سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله0%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 778
المشاهدات: 441032
تحميل: 8810


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 441032 / تحميل: 8810
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء 2

مؤلف:
العربية

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم ، وبذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب :

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة وما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب ، وبالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته ، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو ، ولن يتهيّأ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنية في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

وبكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة ، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان الله ، ويرفضان الأوثان ، وكان اليهود يتصوّرون أنهم يستطيعون ـ إذا اشتد ساعد المسلمين ، وقويت شوكتهم ـ أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم ، هذا من جانب ، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكرّس هذا التفاهم ، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش ، ودفاع مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا(١) .

__________________

(١) المقصود منهم يهود الأوس والخزرج ، وأما يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة فقد عقد

٢١

وقد احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كتّاب السيرة والمؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم(١) .

ونظرا لأهميّتها الخاصّة ، ولأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا ، قويّ الدلالة ، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمبادئ الحرية والنظم والعدالة ، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة ، ولأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة ونسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم.

« البند الاوّل »

١ ـ إنّهم أمّة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم ( أي على الحال التي جاء الاسلام وهم عليها ) يتعاقلون بينهم ( أي يدفعون دية الدم ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

٢ ـ وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وهكذا بنو ساعدة وبنو الحارث ، وبنو جشم ، وبنو النجار ، وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت ، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم

__________________

ـ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

(١) مثل السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠١.

٢٢

( والحال التي جاء الاسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول ، ودفع الفدية معا لفك الأسير ).

٣ ـ وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا ( أي مثقلا بالدين وكثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ( أي دفع دية او فداء أسير ).

٤ ـ وإنّ المؤمنين المتقين ( يد واحدة ) على من بغى منهم ، او ابتغى دسيعة ( عظيمة ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم.

٥ ـ وأن لا يحالف مؤمن مولى ( أي عبد ) مؤمن دونه ( أي دون إذنه ).

٦ ـ وأن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ( أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن ) ولا ينصر كافرا على مؤمن.

٧ ـ وانّ ذمة الله واحدة ( تشمل جميع المسلمين بلا استثناء ) يجير عليهم أدناهم ( فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته واحترم أمانه ).

٨ ـ وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

٩ ـ وإنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر والاسوة غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم.

١٠ ـ وإنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم ( فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلاّ بموافقة المسلمين ).

١١ ـ وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا ( أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد ) ، وانّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ( أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض ).

١٢ ـ وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

١٣ ـ وأن لا يجير مشرك ( من مشركي المدينة ) مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ( أي لا يمنعه من مؤمن ).

٢٣

١٤ ـ وإنّه من اعتبط مؤمنا ( أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله ) قتلا عن بيّنة فانّه قود به ( أي يقتل بقتله قصاصا ) إلاّ أن يرضى وليّ المقتول.

وانّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه.

١٥ ـ وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثا ( صاحب بدعة ) ولا يؤويه وأنه من نصره ، وآواه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

١٦ ـ وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

« البند الثاني »

١٧ ـ وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ( ودفاعا عن المدينة ).

١٨ ـ وإنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين ( وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار ) لليهود دينهم وللمسلمين دينه ، مواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم واثم ، فانه لا يوتغ ( لا يهلك ) الاّ نفسه وأهل بيته ( والسبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالبا وعادة ).

والمراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات والاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم ومعتد.

١٩ ـ وإنّ ليهود بني النجار ، وبني الحارث وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس وبني ثعلبة ، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، من الحقوق والامتيازات.

وإن جفنة بطن من ثعلبة ( أي تلك القبيلة فرع من هذه ) ، وانّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

٢٠ ـ وإنّ البرّ دون الإثم ( أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم ).

٢١ ـ وإنّ موالي ثعلبة ( أي المتحالفين معهم ) كأنفسهم.

٢٤

٢٢ ـ وإنّ بطانة يهود ( أي خاصتهم ) كأنفسهم.

٢٣ ـ وأنه لا يخرج منهم أحد ( من هذه المعاهدة ) إلاّ باذن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤ ـ وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح ( اي لا يضيع دم حتى الجرح ) ، وان من فتك ( بأحد ) فبنفسه فتك ، وأهل بيته إلاّ من ظلم ( أي إلاّ إذا كان المفتوك به ظالما ).

٢٥ ـ وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وانّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ( أي أن على كل جماعة من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب ).

٢٦ ـ وإنّ بينهم النصح والنصيحة ( أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس ) والبر دون الاثم.

٢٧ ـ وإنّه لم يأثم امروء بحليفه ( أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه وأن النصر للمظلوم ( لو فعل أحد ذلك ).

٢٨ ـ وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ( أي أنّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة ).

