سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله0%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 778
المشاهدات: 440946
تحميل: 8810


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 440946 / تحميل: 8810
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء 2

مؤلف:
العربية

وهكذا فتحت القلعة التي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام ، في مدة قصيرة على يد بطل الاسلام الأول « علي بن أبي طالب »عليه‌السلام .

ويقول اليعقوبي في تاريخه : ان الباب الذي قلعه عليعليه‌السلام كان من الصخر وكان طوله أربعة اذرع وعرضه ذراعين(١) .

ويقول الشيخ المفيد في ارشاده بسند خاص عن امير المؤمنين قصة قلعه ذلك الباب :

« لما عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي فقاتلتهم به ، فلما أخزاهم الله وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم ، ولما قال له رجل : لقد حملت منه ثقلا قالعليه‌السلام :

« ما كان إلاّ مثل جنّتي التي في يدي في غير ذلك المقام »(٢) .

وقد نقل المؤرخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا وخصوصياته ومواصفاته ، وعن بطولات عليعليه‌السلام في فتح هذا الحصن ، وجميعها لا تتمشى ولا تتيسر مع القدرة البشرية المتعارفة ، ولا يمكن أن تصدر منها.

ويقول عليعليه‌السلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كل شك وإبهام قد يعترض المرء في هذا المجال :

« ما قلعتها بقوّة بشريّة ولكن قلعتها بقوة إلهية ونفس بلقاء ربّها مطمئنة رضية »(٣) .

تحريف الحقائق :

لو أننا أردنا أن نلتزم بحدود الحق والانصاف لوجب أن نقول انّ « ابن هشام » في سيرته و « الطبري » في تاريخه ذكرا قصة مبارزة عليعليه‌السلام في يوم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٤٦.

(٢) الارشاد : ص ٦٢ ـ ٦٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٤٠.

٤٠١

خيبر بصورة مفصلة ، ونقلوا تفاصيلها بصورة دقيقة ، ولكنهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصة خيالية لا أساس لها وهي وان مرحبا قتل على يدي « محمّد بن مسلمة » وقالوا : ويرى البعض أن مرحبا اليهودي قتله محمّد بن مسلمة انتقاما لأخيه الذي قتل عند فتح حصن « ناعم » على أيدي اليهود ، فقد كلّفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال مرحب فبرز إليه ، فقتله.

إن هذا الاحتمال من الوهن والبطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الاسلاميّ المسلم والمتواتر ، هذا مضافا إلى أن هذه الاسطورة التاريخية تعاني من اشكالات ، ومؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم :

١ ـ ان محمّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع ، والبطل الصنديد الذي تؤهله شجاعته لأن يكون فاتح خيبر وقاتل بطلها الاكبر ، فإن التاريخ لا يذكر عنه نموذجا بارزا من بطولته وشجاعته ، إنما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط بأن يغتال « كعب بن الاشرف » الذي حرّك المشركين والهم ضد الاسلام والمسلمين بعد معركة بدر الكبرى ، وقد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئا خوفا ، فأنكر عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوفه وسأله عن سبب ذلك فقال : يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفينّ به أم لا؟

فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة ، ويتخلصوا من « كعب » الذي كان يريد إعادة القتال بين المسلمين والمشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل وقتلوا عدوّ الله كعبا وفق خطة خاصة ولكن « محمّد بن مسلمة » جرح أحد رفاقه من شدة الخوف والوحشة التي اصابته ، ولا شك أن صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد « خيبر » المعروفين وينازلهم.

٢ ـ ان فاتح « خيبر » لم يقاتل مرحبا ويقتله وحده ، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق

٤٠٢

الفارّين ، ونازل الذين بقوا ولم يفرّوا.

وإليك أسماء من بقوا في ساحة القتال وقاتلوا علياعليه‌السلام بعد قتله مرحبا :

١ ـ داود بن قابوس.

٢ ـ ربيع ابن أبي الحقيق.

٣ ـ أبو البائت.

٤ ـ مرة بن مروان.

٥ ـ ياسر الخيبري.

