شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار الجزء ١

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار11%

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 502

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 502 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187777 / تحميل: 9852
الحجم الحجم الحجم
شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار

شرح الأخبار في فضائل الائمة الاطهار الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

على مثالهما. وأسرعت في قتل من خالفها(١) من المسلمين وتتابعت الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة(٢) اوجّه إليهم السفراء والنصحاء وأطلب إليهم العتبى بجهدي(٣) بهذا مرة ، وبهذا مرة ، وبهذا مرة ، وبهذا مرة ـ وأومأ بيده الى الأشتر والأحنف بن قيس ، وسعيد بن قيس [ الأرحبي ] والأشعث [ بن قيس ] الكندي.

فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله عز وجل عن آخرهم ـ وهم أربعة آلاف أو يزيدون ـ حتى لم يبق منهم مخبر. ثم استخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترون له ثدي كثدي المرأة(٤) .

فهذه سبع مواطن ، امتحنت فيها بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وبقيت الاخرى واوشك بها أن تكون.

قالوا : يا أمير المؤمنين وما هذه الاخرى؟؟

قال : أن تخضب هذه ـ وأشار إلى لحيته ـ من هذه ـ وأومأ الى هامته عليه الصلاة السلام ـ.

فارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، والضجيج في المسجد ـ الجامع بالكوفة ـ حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعا من الضجيج.

[ تنبيه ]

ولعل من قصر فهمه ، وقلّ عقله إذا سمع ما في هذا الباب من رغبة علي

__________________

(١) وفي الأصل : خالفهما.

(٢) اسم نهر في العراق.

(٣) وفي الأصل : كهدي. والعتبي : الرجوع عن الإساءة الى المسيرة.

(٤) وقد أورد المؤلّف في الجزء الخامس روايات عديدة حول ذي الثدية.

٣٦١

صلوات الله عليه في أمر الإمامة(١) ، واحتجاجه على من دفعه عن ذلك يتوهم أن ذلك منه رغبة في الدنيا ، وقد علم الخاص والعام بلا اختلاف منهم : زهده كان عليه الصلاة والسلام فيما قبل أن يلي الأمر ، ومن بعد أن وليه.

وإنما كان ذلك منه لأن الإمامة قد عقدها له رسول الله صلوات الله عليه وآله بأمر الله جلّ ذكره ، كما ذكرت في غير موضع من هذا الكتاب ، وهي(٢) فضيلة من الله عزّ وجلّ لمن أقامه لها ، فليس ينبغي لمن آثره الله عزّ وجلّ بها واختصّه بفضلها رفضها ولا دفعها ولا التخلّف عنها ، كما لا ينبغي مثل ذلك أن يفعله من آثره الله عزّ وجلّ بفضل النبوة من أنبيائه ، وقد قاموا بذلك صلوات الله عليهم أجمعين مغتبطين بذلك راغبين فيه ، وجاهدوا عليه وبذلوا أنفسهم دونه.

وليس سبيله في ذلك عليه الصلاة والسلام سبيل من لم يعهد إليه رسول الله صلوات الله عليه وآله فيه ولا أمره به ولا أقامه له. والحجة في هذا وفي تحكيم الحكمين وقتال من قاتله تخرج عن حدّ هذا الكتاب ، وقد ذكرنا ذلك في غيره.

__________________

(١) وفي الأصل : أمر الامّة.

(٢) وفي الأصل : فيه.

٣٦٢

[ من منابع الاختلاف ]

فهذه جملة اختصار ذكر من حاربه صلوات الله عليه ، وكيف تصرّف به الحال بعد النبي صلوات الله عليه وآله. وفي جملة ما حكاهعليه‌السلام من هذا القول الذي ذكرناه ، وقع الاختلاف بين الامّة بعد النبيّ صلوات الله عليه وآله.

[ يوم السقيفة ]

وكان أول اختلاف كان في الامة بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله ما جرى بين المهاجرين والأنصار يوم السقيفة ، إذ أراد الأنصار أن يقيموا منهم أميرا ، فخالفهم من جاءهم من المهاجرين.

فقالت الأنصار : فيكون منا أمير ومنكم أمير.

فاحتجوا عليهم بأن النبيّ صلوات الله عليه وآله قال : الإمامة في قريش. فسلّم الأنصار لهم ذلك خلا سعد بن عبادة.

