الفضائل

الفضائل0%

الفضائل مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 206

الفضائل

مؤلف: لأبى الفضل سديد الدين شاذان بن جبرائيل بن إسماعيل ابن أبي طالب القمّي
تصنيف:

الصفحات: 206
المشاهدات: 62291
تحميل: 6530

توضيحات:

الفضائل
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62291 / تحميل: 6530
الحجم الحجم الحجم
الفضائل

الفضائل

مؤلف:
العربية

الفضائل

لأبى الفضل سديد الدين شاذان بن جبرائيل بن إسماعيل ابن أبي طالب القمّي

نزيل المدينة النبوية

وهو صاحب كتاب (إزاحة العلّة) المذكور في (البحار) وكان من مشايخ الإجازة، روى عنه فخار بن مَعْد الموسوي وروى هو عن أبيه وعن العماد الطبَري صاحب كتاب (بشارة المصطفى) (المطبوع في النجَف)، وقد عاصَر ابن إدريس، وتوفّي في حدود سنة 660 هـ‍، منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها في النجف الأشرف 1962 م - 1381 هـ‍.

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، مِن الآن إلى يوم الدين.

٢

إحياء عليّ (عليه السلام) للميّت

  حدّثني الشيخ الفقيه (أبو الفضل شاذان بن جبرئيل القمّي) قال: حدّثني الشيح محمّد بن أبى مسلم بن أبي الفوارس الدارمي، وقد رواه كثير من الأصحاب، حتى انتهى إلى أبي جعفر ميثم التمّار، قال: بينما نحن بين يدَي مولانا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بالكوفة وجماعة من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مُحدقون به كأنّه البدر في تمامه بين الكواكب في السماء الصاحية، إذ دخَل عليه من الباب رجلٌ طويل علية قِباء خز أدكَن متعمّم بعمامةٍ أتحميّة صفراء وهو مقلّد بسيفين، فدخَل من غير سلام ولَم ينطق بكلام فتطاول الناس بالأعناق، ونظروا إليه بالآماق، وشخَصوا إليه بالأحداق، ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لا يرفع رأسه إليه، فلمّا هدأت من الناس الحواس فحينئذٍ أفصَح عن لسانه كأنّه حسام جُذِب مِن غمده، ثمّ قال: أيّكم المجتبى في الشجاعة، والمعمّم بالبراعة، والمدرّع بالقناعة، أيّكم المولود في الحرَم، والعالي في الشيَم، والموصوف بالكرَم؟

٣

أيّكم الأصلع الرأس، والثابت الأساس، والبطل الدعّاس، والآخذ بالقَصاص، والمضيّق للأنفاس؟ أيّكم غصنُ أبي طالب الرطيب، وبطَله المهيب، والسهم المصيب والقسم والنجيب؟ أيّكم خليفة محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي نُصِر به في زمانه، وعزّ به سلطانه، وعظُم به شأنه؟ أيّكم قاتل العُمَرين وآسر العُمَرين؟ فعند ذلك رفَع أمير المؤمنين (عليه السلام) رأسه إليه فقال له (عليه السلام): (يا مالك، يا أبا سعْد بن الفضل بن الربيع بن مدركة ابن نجيبة بن الصلْت بن الحارث بن الأشعث بن السمعمع الدويني، سل عمّا بدا لك، فأنا كنزُ الملهوف، وأنا الموصوف بالمعروف، أنا الذي أفرعتني الصمّ الصلاب، وأنا المنعوت في كلّ كتاب، أنا الطود والأسباب أنا ق والقرآن المجيد، وأنا النبأ العظيم، أنا الصراط المستقيم، أنا علي موآخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وزوج ابنته ووارث عِلمه وعيبة حكمته والخليفة مِن بعده).

فقال الإعرابي: بلَغنا عنك إنّك معجز النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمام الولي ليس لك مطاول فيطاولك، ولا مُمانع فيصاولك، أهو كما بلغنا عنك يا فتى قومه؟ قال عليّ (عليه السلام): (قل ما بدا لك)، فقال: إنّي رسولٌ إليك من ستّين ألف رجُل يُقال لهم (العقيمية)، وقد حملوا معي رجُلاً ميّتا قد مات منذ مدّة وقد اختُلِف في سببِ موته وهو على باب المسجِد فإنْ أحييته علِمنا أنّك وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صادقٌ نجيب الأصل وتحقّقنا أنّك حجّة الله في أرضه، وخليفةٌ في عباده، وإنْ لم تقدِر على ذلك ردَدته على قومه وعلِمنا أنّك تدّعي غير الصواب وتُظهِر مِن نفسِك مالا تقدِر عليه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا أبا جعفر، (وهو ميثم التمّار) اركب بعيراً وطُف في شوارع الكوفة ومحلاّتها، ونادِ مَن أراد أنْ ينظر إلى ما أعطى الله عليّاً أخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بعل فاطمة (عليها السلام) ممّا أودعه رسول الله مِن العِلم فيه فليخرج إلى النجف غداً)، فهرع الناس إلى النجف فلمّا رجع

٤

ميثم من النداء قال له عليّ (عليه السلام): (خذ الإعرابي إلى ضيافتك، فغداة غد سيأتيك الله بالفرج) قال ميثم: فأخذت الإعرابي ومعه محمل فيه ميّت فأنزلته منزلي وأخدمته أهلي، فلمّا صلّى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الفجْر خرَج وخرجْت معه ولَم يبقَ في الكوفة بَرٌّ ولا فاجر إلاّ و خرَج إلى النجف، فقال (عليه السلام): (يا أبا جعفر، علَيَّ بالإعرابي وصاحبه الميّت) فخرجتُ مِن عنده وإذا أنا بالإعرابي وهو راجل تحت القبّة التي فيها الميّت فأتى بها إلى النجف، فعند ذلك قال (عليه السلام): (يا أهل الكوفة، قولوا فينا ماتَرَونه، وارووا عنّا ما تسمعونه، وأوردوا ما تُشاهدونه منّا)، ثمّ قال: (يا إعرابي، ابرك جملَك واخرج صاحبك أنت وجماعة من المسلمين).

