شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار الجزء ٢

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار12%

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 610

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64107 / تحميل: 6296
الحجم الحجم الحجم
شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ثانيا ـ انه ندد بالأمويين ، وشجب سياستهم القائمة على طاعة الشيطان ، ومعصية الرحمن ، واظهار الفساد ، وتعطيل حدود اللّه ، والاستئثار بالفيء ، وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال.

ثالثا ـ ان الامام احق وأولى من غيره بالقيام بتغيير الأوضاع الراهنة التي تنذر بالخطر على الاسلام ، فانه (ع) المسئول الأول عن القيام باعباء هذه المهمة.

رابعا ـ انه (ع) عرض لهم انه اذا تقلد شئون الحكم ، فسيجعل نفسه مع انفسهم ، واهله مع اهاليهم. من دون أن يكون له أي امتياز عليهم.

خامسا ـ انهم اذا نكثوا بيعتهم ، ونقضوا عهودهم التي اعطوها له فانه ليس بغريب عليهم فقد غدروا من قبل بابيه واخيه وابن عمه ، وقد أخطئوا بذلك حظهم ، وحرموا نفوسهم السعادة.

لقد وضع الامام بهذا الخطاب النقاط على الحروف : وفتح لهم منافذ النور ، ودعاهم الى الاصلاح الشامل الذي ينعمون في ظلاله.

ولما سمع الحر خطابه اقبل عليه فقال له : «إني اذكرك اللّه في نفسك ، فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن» وانبرى الامام قائلا له :

«ابالموت تخوفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما ادري ما أقول : لك؟!! ولكني اقول : كما قال اخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللّه اين تذهب فانك مقتول؟ فقال له :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وخالف مثبورا وفارق مجرما

فان مت لم اندم وان عشت لم الم

كفى بك عارا ان تذل وترغما(1)

__________________

(1) تأريخ ابن الاثير 3 / 281 ، والطبري

٨١

ولما سمع الحر ذلك تنحى عنه وعرف أنه مصمم على الموت ، وعازم على التضحية في سبيل غايته الهادفة إلى الاصلاح الشامل.

التحاق جماعة من الكوفة بالامام :

ولما انتهى الامام إلى عذيب الهجانات وافاه أربعة أشخاص من أهل الكوفة جاءوا إلى نصرته ، وقد أقبلوا على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع ابن هلال ، ولم يخرج أحد لاستقبال الحسين من اهل الكوفة سواهم وهم

1 ـ نافع بن هلال المرادي

2 ـ عمرو بن خالد الصيداوي

3 ـ سعد مولى عمرو بن خالد

4 ـ مجمع بن عبد اللّه العابدي من مذحج

وأراد الحر منعهم من الالتحاق بالحسين ، فصاح به الامام :

«اذا أمنعهم بما امنع فيه نفسي ، انما هؤلاء انصاري ، واعواني وقد جعلت لي أن لا تعرض بي حتى يأتيك كتاب ابن زياد».

وكف الحر عنهم ، فالتحقوا بالامام فرحب بهم ، وسألهم عن اهل الكوفة فقالوا له :

«اما الأشراف فقد عظمت رشوتهم ، وملئت غرائرهم(1) ليستمال ودهم ، وتستنزف نصائحهم ، فهم عليك إلبا واحدا ، وما كتبوا إليك الا ليجعلوك سوقا ومكسبا وأما سائر الناس فافئدتهم تهوي إليك ، وسيوفهم غدا مشهورة عليك»(2) .

__________________

(1) الغرائر جمع غرارة وهي الكيس من الشعر أو الصوف

(2) انساب الأشراف ق 1 ج 1 ص 241

٨٢

وكشف هذا الحديث عن نقاط بالغة الأهمية وهي :

1 ـ ان السلطة قد اشترت ضمائر الوجوه والاشراف من اهل الكوفة بالأموال واغرتهم بالجاه والنفوذ فصاروا إلبا واحدا مجمعين ومتفقين على حرب الامام ، وقد مهر الامويون في هذه السياسة الماكرة فكانوا يستميلون الوجوه بكل الوسائل الممكنة. واما الرعاع فيلهبون ظهورهم بالسياط.

2 ـ ان اشراف اهل الكوفة انما كاتبوا الحسين بالقدوم إليهم لا ايمانا منهم بعدالة قضيته وباطل الأمويين وانما كتبوا إليه ليكون سوقا ومكسبا للظفر باموال بني أمية ، فكانوا يعلنون لهم انكم ان لم تغدقوا علينا بالأموال فستكون من انصار الحسين ، فكانت كتبهم إليه وسيلة من وسائل الكسب.

3 ـ ان سواد الناس كانت قلوبهم مع الحسين ، ولكنهم منقادون لزعمائهم من دون ان تكون لهم أية ارادة او اختيار على متابعة ما يؤمنون به ، فكانوا جنود السلطة واداتها الضاربة.

هذه بعض النقاط المهمة التي حفل بها كلام هؤلاء القوم ، وقد دلت على دراستهم الوثيقة لشؤون مجتمعهم.

مع الطرماح :

والتحق الطرماح بالامام في اثناء الطريق ، وقد صحبه بعض الوقت وقد أقبل الامام على اصحابه ، فقال لهم :

«هل فيكم احد يخبر الطريق على غير الجادة؟»

فانبرى إليه الطرماح بن عدي الطائي فقال له :

٨٣

«أنا اخبر الطريق»

«سر بين أيدينا»

وسار الطرماح يتقدم موكب العترة الطاهرة ، وقد ساورته الهموم فجعل يحدو بالابل بصوت حزين وهو يرتجز :

يا ناقتي لا تذعري من زجرى

وامضي بنا قبل طلوع الفجر

بخير فتيان وخير سفر

آل رسول اللّه أهل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر

الطاعنين بالرماح السمر

الضاربين بالسيوف البتر

حتى تحلى بكريم النجر

بما جد الجد رحيب الصدر

أتى به اللّه لخير أمر

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

عمره اللّه بقاء الدهر

يا مالك النفع معا والضر

امدد حسينا سيدي بالنصر

على الطغاة من بقايا الكفر

على اللعينين سليلي صخر

يزيد لا زال حليف الخمر

والعود والصنج معا والزمر

وابن زياد العهر وابن العهر(1)

واسرعت الابل في سيرها على نغمات هذا الشعر الحزين ، وقد فاضت عيون اصحاب الحسين وأهل بيته من الدموع ، وهم يؤمنون على دعاء الطرماح للحسين بالنصر والتأييد ، وحلل الدكتور يوسف خليف هذا الرجز بقوله : «والرجز هنا ـ ولعله اول شعر كوفي يظهر فيه الحديث عن الحسين ـ يعتمد على البساطة في عرض الفكرة ، فهو لا يعدو أن يكون صورة من تحية البدو وترحيبهم بضيف عزيز قادم إليهم ، وهم خارجون لاستقباله. فالراجز يحث ناقته على السير السريع لتحل برحاب هذا الضيف

__________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 119) أنساب الأشراف ج 1 ق 1 ، ص 242 ، مروج الذهب 2 / 72 ، الفتوح.

٨٤

الذي يضفي عليه صفات المدح المألوفة عند البدو ، ويخلع عليه ما يتمثله البدوي في الرجل من مثل وفضائل فهو عنده كريم الأصل ، ماجد حر واسع الصدر لأن هذا الضيف ليس شخصا عاديا ، وانما هو حفيد رسول اللّه (ص) ومبعوث العناية الالهية إليهم لأمر هو خير الأمور ، ثم يختم هذه التحية البدوية بدعاء فطري ساذج ، ولكنه معبر عما يحمله له في نفسه من محبة صادقة واخلاص اكيد فيدعو أن يبقيه اللّه بقاء الدهر»(1)

وقال الطرماح للامام : «واللّه إني لأنظر فما أرى معك أحدا ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازمين لك مع الحر لكان ذلك بلاء فكيف وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيوم ظهر الكوفة مملوءا رجالا فسألت عنهم فقيل ليوجهوا الى الحسين ، فناشدتك اللّه أن لا تقدم إليهم شبرا الا فعلت»(2) .