وانقطعت دعوى الأنصار أن تكون مخصوصة بالإمامة دون غيرها! ( خلا سعد بن عبادة ورجال من أفناء العرب إذ لم يعلم ممن هو )(١) وتابع قولها قوم ،

__________________

(١) وما بين الهلالين لم يكن في نسخة ـ ب ـ.

٣٦٣

فزعموا أن الإمام يكون من أفناء الناس.

وفارقت الشيعة الجماعة الذين اجتمعوا على بيعة أبي بكر ، فأنكرت بيعة أبي بكر. وقالوا : الإمام بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله علي عليه الصلاة والسّلام. وبقي الاختلاف في ذلك الى اليوم.

والحجة في إمامة علي صلوات الله عليه يخرج عن حدّ هذا الكتاب ، وتقطع مما قصدت(١) إليه ، وقد بسطت ذلك في كتاب الإمامة.

[ مقتل ابن النويرة وأصحابه ]

ثم انفرد أبو بكر بقتال أهل الردة عنده ، وهم الذين منعوه زكاة أموالهم ، وخالفه سائر الناس في ذلك ، فاصرّ عليه ، وقال : لو منعوني عقالا لقاتلتهم عليه ، فتابعه قوم ، وبقي على خلافه جماعة منهم.

والاختلاف في ذلك باق الى اليوم.

ومن الناس من يرى أن قتالهم وفتنتهم كان صوابا.

ومنهم من يرى أن ذلك كان خطاء وظلما.

[ مقتل ابن عفان ]

ثم اختلفوا في أمر عثمان.

فرأى قوم قتله ، فقتلوه. ونصره قوم ، ولم يروا قتله ، وقعد عن نصرته ، وعن القيام عليه آخرون. فهذا الاختلاف في أمره باق الى اليوم(٢) .

ومن الناس من يرى أن القيام عليه لما أحدث ما أحدثه كان حقا و

__________________

(١) وفي الأصل : انقطع عن قصدته. وما نقلته من نسخة ـ ب ـ.

(٢) من : ثم اختلفوا باق الى اليوم لم يكن في نسخة ـ ب ـ.

٣٦٤

صوابا ، وقتله لما امتنع كذلك كان حقا وصوابا.

ومن الناس من أنكر القيام عليه ، ورأى أنه قتل مظلوما.

ومن الناس من يرى الإعراض عن ذلك وترك القول فيه هو الصواب والحق.

[ خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام ]

ثم بايع عليا صلوات الله عليه عامة المهاجرين والأنصار واتفق الناس عليه خلا من شذّ ومن تخلّف عنه للتقية على نفسه مثل معاوية بن أبي سفيان ونظرائه(١) والامّة [ ذلك ] اليوم مجمعون على استخلافه عليه الصلاة والسلام.

ثم افترقت عنه الخوارج بعد تحكيم الحكمين ، فزعموا أن إمامته سقطت من يومئذ ، وهم الى اليوم على ذلك ، والحجة عليهم تخرج أيضا عن حدّ هذا الكتاب وقد أفردت كتابا في الردّ عليهم ، فمن آثر النظر في ذلك وجده فيه.

فأما خروج عائشة وطلحة والزبير وخلافهم على علي صلوات الله عليه ، فقد انقطع ذلك الخلاف ولا أعلم أحدا تابعهم عليه.

فأما خلاف معاوية على علي صلوات الله عليه فقد تعلّقت به بنو اميّة ـ أعني المتوثبين منهم على الإمامة وأتباعهم ـ فهم على ذلك الى اليوم يتولّونه ويزعمون أنه كان مصيبا في خلافه ، والحجة على هؤلاء مذكورة في كتاب الإمامة الذي قدمت ذكره فمن آثر علم ذلك وجده فيه.

[ نتائج الاختلاف ]

ثم هذه الفرق التي ذكرناها تتشعب ويحدث في أهلها الاختلاف الى

__________________

(١) أمثال عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومروان بن الحكم.

٣٦٥

اليوم.

وأصلها ست فرق :

شيعة.

وعامة.

وخوارج(١) .

ومعتزلة(٢) .

ومرجئة(٣) .

وحشوية.

[ الشيعة ]

فالشيعة : هم شيعة علي صلوات الله عليه القائلون بإمامته.

وهم أقدم الفرق ، وأصلها الذي تفرعت عنه ، ورسول الله صلوات الله

__________________

(١) وقد تعرض المؤلّف الى هذه الفرق وردها في ارجوزته من ص ٣٨ ـ ص ٩٢.