قال ميثم: فاخرج تابوتا من الساج وفيه من قصَب وطاء ديباج فحلّه وإذا تحته بدرة من اللؤلؤ وفيها غلامٌ قد تمّ عذاره بذوائب كذوائب المرأة الحسناء، فقال (عليه السلام): (يا إعرابي كم لميّتك هذا) فقال: أحد وأربعون يوماً، فقال: (ما كان سبب موته)، فقال الإعرابي: يا فتى، أهله يريدون أنْ تُحييه ليخبرهم مَن قتَلَه فيعلموه، لأنّه بات سالماً وأصبح مذبوحاً من الأُذن إلى الأُذن، فقال له (عليه السلام): (مَن يطلب بدمه؟) قال خمسون رجلاً من قومه يعضُد بعضُهم بعضاً في طلَب دمِه، فاكشف الشكّ والريب يا أخا رسول الله، فقال (عليه السلام):

  (هذا الميّت قتَلَه عمّه؛ لأنّه تزوّج ابنته فخلاّها وتزوّج غيرها فقتَلَه حُنقا عليه) فقال الإعرابي: لسنا نرضى بقولك وإنّما نريد أنّ يشهد هذا الغلام بنفسه عند أهله، مَن قتله حتى لا يقع بينهم السيف والفتنة والقتال، فعند ذلك قام عليّ (عليه السلام) فحمِد الله وأثنى عليه وذكَر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فصلّى عليه ثمّ قال: (يا أهل الكوفة، ما بقرة بني إسرائيل بأجلّ مِن عليّ أخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وإنّها أحيَت ميّتاً بعد سبعة أيّام) ثمّ دنا من الميّت فقال: (إنّ بقرة بني إسرائيل ضرَب بعضها الميّت فعاش، وأنا أضربه ببعضي فإنّ بعضي عند الله خيرٌ مِن البقرة كلّها) ثمّ هزّه برجله اليُمني وقال: (قُم بإذن الله تعالى يا مدرك بن حنضلة بن غسّان بن يحيى بن سلامة ابن الطبيب

٥

ابن الأشعث، فها قد أحياك الله تعالى على يدَيّ عليّ بن أبي طالب).

قال ميثم التمّار: فنهَض غلامٌ أحسَن من الشمس أوصافاً ومِن القمر أضعافاً وقال: لبّيك لبّيك يا حجّة الله تعالى على الأنام، والمتفرّد بالفضل والإنعام، فقال له عليّ (عليه السلام): (مَن قاتلك؟) فقال: قاتلي عمّي الحاسد حبيب بن غسّان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (انطلق إلى اهلك يا غلام) قال لا حاجة بي إلى أهلي، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولِمَ؟)، قال: أخاف أنْ أُقتَل ثانية ولا تكون أنتَ فمَن يحييني؟ فالتفت الإمام (عليه السلام) إلى الإعرابي وقال: (امض أنت إلى أهلِك واخبرهم بما رأيت) فقال الإعرابي: وأنا أيضاً قد اخترت المقام معك إلى أنْ يأتي الأجل فلعَن الله تعالى مَن انجلى له الحق ووضح وجعل بينه وبين الحقِّ سِترا، فأقاما مع عليّ (عليه السلام) إلى أنْ قتَلا معه بصفّين وسار أهل الكوفة إلى منازلهم واختلفوا في أقاويلهم فيه (عليه السلام)

٦

  خبر ابن عبّاس في فضل عليّ

(خبر آخر): عن ابن عبّاس (رضي الله عنه)، قال سمِعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (أعطاني الله تعالى خمساً وأعطى عليّاً (عليه السلام) خمساً، أعطاني جوامِع الكلِم وأعطى عليّاً جوامع العِلم، وجعَلني نبيّاً وجعَله وصيّاً، وأعطاني الكوثر وأعطاه السلسبيل، وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام، وأسرى بي إليه وفتَح له أبواب السماوات والحُجب حتى نظَر إليّ ونظرت إليه) قال: ثمّ بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ له: ما يُبكيك يا رسول الله، فداك أبي وأُمّي قال: (بابن عبّاس، إنّ أوّل ما كلّمني به ربّى (قال يا محمّد انظر تحتك)، فنظرت إلى الحُجُب قد انخرقت وإلى أبواب السماء قد انفتَحَت ونظرت إلى عليّ وهو رافعٌ رأسه إليّ، فكلّمني وكلّمته وكلّمني ربّي عزّ وجل).

قال: فقلت: يا رسول الله بما كلّمك ربّك قال: (قال لي: (يا محمّد، إنّي جعلتُ عليّاً وصيّك ووزيرك وخليفتك من بعدك، فاعلمه فها هو يسمَع كلامك) فأعلَمته وأنا بين يدَي ربّى عزّ وجل فقال لي: (قد قبلت واطّلعت) فأمر الله تعالى الملائكة يتباشرون به وما مرَرت بملأٍ من ملائكة السماوات إلاّ هنّأوني وقالوا يا محمد والذي بعثك بالحق نبيا لقد دخل السرور على جميع الملائكة باستخلاف الله عزّ وجل ابن عمك ورأيت حملة

٧

العرش قد نكّسوا رؤوسَهم إلى الأرض، فقلتُ: يا جبرائيل، لمَ نكّس حمَلة العرش رؤوسهم؟ قال: يا محمّد، ما مِن ملَك من الملائكة إلاّ وقد نظَر إلى وجه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) استبشاراً به ما خلا حمَلَة العرش، فإنّهم استأذنوا الله عزّوجل في هذه الساعة فأذِن لهم فنظروا إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فلمّا هبَطت جعلتُ أُخبره بذلك وهو يُخبرني به، فعلمتُ أنّي لم أطأ موطئاً إلاّ وقد كُشِف لعليّ عنه حتى نظر إليه).