وإلى أي مكان يرجع الامام؟ واين يذهب؟ والأرض كلها تحت قبضة الأمويين ، فلم يكن له بد من الاستمرار في سفره إلى العراق ، وعرض له الطرماح أن يسير معه إلى جبل بني طي ، وتعهد له بعشرين الف طائي يقاتلون بين يديه ، ولم يستجب الامام لهذا الوعد الذي هو غير مضمون ، واستأذن الطرماح من الامام ان يمضي لأهله ليوصل إليهم الميرة ويعود إلى نصرته ، فاذن له وانصرف الى أهله ، فمكث أياما ثم قفل راجعا إلى الامام فلما وصل إلى عذيب الهجانات بلغه مقتل الامام ، فأخذ يبكي على ما فاته من شرف الشهادة مع ريحانة رسول اللّه (ص)(3) .

__________________

(1) حياة الشعر في الكوفة (ص 373)

(2) أنساب الاشراف ج 1 ق 1 ص 242

(3) تاريخ الطبري 6 / 330

٨٥

مع عبيد اللّه بن الحر :

واجتازت قافلة الامام على قصر بني مقاتل(1) ، فنزل الامام فيه وكان بالقرب منه بيت مضروب ، وامامه رمح قد غرس في الأرض يدل على بسالة صاحبه وشجاعته ، وقباله فرس ، فسأل الامام عن صاحب البيت ، فقيل له انه عبيد اللّه بن الحر ، فاوفد للقياه الحجاج بن مسروق الجعفي فخف إليه ، فبادره عبيد اللّه قائلا :

ـ ما ورائك؟

ـ قد أهدى اللّه إليك كرامة

ـ ما هي؟

ـ هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته ، فان قاتلت بين يديه أجرت ، وان مت فقد استشهدت.

ـ ما خرجت من الكوفة الا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها فلا أنصره لأنه ليس له فيها شيعة ولا أنصار إلا وقد مالوا إلى الدنيا إلا من عصم اللّه!!

وقفل الحجاج راجعا فأدى مقالته الى الامام ، ورأى (ع) أن يقيم عليه الحجة ويجعله على بينة من أمره فانطلق إليه مع الصفوة الطيبة من أهل بيته واصحابه ، واستقبله عبيد اللّه استقبالا كريما ، واحتفى به احتفاء بالغا ، وقد غمرته هيبة الامام ، فراح يحدث عنها بعد ذلك يقول :

«ما رأيت قط أحسن من الحسين ، ولا املأ للعين ، ولا رققت على أحد قط رقني عليه حين رأيته يمشي والصبيان من حوله ، ونظرت

__________________

(1) ذكر الخوارزمي في مقتله ان ملاقاة الامام بعبيد اللّه بن الحر كانت بين الثعلبية وزرود.

٨٦

إلى لحيته فرأيتها كأنها جناح غراب ، فقلت له : أسواد أم خضاب؟ قال! يا ابن الحر عجل علي الشيب فعرفت أنه خضاب»(1) .

وتعاطى الامام معه الشؤون السياسية العامة ، والأوضاع الراهنة ، ثم دعاه الى نصرته قال له :

«يا ابن الحر ان اهل مصركم كتبوا إلي أنهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم فقدمت ، وليس رأي القوم على ما زعموا فانهم اعانوا على قتل ابن عمي مسلم وشيعته ، واجمعوا على ابن مرجانة عبيد اللّه ابن زياد يا ابن الحر اعلم ان اللّه عز وجل مؤاخذك بما كسبت من الذنوب في الأيام الخالية ، وأنا أدعوك الى توبة تغسل بها ما عليك من ذنوب ادعوك الى نصرتنا أهل البيت»(2) .

والقى ابن الحر معاذيره الواهية فحرم نفسه السعادة والفوز بنصرة سبط الرسول ، قائلا :

«واللّه إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن اغني عنك ، ولم اخلف لك بالكوفة ناصرا فانشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطة ، فان نفسي لا تسمح بالموت ، ولكن فرسي هذه «الملحقة»(3) واللّه ما طلبت عليها شيئا الا لحقته ، ولا طلبني أحد وأنا عليها الا سبقته فهي لك»(4) .

وما قيمة فرسه عند الامام فرد عليه قائلا :

«ما جئناك لفرسك وسيفك؟ انما أتيناك لنسألك النصرة ، فان

__________________

(1) انساب الأشراف 5 / 291 ، خزانة الأدب 1 / 298

(2) الفتوح 5 / 130

(3) وفي رواية «وهذه فرسي ملجمة»

(4) الأخبار الطوال (ص 249) الدر النظيم (ص 168)

٨٧

كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك ، ولم اكن بالذي اتخذ المضلين عضدا(1) واني انصحك إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا نشهد وقعتنا فافعل ، فو اللّه لا يسمع واعيتنا احد ولا ينصرنا الا اكبه اللّه في نار جهنم»(2) .

فاطرق ابن الحر برأسه الى الأرض وقال بصوت خافت حياء من الامام.

«أما هذا فلا يكون أبدا ان شاء اللّه تعالى»(3)

وما كان مثل ابن الحر وهو الذي اقترف الكثير من الجرائم ان يوفق الى نصرة الامام ويفوز بالشهادة بين يديه.

وقد ندم ابن الحر كاشد ما يكون الندم على ما فرط في امر نفسه من ترك نصرة ريحانة رسول اللّه (ص) واخذت تعاوده خلجات حادة من وخز الضمير ، ونظم ذوب حشاه بابيات سنذكرها عند البحث عن النادمين عن نصرة الحسين (ع).

مع عمرو بن قيس :

والتقى الامام في قصر بني مقاتل بعمرو بن قيس المشرفي ، وكان معه ابن عم له ، فسلم على الامام وقال له :

«يا ابا عبد اللّه هذا الذي ارى خضابا؟

__________________

(1) الفتوح 5 / 132

(2) مقتل الحسين للمقرم (ص 224)

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 282

٨٨

قال (ع) : «خضاب ، والشيب إلينا بني هاشم أسرع واعجل» والتفت (ع) لهما فقال :

«جئتما لنصرتي؟»

«لا. انا كثيرو العيال» وفي ايدينا بضائع للناس ، ولم ندر ما ذا يكون؟ ونكره ان نضيع الامانة».

ونصحهما الامام فقال لهما :

«انطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سوادا فانه من سمع واعيتنا او رأى سوادنا فلم يجبنا او يغثنا كان حقا على اللّه عز وجل أن يكبه على منخريه في النار»(1) .

وارتحل الامام من قصر بني مقاتل ، واخذت قافلته تقطع الصحارى الملتهبة ، وتجتاز اغوارها في جاهد وعناء ، وتعاني لفحها الضارب كريخ السموم.

رسالة ابن زياد للحر :

وتابعت قافلة الامام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن واخرى تتياسر ، وجنود الحر يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة والركب يمتنع عليهم(2) ، وإذا براكب يجذ في سيره ويطوى الرمال فلبثوا هنيئة ينتظرونه ، واذا هو رسول من ابن زياد الى الحر ، فسلم

__________________

(1) رجال الكشي (ص 72)

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 282

٨٩

الخبيث على الحر ، ولم يسلم على الحسين ، وتاول الحر رسالة من ابن زياد جاء فيها :

«أما بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد امرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام»(1) .