٦ ـ ضحيج الخيبري.

وكل هؤلاء كانوا من صناديد اليهود وابطالهم ، وكانوا يقاتلون خارج حصن خيبر ويمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إن هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالبعليه‌السلام وهم يرتجزون في ساحة القتال ويطلبون المبارز والمناجز(١) .

فمن يكون والحال هذه فاتح « خيبر » وقاتل مرحب؟

إذا كان « محمّد بن مسلمة » فانه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين ويتجاهل اولئك الأبطال خلف مرحب بل لا بد أن يقاتلهم ، في حين اتّفقت كل السير والتواريخ على أن هؤلاء قتلوا جميعا على يد علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

٣ ـ ان هذه الاسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حق عليعليه‌السلام : « يفتح الله على يديه » مع العلم بأن المانع الاكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار ، فاذا كان قاتل مرحب هو

__________________

(١) ناسخ التواريخ : ج ٢ ص ٢٨٢ ـ ٢٨٦.

٤٠٣

« محمّد بن مسلمة » لزم أن يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملته هذه في حق « محمّد بن مسلمة » لا في حق « علي »عليه‌السلام الذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة : « يفتح الله على يديه ».

يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف : قيل : القاتل له ( اي لمرحب ) علي كرم الله وجهه وبه جزم مسلمرحمه‌الله في صحيحه. قال بعضهم : والاخبار متواترة به وقال ابن الاثير : الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث أن عليا قاتله كرم الله وجهه(١) .

ولقد وقع الطبري في تاريخه ، وابن هشام في سيرته في شيء من الاضطراب والفوضى وكتبا قصة هزيمة ورجوع الرجلين اللذين كلّفا قبل عليعليه‌السلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتفق مع مفهوم الجملة التي قالها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام .

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه : « وليس بفرّار »(٢) يعني أن الذي سوف يعطيه الراية لا يفر أبدا ، ومفهوم هذه الجملة هو أن علياعليه‌السلام لا يفرّ ولا يجبن أمام العدوّ كما فر القائدان السابقان ، وهذا يعني أن القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ ، وأخليا الساحة ، في حين أن الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين ، وإنما يكتبان رجوعهما كما لو أنهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية والعسكرية على الوجه الكامل ، ولكنّهما لم يوفقا للفتح(٣) .

ثلاث نقاط مشرقة في حياة عليعليه‌السلام :

ونختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفهعليه‌السلام في خيبر :

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٨ ، وراجع زاد المعاد : ج ٢ ص ١٣٤ و ١٣٥.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٦٥٣.

(٣) السيرة النبوية : ج ٣ ص ٣٤٩.

٤٠٤

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوما فقال : ما منعك ان تسبّ أبا التراب؟

فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال :

١ ـ سمعت رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يقول له خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان؟

فقال له رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم.

« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبوة بعدي »(١) .

٢ ـ وسمعته يقول يوم خيبر :

لاعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا. فاتي به أرمد فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه(٢) .

٣ ـ ولما نزلت هذه الآية « فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل » دعا رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال :

« اللهم هؤلاء أهل بيتي »(٣) (٤) .

عوامل الانتصار :

فتحت حصون « خيبر » ، واستسلم اليهود للمسلمين بشروط خاصة ، ولكن يجب أن نرى ما هي العوامل التي ادت إلى هذا الانتصار ، فهذا هو في الحقيقة

__________________

(١) وهي اشارة إلى واقعة تبوك.

(٢) وهي اشارة إلى واقعة خيبر.

(٣) وهي اشارة إلى قصة مباهلة النبي نصارى نجران.

(٤) صحيح مسلم : ج ٧ ص ١٢٠.

٤٠٥

النقاط الهامة في هذا القسم.

إن انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعود إلى عوامل يمكن الاشارة إليها على نحو الاجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

١ ـ التخطيط العسكري والتكتيك الحربي الدقيق.

٢ ـ تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو الداخلية.