فقال ابن عبّاس (رضي الله عنه): فقلت: يا رسول الله: أوصني، فقال: (عليك بمودّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي بعثني بالحقّ نبيّا لا يَقبل الله تعالى مِن عبدٍ حسنَةً حتى يسأله عن حبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو بقول أعلم، فمَن مات على ولايته قُبِل عمَله ما كان منه، وإنْ لم يأتِ بولايته لا يُقبَل مِن عملِه شيء، ثمّ يؤمَر به إلى النار، يابن عباس، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً إنّ النار لأشدّ غضَباً على مُبغِض عليّ (عليه السلام) منها على مَن زعَم أنّ لله ولداً، يابن عبّاس لو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين اجتمعوا على بغض عليّ بن أبي طالب مع ما يقَع من عبادتهم في السموات، لعذّبهم الله تعالى في النار).

قلتُ: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟ قال: (يابن عبّاس، نعَم يبغضه قومٌ يُذكر مِن أنّهم مِن أُمّتي لم يجعَل الله لهم في الإسلام نصيباً، يا ابن عبّاس، إنّ مِن علامة بُغضهم له تفضيلهم لمَن هو دونه عليه، والذي بعثَني بالحقّ نبيّاً ما بعَث الله نبيّاً أكرم عليه منّي ولا وصيّاً أكرَم عليه من وصيّي).

قال ابن عبّاس فلَم أزَل له كما أمَرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأوصاني بمودّته وأنّه لأكبر عملي عندي، قال ابن عبّاس: ثمّ مضى مِن الزمان ما مضى وحضَرَت رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) الوفاة، فقلتُ فِداك أبي وأُمّي يا رسول الله، (صلّى الله عليه وآله) وقد دنا أجلُك فما تأمرني؟ قال: (يا ابن عبّاس، خالف مَن خالف عليّاً ولا تكونّن لهم ظهيراً ولا وليّاً).

قلت: يا رسول الله، ولِم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟ قال: فبكى (صلّى الله عليه وآله) ثمّ قال: (يا ابن عبّاس سبَق فيهم علم ربّي، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لا يخرج أحدٌ ممّن خالفه من الدنيا وأنكر حقّه

٨

حتى يُغيّر الله تعالى ما به من نعمة، يا ابن عبّاس إذا أردتَ أنْ تلقى الله تعالى وهو عنك راضٍ فاسلك طريقة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومل معه حيث مال، ارض به إماما، وعاد من عاداه ووال من والاه، يا ابن عبّاس حذر من أنْ يدخلك شكٌّ فيه؛ فإنّ الشكّ في عليّ كُفرٌ بالله تعالى).

(خبرٌ آخر) عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام)، عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (إنّ جبرائيل (عليه السلام) نزَل علَيّ وقال: يا محمّد، إنّ الله تعالى يأمرك أنْ تقوم بتفضيل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) خطيباً على المنبر؛ ليبلّغوا من بعدهم ذلك عنك، ويأمر جميع الملائكة أنْ يسمَعوا ما تذكره، والله يوحي إليك يا محمّد إنّ مَن خالفَك في أمرك فله النار، ومن أطاعك فله الجنّة).

فأمَر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) منادياً نادى بالصلاة جامعة، فاجتمع الناس وخرَج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورقى المنبر، وكان أوّل ما تكلّم به: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم) ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (أيّها الناس، أنا البشير أنا النذير أنا النبي الأُمّيّ، وأنا مبلّغكم عن الله عزّ وجل في رجلٍ لحمه لحمي ودمه دمي، وهو عيبة عِلمي وهو الذي انتخبه الله تعالى من هذه الأُمّة واصطفاه وهذّبه وتولاّه، وخلقني وإيّاه من نورٍ واحد وفضّلني بالرسالة وفضّله بالإمامة والتبليغ عنّي، وجعلني مدينة العِلم وجعلَه الباب خازن العلم والمفتّش منه الأحكام، وخصّه بالوصية وأبان أمره وخوّفَ من عداوته، وأزلَف لمَن والاه وغفَر لشيعته وأمر الناس جميعا بطاعته، وأنّه عزّ وجل ويقول: مَن عاداه عاداني ومَن والاه والاني، ومَن آذاه آذاني ومن ناصبه ناصبني، ومن خالفه خالفني ومن أبغضه أبغضني، ومَن أحبّه أحبّني ومَن أراده أرادني ومَن كاده كادني ومن نصره نصرني، أيّها الناس، اسمعوا لما آمركم به وأطيعوه فأنا أُخوّفكم عقاب الله تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) )، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

٩

وقال: (معاشر الناس، هذا مولى المؤمنين وحجّة الله على الخلق أجمعين، اللهم إنّي قد بلّغت وهُم عبادك وأنت القادر على صلاحهم فأصلحهم برحمتك يا ارحم الراحمين، استغفر الله لي ولكم).

