوات الله عليه فيه.

[٢٨٣] إنه قال : لما غزا رسول الله صلوات الله عليه وآله خيبر تلقّانا أهلها ـ من اليهود ـ بمثل الجبال من الخيل والسلاح ، وهم أمنع دارا وأكثرها عددا ، كل ينادي للبراز الى اللقاء ، فلم يبرز إليهم من المسلمين أحد إلا قتلوه حتى احمرت الحدق ، ودعيت الى النزال وهمت(١) كل امرئ نفسه ، فأنهضني رسول الله صلوات الله عليه وآله الى برازهم ، فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته ولم يثبت لي فارس منهم إلا طعنته ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، فأدخلتهم جوف مدينتهم يكسع بعضهم بعضا.

( الكسع : أن تضرب بيدك أو برجلك دبر كل شيء ، وإذا اتبع قوم أدبار قوم بالسيف ، قيل : كسعوهم ).

ووردت باب المدينة ، فوجدته مسدودا عليهم ، فاقتلعته بيدي ، ودخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر لي من رجالها وأسبي من أجد فيها من نسائها ، فاستفتحها وحدي لم يكن لي معاون فيها إلا الله وحده.

__________________

(١) وفي نسخة الاصل : وهم.

٣٠١

وأما أصحاب السير(١) ، فذكروا أن رسول الله صلوات الله عليه وآله لما سار الى خيبر ، وأعطى الراية عليا صلوات الله عليه ، قالوا : وكان رأيته يومئذ بيضاء.

قالوا : وبعث رسول الله صلوات الله عليه وآله أبا بكر برايته الى بعض حصون خيبر ، فقاتل ، ورجع ولم يك فتح ، وقد جهد ، ثم بعث من الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ، ورجع ، ولم يك فتح وقد جهد. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار(٢) . فدعا عليا صلوات الله عليه وهو أرمد. فتفل في عينيه ، ثم قال : خذ هذه الراية ، فامض بها حتى يفتح الله عز وجل على يديك. فخرج بها حتى أتى الحصن فمركز الراية في رضم من الحجارة تحت الحصن.

( الرضم : الواحدة منه رضمة : وهي حجارة مجتمعة ليست بثابتة في الأرض وتكون في بطون الأودية. والجمع الرضم والرضام ).

واطلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال : من أنت؟؟ قال : أنا علي بن أبي طالب. قال اليهودي : علوتم(٣) وما أنزل على موسى ، فما رجع حتى فتح الله على يديه خيبر.

وقال بعضهم(٤) : إنه لما دنا من الحصن خرج إليه قوم ، فقاتلهم ،

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٢١٦ : عن ابن إسحاق عن بريدة الأسلمي عن أبيه عن سلمة ، قال : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر ، الحديث.

(٢) وفي نسخة الاصل : كرّار غير فرّار.

(٣) وفي الإرشاد للمفيد ص ٦٧ : غلبتم.

(٤) الواقدي في كتاب المغازي ٢ / ٦٥٥ عن أبي رافع وأحمد بن إسماعيل في الاربعين المنتفى الحديث ٥٧.

٣٠٢

فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه بين يديه ، فتناول علي صلوات الله عليه بابا كان عند الحصن فتترس به ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عز وجل علي يديه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ منهم.

قال صاحب الحديث(١) فلقد جئت في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقدر [ أن ] نقلبه.

فهذه أحد بواهر علي صلوات الله عليه ومما يبين أن الله عز وجل أيده بملائكة ، والأخبار بذلك عنه كثيرة. وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم.

__________________

(١) وهو أبو رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما رواه عبد الله بن الحسن ( سيرة ابن هشام ٣ / ٢١٦ ).

٣٠٣

[ فتح مكة ]

وأما ما كان منه في فتح مكة.

[٢٨٤] فما رواه محمد بن سلام باسناده عنه ، أنه قال صلوات الله عليه : إن رسول الله صلوات الله عليه وآله لما توجه لفتح مكة أحبّ أن يعذر إليهم وأن يدعوهم الى الله عز وجل آخرا كما دعاهم أولا ، فكتب إليهم كتابا يحذرهم وينذرهم عذاب ربهم ويعدهم من الله الصفح عنهم ونسخ فيه لهم من أول سورة براءة(١) ليقرأ عليهم ، ثم ندب أبا بكر إليه ليوجهه بها به.

فهبط عليه جبرائيلعليه‌السلام ، فقال : يا محمّد إنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فأنبأني رسول الله صلوات الله عليه وآله بذلك. ووجهني في طلب أبي بكر بعد أن أنفذه بالصحيفة ، فأخذتها منه وأتيت أهل مكة ـ وأهلها يومئذ ليس منهم أحد(٢) إلا وقد وترته بحميم له ـ. فلو قدر أن يجعل على كل جبل مني إربا لفعل ، ولو أن يبذل ماله ونفسه وولده وأهله ، فأبلغتهم رسالة النبيّ صلوات الله عليه وآله ، فأقرأتهم كتابه. وكل يلقاني بالتهديد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر لي الشحناء من

__________________

(١) وفي كتاب الاختصاص للمفيد ص ١٦٢ : ونسخ لهم في آخر سورة براءة.

(٢) وفي نسخة ـ ب ـ : رجل.

٣٠٤

رجالهم ونسائهم فلم يرعبني ذلك حتى أنفذت ما وجهني إليه رسول الله صلوات الله عليه وآله.

وكان الذي حمل عليه نفسهعليه‌السلام من التقحّم على أهل مكة ، وقد قتل من ساداتهم وحماتهم ووجوه رجالهم من قد قتل من أعظم الجهاد والإقدام بالنفس على التلف ، فتقدم على ذلك مؤثرا لطاعة الله وطاعة رسوله محتسبا له نفسه.