٣ ـ تفاني الامام علي بن أبي طالب ، وبطولته النادرة. وهنا نحن ندرس هذه الامور الثلاثة على وجه التفصيل :

١ ـ التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق :

لقد هبط الجيش الاسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود باصدقائهم القدامى ( قبائل غطفان ).

وقد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون ، ولو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فان « غطفان » لما سمعت بمسير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه ، ولكنهم ما أن سمعوا الشائعة التي مفادها أن أصحاب محمّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنوا انهم سيهاجمون أموالهم وأهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم ، وأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلّوا بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين « خيبر ».

يقول المؤرخون : إن هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجال غطفان فظنوا أن المسلمين داهموا أهليهم(١) ولكنه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان ، والذين امروا بأن يتظاهروا بالكفر ، ويبقوا في قبائلهم حتى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٦٥١ ـ ٦٥٣.

٤٠٦

المناسبة.

فخططوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة وكانوا في ذلك ناجحين جدا الى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى « خيبر » ، والعودة إلى أهليهم وترك اليهود وشأنهم.

وقد سبق لهذا نظير في معركة « الاحزاب » يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثها بينهم رجل من المسلمين من بني غطفان يدعى « نعيم بن مسعود » ، وتفرّق على أثره جماعة الاحزاب ، وانفرط عقدهم.

٢ ـ تحصيل المعلومات حول العدوّ :

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أسلفنا مرارا يولي تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو ، أهمية كبيرة.

ولهذا بعث قبل محاصرة « خيبر » طليعة من المسلمين وأمّر عليهم « عبّاد بن بشر » ووجّههم إلى « خيبر » ، فالتقوا بيهودي قرب حصون « خيبر » ، وبعد التحقيق معه تبين أنه عين لليهود يتجسّس لهم الاخبار فأخذوه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عن أوضاع اليهود في حصون « خيبر ».

فقال : أفتؤمنني يا أبا القاسم على أن اصدقك؟ فأمّنه عباد.

فقال اليهودي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب.

ثم قال : خرجت من حصن « النطاة » من عند قوم ليس لهم نظام تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة الى « الشق » وقد رعبوا منك حتى أنّ أفئدتهم لتخفق ، فاذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن شاء الله ، قال اليهودي إن شاء الله أوقفك على حصن اليهود الذي فيه منجنيق مفلكة ودبابتان وسلاح من دروع وبيض وسيوف ، فانصب المنجنيق على حصن الشق وتدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من

٤٠٧

يومك(١) .

إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يستخدم هذه الادوات التخريبية إلاّ أن المعلومات التي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة لأنّها أوضحت نقطة الحملة غدا ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن التغلّب على حصن « النطاة » لا يحتاج الى قوة كبيرة ، وأنه لا بدّ من رعاية المزيد من الحيطة والحذر عند فتح حصن « الشق ».

نموذج آخر : عند فتح إحدى القلاع أتى يهودي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها وقال ـ ولعلّه لتخليص نفسه ـ : إنك لو اقمت شهرا ما بالوا ، لهم جدول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمنعون منك ، فان قطعت مشربهم عليهم ضجهم.

وفي رواية أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوافق على قطع الماء عن العدو(٢) .

وفي اخرى ؛ قطع عليهم مشاربهم موقتا فلم يطيقوا المقام على العطش(٣) .

٣ ـ تفاني امير المؤمنين :

ولقد ذكرنا تغاني علي بن أبي طالب ، وبطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة ، وها نحن ننقل عبارة قالها هوعليه‌السلام عن هذه المسألة :

وردنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى احمرّت الحدق ، ودعيت إلى النزال ، وأهمّت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن انهض.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٥.

(٢) ناسخ التواريخ : ج ٢ ص ٢٩٩. المصدر السابق ص ٤٠.

(٣) الخصال : ص ٣٦٩.

٤٠٨

فأنهضني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى دارهم فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّدا عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلاّ الله وحده(١) .