ثمّ نزَل عن المنبر فاتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال: (يا محمّد، إنّ الله تعالى يُقرئك السلام ويقول لك: جزاك الله تعالى عن تبليغك خيراً؛ فقد بلّغت رسالات ربّك ونصحت لأُمّتك وأرضيت المؤمنين وأرغمت الكافرين، يا محمّد، إنّ ابن عمّك مبتلى ومبتلىً به، يا محمّد، قل في كلّ أوقاتك الحمد الله ربّ العالمين وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والحمد لله حق حمده).

(خبرٌ آخر): عن جابر بن يزيد الجعفي قال: خدمت سيّدنا الإمام عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وودّعته وقلتُ أفدني فقال: (يا جابر، بلّغ شيعتي منّي السلام وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزّ وجل ولا يقترب إليه إلاّ بالطاعة له، يا جابر، مَن أطاع الله وأحبّنا فهو وليّنا ومَن عصى الله لم ينفعه حبّنا، ومَن أحبّنا وأحب عدوّنا فهو في النار، يا جابر، مَن هذا الذي سأل الله تعالى فلَم يعطه، وتوكّل عليه فلم يكفِه، ووثق به فلَم يُنجّه، يا جابر انزل الدنيا منك كمنزلٍ نزلته فإنّ الدنيا للتحويل عنها، وهل الدنيا إلاّ دابّة ركِبتها في منامك فاستيقظت وأنتَ على فراشك، هي عند ذوي الألباب كفئ الظلال، لا إله إلا الله أعذار لأهل دعوة الإسلام، والصلاة تثبيت للإخلاص وتنزيه عن الكبر، والزكاة تزويد في الرزق، والصيام والحج لتسكين القلوب، والقصاص والحدود لحقن الدماء، فإنّ أهل البيت نظام الدين، جعلنا الله وإيّاكم من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهُم من الساعة مشفقون).

(وممّا قاله النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في فضل عليّ وأهل بيته): عن ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم جالساً إذا أقبل الحسن (عليه السلام) فلمّا رآه بكى ثمّ قال: (إليّ إليّ يا بنيّ)، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيمن، ثمّ أقبل الحسين (عليه السلام) فلمّا رآه بكي ثمّ قال: (إليّ إليّ يا بنيّ) فما زال

١٠

يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيسر، ثمّ أقبلت فاطمة (عليه السلام) فلمّا رآها بكى ثمّ قال: (إليّ إليّ يا بنيّة) فما زال يُدنيها حتى أجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فلمّا رآه بكى ثمّ قال: (إليّ إليّ يا أخي) فما زال يُدنيه حتى أجلسه إلى جنبيه الأيمن، فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى أحداً من هؤلاء إلاّ بكيت، أوَ ما فيهم مَن تسر برؤيته؟

فقال (صلّى الله عليه وآله): (والذي بعثني بالحقّ نبيّاً وبشيراً ونذيراً واصطفاني على جميع البرية، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليّ منهم، أمّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فإنّه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كلّ مؤمن وقائد كلّ تقيّ وهو وصيّي وخليفتي على أُمّتي في حياتي وبعد مماتي، مُحبّه مُحبّي ومُبغضه مُبغضي، وبولايته صارت أُمّتي مرحومة، وبعد وفاتي صارت بالمخالفة له ملعونة فإنّي بكيت حين أقبل لأنّي ذكرت غدر الأُمّة به بعدي، حتى أنّه ليُزال عن مقعدي وقد جعلَه الله بعدي له، ثمّ لا يزال الأمر به حتى يُضرَب على قَرنه ضربةً تخضّب منها لحيته في أفضل الشهور، وهو شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان.

وأمّا ابنتي فاطمة (عليها السلام) فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعةٌ منّى وهي نور عيني وثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبَي وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدَي ربّها جلّ جلاله زهَر نورها للملائكة في السماء كما يزهر الكواكب لأهل الأرض، فيقول الله عزّ وجل للملائكة: يا ملائكتي، انظروا أَمَتي فاطمة سيّدة نساء خلْقي قائمة بين يدَيّ، ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبَلت بقلبها على عبادتي، أُشهدكم أنّي قد آمنت شيعتها من النار، وأنّي لما رأيتها تذكّرت ما يَصنع بها بعدى، وكأنّي بها وقد دخَل عليها الذلّ في بيتها وانتُهكت حُرمتها، وغُصبت حقَّها ومُنِعت إرثها، وكُسِر جَنبُها وسقط جنينها، وهي تنادي: وامحّمداه، فلا تُجاب وتستغيث

١١

فلا تغاث فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، فتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة وتذكر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقدي وفقد صوتي، الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن، ثمّ تُرى ذليلةً بعد أنْ كانت عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره، بملائكةٍ فتناديها بمنادات مريَم ابنة عمران: يا فاطمة، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة، اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، ثمّ يبتدئ بها الوجَع فتمرض ويبعث الله عزّ وجل إليها مريم ابنة عمران، فتمرّضها وتُؤنسها في علّتها فتقول عند ذلك: يا ربِّ إنّي قد سئمتُ الحياة، وتبرّمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي، فيلحقها الله عزّ وجل فتكون أوّل من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علَيّ محزونةً مكروبة مغمومة معصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهمّ العن ظالمها وعاقب من غصبها حقّها، وأذلّ من أذلّها وخلّد في النار مَن ضربها على جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين.