(٢) وهم الذين اعتزلوا عن علي وامتنعوا من محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به ، وقالوا : لا يحلّ قتال علي ولا القتال معه.

(٣) وهم الذين تولّوا المختلفين جميعا ( معاوية وطلحة والزبير وعائشة ) وزعموا أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان ورجوا لهم جميعا المغفرة.

وهم أربع فرق :

١ ـ الجهمية : أصحاب جهم بن صفوان وهم مرجئة أهل خراسان.

٢ ـ الغيلانية : أصحاب غيلان بن مروان وهم مرجئة أهل الشام.

٣ ـ الماصرية : أصحاب عمرو بن قيس الماصر وهم مرجئة أهل العراق ومنهم « أبو حنيفة ».

٤ ـ الشكاك والبترية وهم أصحاب الحديث منهم سفيان بن سعيد الثوري وابن أبي ليلي. وهم الحشوية ، ومن أقوالهم : على الناس أن يجتهدوا آراءهم في نصب الإمام ، وجميع حوادث الدين والدنيا الى اجتهاد الرأي. وأنكره بعضهم.

٣٦٦

عليه وآله سماها بهذا الاسم. وقال : شيعة علي هم الفائزون. وقال لعليعليه‌السلام : أنت وشيعتك. في آثار كثيرة رويت عنه.

وسنذكر في هذا الكتاب ما يجري ذكره إن شاء الله تعالى. وغير ذلك من الفرق محدثة احدثت بعد النبيّ صلوات الله عليه وآله.

[ أهل السنّة والجماعة ]

والذي تعلّق العامّة به من قولهم : إنهم أهل السنّة والجماعة ، وإن النبي صلوات الله عليه وآله ذكر السنّة والجماعة وفضلهما(١) .

فالسنّة سنّة رسول الله صلوات الله عليه وآله لا يتهيأ لأحد أن يقول : إنها سنّة غيره. والجماعة الذين عناهم رسول الله صلوات الله عليه وآله بالفضل هم المجتمعون.

على القول بكتاب الله جلّ ذكره وسنّة رسوله الله صلوات الله عليه وآله ، « فأما من قال في دين الله والحلال والحرام والقضايا والأحكام برأيه وبقياسه واستحسانه وبغير ذلك مما هو من ذات نفسه ، فليس من أهل السنّة »(٢) ولا من الجماعة التي أثنى عليها رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وقد سئل صلوات الله عليه وآله عن السنّة والجماعة لمّا ذكرهما : ما هما؟. فقال : ما أنا عليه وأصحابي. وذلك أن أصحابه كانوا متّفقين عليه غير مختلفين ولا قائلين بشيء إلا بما جاء عن الله سبحانه وعن رسوله صلوات الله عليه وآله. فأهل السنّة والجماعة من كان على مثل ذلك متديّنا بإمامة إمام زمانه صلوات الله عليه يأخذ عنه ويطيعه كما أمر(٣) الله جلّ ذكره. والقول في مثل هذا والحجة فيه

__________________

(١) فجملة « ان النبي ذكر السنّة والجماعة » لم تكن في الأصل بل في نسخة ـ ب ـ.

(٢) ما بين الهلالين من نسخة ـ ب ـ.

(٣) وفي نسخة ـ ب ـ أخبر

٣٦٧

تطول وتتسع.

ولما ذكرنا في هذا الباب الذي رسمناه بذكر ـ حرب علي صلوات الله عليه من فارقه ـ جملة قوله في حروبه. رأينا بعد ذلك أن نذكر نكتا مما جاءت به الأخبار في ذلك والآثار كما شرطنا أن نذكر مثل ذلك في كل باب.

٣٦٨

[ خطبة علي عليه السلام بعد بيعته ]

[٣١٦] فمن ذلك ما روي عن علي صلوات الله عليه أنه خطب الناس بعد أن بايعوه بيومين بالخطبة التي رمز فيها بامثال ذكرها.

وهي ؛ أنه عليه الصلاة والسلام : حمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه بما هو أهله وصلّى على النبي صلوات الله عليه وآله ، وذكر فضله وما خصّه الله عزّ وجلّ به ، ثم قال :

أيها الناس اوصيكم بتقوى الله فإنها نجاة لأهلها في الدنيا وفوز لهم في معادهم في الآخرة ، وخير ما تواصى به العباد ، وأقربه من رضوان الله وخير الفوائد عند الله ، وبتقوى الله بلغ الصالحون الخير ، ونالوا الفضيلة وحلوا الجنة وكرموا على الله خالقهم جلّ وعز ، بتقواهم الذي به أمرهم.