الرحمة في ساحة القتال :

عند ما افتتح حصن « القموص » سبيت « صفيّة بنت حيي بن أخطب » وامرأة اخرى ، فمر بهما « بلال » على القتلى فصاحت صفية صياحا شديدا جزعة ممّا رأت ، فكره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صنع بلال وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السنّ على القتلى؟ ».

فقال بلال : يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك ، وأحببت أن ترى مصارع أهلها(٢) .

ولم يكتف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا القدر من تطييب خاطر « صفيّة » بل احترمها ، وعيّن لها مكانا خاصا للاستراحة في المعسكر ، واختارها زوجة لنفسه ، وبهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيئ الذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعامله الانساني الرفيع مع « صفية » أثرا حسنا في نفسها ، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوفيّات المخلصات ، وقد حزنت عند وفاته ، وبكت له أكثر من بقية ازواجه(٣) .

__________________

(١) الخصال : ص ٣٦٩ باب السبعة.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٦٧٣ ، تاريخ الطبري : ج ٣ ص ٣٠٢.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٣٠٢.

٤٠٩

مصرع كنانة بن الربيع :

منذ أن أجلي « بنو النضير » عن المدينة وسكنوا « خيبر » أحدثوا صندوقا لجمع الأموال لإدارة شئونهم العامة ، ولسد نفقات الحروب ، ولإعطاء دية كل من كان يقتل من بني النضير.

فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن هذا الكنز وهذه الأموال قد أودعت عند « كنانة بن الربيع » زوج « صفية » ، فلما افتتحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر طلب الربيع وسأله عن كنز اليهود ، فأنكر ذلك فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحبسه ، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود ، بمكان ذلك الكنز ، وقد كان بخربة ، إذ قال له يهودي إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة أيام الحرب فأمر رسول الله بالخربة فحفرت فاخرج منها بعض ذلك الكنز ، فسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كنانة » عما بقي فأبي أن يؤديه أو يخبر بموضعه ، فدفعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى محمّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصا لأخيه الذي قتل في وقع خيبر « محمود بن مسلمة » والذي قتله اليهود بالقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه ، وانما قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنانة بضرب عنقه ، لتواطئه ضدّ الاسلام ، وكتمانه مثل هذا الأمر ، وتأديبا لغيره من اليهود حتى يتورعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الاسلام وضدّ أصحابه ، وضدّ الحكومة الاسلامية ، وكان « كنانة » آخر من قتل من يهود خيبر(١) .

تقسيم غنائم الحرب :

بعد افتتاح حصون « خيبر » ، وتجريد العدو من كل أسلحته ، وجمع الغنائم أمر

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٣ ص ٣٣٧ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٣.

٤١٠

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن تجمع الغنائم كلها في مكان واحد ، ثم أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا بأن ينادي في الناس :

« أدّوا الخيط والمخيط ، فانّ الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة »(١) .

ولقد شدّد قادة الاسلام وائمته الحقيقيون على أهميّة الامانة تشديدا بالغا حتى أنهم اعتبروا ردّ الامانة ـ مهما صغرت ودقت ـ من علائم الايمان ، والخيانة وعدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عند ما عثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحل مسلم من المقاتلين شيئا من أموال الغنيمة لم يردّها إلى بيت المال لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عند ما استشهد ، وإليك تفصيل هذه الحادثة.

لما انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه من خيبر ومع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلام له ، يقوم له بشئونه ، وفيما كان ذلك يضع رحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أتاه سهم لا يعلم راميه فأصابه فقتله ، فقال المسلمون : هنيئا له الجنة.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« والّذي نفس محمّد بيده إنّ شملته(٢) الآن لتحترق عليه في النار ، كان قد غلّها من فيء المسلمين يوم خيبر »!!

فسمع رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الكلام فأتاه وقال : يا رسول الله ، أصبت شراكين لنعلين لي فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « يقدّ لك مثلهما في النار »(٣) .

وهذه القصة تفضح أيضا دسائس بعض المستشرقين ، لأنهم كانوا يصفون حروب الاسلام ومعاركه العادلة بأنها كانت من أجل الاغارة على أموال الناس

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج باب جهاد النفس الحديث ٤ ، المغازي : ج ٢ ص ٦٨١.