(وأمّا الحسن) فإنّه ابني وولدي ومنّي وقرّة عيني وضياء قلبي وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة وحجّة الله تعالى على الأئمّة، أمره أمري وقوله قولي فمَن تبِعه فإنّه منّي ومن عصاه فليس منّي، وأنّي نظرت إليه فذكرت ما يجرى عليه من الذلّ بعدي فلا يزال الأمر به حتى يُقتل بالسمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد بموته، ويبكيه كلُّ شيء حتى الطير في جوِّ السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعمَ عيناه يوم تعمى الأعيُن ومَن حزَن عليه لم يحزَن قلبه يوم تحزَن القلوب، ومَن زاره في البقيع ثبتت قدماه على الصراط يوم تزِلّ فيه الأقدام.

(وأمّا الحسين) فإنّه منّي وهو ابني وولدي وخير الخلْقِ بعد أخيه، وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين وخليفة ربِّ العالمين، وكهف المتحيّرين وحجّة الله تعالى على الخلق أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة وباب نجاة الأُمّة أمره أمري وطاعته طاعتي، ومَن تبعه فإنّه منّي ومَن عصاه فليس منّي، وأنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي

١٢

وكأنّي به وقد استجار بحرَمي فلا يُجار فأضمّه في منامي إلى صدري، وآمره بالرحلة مِن دار هجرتي فأُبشّره بالشهادة فيرتحل إلى أرض مقتله وموضع مصرعه، لأرضِ كرْبٍ وبلاء وقتلٍ وفناء، فتنصره عصابةٌ من المسلمين أُولئك سادة شهداء أُمّتي يوم القيامة، وكأنّي انظر إليه وقد رُمِيَ بسهم فخرّ من فرسه صريعاً، ثمّ يُذبَح كما يُذبح الكبش مظلوماً).

ثمّ بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبكى مَن حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (ويقول اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي)، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (إذا كان يوم القيامة يُزيّن العرش بكلّ زينه، ثمّ يؤتى بمنبرين من نور طولهما مِئة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخر عن يسار العرش، ثمّ يؤتى بالحسن والحسين (عليهما السلام)، فيقوم الحسن (عليه السلام) على أحدهما والحسين (عليه السلام) على الآخر، يُزيّن الربُّ تبارك وتعالى بهما عرشه كما تُزيّن المرأة قرطاها).

ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (إذا كان يوم القيامة تأتي ابنتي فاطمة (عليها السلام) على ناقة من نوق الجنّة مدبّجة الجنبين خطامها من اللؤلؤ الرطَب، قوائمها من الزمّرد الأخضر ذنبها من المسك الأذفَر، عيناها من ياقوتٍ أحمر عليها قبّة من نور يُرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، وباطنها من عفوِ الله وظاهرها من رحمة الله، على رأسها تاجٌ من نور وللتاج سبعون ركناً، كلّ ركن مرصّع بالدرّ والياقوت يُضيء لأهل الجنّة كما يضيء الكوكب الدرّيّ في أُفُق السماء، عن يمينها سبعون ألف ملَك وجبرئيل آخذٌ بخطام الناقة وهو ينادى بأعلى صوته: يا أهل الموقف، غُضّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلا يبقى يومئذٍ نبيّ ولا كريم ولا صدّيق ولا شهيد إلاّ غضّوا أبصارهم حتى تجوز فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء العالمين، فتجوز حتى تُحاذي عرش ربّها جلّ جلاله فتنزل بنفسها عن ناقتها فتقول: إلهي وسيّدي احكم بيني وبين من ظلمني، واحكم بيني وبين من قَتَل ولدي، فإذا النداء من قِبل الله تعالى: يا حبيبتي وبنت حبيبي سلي تُعطَي واشفعي تُشفّعي وعزّتي وجلالي لأجاوزنّ ظلم ظالم، فتقول: يا ألهي،

١٣

ذرّيتي وشيعة ذرّيتي ومحبّي ذرّيتي، فإذا النداء من قِبل الله عزّ وجل أين ذرّية فاطمة وشيعتها وشيعة ذرّيتها ومحبّو ذرّيتها، فيقبلون وقد أحاطوا بهم ملائكة الرحمة فتقدمهم فاطمة حتى تدخلهم الجنّة وصلّى الله عليها وعلى أبيها).

(خبر آخر): قال سماعة بن مهران أنّ الصادق (عليه السلام) قال له: (يا سماعة، مَن شرُّ الناس؟)، قال: نحن يابن رسول الله، قال: فغضب (عليه السلام) حتى احمرّت وجنتاه، ثمّ استوى جالساً وكان متّكئا وقال:

(يا سماعة، مَن شرّ الناس عند الناس؟)، فقلت: والله ما كذبتك يا ابن رسول الله، نحن شرّ الناس؛ لأنّهم سمّونا كفّار، أو رفَضةً فنظر إليّ ثمّ قال: (كيف بكم وبهم إذا سيق بكم إلى الجنّة وسيق بهم إلى النار، فينظرون إليكم فيقولون مالنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم من الأشرار؟!، يا ابن مهران، إنّه مَن أساء منكم إساء‌ةً مشينا إلى الله تعالى بأقدامنا يوم القيامة فنُشفّع فيه، والله لا يدخل النار منكم عشرة رجال، ولا يدخل النار منكم ثلاثة رجال، والله لا يدخل النار منكم رجلٌ واحد، فتنافسوا في الدرجات وأكدوا عدوّكم المفزع).