٢٩ ـ وإنّ الجار ( وهو من يدخل في أمان أحد ) كالنفس غير مضارّ ولا آثم ، ( فلا يجوز إلحاق ضرر به ).

٣٠ ـ وإنّه لا تجار حرمة إلاّ باذن أهلها.

٣١ ـ وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ الله على اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ( أي انّه تعالى ناصر وولي لمن التزم بهذه المعاهدة ).

٣٢ ـ وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

« البند الثالث »

٣٣ ـ وإن بينهم ( أي بين اليهود والمسلمين ) النصر على من دهم يثرب

٢٥

( فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين ).

٣٤ ـ واذا دعوا ( أي دعي المسلمون اليهود ) الى صلح يصالحونه ، ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وإنّهم اذا دعوا ( أي اذا دعى اليهود المسلمين ) الى مثل ذلك ( الصلح ) فانه لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء ، وهكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلاّ إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام ويعاديه ويتآمر عليه.

٣٥ ـ وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

« البند الرابع »

٣٦ ـ وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. ( فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة وجناية ).

٣٧ ـ وإنّه من خرج ( من المدينة ) آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية :

« وإنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام ، وحرصه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد ، ومبدا الرفاه الاجتماعي العام ، وضرورة التعاون في الامور العامة ، بل وتوضّح هذه المعاهدة ـ فوق كلّ ذلك ـ حدود صلاحيّات واختيارات القائد ، ومسئوليّة كلّ الموقّعين عليها ، وعلى أمثالها.

على أنه وإن لم يشترك يهود « بني قريظة » و « بني النضير » و « بني قينقاع »

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٣ و ٥٠٤ ، الاموال : ص ١٢٥ ـ ٢٠٢.

٢٦

في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها ، بل شارك فيها يهود الأوس والخزرج فقط ، إلاّ أنّ تلك الطوائف اليهودية ( الثلاث ) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي :

أن لا يعينوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع ( أي الخيل وغيرها من المراكب ) في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، الله بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار ، ثم وقع عليها « حي بن أخطب » عن قبيلة بني النضير ، و « كعب بن أسد » عن بني قريظة ، و « المخيريق » عن قبيلة بني قينقاع(١) .

وبهذا ساد الأمن يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشكلة الاولى ، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة ، ويقف سدّا أمام تبليغ الاسلام ، فلن يوفّق لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه ، وتعاليمه المباركة.

ممارسات اليهود الإجهاضية :

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم ، وتزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا وضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية ، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقويته وتأييده جرّه إلى صفوفهم ، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١١٠ و ١١١. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

٢٧

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود والنصارى ، من هنا بدءوا بممارسة الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم ، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة وايمانهم العميق برسول الاسلام.

وقد جاءت بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورة البقرة وسورة النساء.

ويستطيع القارئ العزيز ـ من خلال قراءة ـ آيات هاتين السورتين والتمعن فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام ، ويحجمون عن الاعتراف به ، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام :

« قلوبنا غلف ».

أي لا نفهم ما تقول!!(١) .

اسلام عبد الله بن سلام :

هذه المناظرات والمجادلات وان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلاّ تعنّتا وعنادا ، ولكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض وإقبالهم على الاسلام ، مثل « عبد الله ابن سلام ».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود وأحبارهم ، برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطولة(٢) .

ولم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلاّ والتحق به عالم آخر من علماء

__________________

(١) و (٢) للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٣٠ ـ ٥٧٢ ، بحار الأنوار : ج ٩ ص ٣٠٣ فما بعد.

٢٨

اليهود هو « المخيريق ».

وكان عبد الله بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه وترك دينهم ، من هنا طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتم عن الناس إسلامه ، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه ، وبمعرفته وصلاحه قائلا : « يا رسول الله إن يهود قوم بهت ، وأني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك ، وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني ».

فأدخله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض بيوته وأخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه :

« أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟ ».

قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا ، فخرج عليهم « عبد الله بن سلام » من مخبأه وقال لهم : يا معشر يهود اتّقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله إنّكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، فاني أشهد أنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأؤمن به واصدّقه وأعرفه.

فغضب اليهود من مقالته ، وقالوا له : كذبت ووقعوا فيه ، وعابوه ، وبهتوه(١) .

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية :

لم تضعف مجادلات اليهود واسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين وايمانهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية ، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين واليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى وهي التذرّع باسلوب « فرّق تسد » ، لالقاء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥١٦.

٢٩

الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات ، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام ، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة ، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة وعشرين عاما متوالية ، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم ، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دون ما استثناء.

ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم « شاس بن قيس » وهو يهودي شديد العداء للإسلام ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، فغاظه ما رأى من الفة الأوس والخزرج ، واجتماعهم وتواددهم ، وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية ، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث(١) وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار ، وإثارة لنيران الاحقاد الدفينة ، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به « شاس » فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، وتواثب رجلان من القبيلتين على الركب وأخذ كل منهما يهدّد الآخر ، وتفاقم النزاع ، وغضب الفريقان وتصايحا ، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتال ودم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرف بمكيدة اليهود ، ومؤامرتهم الخبيثة هذه ، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال :

__________________

(١) قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا : هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

٣٠

« يا معشر المسلمين ، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف بين قلوبكم؟؟ ».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام والمسلمين ، وكيد خبيث منهم ، فندموا على ما حدث ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سامعين مطيعين ، وأطفأ الله عنهم كيد أعدائهم(١) .

إلاّ أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ ، ولم تنته بهذا ، فقد اتسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم ، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج ، ومع المنافقين والمترددين في اسلامهم واعتقادهم ، واشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين ، وفي الحروب التي وقعت بين الطرفين ، وكانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيين ، ويعملون لصالحهم!!

وقد جرت هذه النشاطات السرّية والعلنية المضادّة المعادية للاسلام والمسلمين ، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش ، جرت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما ، بنقض العهد ، ومعاداة الاسلام والمسلمين ، والتآمر ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة ، وبنصرة أعدائه ، ودعم خصومه ، الأمر الذي أجبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تجاهل تلك المعاهدات الودية والانسانية ومن ثم محاربتهم ، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

٣١

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة بها ، وقد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس والخزرج ، ولم يبق دار من دور الانصار إلاّ أسلم أهلها ، ما عدا بعض العوائل والفروع ممن بقوا على شركهم ، ولكنهم أسلموا بعد معركة بدر(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٠.

٣٢

حوادث السنة الثانية من الهجرة

٢٧

مناورات عسكرية

واستعراضات حربية

الهدف من هذا الفصل هو شرح وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية ، والمناورات العسكرية ، التي قام وأمر بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية ، وتعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية ، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع ، وبيان رموزها وأسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث :

١ ـ لم يكن يمض على إقامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو « حمزة بن عبد المطلب » وقد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية ، فالتقوا قافلة قريش في « العيص » فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة ، فاصطفّوا

٣٣

للقتال ، ولكنهما تفرقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها « مجديّ بن عمرو » الذي كان حليفا للفريقين ، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة ، وتوجّه أبو جهل في غيره وأصحابه إلى مكة(١) .

تهديد خطوط قريش التجارية

غزوة بدر :

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، والمسرّة والمحزنة ، ودخل النبيّ وأصحابه العام الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة وباهرة ، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما : تغيير القبلة والأخرى وقعة بدر الكبرى.

ولكي تتضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها ، اذ بتحليلها ودراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة : بعث « الدوريات العسكرية » الى خطوط قريش التجارية(٢) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٢ فما بعد ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٨٦ ـ ١٩٠ ، امتاع الاسماع : ص ٥١ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨ والمغازي للواقدي : ج ١ ص ٩ ـ ١٩.

(٢) لقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية.

وقد كان ينبغي ـ طبقا للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي ـ أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الاولى للهجرة ، بيد أنه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية.

هذا مضافا الى أن ابن هشام ـ تبعا لابن إسحاق ـ يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الاولى.

٣٤

العسكرية.

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين وكتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر وهما لفظة : « الغزوة » و « السرّيّة »(١) .

والمقصود من « الغزوة » تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشارك فيها بنفسه ، ويتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من « السريّة » إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول الله بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة التي يريدها.

وقد احصيت غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانت (٢٧) أو (٢٦) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة « خيبر » وغزوة « وادي القرى » اللتين حدثتا تباعا ومن دون فاصلة غزوتين والبعض الآخر عدّهما غزوة واحدة(٢) .

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا فأحصى المؤرخون (٣٥) ، (٣٦) ، (٤٨) ، وحتى (٦٦) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها ، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ ، وكلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلاّ سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة « بدر ».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

__________________

(١) راجع المحبّر : ص ١١٠ ـ ١١٦.

(٢) مروج الذهب : ج ٢ ص ٢٨٧ و ٢٨٨.

٣٥

٢ ـ في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول الله سريّة حمزة ، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل « ثنية المرة »(١) .

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان ، ولكن لم يكن بينهم قتال إلاّ أن « سعد بن أبي وقاص » رمي يومئذ بسهم ، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفار وجعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين والالتحاق بهم(٢) .

٣ ـ بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة « سعد بن أبي وقاص » على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة ، فخرجوا حتى بلغوا منطقة « الخرّار » ولكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة(٣) .