واستثنى ابن مرجانة ما عهد به إلى الحر من القاء القبض على الامام وارساله مخفورا إلى الكوفة ، ولعله خاف من تطور الأحداث وانقلاب الأوضاع عليه ، فرأى التحجير عليه في الصحراء بعيدا عن المدن لئلا يتجاوب أهلها الى نصرته ليتم القضاء عليه بسهولة ، وتلا الحر الكتاب على الامام الحسين فاراد الامام أن يستأنف سيره متجها صوب قرية أو ماء ، فمنعهم الحر ، وقال : لا استطيع ، فقد كانت نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد تتابع الحر ، وكان يسجل كل بادرة يخالف بها الحر أوامر ابن زياد وانبرى زهير بن القين فقال للامام :

«انه لا يكون بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه يا ابن رسول اللّه إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، مما لا قبل لنا به».

فقال الحسين : ما كنت لأبدأهم بقتال

وتابع زهير حديثه قائلا :

«سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فانها حصينة ـ وهي على

__________________

(1) انساب الأشراف ج 1 ق 1 ص 240 ، المناقب لابن شهر اشوب 5 / 128 مصور.

٩٠

شاطئ الفرات ـ فان منعونا قاتلناهم ، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم».

وسأل الامام عن اسم تلك الأرض؟ فقالوا له : انها تسمى العقر ، فتشأم منها ، وراح يقول : اللهم اني اعوذ بك من العقر(1) ، وأصر الحر على الامام أن ينزل في ذلك المكان ولا يتجاوزه ، ولم يجد الامام بدا من النزول في ذلك المكان والقى ببصره عليه ، والتفت الى أصحابه فقال لهم :

ـ ما اسم هذا المكان؟

ـ كربلاء

ودمعت عيناه وراح يقول :

«اللهم اني اعوذ بك من الكرب والبلاء»(2) .

__________________

(1) تأريخ ابن الأثير 3 / 282 ، معجم البلدان 4 / 444.

(2) الفتوح 5 / 149 ، وفي تذكرة الخواص (ص 260) انه لما قيل للحسين هذه ارض كربلا اخذ ترابها فشمها وقال : واللّه هي الأرض التي اخبر بها جبرئيل رسول اللّه (ص) انني اقتل فيها ، وجاء في حياة الحيوان للدميري 1 / 60 ان الحسين سأل عن اسم المكان فقيل له كربلا ، فقال : ذات كرب وبلاء لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف وسأل عنه فأخبروه باسمه ، فقال : هاهنا محط رحالهم وهاهنا مهراق دمائهم فسئل عن ذلك؟ فقال : نفر من آل محمد ينزلون هاهنا ، ثم أمر باثقاله فحطت في ذلك المكان وكذلك جاء في مختصر صفوة الصفوة (262).

٩١

وطفق يحدث اصحابه وقد ايقن بنزول الرزء القاصم قائلا :

«هذا موضع كرب وبلاء ، هاهنا مناخ ركابنا ، ومحط رحالنا وسفك دمائنا ..».

وطافت به الذكريات ، وقد مثل امامه ذلك اليوم الذي تحدث فيه ابوه امير المؤمنين وهو في هذه البقعة ، وكان في طريقه الى صفين ، فقال : هاهنا محط رحالهم ، ومهراق دمائهم فسئل عن ذلك فقال :

نفر من آل محمد ينزلون هاهنا وذابت الدنيا في عين الامام ، وانقطع كل امل له في الحياة ، وايقن ان اوصاله سوف تتقطع على صعيد هذه الأرض الا انه خلد الى الصبر ، واستسلم لقضاء اللّه وقدره»

ونهض الامام بقوة وعزم مع أصحابه وأهل بيته الى توطيد مخدرات الرسالة وعقائل الوحي ، فنصبوا لهن الخيام وكانت خيم الأصحاب ، وخيم أهل البيت ، محيطة بها عن اليمين والشمال ، واسرع فتيان بني هاشم فانزلوا السيدات من المحامل ، وجاءوا بهن إلى خيامهن ، وقد استولى عليهن الرعب والذعر ، فقد احسسن بالاخطار الهائلة التي ستجري عليهن في هذه الأرض.

موضع الخيام :

ونصبت خيام اهل البيت (ع) في البقعة الطاهرة التي لا تزال آثارها باقية إلى اليوم(1) يقول السيد هبة الدين الشهرستاني : «وأقام الامام

__________________

(1) بغية النبلاء في تاريخ كربلاء 2 / 6 للسيد عبد الحسين سادن الروضة الحسينية في مكتبة المحامي السيد عادل الكليدار.

٩٢

في بقعة بعيدة عن الماء تحيط بها سلسلة ممدودة ، وربوات تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب السدرة في الشمال ، وهكذا إلى موضع الباب الزينبي إلى جهة الغرب ، ثم تنزل إلى موضع الباب القبلي من جهة الجنوب وكانت هذه التلال المتقاربة تشكل للناظرين نصف دائرة ، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ريحانة الرسول (ص)»(1) ونفى صديقنا الاستاذ السيد محمد حسن الكليدار أن يكون الموضع المعروف بمخيم الحسين هو الموضع الذي حط فيه الامام اثقاله ، وانما يقع المخيم بمكان نائي بالقرب من المستشفى الحسيني ، مستندا في ذلك إلى أن التخطيط العسكري المتبع في تلك العصور يقضي بالفصل بين القوى المتحاربة بما يقرب من ميلين ، وذلك لما تحتاجه العمليات الحربية من جولان الخيل وغيرها من مسافة ، كما ان نصب الخيام لا بد أن يكون بعيدا عن رمي السهام والنبال المتبادلة بين المحاربين واستند أيضا إلى بعض الشواهد التأريخية التي تؤيد ما ذهب إليه(2) .

واكبر الظن ان المخيم انما هو في موضعه الحالي ، أو يبعد عنه بقليل وذلك لأن الجيش الأموي المكثف الذي زحف لحرب الامام لم يكن قباله إلا معسكر صغير عبر عنه الحسين بالأسرة ، فلم تكن القوى العسكرية متكافئة في العدد حتى يفصل بينهما بميلين أو اكثر ..

لقد احاط الجيش الأموي بمعسكر الامام حتى انه لما اطلق ابن سعد السهم الذي انذر به بداية القتال ، واطلق الرماة من جيشه سهامهم لم يبق احد من معسكر الامام إلا اصابه سهم حتى اخترقت السهام بعض ازر النساء ، ولو كانت المسافة بعيدة لما اصيبت نساء أهل البيت بسهامهم

__________________

(1) نهضة الحسين (ص 99)

(2) مدينة الحسين 2 / 24

٩٣

ومما يدعم ما ذكرناه ان الامام الحسين (ع) لما خطب في الجيش الأموي سمعت نساؤه خطابه فارتفعت اصواتهن بالبكاء ، ولو كانت المسافة بعيدة لما انتهى خطابه إليهن ، وهناك كثير من البوادر التي تدل على أن المخيم في وضعه الحالي.

٩٤

فى كربلاء

٩٥
٩٦

وأقام موكب العترة الطاهرة في كربلا يوم الخميس المصادف اليوم الثاني من المحرم سنة (61 هـ)(1) وقد خيم الرعب على اهل البيت ، وايقنوا بنزول الرزء القاصم ، وعلم الامام مغبة الأمر ، وتجلت له الخطوب المفزعة ، والأحداث الرهيبة التي سيعانيها على صعيد كربلا ، ويقول المؤرخون : انه جمع أهل بيته واصحابه فالقى عليهم نظرة حنان وعطف وايقن انهم عن قريب سوف تتقطع أوصالهم ، فاغرق في البكاء. ورفع يديه بالدعاء يناجي ربه ، ويشكو إليه ما المّ به من عظيم الرزايا والخطوب قائلا :

«اللهم : انا عترة نبيك محمد (ص) قد أخرجنا وطردنا وازعجنا عن حرم جدنا ، وتعدت بنو أمية علينا اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين.».