فأما قول جبرائيلعليه‌السلام لرسول الله صلوات الله عليه وآله : لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، وفي بعض الروايات لا يؤدي عنك إلا أنت أو علي ، فقد تقدم ذكر ما في ذلك من البيان على إمامة علي صلوات الله عليه. ولما توجه رسول الله صلوات الله عليه وآله بجموع المسلمين ـ وقد أعزهم الله سبحانه وكثرهم ـ الى مكة نظر أهلها من ذلك الى ما ليس لهم به قوام فاستكانوا وخضعوا ، وسألوا الصفح عنهم والدخول في السلم ، أقبل رسول الله صلوات الله عليه وآله يوم دخول مكة في عساكر لم تر العرب مثلها عددا وعدّة قد تكفروا في السلاح ما يتبين منهم إلا الحدق. وجعل الأنصار في الميمنة ورايتهم مع سعد بن عبادة ، والمهاجرين في الميسرة ورايتهم مع الزبير بن العوام ، وقال لكل واحد منهما ادخلوا من موضع كذا وكذا ، وكان هو صلوات الله عليه وآله في جمهور خواص المهاجرين والأنصار وسائر الناس ، ومع كل قوم من قبائل العرب عدد عظيم. فسمع عمر بن الخطاب سعد بن عبادة يقول وبيده الراية ـ وهو يريد دخول مكة ـ :

اليوم يوم الملحمة

اليوم هتك الحرمة(١)

__________________

(١) وفي إعلام الورى للطبرسي. ص ١٩٨ والإرشاد للمفيد ٧١ والمناقب لابن شهرآشوب ١ / ٢٠٨

٣٠٥

فجاء عمر الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فأخبره بقوله. فقال : يا رسول الله صلوات الله عليه وآله إني أخاف أن يكون له في قريش صولة. فدعا رسول الله صلوات الله عليه وآله عليا صلوات الله عليه ، وقال له : اذهب فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي تدخل بها ، ففعل.

وكان علي صلوات الله عليه وآله موضع حربه وموضع سلمه ، وكذلك قال له في غير موطن : يا علي حربك حربي وسلمك سلمي.

وفرق رسول الله صلوات الله عليه وآله المسلمين يوم دخول مكة كتائب ، وقدم على كل كتيبة منهم رجلا ، وأمره ان يدخل بهم من موضع سماه له ، فدخلوا على ذلك آمنين كما وعد الله عز وجل وهو لا يخلف الميعاد وأمر رسول الله صلوات الله عليه وآله امراء الكتائب ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم خلا نفر سماهم لهم أمر بقتلهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة لعظم جرائم كانت لهم ، فترك كثير منهم من لقيه ممن كانت بينه وبينهم معرفة وله به عناية ، واستأمن بعضهم لبعض ، وجسروا على رسول الله صلوات الله عليه وآله بردّ أمره فيهم ، وكان منهم عبد الله بن سعد أخو بني عامر بن لؤي ، وكان أعظمهم جرما وكان رسول الله أشد عليه حنقا. وكان أول من بدأ باسمه ممن ندر يومئذ دمه ، وقال : اقتلوه ولو وجدتموه تحت أستار الكعبة. وذلك إنه كان أسلم ، فاستكتبه رسول الله صلوات الله عليه ، وكان يكتب له الوحي ، فيملي عليه رسول الله صلوات الله عليه وآله : غفور رحيم ، فيكتب : عزيز حكيم ، وأشباه ذلك ، فارتدّ كافرا ولحق بمشركي قريش ، وقال : قد أنزلت قرآنا كثيرا وأتيته

__________________

هكذا :

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

٣٠٦

عن نفسي ، ففيه نزلت : « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله »(١) .

فجاء عثمان بن عفان فأتى به مستورا حتى أدخله على رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فسأله فيه ، فأعرض رسول الله صلوات الله عليه وآله عنه مرارا ، وسكت لا يجيبه بشيء ، فألحّ عليه عثمان ، فخلى سبيله ، ثم قال ـ لمن حضره من المسلمين ـ : لقد صمت طويلا لعل أحدكم يقوم إليه فيضرب عنقه كمثل ما أمرت فما فعلتم؟ قالوا : يا رسول الله ، فلو كنت أشرت إلينا بمثل ذلك. فقال : إن النبيّ لا يقتل بالإشارة.

ولقى علي صلوات الله عليه الحويرث بن ثقيف وكان ممن نذر رسول الله صلوات الله عليه وآله دمه يومئذ ، وكان الحويرث يثق بعلي صلوات الله عليه. فقال له علي صلوات الله عليه : يا عدوّ الله أنت هاهنا؟ فقال الحويرث : ابق عليّ يا ابن أبي طالب.

فقال : لا بقيت إن أبقيت عليك. وقتله.

ودخل علي صلوات الله عليه على اخته أم هاني بنت أبي طالب ، فأصاب عندها رجلين(٢) ممن نذر رسول الله صلوات الله عليه وآله دمهما من بني مخزوم قد استجارا بها لصهر كان بينهما فلما رآهما علي صلوات الله عليه أخذ سيفه وقام إليهما ليقتلهما ، فقامت أم هاني دونهما ، وقالت : يا أخي إني قد أجرتهما ، قال : إن رسول الله صلوات الله عليه وآله قد أمر

__________________

(١)( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) سورة الأنعام : الآية ٩٣.

(٢) قال الواقدي في المغازي ٢ / ٨٢٩ : وهما : عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والحارث بن هشام. أما ابن هشام فقد قال في السيرة ٤ / ٤٠ هما : الحارث وزهير بن أبي أميّة بن المغيرة.

٣٠٧

بقتلهما ، ولو كانا تحت أستار الكعبة. فقبضت على يده ـ وكانت ايدة شديدة ـ فلوتها حتى انتزعت السيف من يده ، فأمسكته ، وأمرت بهما ، فدخلا بيتا وغلقت عليهما ، ومضت الى رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فلما رآها رحّب بها وسألها عن حالها. فأخبرته الخبر. فضحك. وقال : قد أجرنا من أجرت يا أم هاني. فأرسل الى علي صلوات الله عليه فأتاه ، فضحك إليه ، وقال : غلبتك أم هاني؟ فقال : يا رسول الله والذي بعثك بالحقّ نبيّا لا قدرت على أن أمسك السيف حتى خلّصته من يدي ، فضحك رسول الله ، وقال : لو أن أبا طالب ولد الناس كلهم لكانوا أشداء أقوياء.