ثم احذروا عباد الله من الله ما حذركم من نفسه ، واعملوا بما أمركم الله بالعمل به مجاهدين لأنفسكم فيه ، واضربوا عما حذركم منه ، وتناهوا عنه ، فإنه من يعمل لغير الله يكله الى من عمل له ، ومن يعمل لله بطاعته يتولّى الله أمره ، وإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يدع شيئا من أمركم سدى ، وقد سمى آجالكم وكتب آثاركم ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها غرارة لأهلها مغرور من اغترّ بها والى الفناء ما هي ، « وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون ». نسأل الله منازل الشهداء ومرافقة

٣٦٩

الأنبياء ، ومعيشة السعداء ، فإنما نحن به وله.

أما بعد ذلكم ، فإنه لما قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله استخلف الناس أبا بكر ، وقد استخلف أبو بكر عمر ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة من قريش أنا أحدهم ، فدار الأمر لعثمان ، وعمل ما قد عرفتم وأنكرتم ، وقد حصره المهاجرون والأنصار ، وإنما أنا رجل واحد من المهاجرين لي ما لهم وعليّ ما عليهم ، ألا وقد فتح الباب بينكم وبين أهل القبلة ، ولا يحمل هذا الأمر ولا يضطلع به إلا أهل الصبر والبصيرة(١) بمواضع الحق ، ألا إني حاملكم على منهاج نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما استقمتم عليه ، وركنتم إليه ، وماض لما امرت به ، والله المستعان.

أيها الناس ، موضعي من رسول الله صلوات الله عليه وآله بعد وفاته لموضعي منه في حياته ، ألا وإنه لم(٢) يهلك قوم ولّوا أمرهم أهل بيت نبيهم ـ أهل العلم والصفوة ـ ، ألا وإن مواريث الأنبياء عندي مجتمعة فاسألوني ( واسألوا واسللوا )(٣) فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن سألتموني عن العلم المخزون ، وعن علم ما يكون ، وعن علم ما لا تعلمون لأخبرتكم بذلك مما أعلمنيه النبي الصادق عن الروح الأمين عن ربّ العالمين.

أيها الناس ، امضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه ولا تعجلوا في أمر تنكرونه حتّى تسألونا عنه ، فإن عندنا لكل ما تحبون أمرا ، وفي كل ما تكرهون عذرا.

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ : والنظر بدل البصيرة.

(٢) وفي الاصل : لن.

(٣) ما بين الهلالين من نسخة ـ ب ـ.

٣٧٠

أيها الناس ، إن أول من بغى في الأرض ، فقتله الله لبغيه : عناق بنت آدمعليه‌السلام ، خلق الله لها عشرين إصبعا ، طول كل اصبع منها ذراعان وفي كل اصبع منها ظفران محددان(١) طويلان معقفان. وكان موضع مجلسها في الأرض جريبا(٢) [ فبغت في الأرض ثمانين سنة ] ، فلما بغت في الأرض خلق الله لها أسدا كالفيل ونسرا كالبعير وذئبا كالحمار [ فسلّطهم عليها فمزقوها ، فقتلوها ](٣) وأكلوها وأراح الله منها. [ ثم قتل الله الجبابرة في زمانها ] وقد قتل الله فرعون وهامان وخسف بقارون(٤) ثم قد عادت بليّتكم مثلها مذ قبض الله نبيكم صلوات الله عليه وآله.

ايم الله لتغربلن غربلة ثم لتبلبلن بلبلة ولتساطن كما يساط القدر(٥) حتى يصير أعاليكم أسافلكم وأسافلكم أعاليكم ، وليسبقن قوم قوما قد كانوا سبقوا(٦) ، أما والله ما انتحلت وصمة(٧) ولا كذبت كلمة(٨) . ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها. [ وخلعت لجمها ] ،

__________________

(١) وفي الاصل : مجردان. وأيضا : طويلان معممان.

(٢) الجريب وحدة مساحية تساوي ستين ذراعا مربعا.

(٣) هذه الزيادة في اثبات الوصية للمسعودي ص ١٢٦.