حديث مولد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)

قال الواقدي: أوّل ما افتتح به عقيل ابن أبي وقّاص حين خطَب آمنة لعبد الله بن عبد المطّلب أنْ قال: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعلنا من نسلِ إبراهيم، ومن شجرة إسماعيل، من غصن نزال ومن ثمرة عبد مناف)، ثمّ أثنى على الله تعالى ثناءً بليغاً، وقال فيه جميلاً وأثنى على اللات والعزّى ومناة، وذكرهم بالجميل وقال: لا يستغني عنكم مع هذا كلّه وعقَد النكاح ونظر إلى وهَب وقال: يا أبا الوداج، زوّجت كريمتك آمنة من ابن سيّدنا عبد المطّلب على صداق أربعة آلاف درهَم بيض هجرية جياد، وخمسمِئة مثقال ذهبٍ أحمر، قال: نعم، ثمّ قال: يا عبد الله، قبلت بهذا الصداق يا أيّها السيّد الخاطب، قال: نعم، ثمّ دعا لهما بالخير والكرامة ثمّ أمر وهَب أنْ تُقدّم المائدة فقُدّمت مائدة خضرة، فأُتي من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض، فأكلوا وشرِبوا، قال: ونثَر عبد المطّلب على ولده قيمة ألف

١٤

درهم من النثار وكان متّخذاً من مسك بنادق ومن عنبرٍ ومن سُكّر ومِن كافور، ونثر ذهَب بقيمة ألف درهم عنبر وفرح الخلق بذلك فرَحاً شديداً.

(قال الواقدي): فلمّا فرغوا من ذلك نظر عبد المطّلب إلى وهَب وقال: وربّ السماء إنّي لا أُفارق هذا السقف أو أُؤلّف بين ولدي عبد الله وحليلته، فقال وهب: بهذه السرعة لا يكون فقال عبد المطّلب: لا بدّ من ذلك فقام وهب ودخل على امرأته برّة وقال لها: اعلمي أنّ عبد المطّلب قد حلَف بربّ السماء أنّه لا يفارق هذا السقف أو يؤلّف بين ولده عبد الله وبين زوجته آمنة، فقامت المرأة من وقتها ودعَت بعشرة من المشاطات وأمرتهنّ أنْ يأخذنَ في زينة آمنة، فقعدن حول آمنة فواحدة منهن تنقش يديها، وواحدة تخضّب رجليها، وواحدة تسرّح ذوائبها ووحدة تمسحها بالملاء، فلمّا كان عند غروب الشمس وفرغن من زينتها نصَبوا سريراً من الخيزران وقد فرشوا عليه من ألوان الديباج والوشي، وأُقعدت الجارية على السرير وعقدن على رأسها تاجاً وعلى جبينها إكليلاً وعلى عنقها مخانق الدرّ والجواهر، وتختّمت بأنواع الخواتيم.

وجاء وهَب وقال لعبد المطّلب: يا سيدي قم إلى العروس، فقام عبد المطّلب إلى العروس وهي كأنّها فلقة قمر، من حُسنها، وتقدّم عبد المطّلب إلى السرير وقبّله وقبل عين العروس، فقال عبد المطّلب لولده عبد الله: اجلس يا ولدي معها على السرير وافرح برؤيتها، قال فرفع عبد الله قدمه وصعد إلى السرير وقعد إلى جنب العروس، وفرح عبد الله وكان من عبد الله إلى أهله ما يكون من الرجال إلى النساء، فواقعها فحملت بسيّد المرسلين وخاتم النبيّين وقام من عندها إلى عند أبيه فنظر إليه أبوه وإذا النور قد فارق من بين عينيه وبقي عليه من أثر النور كالدرهم الصحيح، وذهب النور إلى ثدي آمنة فقام عبد المطّلب إلى عند آمنة ونظَر إلى وجهها، فلم يكن النور كما كان في عبد الله بل أنور، فذهب عبد المطّلب إلى عند حبيب الراهب فسأله عن ذلك، فقال حبيب: اعلم أنّ هذا النور هو صاحب النور بعينه، وصار في بطن أُمّه فقام عبد المطّلب وخرج مع

١٥

الرجل وبقي عبد الله عند أهله إلى أنْ ذهبت الصفرة من يديه، وذلك أنّ العرب كانوا إذا دخلوا بأهلهم يخضّبون أيديهم بالحنّاء، ولا يخرجون من عندهم وعلى أيديهم أثر من الحنّاء، فبقي عبد الله أربعين يوماً وخرج ونظر أهل مكّة إلى عبد الله والنور قد فارق موضعه، فرجع عبد المطّلب من عند حبيب وقد أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شهر واحد في بطن أُمّه، ونادت الجبال بعضها بعضاً والأشجار بعضها بعضاً والسماوات بعضها يستبشرون ويقولون: ألا أنّ محمّداً قد وقع في رحم أُمّه آمنة وقد أتى عليه شهرٌ ففرحت بذلك الجبال والبحار والسماوات والأرضون فرحاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ إنّ الله تعالى أراد قضاه على فاطمة بنت عبد المطّلب، فورد عليه كتاب من يثرب بموت فاطمة وكان في الكتاب أنّها ورِثت مالاً كثيرا خطيراً فاخرج إلى عندهم بأسرع ما تقدر عليه، قال عبد المطّلب لولده عبد الله: يا ولدي، لا بدّ لك أنْ تجيء معي إلى المدينة، فسافر مع أبيه ودخَلا مدينة يثرب وقبض عبد المطّلب المال، ولمّا انتهيا من دخولهما المدينة بعشر أيّام اعتلّ عبد الله علّةً شديدة وبقي خمسة عشرَ يوماً، فلمّا كان يوم السادس عشَر ماتَ عبد الله فبكى عليه أبوه عبد المطّلب بكاءً شديداً، وشقّ سقف البيت لأجله في دار فاطمة بنت عبد المطّلب وإذا بهاتف يهتف ويقول: قد مات مَن كان في صلبه خاتم النبيّين وأيّ نفسٍ لا تموت.