ثم اقبل على اولئك الابطال فقال لهم :

«الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء ، قلّ الديانون»(2) .

يا لها من كلمات مشرقة حكت واقع الناس في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا في كل زمان ومكان ، واما الدين فلا ظل له في اعماق

__________________

(1) انساب الأشراف ق 1 ج 1 / 240 ، وكان هلال المحرم في تلك السنة يوم الأربعاء جاء ذلك في (الافادة في تأريخ الأئمة السادة)

(2) ضبط ابو هلال الحسن بن عبد اللّه العسكري في كتابه (الصناعتين) كلام الامام الحسين بهذه الصورة «الناس عبيد الدنيا والدين لغو على السنتهم يحوطونه ما درّت به معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون».

٩٧

نفرسهم ، فاذا دهمتهم عاصفة من البلاء تنكروا له وابتعدوا منه نعم ان الدين بجوهره انما هو عند الامام الحسين وعند الصفوة من أهل بيته واصحابه فقد امتزج بمشاعرهم ، وتفاعل مع عواطفهم فانبروا الى ساحات الموت ليرفعوا شأنه ، وقد اعطوا بتضحيتهم دروسا لاجيال الدنيا في الولاء الباهر للدين.

وبعد حمد اللّه والثناء عليه خاطب اصحابه قائلا :

«اما بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيرت ، وتنكرت وادبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(1) . الا ترون الى الحق لا يعمل به ، والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّه فاني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما»(2) .

لقد أدلى بهذا الخطاب عما نزل به من المحن والبلوى ، واعلمهم ان الظروف مهما تلبدت بالمشاكل والخطوب فانه لا ينثني عن عزمه الجبار لاقامة الحق الذي خلص له وقد وجه (ع) هذا الخطاب لاصحابه لا ليستدر عواطفهم ، ولا ليستجلب نصرهم ، فما ذا يغنون عنه بعد ما احاطت به القوى المكثفة التي ملئت البيداء ، وانما قال ذلك ليشاركونه المسئولية في اقامة الحق الذي آمن به واختاره قاعدة صلبة لنهضته الخالدة وقد

__________________

(1) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله أي سوء عاقبته.

(2) معجم الطبراني من مصورات مكتبة امير المؤمنين ، تأريخ ابن عساكر 13 / 74 من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين ، تأريخ الاسلام للذهبي 2 / 345 ، حلية الأولياء 2 / 39.

٩٨

جعل الموت في هذا السبيل هو الآمل الباسم في حياته الذي لا يضارعه أي أمل آخر.

ولما انهى خطابه هبّ اصحابه جميعا ، وهم يضربون أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل العدل والحق وكان اول من تكلم من اصحابه زهير بن القين وهو من افذاذ الدنيا فقد قال :

«سمعنا يا بن رسول اللّه (ص) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخالدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة فيها»

ومثلت هذه الكلمات شرف الانسان وانطلاقه في سبيل الخير ، وبلغ كلام زهير في نفوس الأنصار اقصى الرضا ، وحكى ما صمموا عليه من الولاء للامام والتفاني في سبيله وانبرى بطل آخر من أصحاب الامام وهو برير الذي ارخص حياته في سبيل اللّه فخاطب الامام :

«يا بن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك اعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة».

لقد أيقن برير ان نصرته للامام فضل من اللّه عليه ، ليفوز بشفاعة رسول اللّه (ص) وقام نافع وهو يقرر نفس المصير الذي اختاره الأبطال من اخوانه قائلا :

«أنت تعلم أن جدك رسول اللّه (ص) لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمر من الحنظل ، حتى قبضه اللّه إليه ، وان أباك عليا كان في مثل ذلك فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة اللّه ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضر الا نفسه واللّه مغن عنه

٩٩

فسر بنا راشدا معافى ، مشرقا إن شئت او مغربا ، فو اللّه ما اشفقنا من قدر اللّه ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك»(1) .

وتكلم اكثر اصحاب الامام بمثل هذا الكلام ، وقد شكرهم الامام على هذا الاخلاص والتفاني في سبيل اللّه.

انتظار الاسدي للامام :

والتحق بالامام فور قدومه إلى كربلا رجل من بني أسد اهمل المؤرخون اسمه ، وقد حكى قصبته العريان بن الهيثم قال : كان أبي ينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه واقعة الطف ، وكنا لا نجتاز في ذلك المكان الا وجدنا رجلا من بني أسد مقيما هناك ، فقال له ابي : إني اراك ملازما هذا المكان؟ فقال له : بلغني أن حسينا يقتل هاهنا ، فانما أخرج لعلي أصادفه فاقتل معه ، ولما قتل الحسين قال أبي : انطلق معي لننظر إلى الأسدي هل قتل؟ فأتينا المعركة وطفنا في القتلى فرأينا الأسدي معهم(2) لقد فاز بالشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) ونال أسمى المراتب ، فكان في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.

رسالة الامام لابن الحنفية :

ورفع الامام (ع) رسالة من كربلا إلى أخيه محمد بن الحنفية وسائر بنى هاشم ، نعى فيها نفسه ، واعرب عن دنو الأجل المحتوم منه هذا نصها : «أما بعد : فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل

__________________

(1) مقتل المقرم (ص 231)

(2) تاريخ ابن عساكر 13 / 74

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

[ زهد أمير المؤمنين ]

[٧١٧] سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بيت المال حتى ما ترك فيه شيئا.

ثم قال : يا قنبر ، أدخل عليّ الغنم.

فقال : يا أمير المؤمنين وما تريد من الغنم؟

فقال أمير المؤمنين : تشهد لي يوم القيامة أنها لم تجد فيه شيئا تلوه.

ثم قال : تشهد لي هذه البقعة يوم القيامة أني قد أديت الى كل ذي حق حقه.

ثم قال : يا حمراء تحمري ، ويا صفراء تصفري ، ويا بيضاء تبيضي ، وغيري غرّي. ثم تمثل فقالعليه‌السلام :

هذا جناي وخياره فيه

إذ كل جان يده الى فيه

[٧١٨] أبو نعيم ، باسناده ، عن عبد الرحمن الخولاني ، عن عمته ـ وكانت تحت عقيل بن أبي طالب رضوان الله عليه ـ قالت : دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بالكوفة فأصبته جالسا على البرذعة(١) حماز.

__________________

(١) البرذعة : الذي يلقى تحت الرجل.

٣٦١

ثم دخلت إلى امرأة له من بني سليم ، فأصبت في بيتها متاعا كثيرا ، فلمتها ، وقلت لها : في بيتك مثل هذا المتاع وأمير المؤمنينعليه‌السلام جالس على برذعة حماز؟

فقالت : لا تلوميني فانا لا نخرج إليه ثوبا ينكره إلا بعث به الى بيت المال ، فوضعه فيه.

[٧١٩] أبو نعيم ، باسناده ، عن عليعليه‌السلام أنه كان يأخذ الجزية(١) من أهل الذمة من كل ذي صنعة ممّا يعمله من صاحب الابر ابرا ، ومن صاحب المال مالا ، فإذا قسم ما في بيت المال قسم ذلك فيقولون لا حاجة لنا به.