(٤) وقد أضاف المسعودي في نقله ما يلي : وخسف بقارون وقد قتل عثمان وكان حق لي حازه من لم آمنه عليه ، ولم أشركه فيه ، فهو منه على شفا حفرة من النار لا يستنقذه منها إلا نبي مرسل يتوب على يديه ، ولا نبي بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٥) لتبلبلن : لتخلطن ، لتغربلن : لتميزن. لتساطن : من السوط : وهو أن تجعل شيئين في الاناء وتضربهما بيديك حتى يختلط. سوط القدر : أي كما يختلط الابزار في القدر عند غليانه.

(٦) وقد نقل الشريف الرضي في نهج البلاغة الخطبة ١٦ مقاطع من هذه الخطبة [ التي نقلها المؤلّف ] باختلاف يسير مثلا هذه الجملة : وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا.

(٧) اي عيب.

(٨) وفي النهج : ولا كذبت كذبة ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم.

٣٧١

فاقتحمت بهم نار جهنم(١) . ألا وإن التقوى مطايا ذلل(٢) حمل عليها أهلها وأمكنوا من أزمتها ، فسارت بهم رويدا حتى أتوا ظلا ظليلا ، فتحدثوا فيه وتسألوا وفتحت لهم أبواب الجنة وظلل عليهم ظلها وروحها ووجدوا طيبها وقيل لهم ادخلوها بسلام آمنين.

أيها الناس إنه حقّ وباطل ولكلّ أهل ، فلئن قام الباطل فقديما ما فعل ، ولئن قام الحق فلربما ولعل ، ولقلما أدبر شيء فأقبل!(٣) ولقد خشيت أن تكونوا في فترة [ من الزمن ](٤) وما عليّ إلا الجهد وكانت امور مضت ملتم فيها عليّ ، ميلة واحدة كنتم عندي فيها غير محمودي الرأي ، أما إني لو شئت أن أقول لقلت : عفى الله عما سلف. سبق الرجلان ، وقام الثالث كالغراب همّه(٥) بطنه ، يا ويحه لو قصّ ريشه وقطع جناحاه(٦) شغل عن الجنة ، والنار أمامه. ثلاثة واثنان ليس لهم سادس ، ساع مجتهد ، وطالب يرجو(٧) ، ومقصر في النار ، وملك يطير بجناحيه ، ونبيّ أخذ الله ميثاقه ، هلك من ادعى ، وخاب من افترى ، اليمين والشمال مضلّتان(٨) ، [ والوسطى ] والطريق المثلى المنهج ، عليه تأويل

__________________

(١) خيل شمس : منع ظهره أن يركب. لجمها : عنان الدابة. فاقتحمت بهم نار جهنم : اردته فيها.

(٢) الذلل : جمع ذلول وهي الطائعة ، وأمكنوا من ازمتها : تغلّبوا على المصاعب والشدائد.

(٣) وقد أضاف الشريف الرضي في النهج ص ٥٥ هذه الجمل عقيب ما سبق : شغل من الجنة والنار أمامه ساع سريع نجا وطالب بطىء رجا ومقصر في النار هوى. اليمين والشمال مضلة.

(٤) إثبات الوصية للمسعودي ص ١٢٦. اي زمان الانقطاع عن الحجة.

(٥) وفي إثبات الوصية : همته.

(٦) وفي الإرشاد للمفيد ص ١٢٨ : ويله لو قصّ جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له.

(٧) وفي الإرشاد : شغل من الجنة والنار أمامه ساع مجتهد وطالب يرجو ومقصر في النار ثلاثة واثنان.

(٨) العمال خمسة :

٣٧٢

الكتاب [ والسنّة ](١) وآثار النبوة.

أيها الناس إن الله جلّ وعلا أدّب هذه الامّة بالسوط والسيف ـ ليس عند الإمام فيهما هوادة لأحد(٢) ، فاستتروا في بيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، فالموت من ورائكم والتوبة أمامكم(٣) ومن أبدى صفحته للحقّ هلك.

ألا وكل قطيعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو وجدته قد تزوج به النساء واشتري به الإماء وتفرق في البلدان لرددته على حاله فإن في الحقّ والعدل لكم سعة ، ومن ضاق به العدل فالجور به أضيق.

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم.

وكانت هذه الخطبة مما سرّ به وسكن إليه المؤمنون المخلصون ، وأهل الحق والبصائر. واستوحش منه المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، وكل من تطاعم الاثرة أو كان في يده شيء منها لما تواعد به علي صلوات الله عليه من استرجاع ذلك من أيديهم ، وردّه الى بيت مال المسلمين ،

__________________

١ ـ ساع في مرضاة الله مجتهد في إتيان أوامر الله.