وأخذ علي صلوات الله عليه يومئذ مفتاح الكعبة. فجاء به رسول الله صلوات الله عليه وآله وقال : يا رسول الله هذا مفتاح الكعبة ، فإن رأيت أن تعطيناه لتجمع لنا السقاية والحجابة ، فافعل. فقال : يا علي اعطيكم ما هو أفضل من ذلك ما أعطانا الله من فضله وهذا يوم بر ووفاء ، وانما اعطيكم ما يزدرون لا ما ترزءون. فادفع المفتاح الى عثمان بن طلحة. فدفعه إليه. وقال : رضينا ما رضيته لنفسك وإنا معك يا رسول الله.

٣٠٨

[ غزوة بني جذيمة ]

ولما فتح رسول الله صلوات الله عليه وآله واستقرّ قرار أهلها بعث رسول الله صلوات الله عليه وآله قوما يدعون العرب الى الله والى رسوله ليدخلوا فيما دخل فيه أهل مكة ، وكان فيمن بعثه خالد بن الوليد ، ولم يأمرهم بقتال أحد ، فأتى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة ومعه كتيبة ، فلما رأوه أخذوا السلاح. فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب أوزارها ، وإنما أرسلنا رسول الله صلوات الله عليه وآله لندعو الناس الى الإسلام ولم يأمرنا بقتال أحد. فوضعوا سلاحهم خلا رجل منهم يقال له : جحدم فإنه قال : ويحكم فإنه خالد. والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسر وما بعد الأسر إلا ضرب الأعناق. فقاموا بأجمعهم عليه وقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ، إن الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح. فقال : والله لا أضع سلاحي ، فغلبوا عليه ، وانتزعوا السلاح من يده ، فلما وضعوا سلاحهم ، أمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم جماعة ، وبلغ رسول الله صلوات الله عليه وآله الخبر. فقام قائما ، ورفع يديه الى السماء ، وقال : اللهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد. ثم دعا عليا صلوات الله عليه ، وقال : يا علي اخرج الى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. ودفع إليه مالا ، وقال له : اعقل لهم من قتل

٣٠٩

منهم وارجع إليهم ثمن ما اخذ منهم وانصفهم ، فخرج علي صلوات الله عليه فودى إليهم عقل الدماء وثمن ما اصيب من الأموال حتى أنه ليعطيهم ثمن ميلغة الكلب(١) حتى إذا لم يبق لهم شيء من دم ولا مال إلا وفاه إليهم ، قال : هل بقى لكم شيء؟؟ قالوا : لا. قال : فإنه قد بقيت معي بقية من المال الذي وجهه معي رسول الله صلوات الله عليه وآله فخذوها احتياطا لرسول الله صلوات الله عليه وآله ودفع إليهم مالا كان قد بقى بعد الذي دفعه إليهم ، فأخذوه ، وشكروه ، ودعوا له بخبر.

ثم أتى النبيّ صلوات الله عليه وآله ، فأخبره بالخبر. فقال : أحسنت يا علي وأصبت أصاب الله بك المراشد ، ثم توجه الى القبلة قائما رافعا يديه الى السماء ـ حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه ـ يقول : اللهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد ـ ثلاث مرات ـ.

وإنما فعل ذلك بهم خالد لأنهم كانوا قتلوا عمّه الفاكهة بن المغيرة في الجاهلية ، وبلغ رسول الله صلوات الله عليه وآله أن خالد بن الوليد فخر على بعض أصحابه بما أنفقه في سبيل الله. فقال له رسول الله صلوات الله عليه وآله : دع عنك أصحابي يا خالد فو الله لو كان لك احد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته.

فهذا ما ساقه أصحاب السير(٢) مما كان من أمر علي صلوات الله عليه في فتح مكة.

__________________

(١) ميلغة الكلب : مسقاة تصنع من خشب ليلغ فيها الكلب.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٥٥.

٣١٠

[ غزوة حنين ]

فأما ما كان منه صلوات الله عليه في يوم حنين ، فإن رسول الله صلوات الله عليه وآله لما افتتح مكة وسمعت بذلك هوازن اتقوا على أنفسهم ، فجمعهم مالك بن عوف النصري وكان سيدهم يومئذ وكان فيهم دريد بن الصمة [ الجشمي ] شيخا كبيرا قد خرف(١) ، فأخرجوه لمعرفته في الحرب وليأخذوا من رأيه(٢) واجتمعوا على تقديم مالك بن عوف ، فجمعهم ونزل بهم أوطاس وكان مالك بن عوف قد أمرهم فساقوا معهم الأهل والمال ، وكان دريد قد كفّ بصره وصار كالفرخ على بعير يقاد به ، فلما نزلوا ، قال : أين نزلتم؟؟ قالوا : بأوطاس. قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ولا سهل دهس.

[ ضبط الغريب ]

( الحزن : الوعر. والضرس : ما خشن من الاكام والأخاشيب. والدهس والدهاس : المكان اللين من الارض الذي يغيب فيه قوائم الدواب ).

__________________

(١) وهو يومئذ ابن ستين ومائة سنة. المغازي ٢ / ٨٨٦.

(٢) أقول : في العبارة نوعا من التناقض فانه يؤخذ من رأيه تناقض قد خرف. والظاهر أن كلمة قد حرف تصحيف كما هو ظاهر من كتب السير ففي المغازي ٢ / ٨٨٦ : وكان شيخا مجربا. وكذلك في سيرة ابن هشام ٤ / ٦٠.