فيقول : أخذتم خياره وتتركون عليّ شراره. لا والله لا بدّ لكم من أن تأخذوه.

[٧٢٠] عمر بن عبد الكريم ، باسناده ، عن مالك بن أنس ، قال : سألت الزهري : من كان أزهد الناس في الدنيا؟

قال : علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان يقسم كل ما في بيت المال ، ثم يكنسه ، ويرشه ، ويصلّي فيه ويفرش لبدة ، ثم ينام عليه. ويقول : الآن طاب فيك المقيل لا تخاف مسارقا ولا ثاقبا.

ثم يقول : [ يا بيضاء ] بيضي ، و [ يا صفراء ] صفري ، وغيري غرّي ، والله لا أنال منك إلا الحقير اليسير.

قال : ولقد بلغنا أنه اشتهى كبدا مشوية على خبزة لبنة ، فأقام حولا يشتهيها. ثم ذكر ذلك الحسنعليه‌السلام يوما وهو صائم ،

__________________

(١) ضريبة اسلامية تأخذها الحكومة الاسلامية من غير المسلمين ( أهل الكتاب ) الذين هم في ذمة الاسلام وحمايته. وأهل الكتاب هم : اليهود والنصارى والمجوس.

٣٦٢

فصنعها له. فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه ، فوقف سائل بالباب.

فقال : يا بني احملها إليه ، لا تقرأ صحيفتنا غدا( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيَ اوَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) الآية(١) .

[٧٢١] أبو غسان ، باسناده ، عن الحسن البصري ، أنه ذكر يوما علياعليه‌السلام فقال :

رحمة الله عليك يا أبا الحسن ومغفرته ورضوانه ، جمعت الدنيا حتى إذا اجتمعت بين يديك نكنتها بقضيبك ، ثم قلت : يا دنيا غرّي غيري.

[٧٢٢] أبو نعيم ، باسناده ، أن علياعليه‌السلام جمع المال في الرحبة بين جوالق(٢) أبيض وأسود ، وقطيفة(٣) بيضاء وسوداء ، وقوصرة(٤) وجلد. ثم يقول :

هذا جناي وخياره فيه

إذ كل جان يده الى فيه

ثم دعا بامراء الأسباع والعرفاء والمقاتلة فقال : هذا مالكم ، فاحملوه الى مساجدكم واقتسموه بينكم.

[٧٢٣] وبآخر ، أن علياعليه‌السلام استعمل سعد بن عمر الأنصاري ، فبقي عليه من الخراج ، فربطه الى اسطوانة في المسجد حتى وداه.

[٧٢٤] الدغشي ، باسناده ، قال : اشترى عليعليه‌السلام بالكوفة قميصا بسبعة دراهم ، فلما لبسه خرج كمه عن يده ، فأمر بقطع ما خرج عن أطراف أصابعه.

__________________

(١) الاحقاف : ٢٠.

(٢) الجولق : وعاء.

(٣) القطيفة : دثار مخمل.

(٤) القوصرة : وعاء التمر ، وكناية عن التمر.

٣٦٣

وكان اشتراه من غلام ، ومولاه غائب. فجاء مولى الغلام ، فأخبره ، فلحق علياعليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا القميص لي وهو يقوم على ستة دراهم ، وذكر لي غلامي أنه باعه منك بسبعة دراهم. وهذا الدرهم الذي تزيده عليك.

قال : لا آخذه قد اشتريناه بما رضيناه.

[٧٢٥] وبآخر ، أن علياعليه‌السلام كان يخرج من القصر بالكوفة ، وعليه قميص الى نصف ساقه وإزار ، ورداء قريب منه ، ومعه درة(١) يمشي بها في الأسواق يأمرهم بتقوى الله ، وحسن البيع ، ويقول : اوفوا الكيل والميزان ولا تغشوا ولا تنفخوا في اللحم.

[٧٢٦] وبآخر ، عنهعليه‌السلام أنه استعمل عاملا على عكبرا(٢) ، ثم قال له : بين يدي أهل عمله استوف الذي عليهم ولا يجدوا فيك ضعفا.

ثم قال له : رح الي عند الظهر! فراح إليه.

قال العامل : فدخلت إليه ، فأصبت بين يديه قدحا وكوزا فيها ماء ، وجرابا مختوما. فنظر الى الخاتم ، وأنعم النظر فيه ، ثم فكه. فقلت في نفسي : فيه مال أو جوهر أراد أن يعرضه عليّ ، فأخرج منه وسيقا فصير في القدح منه ، وصبّ عليها ماء ، وشرب ، وسقاني ، ثم ختم(٣) الجراب. فقلت : يا أمير المؤمنين الطعام بالعراق أكثر من أن يختم عليه.

فقال : ما أنا بشيء أحفظ مني لما ترى أني أخاف أن يجعل فيه

__________________

(١) الدرة : بالكسر التي يضرب بها ( مختار الصحاح : ص ٢٠٢ ).

(٢) قال الياقوتي : عكبرا اسم بليدة من نواحي دجيل قرب صريفين بينها وبين بغداد عشرة فراسخ والنسبة إليها عكبري.

(٣) وفي الاصل : الختم الحراب.

٣٦٤

غير ما جعلت ، فأدخل بطني حراما(١) .

ثمّ قال لي : إني لم أستطع أن أقول لك بحضرة القوم إلا ما قلت ، فإذا صرت إليهم ـ ولا قوة إلا بالله ـ فخذهم بما آمرك به ، فإن خالفتني فأخذك الله به دوني ، وإن بلغني خلاف ما أمرتك عزلتك. إذا قدمت عليهم ، فلا تبيعن(٢) لهم كسوة شتاء في شتاء ، ولا كسوة صيف في صيف ، ولا دابة يعملون عليها ، ولا تقيمن منهم أحدا على رجليه ، ولا تضربنه سوطا في درهم ، [ إنما أمرنا ] أن نأخذ منهم العفو(٣) .

فقلت : يا أمير المؤمنين ، إذا أرجع إليك كما خرجت من عندك؟

قال : وإن رجعت كذلك.

قال العامل : فخرجت في وجهي ذلك ، وقدمت وما بقي عليهم درهم إلا أدوه.

[٧٢٧] محمّد بن عبد النور المسمعي ، باسناده عن عمر بن الخطاب ، أنه ذكر علياعليه‌السلام فقال :

ذلك صهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل جبرائيلعليه‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

يا محمّد زوج عليا فاطمة صلوات الله عليها ، فزوّجه إياها بوحي الله عزّ وجلّ.

[٧٢٨] علي بن هاشم ، باسناده ، عن سلمان الفارسي رحمة الله عليه ، أنه

__________________

(١) وفي تاريخ دمشق ٣ / ١٩٩ : أن أدخل بطني إلا طيبا.

(٢) وفي تاريخ دمشق : فلا تبيعن لهم رزقا يأكلونه ولا كسوه ...

(٣) هكذا صححناه وفي الاصل : فإنا لم أن تأخذ منهم إلا العفو.

٣٦٥

قال : كنت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جماعة من أصحابه ، فناداني ، فأتيته. فقال : يا سلمان ، اشهد أن علي بن أبي طالب خيرهم وأفضلهم.

[٧٢٩] وبآخر ، أنه قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قبض ، وهو في غمرات الموت ، فأفاق افاقة.

فقال : علي بن أبي طالب أفضل من أترك بعدي(١) .

__________________

(١) وفي المناقب لابن مردويه : خير من أخلف بعدي.