٢ ـ وطالب عند الله يرجو الفوز والفلاح ـ فهو على سبيل النجاة ـ.

٣ ـ ومقصر فيما يقربه الى الله مفرط في نيل الشهوات فهو في النار.

٤ ـ وطائر طار الى رضوان الله بجناحيه.

٥ ـ ونبي أخذ الله بيده الى مراضيه.

ولا سادس لهم.

(١) هكذا في الإرشاد للمفيد.

(٢) اي رخصة لأحد.

(٣) وفي إثبات الوصية ص ١٢٦ : فإن التوبة من ورائكم.

٣٧٣

وتداخل قلوبهم لذلك بغضه عليه الصلاة والسلام واعتقدوا القيام عليه إن وجدوا سبيلا الى ذلك.

فلما قام طلحة والزبير انضوى إليهما من هذه حاله وصاروا معهما ، وكان سبب خروجها عليه صلوات الله عليه.

[٣١٧] فيما رواه محمد بن سلام ، بإسناده ، عن أبي رافع : أن عليا صلوات الله عليه لما افضي الأمر إليه بدأ ببيت المال فحصل جميع ما فيه ، وأمر [ أن ] يقسم ذلك على المسلمين بالسواء على مثل ما كان رسول الله صلوات الله عليه وآله يقسم ما اجتمع عنده من فيئهم ما يجب قسمته فيهم وكانوا بعد ذلك قد عوّدهم الذين ولّوا الأمر الاثرة والتفضيل لبعضهم على بعض.

فأمر علي صلوات الله عليه ـ من أقامه لقسمة ذلك(١) ـ أن يسوي بين الناس فيه ، وأن يعزلوا من ذلك سهما كسهم أحدهم(٢) ، ففعلوا.

وخرج الى ضيعته(٣) فأتاه طلحة والزبير ، وهو قائم في الشمس على أجير يعمل له في ضيعته. فسلّما عليه ، وقالا : أترى أن تميل معنا إلى الظل؟؟ ففعل. فقالا : إنا أتينا الذين أمرتهم بقسمة هذا المال بين الناس ، ومع كل واحد منا ابنه ، فأعطونا مثل الذي أعطوا أبناءنا وسائر الناس ، وقد كان من مضى من قبلك يفضلنا لسابقتنا وقرابتنا وجهادنا ، فإن رأيت أن تأمر لنا بما كان غيرك يأمر لنا به ، فافعل.

فقال لهما علي صلوات الله عليه : أنتما أسبق الى الإسلام أم أنا؟ قالا : بل أنت. قال : فأنتما أقرب إلى رسول الله صلوات الله عليه وآله أم أنا؟

__________________

(١) وفي الاختصاص ص ١٥٢ : ولّى أمير المؤمنين عمار بن ياسر بيت مال المدينة.

(٢) وكان سهم كل واحد ثلاثة دنانير.

(٣) قال ابن دأب : وكان بئر ينبع سميت بئر الملك وفيها ضيعته.

٣٧٤

قالا : بل أنت ، قال : فجهاد كما أكثر أم جهادي؟؟ قالا : جهادك ، قال : فو الله ما أمرت أن يعزل لي من هذا المال إلا كما يصيب هذا الأجير منه ـ وأومأ بيده الى الأجير الذي يعمل بين يديه ـ على ما عهدت وعهدتما رسول الله صلوات الله عليه وآله يقسم مثل ذلك ، وسنّته أحق أن تتبع من أن يتبع من خالفها بعده.

فسكتا ساعة ، ثم قالا : لم نأت لهذا ولكنه شيء ذكرناه ، ولكنا أردنا العمرة ، فأتيناك نستأذنك في الخروج إليها.

وكانت عائشة قد خرجت من مكة ولم تصل بعد الى المدينة ، فأرادا لقاءها لما كان من أمرهما وأمرها.

فقال لهما علي صلوات الله عليه : اذهبا فما العمرة أردتما ، ولقد انبئت بأمركما ، وما يكون منكما. فخرجا ، ولقيا عائشة وكان من أمرهم ما قد كان.

٣٧٥

حرب الجمل

[٣١٨] الدغشي بإسناده ، عن أبي بشير العائدي(١) ، قال : كنت بالمدينة حين قتل عثمان ، فاجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا عليا صلوات الله عليه ، فقالوا : يا أبا الحسن ، هلمّ لنبايعك!

فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم فمن اخترتم فقدموه.