٣١١

مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وثغاء الشاة وبكاء الصغير. قالوا : لأن مالكا أمر الناس بالمجيء بالأهل والمال. قال : ادعوه لي. فدعوه. فقال : يا مالك قد أصبحت رئيس قومك ، وهذا يوم كائن لما بعده من الأيام ، فلم سقت مع الناس نساءهم وأموالهم. قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله يقاتل عنهم. قال دريد : وهل يرد بذلك المنهزمة إن كانت والله لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك وقومك ، فأرجع الأهل والمال الى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم. ثم الق عدوك على متون الحيل ، فإن كانت لك لحق بك وراءك(١) ، وإن كانت عليك كنت قد احرزت أهلك ومالك. فكره مالك أن يكون لدريد في ذلك أمر ، فلاطفه في القول ، وقال لهوازن : هذا شيخ قد كبر وكبر عقله. فأحسّ ذلك منه دريد. فقال شعرا :

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع(٢)

وكان ذلك مما هيّئه الله ويسّره من أموالهم ليفيئه على رسوله صلوات الله عليه وآله ، فسار رسول الله صلوات الله عليه وآله إليهم في اثنى عشر ألف مقاتل ، وذلك أنه قدم مكة في عشرة آلاف وخرج معه منها ألفان ، فلما قرب من المشركين وهم بحنين تفرقوا له وكمنوا له في واد على طريقه إليهم سبقوه إليه ـ وفيه شعاب ومضايق ـ ، فلما صار المسلمون فيه وقد أعجبتهم ـ كما قال الله

__________________

(١) وفي نسخة الأصل : قومك.

(٢) وأضاف ابن هشام ٤ / ٦١ والقمي في تفسيره ١ / ٢٨٦ :

أقود وطفاء الزمع

كأنها شاة صدع

الجذع : الشاب الحدث ، ويريد به منا قوة الشباب ، الوطفاء : الطويلة الشعر. والشاة : الوعل.

صدع : متوسط بين العظيم والحقير.

٣١٢

عز وجل ـ كثرتهم(١) لم يشعروا إلا بكتائب المشركين قد خرجت إليهم من تلك الشعاب والمضايق ، وشدوا عليهم شدة رجل واحد ، فانشمروا راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد.

( قوله : انشمروا : أي انقبضوا ، ومنه تشمير الثوب ).

وثبت رسول الله صلوات الله عليه وآله في خمسة من بني عبد المطلب. وعلي صلوات الله عليه شاهر سيفه ، يحميه ويضرب دونه ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله صلوات الله عليه وآله وكان يومئذ راكبا على بغلة ، وقال رسول الله صلوات الله عليه وآله للعباس ـ وكان رجلا صيتا ـ : ناد بالناس وعرّفهم مكاني ، وقد أمعن الناس في الهزيمة كما أخبر الله عز وجل بقوله : «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ » (٢) يعني الذين ثبتوا مع رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فظهر من المنافقين يومئذ ما يسرّونه ، فأخرج أبو سفيان أزلاما من كنانته فضرب بها ، وقال : إني أرى أنها هزيمة لا يردها إلا البحر. وقال آخرون منهم(٣) : اليوم بطل السحر. وهمّ شيبة ابن عثمان بن أبي طلحة بأن يقتل رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وقال : اليوم أدرك ثأر أبي ، وكان أبوه قتل ببدر ، قال : فتغشى فؤادي شيء لم أملك معه نفسي ، فعلمت أنه ممنوع مني. ونظر علي صلوات الله عليه وهو يجالد بين يدي رسول الله صلوات الله عليه وآله ويذب عنه الى صاحب لواء المشركين وهو من هوازن على جمل والراية معه وهو يطعن بها في المسلمين وقد تضايقوا في وعرهم

__________________

(١) التوبة : ٢٥.

(٢) التوبة : ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) وهم : كلدة وجبلة ابنا الحنبل.

٣١٣

منهزمين. فأهوى علي صلوات الله عليه الى صاحب الراية(١) من خلفه فضرب عرقوبي جمله بالسيف فحلهما(٢) فوقع الجمل على عجزه ، وسقط صاحب الراية عنه فعلاه بالسيف فقتله ، فصار حدا والجمل حدا بين المسلمين والمشركين. ونادى العباس ـ بأعلى صوته ـ يا معشر المسلمين ، يا معشر المهاجرين والأنصار يا أصحاب الشجرة ويا أهل بيعة الرضوان هلمّوا الى نبيكم ، فهذا هو!. فجعلوا ينادون من كل جانب : لبيك لبيك!. ولم يكونوا ظنوا إلا أن رسول الله صلوات الله عليه وآله قد قتل ، أو رجع فيمن رجع ، فجعل الرجل منهم يريد أن يصل إليه بفرسه أو على بعيره فلا يقدر لضيق المكان وازدحام الناس ، فيأخذ سلاحه ثم يرمي بنفسه عن مركبه ويدعه ويأتي رسول الله صلوات الله عليه وآله ولما اصيب صاحب لواء المشركين ولم يقدروا على أن يقيموا غيره مكانه انحلّ نظامهم واضطربوا وضرب الله عز وجل في وجوههم وأيّد رسوله بجنود لم تروها كما أخبر سبحانه ، فما رجع آخر الناس من الهزيمة إلا والأسارى بين يدي رسول الله مكتوفين والغنائم قد حيزت ، وكان من علي صلوات الله عليه يومئذ من البلاء ما لم يكن لأحد مثله ، وقامت الأنصار فيه لما انصرفوا مقاما حسنا.

[ مقتل دريد ]

ولحق يومئذ ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة وهو على جمل في شجار.

( والشجار : خشب الهودج فاذا غشي صار هودجا ).

__________________

(١) وهو أبو جرول وكانت يرتجز :

أنا أبو جرول لا براح

حتى نبيح القوم أو نباح

فضربه علي صلوات الله عليه وهو يقول :

قد علم القوم لدى الصباح

إني في الهيجاء ذو نصاح

(٢) وفي الأصل : فقدهما.