٣٦٦

[ خبر الراهب ]

[٧٣٠] أبو الزبير ، باسناده ، عن عليعليه‌السلام ، لما سار الى معاوية بن أبي سفيان ، وانتهى الى البليخ(١) عن شاطئ الفرات من أرض الجزيرة(٢) نزل بأصحابه بقرب دير فيه راهب يقال له : شمعون بن الصفا بن يحيى.

فلما أن رآه نزل إليه ، وسلّم عليه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إن عندنا كتابا ، يقال إنه من كتب(٣) حواري عيسى بن مريم فان شئت أتيتك به(٤) ، فقرأته.

فقال : قد شئت.

فأتاه بكتاب ، فيه وجدت هذا الحديث مكتوبا عند رحل ـ والله أعلم ـ ولم أسمعه من أحد :

بسم الله الذي قضى فيما قضى وسطر فيها كتب ، إنه يبعث في

__________________

(١) هكذا صححناه وفي الاصل : البلح. والبليخ : نهر بالجزيرة ، والجمع بلخ بالضم كما في القاموس.

(٢) ويسمى الآن بالموصل. ( محافظة نينوى ) العراق.

(٣) هكذا صححناه وفي الاصل : من كنت الحواري.

(٤) هكذا صححناه وفي الاصل : أنبئك به.

٣٦٧

الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على طريق الجنة ، وليس بفظ غليظ(١) ، ولاصحاب(٢) في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح. أمته الحامدون ، يحمدون الله في كل هبوط ، وعلى كل شرف(٣) وصعود ، يذلل ألسنتهم بالتهليل والتكبير ينتصر بهم على من ناواه ، فإذا قبضه الله إليه اختلفت امته ، ثم اجتمعت ، ثم اختلفت. فيقبل في ذلك الزمان رجل هو أولى الناس في الدين والقرابة ، وأولى الناس بالناس حتى ينزل هذا المكان ووصفه [ أنه ] يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويقضي بالحق ، ولا يدلس في الحكم ، ينصح لله في العلانية ، ويخافه في السر ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، الدنيا أهون عنده من رماد عصفت به الريح ، والموت عليه في جنب الله ألذ من شرب الماء البارد على الظماء ، فمن أدرك ذلك الزمان فليؤمن بذلك الرسول ، ويتبع هذا العبد الصالح ، ويقاتل معه ، فان القتل معه شهادة.

ثم قال شمعون : قد سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمنت به وصدقته ، وأدركتك ورأيت صفتك وما أنت عليه ، ونزلت إليك ، ولست بالذي أفارقك حتى يصيبني ما أصابك.

فبكى عليعليه‌السلام وبكى من [ كان ] حوله لبكائه. وقال : الحمد لله الذي لم يجعلني منسيا(٤) ، الحمد لله الذي ذكرني في كتب

__________________

(١) وفي الاصل : ليس بفظ ولا غليظ.

(٢) وفي نسخة هـ : ولا سحان.

(٣) وفي نسخة ـ هـ : هبوط وسير وصعود.

(٤) وفي المناقب ٢ / ٢٥٦ : الحمد لله الذي لم يخملني ولم يجعلني عنده منسيا.

٣٦٨

الأبرار عنده.

قال حبة العرني(١) : فكان ذلك الديراني رفيقي. وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام إذا تغدى غذاه معه ، وإذا تعشى عشاه معه ، حتى إذا كانت ليلة الهرير أصبح الناس يطلبون قتلاهم ، وخرج أمير المؤمنينعليه‌السلام فوجد شمعون بن يحيى الديراني بين القتلى قتيلا ، فصلّى عليه ، ودفنه ، وترحم عليه.

وقال : هذا منا أهل البيت.

[٧٣١] عباد بن يعقوب [ الرواجني ] ، عن الحارث بن الخزرج الأنصاري(٢) ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليعليه‌السلام : المتقدم بين يديك كافر ( يعني في الامرة التي ادعوها والبدعة التي شرعوها )(٣) وإن أهل السماوات يسمونك أمير المؤمنين.

[٧٣٢] أبو مخنف ، باسناده ، عن كميل بن زياد(٤) ، قال : أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وخرج بي نحو الجبانة(٥) ، فلما أصحر ، تنفس الصعداء.

ثم قال : يا كميل إن هذه القلوب أوعية ، وخيرها أوعاها ، احفظ عني ما أقول لك.

__________________

(١) هو حبّة بن جوين ( جوير ) العرني ، وكنية حبّة ( أبو قدامة ) ، وقيل ابن جرير العرني ، من أصحاب عليعليه‌السلام من اليمن. ونسب ابن داود إلى الكشي أنه ممدوح من القسم الأول. ( معجم رجال الحديث للسيد الخوئي : ج ٤ ص ٢١٤ تحت رقم ٢٥٤٦ ).

(٢) صاحب راية الأنصار مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٣) ما بين القوسين من نسخة ـ هـ ـ.

(٤) كميل بن زياد بن نهيك النخعي ولد ١٢ هـ من أصحاب أمير المؤمنين وكان شريفا مطاعا في قومه ، شهد صفين مع عليعليه‌السلام ، سكن الكوفة قتله الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي صبرا.

(٥) أي المقابر.

٣٦٩

الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيؤوا بنور الهدى ، ولم يلجئوا الى ركن وثيق.

يا كميل بن زياد ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك(١) وأنت تحرس المال ، العلم حاكم ، والمال محكوم عليه ، المال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق.

يا كميل ، محبة العلم دين يدان به الله يكسب الطاعة من طلبه في حياته ، وحسن الاحدوثه بعد وفاته ، منفعة المال تزول بزواله ، ومنفعة العلم باقية ببقاء حامله.

يا كميل ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة.

ثم قال : آه إن هاهنا ـ وأشار الى صدره ـ علما جما لو أصبت له حملة ، بل أصبت لقنا غير مأمون يستعمل آلة الدين للدنيا يستظهر بحجج الله على أوليائه ، وبنعمه على معاصيه ، أو مأمونا غير لقن منقادا لجملة الحق لا بصيرة له يقدح الشك في قلبه بأول عارض من الشبهة لا ذا ولا ذاك ، ورجلا منهمكا في اللذة سلس القياد للشهوة ، مغرما(٢) بالادخار ليسوا من دعاة الدين ، بل هم أقرب شبها بالأنعام السائمة كذلك يموت العلم بموت حملته.

اللهمّ لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا موجودا ، وإما خائفا مغمودا لئلا تبطل حجتك وبيناتك ، [ وان اولئك الاقلون

__________________

(١) وفي نسخة ـ هـ : يحرشك.

(٢) وفي نسخة ـ هـ : معرضا.

٣٧٠

عددا ](١) الأعظمون قدرا يحفظ الله عزّ وجلّ بهم حججه حتى يودعوها نظرائهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم حتى عرفوا حقائق الامور فباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدانهم ، وأرواحهم معلقة بالملإ الأعلى ، اولئك أولياء الله من خلقه ، والدعاة الى دينه ، آه شوقا إليهم.

أستغفر الله لي ولك ، انصرف إذا شئت.

[٧٣٣] الأعمش(٢) ، باسناده ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال لجابر بن عبد الله : يا جابر ما تقول في شجرة أنا أصلها وعلي فرعها والحسن والحسين ثمارها ، من تعلق بشيء منها اورده الجنة.

__________________

(١) هكذا صححناه من أمالي المفيد : ١٥٥ وفي الاصل : وكم وأين اولئك الأعظمون.

(٢) وهو أبو محمّد سليمان بن مهران الأسدي الملقب الاعمش ولد ٦١ هـ أصله من بلاد الري ومنشأه ووفاته في الكوفة ١٤٨ ه‍.