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلاحق قريشا بنفسه :

٤ ـ في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة « سعد بن عبادة » وأناط إليه ادارة امورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار ، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه ، وعقد معاهدة موادعة مع « بني ضمرة » حتى بلغ الابواء ، ولكنه لم يلق أحدا من قريش ، فرجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ومن معه إلى المدينة(٤) .

٥ ـ وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعملصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة اخرى على المدينة : « السائب بن عثمان » أو « سعد بن معاذ » وخرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط ( وهو جبل من جبال

__________________

(١) المحبر : ص ١١٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٩١.

(٣) المحبر : ص ١١٦.

(٤) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٦٣ نقلا عن ابن اسحاق.

٣٦

بقرب ينبع على بعد ٩٠ كيلومترا من المدينة تقريبا ) ولكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها « أميّة بن خلف » وعلى رأس مائة رجل من قريش ، فرجع الى المدينة.

٦ ـ وفي منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة ، وقد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ « ذات العشيرة » وقد استعمل على مكة هذه المرّة « أبا سلمة بن عبد الأسد » ، وبقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش ، ولكنه لم يظفر بها ، ثم وادع فيها بني مدلج وعقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص(١) .

وقال ابن الأثير : في هذه الغزوة ( والمكان ) نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما ، وحرّك عليّا فقال : قم يا أبا تراب ألا اخبرك باشقى الناس : أحيمر ثمود عاقر الناقة ، والذي يضربك على هذه [ يعني قرنه ] فيخضّب هذه منها [ يعني لحيته ](٢) .

٧ ـ بعد أن رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الاّ ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم « كرز بن جابر الفهري » على ابل أهل المدينة ومواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طلبه وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٩٨ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٦٣.

(٢) الكامل : ج ٢ ص ١١٢ والمستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ١٤٠ و ١٤١.

٣٧

وشعبان(١) .

٨ ـ وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عبد الله بن جحش » على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية ، وقد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها ، وأمره أن لا ينظر فيه قائلا له :

« قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر ( إي افتح ) كتابي ثم امض ( اي نفّذ ) لما فيه ».

ثم عيّن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد الله ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم فتح عبد الله كتاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرأ ما فيه ، فاذا فيه :

« إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف على اسم الله وبركته فترصّد بها قريشا ، وتعلّم ( أي حصّل ) لنا من أخبارهم ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك(٢) وامض لأمري فيمن تبعك ».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه : قد أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن استكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن أراد الرجعة فمن الآن.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠١ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٩ ، وقد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.

(٢) يقال إنه كان الجنود ـ الى حين الحرب العالمية الثانية ـ إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلاّ عند حالات النفير العام ، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

٣٨

فقال أصحابه اجمعون : نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك فسر على بركة الله حيث شئت ، فسار هو ومن معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها « عمرو بن الحضرمي » وهي عائدة من الطائف الى مكة ، فنزل المسلمون بالقرب منهم ، ولكي لا يكتشفهم العدوّ ، ولا يعرف بأمرهم ومهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا وأمنوا جانبهم وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم : أنهم إذا تركوا القوم ( أي قريشا ) في تلك الليلة ( وكانت آخر ليلة من شهر رجب ) لدخلوا الحرم ، ولم يمكن قتالهم فيه ، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، من هنا باغتوا تلك القافلة ، ورمى « واقد بن عبد الله » قائدها « عمرو بن الحضرمي » بسهم فقتله ، وفرّ رجاله إلاّ نفرين هما : « عثمان بن عبد الله » و « الحكم بن كيسان » حيث أسرهما المسلمون ، وعاد عبد الله بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والاسيرين إلى المدينة.

ولما قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وأخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام ( رجب ) انزعج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تصرف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة وقال :

« ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ».

وقد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشاعت بأنّ « محمّدا » وأصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنة ، وعاب المسلمون على « عبد الله بن جحش وأصحابه » فعلتهم هذه. هذا من جانب ومن جانب آخر وقّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاموال والأسيرين

٣٩

وابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا وبقي ينتظر الوحي.

وفجأة نزل جبرئيل بهذه الآية :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »(١) .

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدّوكم عن سبيل الله مع الكفر به وصدّكم عن المسجد الحرام ، واخراجكم منه وأنتم اهله أكبر عند الله من قتل من قتل منهم « والفتنة أكبر من القتل » أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند الله من القتل.

ولما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأموال ، والأسيرين وقسمها بين المسلمين ، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريش الى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فداء أصحابهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا ».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش ، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلاّ إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش :

« إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم ».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين ، ومع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أسيري قريش.

ومن حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم ورجع الآخر إلى مكة(٢) .

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٣ ـ ١٨ ، السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠٣ ـ ٦٠٥.

٤٠