٣١٤

فتوهم انه امرأة ، فأخذ بخطام الجمل وأناخه ، فإذا هو بشيخ كالفرخ ، فأخذ السيف وتقدم إليه ليقتله. فقال له دريد : ما ذا تريد؟؟ قال : أقتلك! ، قال : ومن أنت؟؟ قال : أنا ربيعة بن رفيع السلمي ، فضربه بسيفه فلم يصنع السيف فيه شيئا. فقال له دريد : بئسما أسلحتك امّك! خذ سيفي فهو في مؤخر الرحل في الشجار ، ثم اضرب به فارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كنت كذلك أضرب الرجل ، ثم اذا أتيت امّك فأخبرها إنك قتلت دريد بن الصمة وكثيرا ما منعت من نسائكم ، فقتله ثم أخبر أمه!. فقالت له : ويلك والله لقد أعتق من امّهاتك ثلاثا من الأسر.

[ الغنائم ]

وأصاب رسول الله صلوات الله عليه وآله من سبي هوازن ستة هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشاة ما لا يدرى عدته. فقسم رسول الله كثيرا من سبيهم ، ثم وفد منهم على رسول الله صلوات الله عليه وآله وقد أسلموا. فقالوا : يا رسول الله ، إنا ونساءنا أهل مال وعيال وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا بفضلك فإنما نساءنا عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك ( يعنون : إنه كان صلوات الله عليه وآله استرضع فيهم ) ، وقالوا : يا رسول الله لو كنا ملحنا ( أي : أرضعنا ) الحارث بن أبي شمّر أو النعمان بن المنذر ثم نزل بنا مثل الذي نزل لرجونا عطفه وعايدته علينا وأنت خير المكفولين. فقال لهم رسول الله صلوات الله عليه وآله أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟ قالوا : يا رسول الله إن خيّرتنا بين أموالنا ونسائنا ، فنساؤنا وأبناؤنا أحبّ إلينا. فقال لهم رسول الله صلوات الله عليه وآله : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صلّيت الظهر بالناس ـ وكان ذلك بمكة ـ فقوموا وقولوا : إنا نستشفع برسول الله الى المسلمين وبالمسلمين الى

٣١٥

رسول الله في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم ذلك وأسأل لكم.

فلما صلّى رسول الله صلوات الله عليه وآله بالناس الظهر بمكة ، قاموا ، فتكلموا بالذي أمرهم به. فقال صلوات الله عليه وآله : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله صلوات الله عليه وآله ، وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم ، فلا. وقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة ، فلا. وقال عباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم ، فلا. فقالت بنو سليم : بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : أما من تمسك منهم بحقه من أهل السبي ، فله بكل نسمة منه سنة فرائض ( يعني من الغنيمة ) فرد الناس عليهم أبناءهم ونساءهم. وقسّم رسول الله صلوات الله عليه وآله المال على الناس. ونادى مناديه أدّوا الخياط والمخيط.

وكان عقيل بن أبي طالب قد دخل يومئذ على امرأته(١) وسيفه متلطخ بالدم. فقالت له : قد عرفت أنك قد قاتلت ، فما ذا أصبت من الغنيمة. فقال : دونك هذه الابرة تخيطي بها ، فاقتلع ابرة من ثوبه ، فدفعها إليها ، ثم سمع منادي رسول الله صلوات الله عليه وآله وهو يقول : أدّوا الخياط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا يوم القيامة. فقال عقيل لامرأته : لا أرى ابرتك إلا وقد فاتتك ، فأخذها ورمى بها في المغنم.

[ عطاء المؤلّفة قلوبهم ]

وأعطى رسول الله صلوات الله عليه وآله المؤلّفة قلوبهم من الغنائم ما يستميلهم بذلك في الإسلام ، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل. قالوا : وقد

__________________

(١) وهي فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة.

٣١٦

كان ممن أعطاه ذلك أبو سفيان ابن حرب ومعاوية ابنه ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث بن كلدة ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وخويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن حارثة ، وعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، ومالك بن عوف ، وصفوان بن أميّة فهؤلاء أكابر المؤلّفة قلوبهم يومئذ وأعطى آخرين منهم دون ذلك.

[ إسلام مالك بن عوف ]

وسأل رسول الله صلوات الله عليه وآله عن مالك بن عوف ـ سيد هوازن يومئذ ـ ما فعل؟؟ فقالوا : لحق بالطائف وتحصّن بها مع ثقيف يا رسول الله. قال : فأخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل. فاخبر بذلك. فخرج من الطائف متسلّلا عن ثقيف لئلاّ يعلموا به فيحبسوه. وأتى رسول الله صلوات الله عليه ، فردّ عليه أهله وماله وزاده مائة من الإبل ، وأسلم وحسن إسلامه.

وتكلّم الناس فيما أعطاه رسول الله صلوات الله عليه وآله المؤلّفة قلوبهم على ضعف إسلامهم. فقيل إن قائلا قال : أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة من الإبل وتركت جعيل بن سراقة. فقال صلوات الله عليه : أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما على الإسلام ووكلت جعيلا الى إسلامه.

( الطلاع : ما طلعت عليه الشمس من الأرض. يقال منه لو كان لي طلاع الأرض مالا لافتديت به من هول المطلع ).

وبلغه صلوات الله عليه وآله مثل ذلك من الأنصار ، فجمعهم ، ثم قال : يا معشر الأنصار ما مقالة بلغني عنكم أوجدة أوجدتموها في أنفسكم لما اعطيته

٣١٧

المؤلّفة قلوبهم. أفلم تكونوا(١) ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألّف بين قلوبكم؟؟ قالوا : لله ولرسوله المنّ والفضل. قال : ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟؟ قالوا بما ذا نجيبك يا رسول الله؟؟ قال : أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم ، أتيتنا مكذوبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، فوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا ، تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم الى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله الى منازلكم ، فو الذي نفس محمد بيده لو لا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

( اللعاعة : بقلة ناعمة شبهها صلوات الله عليه وآله وضربها مثلا بنعيم الدنيا ، كما قال ـ في موضع آخر ـ : الدنيا حلوة خضرة ).