فقالوا : ما نختار غيرك!. فأبى عليهم(٢)

فاختلفوا إليه في ذلك بعد قتل عثمان مرارا(٣) ، ثم أتوا في آخر ذلك.

فقالوا إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، وقد طال هذا الأمر ولسنا نختار غيرك ، ولا بدّ لنا منك ، وإن أنت لم تقبل ذلك خفنا أن ينخرق في الإسلام خرق ، إن بقى الناس لا ناظر فيهم فالله الله في ذلك!! فقال علي صلوات الله عليه : أنا أقول لكم قولا ، فإن قبلتموه قبلت

__________________

(١) العائدي من نسخة ب ولم يكن في الأصل. وفي مناقب الخوارزمي ص ١١١ : الشيباني.

(٢) واضاف في الدعائم ١ / ٣٨٤ : فمضيا وهو يتلو ـ وهما يسمعان ـ : « فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ».

(٣) وفي المناقب للخوارزمي : فاختلفوا إليه أربعين ليلة.

٣٧٦

منكم(١) .

قالوا : قل ما شئت فمقبول منك.

فجاء حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلوات الله عليه وآله.

ثم قال : أما بعد ، فقد طال تردادكم إليّ فيما أردتموه مني وكرهت امركم ، فأبيتم عليّ إلا ما أردتم مني ، وقد علمت ما سبق فيكم فإن كنت أتولّى أمركم عليّ العدل فيكم والتسوية بينكم وإن تكون مفاتيح بيت مالكم معي ليس لي منه إلا مثل ما لأحدكم ولا لغيري إلا ذلك تولّيت أمركم.

قالوا : نعم.

قال : أرضيتم ذلك؟؟

قالوا : رضينا.

قال : اللهمّ اشهد عليهم.

ثم نزل صلوات الله عليه ، فبايعهم على ذلك.

قال أبو بشير : وأنا يومئذ عند منبر رسول الله صلوات الله عليه وآله أسمع ما يقول.

[٣١٩] وبآخر عن زيد بن صوحان ، إنه كان متوجها الى المدينة من مكة ، فلقيه الخبر في الطريق : إن عثمان قد قتل وإن الناس قد بايعوا عليا صلوات الله عليه. فبكى.

فقيل له : يا أبا سلمان ما يبكيك عليه ، فو الله ما كنت تحبه؟؟

فقال : ما عليه أبكي ، ولكني أبكي لما وقعت فيه هذا الامّة.

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ : أمركم.

٣٧٧

ثم دخل المسجد ، فصلّى ركعتين. ثم دخل على أزواج النبيّ صلوات الله عليه وآله امرأة امرأة ، يقول لكل واحدة منهن : إن هذا الرجل قد بويع ـ يعني عليا صلوات الله عليه ـ فما ترين في بيعته؟؟ فتقول : بايعت.

فيقول : اللهمّ اشهد عليها ، حتى فعل ذلك بهن كلّهن.

فأظن هذا ـ والله أعلم ـ قد سمع قول النبيّ صلوات الله عليه وآله أن إحدى أزواجه تقاتله وهي له ظالمة ، وأراد أن يتوثق منهن.

[٣٢٠] وبآخر ، عبلة بنت طارق. قالت : كنت جالسة عند امرأة تعالج الصبيان في صدى ، فإذا نحن براكب قد أشرف علينا ، فجاء حتى انتهى الى باب الدار ، ثم دخل ، فجاء المرأة ـ التي كنا عندها ـ فأكبّ عليها ، فإذا ابنها. فقالت : يا بني ما فعل الناس؟؟

قال : ما عندي من علم إلا أني كنت بمكة ، فقدم طلحة والزبير على عائشة ، وتجهزوا إلى البصرة.

قال : فقلت : زوجة رسول الله صلوات الله عليه وآله وحواري(١) رسول الله ـ يعني الزبير ـ والله لأموتن مع هؤلاء أو لأحيين معهم. حتى انتهيت الى ماء. قالت عائشة : ما هذا الماء؟ قيل لها : الحفير. قالت : ردّوني ، فقد نهاني رسول الله صلوات الله عليه وآله أن أكون مع الركب(٢) الواردين حفيرا(٣) .

قال الفتى لامّه : فقلت : ثكلتني امّي لا أراني أبيت في الركب ( الواردين حفيرا الذي نهى رسول الله صلوات الله عليه وآله عائشة أن

__________________

(١) حواري : الناصر.

(٢) وفي نسخة ـ ب ـ مع الراكب.