(٢) الشملة كساء غليظ يلتحف به.

(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٩ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٢٣ و ٣٢٤.

٤١١

ومصادرتها كما يفعل قطاع الطرق ، متجاهلين عمدا وكيدا الأهداف الإنسانية والالهية العليا لهذه المعارك والغزوات ، والحال أن مثل هذه الانضباطية والنظم والورع ممّا لا يمكن تصوره في قوم همهم الاغارة والنهب والسلب.

إن قائد شعب أو قوم هذا هو همهم وهذه هي همتهم لا يمكن أبدا أن يعتبر ردّ الامانة من واجبات الدين ومن علائم الايمان ، كما لا يمكنه أن يربي أتباعه وأصحابه بمثل هذا التربية الرفيعة ، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جدا مثل غلّ شراكي نعلين لا قيمة لهما تذكر.

قافلة من أرض الذكريات :

قبل أن يتوجّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين الى « خيبر » بعث « عمرو بن أميّة » إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ ، وليطلب منه أن يهيء المقدمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة الى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأولئك المهاجرين بعد أن جهزهم بجهاز حسن وامر لهم بكسوة ، فسارت بهم حتى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

ولما علم المسلمون بمسير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى « خيبر » توجّهوا من فورهم الى « خيبر » فقدموا مع « جعفر بن أبي طالب » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم « خيبر » بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود وقلاعهم.

فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفر مشى في استقباله (١٢) خطوة ثم قبّل ما بين عينيه والتزمه وقال :

« ما أدري بأيّهما أنا اسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ ».

وفي رواية اخرى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لا أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحا بقدومك يا جعفر أم بفتح الله على أخيك خيبر ». ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجعفر :

٤١٢

« يا جعفر ألاّ امنحك؟ ألا اعطيك ألا أحبوك؟ ».

فظن الناس أنه يعطيه ذهبا أو فضة ، فتشوّف الناس لذلك. فقال له :

أني اعطيك شيئا إن أنت صنعته في كل يوم كان خيرا لك من الدنيا وما فيها ».

ثم علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار(١) .

حجم الخسائر وعدد القتلى :

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة ٢٠ شخصا ولكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير ، وقد سجل التاريخ أسماء ٩٣ رجلا منهم(٢) .

العفو بعد الانتصار :

المؤمنون بالله واصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه والظفر به باللطف والحب ، ويعفون عنه ويتناسون روح الانتقام ، أجل إنهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم وحنانهم وتلك هي حقيقة اثبتتها وقائع التاريخ الحية.

وكذلك فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما تغلب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة ، وشملهم بعفوه ، ولطفه رغم كل ما ارتكبوه في حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ظلم وجناية وتأليب للعرب الوثنيين ضدّ الاسلام ، واشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الاسلامية وتستأصل المسلمين ، وتقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا ، وأن يترك أراضيهم

__________________

(١) فروع الكافي : ج ١ ص ١٢٩ و ١٣٠ ، الخصال : ج ٢ ص ٨٢ و ٨٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٢.

٤١٣

وبساتينهم بأيديهم ، على أن يكون له نصف محاصيلها سنويا.

بل إن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يروي ابن هشام ـ هو الذي اقترح هذا الأمر على اليهود ، وترك لهم حرية التصرف في مزارعهم وأراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر(١) .

لقد كان في مقدور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كأيّ فاتح آخر ، أن يريق دمهم جميعا ، أو أن يجليهم برمتهم من أراضيهم ، أو يجبرهم على اعتناق الاسلام ، ولكنّه ـ خلافا لتصور زمرة مغرضة من المستشرقين ، وطلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون ويزعمون بأن الاسلام دين القهر والقوة ، وان المسلمين أجبروا الامم والأقوام المغلوبة على ترك عقائدها ، واعتناق الاسلام لم يفعل مثل هذا العمل قط ، بل تركهم أحرارا في ممارسة شعائرهم ، والبقاء على ما كانوا يعتقدونه من اصول دينهم وفروعه.