فهذه أخبار أهل السير من العامة وثقات أصحاب الحديث منهم عندهم يخبرون أن معاوية من المؤلّفة قلوبهم ويخبرون عن فضل علي صلوات الله عليه. ثم معاوية بعد ذلك ينافس عليا صلوات الله عليه في الإمامة ويدّعيها معه!!!.

[٢٨٥] ورووا أيضا في ذلك أن رجلا وقف ورسول الله صلوات الله عليه وآله يقسم غنائم حنين يومئذ ، وقد أعطى المؤلّفة ما أعطاهم. فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت منذ اليوم ، فلم أراك عدلت ، فغضب رسول الله صلوات الله عليه وآله. فقال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟؟ مضى الرجل. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله : يخرج من ضيضىء هذا! قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ : آثكم.

٣١٨

الدين كما يمرق السهم من الرمية ( يعني الخوارج ) وذكر أمرهم ، وسيأتي بتمامه في موضعه إن شاء الله تعالى.

فهذه غزوات رسول الله صلوات الله عليه وآله التي قاتل فيها المشركين لم يكن لأحد فيها من العناء والصبر والجلد والفضيلة مثل الذي كان لعلي صلوات الله عليه ، ثم علمت العرب أنه لا طاقة لها بحرب رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فجعلت وفودها تفد عليه مسلمين مؤمنين به. وخرج صلوات الله عليه وآله الى تبوك واستخلف عليا صلوات الله عليه ، وقد ذكرت ما كان منه إليه عند ما ذكر الناس من تخلّفه ، وقوله له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولم يتخلّف علي صلوات الله عليه عن رسول الله صلوات الله عليه وآله في غزوة غيرها. ولم يكن فيها قتال وإنما وادع رسول الله صلوات الله عليه وآله فيها أهل تبوك على إعطائهم الجزية ، فكتب بذلك لهم عهدا ، وانصرف الى المدينة.

٣١٩

[ سرايا الرسول ]

فأما ما أخرجه رسول الله صلوات الله عليه وآله من السرايا فانه لم يبق أحد من أصحابه إلا أخرجه في سرية وأمر عليه غيره غير علي صلوات الله عليه فانه لم يؤمر عليه أحد قط إبانة لفضله واستحقاقه الإمامة من بعده. وغزاه غزوتين ـ غزوة اليمن وغزوة بني عبد الله بن سعيد من أهل فدك ـ فأرضى الله ورسوله فيهما. وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلوات الله عليه وآله بعث اسامة بن زيد بن حارثة ، وقد نعيت نفسه إليه صلوات الله عليه وآله وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، وأوعب معه جميع المهاجرين الأولين لم يبق منهم أحدا غير علي صلوات الله عليه إلا وقد أمره بالنفور مع اسامة بن زيد.

فاعتلّ صلوات الله عليه وآله العلّة التي قبض فيها وقد برّر أسامة بأصحابه.

وكان آخر ما عهده أن قال : نفذوا جيش اسامة ولا يتخلف أحد ممن أنفذه معه أراد أن يصفو الأمر لعلي صلوات الله عليه وألا يعارض أحد فيه ، فتثاقلوا الى أن قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وكان من أمرهم ما قد كان.

فهذه جملة ما جاء في السير عن العامة في فضل جهاد علي صلوات الله عليه. ونحن نذكر نكتا بعد ذلك مما روي في مثله.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحث

ما يخلفه الإنسان بعد موته :

المستفاد من الرّوايات الشريفة ، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه ، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته ، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي ، فإن كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره ، وإن كانت شريرة فلا يجني منها سوى الهون والعذاب.

فعن الإمام الصادق ٧ ، أنّه قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثالث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي تعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له»(١) .

وفي رواية اخرى : «ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، مصحف يقرأ منه ، وقليب (بئر) يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجربه ، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده»(٢) .

فيما أكّدت بعض الرّوايات على (العلم) الذي يخلّفه بعده.(٣) وقد حذّرت كثير من الرّوايات من أن يسنّ الإنسان سنّة سيئة ، لأنّ الفاعل الأوّل ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.

وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة ، لينتفع الفاعل الأوّل لها بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.

وذكر العلّامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار إنّ سائلا قام على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل ، فسكت القوم ، ثمّ أنّ رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) منية المريد ، ص ١١.

٤٨١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استن خيرا فاستن به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه ، غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّا فاستن به فعليه وزره ، مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم» فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور ، هناك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ، وردّوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(٢) .

فتعكس هذه الآيات والرّوايات أبعاد مسئولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف السنين بعد موته!(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٦.

(٣) لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (٢٥) من سورة النحل.

٤٨٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) )

التّفسير

لا داعي للغرور :

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسئوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته ، وما لها من إكرام وأفضلية ، ثمّ جعله أمام «ربّ» «كريم» ، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب

٤٨٣

الإنسان لفضل كرمه

فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقّ لعاقل أن يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة ، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال : «غرّه جهله»(١) .

ومن هنا ، يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي ، وليس كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية ، على أنّه تلقين الإنسان عذره ، فيقول : غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض : «لو أقامك الله ويوم القيامة بين يديه ، فقال :( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة»(٢) .

فهذا ما يخالف تماما ، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته ، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه! «غرّك» : من (الغرور) ، و «الغرّة» : غفلة في اليقظة ، وبعبارة اخرى : غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة ، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور) : كلّ ما يغرّ الإنسان من مال ، جاه ، شهوة وشيطان ، وقد فسّر الغرور بالشيطان ، لأنّه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩ ؛ والدر المنثور ، وروح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي ، عند تفسير الآية المبحوثة.