فقام عبد المطّلب فغسّله وكفّنه في سكّةٍ يقال لها (شين)، وبنى على قبره قبّةً عظيمة من جصٍ وآجر وأحكمه ورجع إلى مكّة، واستقبله رؤساء قريش وبنو هاشم واتّصل الخبر إلى آمنة بوفاة زوجها، فبكَت ونفشت شعرها وخدشت وجهها ومزّقت جيبها ودعت بالنايحات ينُحن على عبد الله، فجاء بعد ذلك عبد المطّلب إلى دار آمنة وطيّب قلبها ووهَب لها في ذلك الوقت ألف درهم بيض وتاجَين قد اتّخذهما عبد مناف لبعض بناته، وقال لها: يا آمنة، لا تحزني فإنّك عندي جليلة لأجل مَن في بطنك فلا يهمّك أمرك فسكتت وطيّب قلبها.

١٦

(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه شهران أمر الله تعالى منادياً في سماواته وأرضه، ينادى في السماوات والأرض والملائكة أنْ استغفروا لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) وأُمّته، كل هذا ببركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه ثلاثة أشهر، كان أبو قحافة راجعاً من الشام، فلمّا بلغ قريباً من مكّة وضعت ناقته جمجمتها على الأرض ساجدة، وكان بيد أبي قحافة قضيب فضربها بأوجع ضرب فلَم ترفع رأسها، فقال أبو قحافة، فما أرى ناقة تركَت صاحبها وإذا بهاتف يهتف ويقول: لا تضرب يا أبا قحافة، مَن لا يطيعك، ألا ترى أنّ الجبال والبحار والأشجار سوى الآدميّين سجدوا لله؟ فقال أبو قحافة: يا هاتف: وما السبب في ذلك؟ قال اعلم أنّ النبيّ الأُميّ قد أتى عليه في بطن أُمّه ثلاثة أشهر، قال أبو قحافة ومتى يكون خروجه؟ قال: سترى يا أبا قحافة إنْ شاء الله تعالى، فالويل كلّ الويل لعبَدَة الأصنام من سيفه وسيف أصحابه، قال أبو قحافة: فوقفت ساعة حتى رفعَت الناقة رأسها فركبتها وجئت إلى عبد المطّلب.

(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أربعة أشهر، كان زاهد على الطريق من الطائف وكان له صومعة بمكّة على مرحلة، قال: فخرج الزاهد وكان اسمه حبيباً فجاء إلى بعض أصدقائه بمكّة، فلمّا بلغ أرض الموقف وإذا بصبيٍّ قد وضع جبينه على الأرض وقد سجَد على جبهته قال حبيب: فدنوت منه فأخذته وإذا بهاتف يهتف ويقول: خلِّ عنه يا حبيب، ألا ترى إلى الخلائق من البرّ والبحر والسهل والجبل قد سجدوا لله شكراً لمّا أتى على النبيّ الزكيّ الرضيّ المرضيّ في بطن أمّه خمسة أشهر، وهذا الصبيّ قد سجَد لله شكراً قال حبيب: فتركت الصبيّ ودخلت مكّة وبيّنت ذلك لعبد المطّلب وعبد المطّلب يقول: اكتم هذا الاسم فإنّ لهذا الاسم أعداء، قال: وذهب حبيب إلى صومعته فإذا الصومعة تهتزّ ولا تستقر وإذا على محرابه مكتوب وعلى محراب كلّ راهب مكتوب يا أهل البِيَع و الصوامع، آمنوا بالله وبرسوله محمّد بن عبد الله فقد آن

١٧

خروجه، فطوبى ثمّ طوبى لمَن آمن به، والويل كلّ الويل لمَن كفَر به وردّ عليه حرفاً ممّا يأتي به من عند ربّه، قال حبيب: فقلت السمع والطاعة إنّي لمؤمنٌ وطائع غير منكر.

(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله في بطن أُمّه ستّة أشهر، خرج أهل المدينة واليمَن إلى العيد وكان رسمهم أنّهم كانوا يجعلون في كلّ سنة ستّة أعياد، وكانوا يذهبون عند شجرةٍ عظيمة يقال لها ذات أنواط، وهي التي سمّاها الله في كتابه ومناة الثالثة الأُخرى، فذهبوا في ذلك العيد وأكلوا وشربوا وفرحوا وتقاربوا من الشجرة، وإذا بصيحةٍ عظيمةٍ من وسط الشجرة، وهو هاتفٌ يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الآية، وقال: (يا أهل اليمَن، ويا أهل اليمامة، ويا أهل البحرين، ويا مَن عبد الأصنام، ويا من سجَد للأوثان، جاء الحقّ وزهَق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً. يا قوم، قد جاء‌كم الهلاك قد جاء‌كم التلَف قد جاء‌كم الويل والثبور)، قال: ففزعوا من ذلك وانهزموا راجعين إلى منازلهم متحيّرين متعجّبين من ذلك.

(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه سبعة أشهر، جاء سواد بن قارب إلى عبد المطّلب فقال له: اعلم يا أبا الحارث، أنّي كنت البارحة بين النوم واليقظة فرأيت أبواب السماء مفتّحة، ورأيت الملائكة ينزلون إلى الأرض معهم ألوان الثياب يقولون: زيّنوا الأرض فقد قرُب خروج مَن اسمه محمّد، وهو نافلة عبد المطّلب رسول الله إلى الأرض وإلى الأسود والأحمر والأصفر، والى الصغير والكبير والذكر والأُنثى، صاحب السيف القاطع والسهم النافذ، فقلت لبعض الملائكة: مَن هذا الذي تزعمون فقال: ويحك هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف فهذا ما رأيت، فقال له عبد المطّلب، اكتم الرؤيا ولا تُخبر بها أحداً لننظر ما يكون.