ولم يحارب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه يهود « خيبر » إلاّ لأنّ « خيبر » قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة ، والكيد بالاسلام والمسلمين ، فقد كانوا يمدّون المشركين بكل ما يريدون للقضاء على الحكومة الاسلامية الحديثة التأسيس ، ولهذا اضطر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مقاتلتهم ، وتجريدهم من أسلحتهم ، حتى يعيشوا تحت ظل الحكومة الاسلامية بمنتهى الحرية ، ويشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة ، ويقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة والتآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى ، اذ كانوا يسببون مشاكل كبيرة للمسلمين ـ في غير هذه الصورة ـ ويمنعون من تقدّم الاسلام وانتشاره.

وأما الجزية(٢) فقد كان لقاء دفاع الحكومة الاسلامية عنهم ، وحمايتهم من الأعداء ، وتوفير الأمن لهم ، إذ كان حماية أموالهم وأنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم ان المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أن ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٧.

(٢) الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

٤١٤

الإسلاميّة من الضرائب الاسلامية كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود. والنصارى إلى الحكومة الاسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجب على كلّ مسلم أن يدفع الى الحكومة الاسلامية الخمس والزكاة وربما توجب عليه ان يدفع شيئا من أصل ماله لسدّ نفقات واحتياجات الحكومة الاسلامية بينما كان اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الاسلامية في أمن وأمان ويتمتعون بجميع الامتيازات والحقوق الاجتماعية الفردية يدفعون إلى الحكومة الاسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون ، فالجزية شيء والأتاوة شيء آخر ، على خلاف ما يروّجه بعض الكتاب المغرضين.

ولقد كان عامل الجباية الذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتقدير حجم المحاصيل فيها ، ثم تنصيفها رجلا عادلا ورعا إلى درجة أن اليهود أنفسهم أعجبوا بعدله ، واعترفوا بانصافه ، وهو « عبد الله بن رواحة » الذي استشهد فيما بعد ، في موقعة « مؤتة ».

فقد كان « ابن رواحة » يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر ، وربما تصوّر اليهود أنه أخطأ في التخمين والخرص ، وخمّن أكثر ممّا هو الحق فقالوا له : تعديت علينا!

فكان عبد الله يقول : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا.

فتقول اليهود ـ معجبة بهذا الانصاف العظيم والعدل الكبير الذي كان يتحلى به مخرّص الحكومة الاسلامية ـ : بهذا قامت السماوات والارض(١) .

ولقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم « خيبر » على قطعة من التوراة ، فطلبت اليهود من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعيدها إليهم ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسئول بيت المال باعادتها إليهم(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٥٤.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٦٨٠ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٢٣.

٤١٥

وهذا يكشف عن احترام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للشرائع الاخرى.

سلوك اليهود المتعجرف :

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها وكيدها ، بل ظلّت تخطّط ـ في الخفاء ـ للايقاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، والحاق الاذى بهم.

ولنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر :

١ ـ لما اطمأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدس سمّ إليه. فأهدت له « زينب بنت الحارث » زوجة « سلام بن مشكم اليهودي » شاة مشويّة وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل لها الذراع ، فاكثرت فيها من السمّ ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . تناول الذراع ، فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه « بشر بن البراء بن معرور » قد أخذ منها كما أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأما بشر فقد ابتلعها ، وأما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد لفظها وعرف بأنها مسمومة ، ومات بشر من أكلته التي أكل ثم دعا زينبا ، وقال لها : سمّمت الذراع؟ فاعترفت. فقال لها : ما حملك على ذلك ، قالت : قتلت أبي وعمّي وزوجي ، ونلت من قومي ما نلت فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وان كان نبيّا فسيخبر.