(٢) المصدر السابق.

٤٨٤

وذكر في تفسير «الكريم» آراء كثيرة ، منها : إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسان ، وهو لا ينتظر منها أيّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها : هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها : هو من يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللهعزوجل ، فيكفي كرم الله جلالا أنّه لا يكتفي عن المذنبين ، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عند تلاوته لهذه الآية ، أنّه قال : (إن الإنسان) «أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنسك بهلكة نفسك؟

أمّا من دائك بلول (أي شفاء) ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا وبذكره آنسا ، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره ، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! ...»(١) .

وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان :( الَّذِي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٤٨٥

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما (١) شاءَ رَكَّبَكَ ) .

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة أصل الخلقة ، التسوية ، التعديل ، ومن ثمّ التركيب.

ففي مرحلة الاولى : يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.

وفي مرحلة الثّانية : مرحلة «التسوية والتنظيم» وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه ، عروقه وسائر أعضاءه ، وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية ، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف ، ولا زالوا في أوّل الطريق

وفي المرحلة الثّالثة : يكون التعديل بين «القوى» و «الأعضاء» وتحكيم الارتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين ، فـ اليدين ، الرجلين ، العينين ، الأذنين ، العظام ، العروق ، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر ، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس ، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء ، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلّا بعد أن يؤدّي كلّ من : الأسنان ، اللسان ، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به ، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء ، لينتج منه القوّة

__________________

(١) «ما» : زائدة ، واحتملها البعض (شرطية) ، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

٤٨٦

اللازمة للحركة والفعالية

وكلّ ما ذكر ، وغيره كثير ، قد جمع قصيرة رائعة( ... فَعَدَلَكَ ) .

وقيل : «عدلك» إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان ، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات ، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة : تكون عملية «التركيب» وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبة إلى بقية الموجودات.

نعم ، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات ، وأعطى الإنسان فطرة سليمة ، وركّبه بشكلّ يكون فيه مستعدا لتلقي كلّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٢) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) ، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

ومع الاختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات ، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته ، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمّنة.

وتلخص الآية (٤) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

والخلاصة : فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مرورا بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكلّ حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولا بدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته ،

٤٨٧

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة :( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) .

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(١)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين ، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية ، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد ، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

«الدين» : يراد به هنا ، الجزاء يوم الجزاء ، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات ، لأنّها تتحدث عن «المعاد».

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولا بدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) (٢) .

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم :( كِراماً كاتِبِينَ ) .

( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

و «الحافظين» : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٧) من سورة (ق) بالرقيب العتيد :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، كما وذكرتهم الآية (١٦) من نفس السورة :( إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) «كلا» حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم ، لكن أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك ، وأهمها ما ذكر أعلاه ، أي أن «كلا» جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط. وهو ما ورد بعد «بل» وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة : بل) ، وقال بعد ذكره للآية : قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

(٢) قيل : إن «الواو» هنا حالية ، كما في روح المعاني وروح البيان ، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

٤٨٨

الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) .

وثمّة آيات قرآنية اخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللهعزوجل على أعمال الإنسان ، ممّا لا شك فيه ، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيّ أحد ، وأدق من كلّ شيء ، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسئولية ما يؤديه ، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب ، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلّ جهة ، وذلك ذيل الآيتين (٢٠ و٢١) من سورة فصّلت ، ونوردها هنا إجمالا ، وهي على سبعة أقسام.

أوّلا : ذات الله المقدّسة ، كما في قوله تعالى :( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

ثانيا : الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، بدلالة قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ثالثا : أعضاء بدن الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

رابعا : جلد الإنسان وسمعه وبصره ، بدلالة قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

خامسا : الملائكة ، بدلالة قوله تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

(٣) النور ، الآية ٢٤.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

٤٨٩

وَشَهِيدٌ ) (١) ، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.

سادسا : الأرض المكان الذي يعيش عليه الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٢) .

سابعا : الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان ، بدلالة ما روي عن الإمام عليعليه‌السلام في وقوله : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد»(٣) .

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي : إنّ شخصا سأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللهعزوجل عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك يشهد ، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر اللهعزوجل »(٤) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (١) من سورة فاطر ـ فراجع).

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٢١.

(٢) الزلزال ، الآية ٤.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧٣٩ (مادة : يوم).

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٢.

٤٩٠

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم «كرام» ، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله ، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير ، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر «كاتبين» للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر :( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام ، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان ، وتشير إلى كونه مختارا ، وإلّا فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضا إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي ، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسئوليته ويعمل بدروه.

* * *

بحث

كتبة صحائف الأعمال :

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان ، والكاتبين لها بخيرها وشرّها ، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

١ ـ سؤال عبد الله بن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأبيه عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟».

٤٩١

قال : لا.

قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين ، قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»(١) .

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان ، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه ، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّا ، ولا يفوتهم شيئا إلّا وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضا ، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف : «إنّما الأعمال بالنيات» للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضا ، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل ، فلسانه القلم وريقه المداد!

٢ ـ وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة ، ومنها : «إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».(٢)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان ، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة فنيّته السيئة لا تسجل عليه ، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل ، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٢٩ ، باب «من يهمّ بالحسنة أو السيئة» الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١ ـ ٢.

٤٩٢

له وفق اللطف والتفضل الإلهي

٣ – وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «يهمّ العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن عملها اجّل سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإن اللهعزوجل يقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، أو الاستغفار فإنّ هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم»(١) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما»!(٢)

٥ – وفي خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى الله : «اعلموا عباد الله ، إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج «أي إحكام» ، وإنّ غدا من اليوم قريب»(٣) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٤.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ، الحديث ٢ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٩٣

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

التّفسير

«يوم لا تملك نفس لنفس شيئا» :

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كلّ من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) .