(قال الواقدي): فلمّا أتى على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّة ثمانية أشهر، كان في بحر الهوى حوتٌ يقال له طينوسا وهي سيّدة الحيتان، فتحرّكت

١٨

الحيتان وتحرّكت الحوت واستوَت على ذنبها وارتفعت وارتفع الموج عنها، فقالت الملائكة إلهنا وسيّدنا ترى ما تفعل طينوسا ولا تطيعنا وليس لنا بها قوّة (قال): فصاح استحيائيل الملَك صيحةً عظيمةً وقال لها: قرّي يا طينوسا، ألا تعرفين مَن تحتك؟ فقالت طينوسا: يا استحيائيل، أمَر ربّي يوم خلَقني أنْ إذا ولِد محمّد بن عبد الله استغفري له ولأُمّته والآن سمِعت الملائكة يبشر بعضُهم بعضاً؛ فلذلك قُمتُ وتحرّكْتُ، فناداها استحيائيل: قرّي واستغفري فإنّ محمّداً قد ولد فلذلك انبطَحَتْ في البحر وأخذَت في التسبيح والتهليل والتكبير والثناء على ربِّ العالمين.

(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه تسعة أشهر، أوحى الله إلى الملائكة في كلّ سماء أنْ اهبطوا إلى الأرض، فهبَط عشرة آلاف ملَك بيد كلّ ملَك قنديل يشتعل بالنور بلا دهن، مكتوبٌ على كلّ قنديل لا إله إلا الله محمّد رسول الله يقرأه كلّ عربيّ كاتب، ووقفوا حول مكّة في المفارز، وإذا بهاتف يهتف ويقول: نور محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: فأُورد الخبر إلى عبد المطّلب فأمر بكتمانه إلى أنْ يكون.

(قال الواقدي): فلمّا كمُلت تسعة أشهر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) صار لا يستقرُّ كوكبٌ في السماء إلاّ ينتقل من موضع إلى موضع، يبشرون بعضهم بعضاً والناس ينظرون إلى الكواكب في السماء سائرات لا يستقرّنّ، فأقام ذلك ثلاثين يوماً.

(قال الواقدي): فلمّا تمّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) تسعة أشهر نظرت أمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آمنة إلى أُمّها برة وقالت: يا أُمّاه، إنّي أُحبُّ أنْ أدخل البيت فأبكى على زوجي ساعة وأقطر دمعي على شبابه وحُسن وجهه، فإذا دخلت البيت وحدي فلا يدخل علَيّ أحد، فقالت لها برة: ادخلي يا آمنة، وابكي فحقّ لك البكاء، قال، فدخلتْ آمنة البيت وحدها، وقعت وبكت وبين يديها شمعٌ يشتعل وبيدها مغزل من آبنوس وعلى مغزلها فلَقة من عقيقٍ أحمر، وآمنة

١٩

تبكي وتنوح إذ أُوجعت مِن طلقها فوثبَت إلى الباب لتفتحه فلَم ينفتح فرجِعت إلى مكانها وقالت: وا وحدتاه، وأخذها الطلق والنفاس وما شعَرت بشيء، حتى انشقّ السقف ونزَلَتْ من فوق أربع حوريّات، وأضاء البيت لنور وجوههن وقُلن لآمنة: لا بأس عليك يا جارية، إنّا جئناك لخدمتك فلا يهمّك أمرك وقعدَت الحوريّات واحدة على يمينها وواحدة على شمالها وواحدة بين يديها وواحدة من ورائها، فهوّمَت عين آمنة وغفَت غفوة (قال) ابن عباس: ما كان من أمر أُمّ النبيّ إلاّ أنّها كانت نائمة عند خروج ولدها من بطنها، فانتبهت أُمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فإذا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) تحت ذيلها قد وضع جبينه على الأرض ساجداً لله، ورفع سبّابتيه مشيراً بهما لا إله إلاّ الله.

(قال الواقدي): ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ليلةِ الجمعة قبل طلوع الفجْر، في شهر ربيع الأوّل ليلة سبعة عشَر منه في سنة تسعة آلاف وتسعمِئة وأربعة أشهر وسبعة أيّام من وفاة آدم (عليه السلام).

(قال الواقدي): ونظرَت أُمّه آمنة وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا هو مكحّل العينين منقّط الجبين والذقن، وأشرق في وجنتَي النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نورٌ ساطع في ظلمة الليل ومرّ في سقف البيت وشقّ السقف، ورأت آمنة من نور وجهه (صلّى الله عليه وآله) كلَّ منظرٍ حسِن وقُصِر بالحرَم، وسقَط في تلك الليلة أربع وعشرون شرفة من إيوان كسرى، وأُخمِدَت في تلك الليلة نيران فارس، وأبرَق في تلك الليلة برقٌ ساطع في كل بيتٍ وغرفة في الدنيا، ممّا قد علم الله تعالى وسبَق في علمه أنّهم يؤمنون بالله ورسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ولم يطلع في بقاع الكفر - بأمر الله تعالى - وما بقيَ في مشارق الأرض ومغاربها صنمٌ ولا وثَنٌ إلاّ وخرّت على وجوهها ساقطةً على جباهها خاشعة،؛وذلك كلّه إجلالاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله).

(قال الواقدي): فلمّا رأى إبليس لعنه الله تعالى وأخزاه ذلك، وضَع التراب على رأسه وجمَع أولاده وقال لهم: يا أولادي اعلموا أنّني ما أصابني منذ خُلِقت مثل هذه المصبية، قالوا:وما هذه المصيبة قال: اعلموا أنّه قد ولد

٢٠