٣٧١

[ الأعمش والمنصور ]

[٧٣٤] سليمان الأعمش قال : وجّه في طلبي أبو الدوانيق(١) في جوف الليل. فقلت في نفسي : والله ما وجه في طلبي في هذا الوقت إلا ليسألني عن فضائل علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فإن أنا صدقته قتلني ، وإن أنا كتمته وكذبته خرجت من ديني. والله لئن أموت على الحق خير من أن أعيش على الباطل.

قال : فاغتسلت ولبست ثيابا نقية ، وتحنطت بحنوط الموتى ، ومضيت مع الرسول ، فأدخلني عليه ، فسلّمت. فردّ عليّ ، وأدناني من مجلسه وأمرني بالجلوس ، فجلست ، فوجد رائحة الحنوط.

فقال لي : يا سليمان ما هذه الرائحة؟

قلت : اصدّقك؟

قال : نعم. قلت : لما جاءني رسولك في هذه الساعة ، قلت في نفسي : ما وجّه إليّ إلا ليسألني عن فضائل علي ، فان أنا صدقته قتلني.

__________________

(١) وهو أبو جعفر ، عبد الله بن محمّد بن علي بن العباس المنصور ثاني خلفاء بني العباس ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان ٩٥ هـ ، وتولى الخلافة بعد أخيه السفاح ١٣٦ هـ ، بنى بغداد ١٤٥ هـ وجعلها دار ملكه بدلا من الهاشمية ، عرف بالبخل وسفك الدماء ، توفي بمكة ودفن بالحجون ١٥٨ ه‍.

٣٧٢

فاغتسلت وتكفنت وتحنطت موطنا على ذلك نفسي.

فقال لي : يا سليمان كم رويت من فضائل عليعليه‌السلام ؟

قلت : أكثر من ستة وثلاثين ألف فضيلة(١) .

فقال لي : يا سليمان لاحدّثنك بفضيلة ما أحسبك رويتها فيما رويته! قلت : حدّثني.

قال : كنت هاربا من بني مروان في أطراف البلاد مختفيا في الخلق أتوسل الى الناس بما رويت من فضائل عليعليه‌السلام فكنت بحلوان ، فمررت يوما بمسجد من مساجدها ، فدخلت أصلّي وفي نفسي أن أسأل القوم في قوت أتقوت به ، فلما قضى الإمام صلاته ، استدبر القبلة وتوجه إلينا(٢) ، وإذا نحن بغلامين قد دخلا من باب المسجد ما رأيت أجمل منهما ، فوثب الإمام من موضعه ، فقبّل ما بين أعينهما.

وقال : مرحبا بكما وبسميكما ، وكان الى جانبي شاب جالس.

فقلت : ما هذا الغلامان من الشيخ؟

فقال : هما ابنا ابنته ، وليس في هذه المدينة أحد يتشيع غيره ، وإنسان آخر.

فقلت : ومن أراد بتسميتها؟

قال : الحسن والحسين.

قال : فأقبلت على الشيخ ، وقلت : هل لك في حديث فيقرّ الله به عينك؟

__________________

(١) وفي مناقب الخوارزمي ص ٢٠١ : قلت : عشرة آلاف حديث وما يزداد.

(٢) وفي مناقب الخوارزمي ص ٢٠٢ : فلم أر أحدا منهم يتكلم توقيرا لامامهم.

٣٧٣

قال : إن أقررت عيني أقررت عينيك.

قلت : حدثني أبي ، عن جدي(١) ، قال : بينا أنا جالس في مجلس النبي ، فإذا نحن بفاطمة صلوات الله عليها قد أقبلت ، فقالت : يا رسول الله ، إن الحسن والحسين خرجا من عندي وقد بطيا عني ، ولا أدري أين هما.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا فاطمة ، إن الله أرأف بهما مني ومنك.

ثم رفع يديه نحو السماء ، فقال : اللهمّ احفظهما بعينك التي لا تنام حيث كانا ، وأين كانا.

فهبط جبرائيلعليه‌السلام ، فقال : يا محمّد إن الله يقرئ السّلام عليك ، ويقول لك : يا محمّد لا تحزن عليهما ، فإنهما في حفظي ، وهما نائمان في حظيرة بني النجار ، وقد وكلت بهما ملكين يحفظانهما.

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقمنا معه حتى [ أتى ] الحظيرة. فوجدهما نائمين ، فأكبّ عليهما ، وجعل يقبّل بين عيني كل واحد منهما حتى استيقظا ، فحملهما على عاتقيه ، وجعل يسرع في مشيته ويقول : نعم المطي مطيكما ، ونعم الراكبان أنتما ، وأبوكما خير منكما حتى دخل بهما المسجد.

ثم قال : والله لاشرفنكما اليوم كما شرفكما الله عزّ وجلّ. ثم أقبل على جماعة أصحابه ، ثم قال :

أيها الناس ألا انبئكم بخير الناس أبا وأما؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

__________________

(١) وفي المناقب للخوارزمي : قال : من والدك وجدك؟ قلت : محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس.

٣٧٤

قال : هذان الحسن والحسين أبوهما علي بن أبي طالب ، وأمهما فاطمة الزهراء سيدة النساء العالمين.

ألا انبئكم بخير الناس جدّا وجدة؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : هذان الحسن والحسين جدهما رسول الله ، وجدتهما خديجة أول من آمن بالله ورسوله(١) .

ألا أخبركم بخير الناس عما وعمة؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذان الحسن والحسين عمهما جعفر ذو الجناحين ، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب ، ما أشركت بالله طرفة عين.

ألا أخبركم بخير الناس خالا وخالة؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : هذان الحسن والحسين خالهما قاسم بن رسول الله ، وخالتهما زينب [ بنت ] رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله عزّ وجلّ ليعلم أن أباهما وأمهما وجدهما وجدتهما وخالهما وعمهما وعمتهما في الجنة.

قال : فلما سمع الشيخ مني هذا الحديث ، نظر ، وقال : من أين أنت يا فتى؟

قلت : من أرض الكوفة.

قال : أعربي أم مولى؟

__________________

(١) وفي بشارة المصطفى ص ١١٥ : وجدتهما خديجة الكبرى بنت خويلد سيدة نساء الجنة.

٣٧٥

قلت : عربي.

قال : أنت تحسن مثل هذا الكلام وتكون في مثل هذه الحال. فخلع عليّ خلعة وحملني على بغلة ورفع إليّ نفقة.

ثم قال لي : إن في مدينتا هذه أخا من إخوانك ، فإذا أنت خرجت من هذا الدرب الذي بين يديك ، فستراه جالسا على مسطبة له. فتقدم إليه ، وارو له من فضائل عليعليه‌السلام شيئا فانه سيغنيك عن جميع الناس.

فركبت البغلة ، فلما خرجت من الدرب الذي وصف لي بصرت بالرجل على ما وصفه لي فقصدت إليه ، ونزلت فسلّمت عليه.

فقال لي : إني لأعرف البغلة وأعرف الخلعة وما كساك وحملك من كساك إلا وأنت تحب أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقلت : أجل! قال : فحدثنا ممّا حدثته به.

فقلت : حدثني أبي عن جدي ، أنه قال : بينا نحن جلوس مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ دخلت فاطمةعليها‌السلام فقالت ـ وهي تبكي ـ : يا رسول الله ، إن نساء قريش يقلن لي إن أباك قد زوّجك رجلا فقيرا لا شيء له وقد خطبك أكابر قريش.

فقال لها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا فاطمة والذي بعث أباك بالحق واصطفاه بالرسالة ما زوّجتك عليا حتى زوّجتك الله إياه من فوق عرشه. اعلمي يا فاطمة إنه لما أراد الله عزّ وجلّ تزويجك عليا ، اوحى الى جبرائيل أن ناد في السماوات السبع.