(٣) قال ابن الاثير في النهاية ١ / ٤٠٧ بضم الحاء وفتح الفاء منزل بين ذي الحليفة وملل يسلكه الحاج. وفاء الوفا ص ١١٩٢.

٣٧٨

تكون فيه )(١) .

قال : فأنخت بعيري ونزعت رحلي ، وأقبل الناس عليّ ، فقالوا : مالك يا عبد الله. قلت : اغير على بعيرى ، وجعلت أشده مرة وأنزعه اخرى.

فلما انقطع الناس عني توجهت خلاف وجهتهم ، والله ما أدري أين أتوجه حتى رفعت لي نار ، والله ما أدري أنار إنس هي أم نار جن ، فقصدتها ، فإذا أعرابي معه أهله ، فسألني عن خيري فأخبرته. فقال لي الأعرابي : أحسنت لا عليها ولا لها. واستخبرت عن الطريق ، فدلّني عليه(٢) ثم كان ذا وجهي إليك.

[٣٢١] وبآخر عن زيد بن صوحان ، جاء الى علي صلوات الله عليه فقال : يا أمير المؤمنين ، إني رأيت كأن يدا تطلعت إليّ من السماء ، ولا أراني إلا مقتولا ، فأذن لي حتى أتي هذه المرأة ـ يعني عائشة ـ ، وكانت يد ـ هذا زيد ـ قد قطعت يوم جلولاء في الجهاد.

قال : انطلق يا أبا سلمان راشدا غير مودع. فانطلق في عصابة ، فلما رآه من حول عائشة ، قالوا : هذا زيد بن صوحان.

قالت عائشة : يا أبا سلمان ، إليّ تسير وقتالي تريد؟؟

قال : إني سرت فيما أمرني الله به وإنك سرت فيما نهاك الله عنه ، أمرني الله أن اجاهد وأن اقاتل في سبيله ، وأمرك أن تقري في بيتك.

[٣٢٣] وبآخر ، أن أمّ سلمة رضوان الله عليها ، أتت عائشة ـ لما أرادت الخروج الى

__________________

(١) ما بين الهلالين في نسخة ـ ب ـ وفي الأصل : مع الركب الذين نهى رسول الله صلوات الله عليه وآله الواردين حفيرا.

(٢) وفي الأصل : فدلّني عليها.

٣٧٩

البصرة ـ وقالت لها : يا عائشة ، إنك بين سدة(١) رسول الله صلوات الله عليه وآله وامته وحجابك مضروب على حرمته ، قد جمع القرآن ذيلك ، فلا تندحيه(٢) . وسكن عقيرتك فلا تصحريها ، وقد علم رسول الله صلوات الله عليه وآله مكانك ، ولو أراد أن يعهد إليك لعهد ، وقد أمرك الله عز وجل ، وأمرنا أن نقرّ في بيوتنا وإن عمود الدين لا يقام بالنساء ، ولا يرأب بهن صدعة(٣) وخمارات النساء غضّ الأطراف وضمّ الذيول ، ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلوات الله عليه وآله عارضك بأطراف الفلوات ناصة قعودك من منهل الى منهل إن بعين الله عزّ وجلّ مهواك ، وعلى رسول الله صلوات الله عليه وآله تردّين.

والله لو قيل لي : ادخلي الفردوس ، على أن أسير مسيرك(٤) هذا لاستحييت « أن القى محمدا صلوات الله عليه وآله هاتكة حجابا »(٥) قد ضربه عليّ ، فلا تهتكي حجابا قد ضربه عليك رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فانه أطوع ما تكونين لله ما لزمتيه(٦) ، وأنصر ما تكونين للدين ما قعدت عنه.

فقالت لها عائشة : ما أقبلني لوعظك وأعرفني بنصحك ، وليس الأمر على ما تظنين ، وإنما رأيت فئتين من المسلمين متنا جزتين ، فإن أقعد(٧) عن إصلاح ذات بينهما ففي غير حرج ، وإن أمض فإلى ما لا

__________________

(١) وفي نسخة ـ ب ـ سيدة. وفي البحار : أنت سدة بين رسول الله وبين امته.

(٢) اي لا توسعيه وتنشريه.

(٣) رأب الصدع : أصلحه.

(٤) وفي الأصل : ميسرك.

(٥) ما بين الهلالين زيادة من نسخة ـ ب ـ.

(٦) وفي الأصل فالزميه.

(٧) وفي الأصل : فان قعدت من إصلاح.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502