والثّانية :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .

«الأبرار» : جمع (بار) و «برّ» على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ، و (البرّ) بكسر الراء ـ كلّ عمل صالح والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم» : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا «الجنّة» ، وجاءت بصيغة

٤٩٤

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة ، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلّا الله سبحانه وتعالى ، واختيرت كلمة «نعيم» بصيغة الصفة المشبهة ، للتأكيد على بقاء واستمرار هذه النعمة ، لأنّ الصفة المشبهة عادة ما تتضمّن ذلك.

«الفجّار» : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل ، أيّ شقّه بنور الصباح ، و (الفخور) : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم» : من (الجحمة) ، وهي تأجج النّار ، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم) على جهنّم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّا ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار ، كما يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وقال بعض : المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي ، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية ، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

فالمعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، إلّا أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال ، والله العالم.

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار :( يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ) .

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حاليا ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون» : من (المصلى) على وزن (سعي) ، و «صلى النّار» : دخل فيها ، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع ، فإنّه يدل على الاستمرار

٤٩٥

والملازمة في ذلك الدخول.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية :( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

اعتبر كثير من المفسّرين كون الآية دليلا على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد بـ «الفجّار» هم «الكفّار» ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار» : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذيبهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ أولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا ، من كون هؤلاء يعيشون جهنّم حتّى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا( ... وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) ، فحياتهم بحدّ ذاتها جهنّما ، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث الشريف) ، وعليه فجهنّم القبر والبرزخ وجهنّم الآخرة كلّها مهيأة لهم.

كما وتبيّن الآية أيضا : إنّ عذاب أهل جهنّم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كلّ ما له من علم بـ القيامة ، المبدأ ، المعاد فكيف يا ترى حال الآخرين؟!!

والآيات قد بيّنت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة ، بحيث لا يصل لحدّها أيّ وصف أو بيان ، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنّة ، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة

٤٩٦

لحقيقة عذاب جهنّم ، وعموما لا يمكننا إدراك ما سيجري من حوادث في ذلك اليوم الرهيب المحتوم.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم ، وبجملة وجيزة ، لكنها متضمّنة لحقائق ومعان كثيرة :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) .

فستتجلّى حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهّار ، وستبان حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كلّ من تنكر لهذه الحقيقة الحقّة ، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميرا ورئيسا أو حاكما ، وسينهار أولئك البسطاء الذين اعتبروا أن قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

وتشهد على الحقيقة ـ بالإضافة إلى الآية المذكورة ـ الآية (١٦) من سورة المؤمن حيث تقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

وتشير الآية (٣٧) من سورة عبس إلى انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم دون كلّ الأشياء الاخرى ، ولو قدّر أن يمنح قدرا معينا من القدرة ، لما نفع بها أحد دون نفسه! ، حيث تقول الآية :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

حتّى روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه تناول ذلك الموقف بقوله : (إن الأمر يومئذ واليوم كله لله ، ...) وإذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلّا الله»(١)

وهنا يواجهنا السؤال التالي : هل يعني ذلك ، إنّ الآية تتعارض وشفاعة الأنبياء والأوصياء والملائكة؟

ويتّضح جواب السؤال المذكور من خلال البحوث التي قدمناها بخصوص موضوع (الشفاعة) فقد صرّح الحكيم في بيانه الكريم ، إنّ الشّفاعة لن تكون إلّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٠.

٤٩٧

بإذنه ، وإنّ الشّفاعة غير مطلقة ، حسب ما تشير إليه الآية (٢٨) من سورة الأنبياء( لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) اللهم! إنّ الخلائق تنتظر رحمتك ولطفك في ذلك اليوم الرهيب ، ونحن الآن نتوقع لطفك.

إلهنا! لا تحرمنا من الطافك وعناياتك في هذا العالم والعالم الآخر.

ربّنا! أنت الحاكم المطلق في كلّ مكان وزمان ، فاحفظنا من التورط في شباك الذنوب والسقوط في وادي الشرك واللجوء الى الغير

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الإنفطار

انتهى المجلد التاسع عشر

* * *

٤٩٨

الفهرس

سورة المعارج

محتوى السورة ٥

فضيلة هذه السورة ٦

تفسير الآيات : ١ ـ ٣ ٧

سبب النّزول ٧

العذاب العاجل ٩

ملاحظة

إشكالات المعاندين الواهية ١٠

تفسير الآيات : ٤ ـ ٧ ١٤

يوم مقداره خمسين ألف سنة ١٤

تفسير الآيات : ٨ ـ ١٨ ١٧

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٨ ٢١

أوصاف المؤمنين ٢١

تفسير الآيات : ٢٩ ـ ٣٥ ٢٧

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة ٢٧

تفسير الآيات : ٣٦ ـ ٤١ ٣٢

الطمع الواهي في الجنّة ٣٢

٤٩٩

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب ٣٥

تفسير الآيات : ٤٢ ـ ٤٤ ٣٧

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام ٣٧

«سورة نوح»

محتوى سورة ٤٣

فضيلة هذه السورة ٤٤

تفسير الآيات : ١ ـ ٤ ٤٥

رسالة نوح الأولى ٤٥

ملاحظة

العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر ٤٧

تفسير الآيات : ٥ ـ ٩ ٤٨

استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم ، ولكن ٤٨

ملاحظتان

١ ـ أسلوب الإبلاغ ومنهجه ٥١

٢ ـ لماذا الفرا من الحقيقة ٥١

تفسير الآيات : ١٠ ـ ١٤ ٥٣

ثمرة الإيمان في الدنيا ٥٣

ملاحظة

الرّابطة بين التقوى والعمران ٥٥

تفسير الآيات : ١٥ ـ ٢٠ ٥٨

٥٠٠

501

502