فنادى جبرائيلعليه‌السلام ، فاجتمع الملائكة الى السماء الرابعة بازاء البيت المعمور. ثم أمر جبرائيل فنصب منبرا من نور عرشه وأمره

٣٧٦

أن يخطب ، ويزوجك عليا ، فكان الخاطب جبرائيلعليه‌السلام ، والولي الله ، والشاهد الملائكة.

ثم أوحى جلّ ثناؤه الى رضوان ـ خازن الجنان ـ أن زخرف الجنان ، وزين الحور. وأمر الله عزّ وجلّ شجرة طوبى أن احملي ، فحملت ، وأمرها أن تنثر على الحور من عجائب ما انتثر عليهم ، فكل حورية خلقت بعد ذلك ، فالتي خلقت قبلها تفتخر عليها بما عندها من نثار ملاكك.

يا فاطمة إن الله عزّ وجلّ نظر الى الأرض نظرة فاختار منها عليا فجعله لك بعلا.

يا فاطمة إن عليا وشيعته هم الفائزون.

قال : فلما سمع الرجل هذا الحديث ، قال لي : ممن تكون؟

قلت : رجل من أهل الكوفة.

قال : أعربي أم مولى؟

قلت : عربي.

فدفع لي ألف درهم وعشرين ثوبا(١) ، وقال لي : يا فتى قد وجب حقك وأراك محبا لعليعليه‌السلام ومن شيعته ، وأنا أطرفك بشيء تحدث به من فضله فيه عبرة لمن سمعه.

قلت : وما هو؟

قال لي : إذا كان غدا ، فانطلق الغداة الى مسجد بني فلان لترى شيئا ما رأيت ولا سمعت مثله.

فو الله ما تمت ليلتي تلك ، ولقد طالت عليّ ، فلما أتيت المسجد ،

__________________

(١) وفي مناقب الخوارزمي ص ٢٠٧ : أمر لي بعشرة آلاف درهم وكساني ثلاثين ثوبا.

٣٧٧

فوجدت الإمام يقيم الصلاة ، فنظر إليّ رجل ، فكأنه عرفني. فأخذ بيدي وتقدم معي الى الصف الأول ، فزحم بي ، فأدخلني بين رجلين.

فلما صلّينا أخذ بيدي وبيد أحد الرجلين ، ومال بنا الى ركن من أركان المسجد ، وتفرق الناس ، فنظرت الى الرجل الذي صلّيت الى جانبه متلثما ما يبين منه غير عينيه.

فقال له الرجل : هذا الرجل الذي بعث به إليك فلان.

فأقبل إليّ وسلّم عليّ ورحب بي ، وحدثني حتى آنست به ، ثم حسر اللثام عن وجهه. فنظرت الى وجهه وجه خنزير لا أشك فيه أنه كذلك ، فراعني ما رأيت.

فقال لي : يا بني أخبرك بما أرسلت إليّ أن أخبرك به. كنت من أجمل الناس وجها وأحسنهم خلقا ، وكنت أرى رأي الخوارج ، فغلوت في ذلك ، وكنت كلما أذنت لصلاة ، أسبّ علياعليه‌السلام وألعنه ـ ما بين أذاني وإقامتي للصلاة ـ مائة مرة ، حتى كان بيوم جمعة ، فلعنته خمسمائة مرة ، ثم صلّيت.

فلما قضيت الصلاة انصرفت الى منزلي(١) ، فوضعت جنبي ، فنمت ، فرأيت من منامي روضة خضراء مزخرفة وفيها نفر جلوس لم أر أحسن منهم ، معهم شبابان بأيديهما إبريق وكأس من فضة ، ورجل هو أفضل الجماعة فيما يرى ، وأحسنهم وجها ، وهيئة. يقول للشابين : اسقياني. فسقياه. ثم قال : اسقيا أباكما. فسقيا رجلا الى جانبه. ثم قال : اسقيا عم أبيكما حمزة. فسقيا رجلا(٢) . ثم قال : اسقيا

__________________

(١) وفي الاصل : منزلتي.

(٢) هكذا في نسخة هـ وفي الاصل : اخرف.

٣٧٨

عمكما(١) جعفر. فسقياه آخر. فكأني قد لغبت(٢) عطشا.

فسألت الرجل أن يأمرهما أن يسقياني. فقال لهما : اسقيا هذا.

فقالا : لا يا رسول الله ، إنه يلعن أبانا كل يوم مائة مرة ، وقد لعنه اليوم خمسمائة مرة(٣) .

فقال : نعم لا تسقياه ، لا سقاه الله بل لعنه بكل لعنة ألف لعنة. ثم قال : اللهمّ شوّه خلقه في الدنيا ، واجعله آية لمن رآه من عبادك.

فانتبهت من نومي ، وقد أنكرت نفسي ، وضربت بيدي الى وجهي ، فإذا هو على ما تراه ، فأنا منذ ذلك الوقت أترحم على عليعليه‌السلام واصلّي عليه أضعاف ما كنت ألعنه. فلعل الله أن يكفّر عني ما سلف.

قال الأعمش : ثم قال لي أبو جعفر ، فهل سمعت بهذا الحديث يا سليمان؟

قلت : لا(٤) .

ثم جعل يحدثني بفضائل عليعليه‌السلام ويسألني واحدثه حتى

__________________

(١) وفي الاصل : اسقيا عمك.

(٢) أي ضعفت.

(٣) وفي مناقب الخوارزمي : كل يوم الف مرّة ولعنه اليوم أربعة آلاف مرّة.

(٤) واضاف في مناقب الخوارزمي : قال : يا سليمان حب علي إيمان وبغضه نفاق لا يحب عليا إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر.

فقلت : يا أمير المؤمنين لي الأمان؟

فقال : لك الأمان.

فقلت : ما تقول فيمن يقتل هؤلاء؟

قال : في النار ولا أشك في ذلك. قلت : فما تقول فيمن قتل أولادهم وأولاد أولادهم؟

قال : فنكس رأسه ثم قال : يا سليمان الملك عقيم ، ولكن حدّث عن فضائل ...

٣٧٩

أصبح.

[٧٣٥] علي بن إبراهيم بن الهاشم ، باسناده ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الحمراء ـ خادم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : رأيت ـ ليلة اسري بي ـ على العرش مكتوبا لا إله إلا أنا وحدي ، خلقت جنة عدن بيدي ، محمّد صفوتي من خلقي ، أيدته بعلي.

[٧٣٦] إسحاق بن أحمد البخاري ، باسناده ، عن أنس بن مالك ، أنه قال : نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى عليعليه‌السلام ، فقال :

سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، يا علي حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله. [ فطوبى لمن أحبك من بعدي ](١) .

[٧٣٧] محمّد بن الحسين ، باسناده ، عن أبي علقمة ، قال : صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما صلاة الفجر ، فلما سلّم ، التفت إلينا.

فقال : ألا أخبركم برؤيا رأيتها البارحة في منامي؟

قلنا : بلى يا رسول الله.

قال : رأيت عمي حمزة وابن عمي جعفر رضوان الله عليهما وبين أيديهما طبق فيه نبق ، فأكلا منه مليّا ، ثم تحول النبق عنبا ، فأكلا منه مليا ، ثم تحول العنب رطبا ، فأكلا منه مليا. فقلت لهما بأبي وأمي قد صرتما الى الآخرة وعملتما ، فأي الأعمال في الدنيا أفضل؟ فأخبراني أيها وجدتما أفضل؟

فقالا : فديناك بالآباء والامهات وجدنا أفضل الأعمال : الصلاة

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة موجودة في بشارة المصطفى ص ١٦٠.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610