فعفا عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يلاحق من تواطئوا معها(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٧ و ٣٣٨ والمغازي : ج ٢ ص ٦٧٧ و ٦٧٨. وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٢٣. هذا والمعروف أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في : مرضه الذي مات فيه : إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت بخيبر ، فإن النبيّ ، وان كان لفظ ـ

٤١٦

لا شك لو أن مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القادة والزعماء لصبغوا الارض بدماء من ظنوا أنه قصد قتلهم ، أو ملأوا السجون بهم وحبسوهم ، أعواما مديدة او اخضعوهم لاشد انواع التعذيب الجسدي والنفسي كما يحدّثنا بذلك التاريخ القديم والحديث.

إن هذه المؤامرة الدنيئة التي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسيئون الظن بصفية اليهودية التي أصبحت في عداد ازواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد باتوا يتصوّرون أنها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولهذا عند ما أعرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات « أبو أيّوب الانصاري » يحرس قبّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي دخل بها بصفية ليلة عرسه بها ، وبقي يطوف بالقبة حتى أصبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما رأى أبا أيوب قال : مالك يا أبا أيوب؟

قال : يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك. فشكره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له بخير(١) .

٢ ـ والنموذج الثاني من جفاء اليهود ، وكيدهم حتى بعد عفو النبي عنهم ، ولطفه بهم أنّ « عبد الله بن سهيل » الذي كلّف من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر وتقديرها وحمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتله جماعة مجهولة من اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر وقد كسروا

__________________

المضغة إلاّ ان بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف ، وأثر في جسمه المبارك حتى أودي بحياته المقدسة بعد حين.

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٩ و ٣٤٠ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٣.

٤١٧

عنقه وألقوه في بئر ، فقدم جماعة من زعماء اليهود المدينة ودخلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبروه بهذه العملية الغادرة المجهول فاعلها ، وتقدم الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا « عبد الرحمن » اخو عبد الله بن سهل وابنا عمّه وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنا وكان صاحب الدّم فلما تكلّم قبل ابني عمّه قال رسول الله : الكبر الكبر ( أي قدّموا الاكبر للكلام إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسنّ وهو خلق يدعو إليه الاسلام ).

فذكروا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل صاحبهم وطلبوا القصاص فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أتسمّون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلّمه إليكم ».

وحمل هذا التعليم النبوي أولياء الدم على أن يجعلوا التقوى والورع نصب أعينهم ولم يستسلموا لثورة العاطفة فقالوا : يا رسول الله ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أفيحلفون ( أي يحلف اليهود ) بالله خمسين يمينا ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، ثم يبرءون من دمه؟ ».

قالوا يا رسول الله ما كنا لنقبل أيمان اليهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم.

فكتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يهود خيبر كتابا فيه : انه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه ( أي أعطوا ديته ).

فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا.

فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن المشكلة قد وصلت إلى طريق مسدودة وداه بنفسه من عنده مائة ناقة(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٥٤ ـ ٣٥٦.

٤١٨

وهكذا اثبت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لليهود مرة اخرى بأنه ليس داعية حرب ولا طالب قتال وسفك دماء ، ولو كان كغيره من الزعماء والسياسيين لاتخذ من قصة مقتل عبد الله ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية ، المشاغبة المخلّة بالأمن(١)

إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يصرّح بذلك القرآن الكريم ويصفه : نبي الرحمة ، فهو لا يحتكم الى السيف ما لم يبلغ الامر مداه.

حيلة مجازة :

كان في خيبر تاجر يدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكة ، وكان ممّن حضر يوم خيبر. وشاهد لطف النبي ورحمته فأسلم طائعا راغبا.

ولما فرغ المسلمون من أمر « خيبر » أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله إن لي بمكة مالا متفرقا في تجار مكة فاذن لي يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن احتال لأخذها ، فأذن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين وغيرهم في مكة.

فقدم مكة ، فرآه رجال قريش اجتمعوا حوله وأخذوا يسألونه عن أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلا : لقد هزم محمّد بخيبر هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتل لم تسمعوا بمثله قط ، واسر محمّد اسرا ، وقالت اليهود : لا نقتله حتى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين

__________________

(١) لم تنحصر تعديات اليهود وتجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا ودبّروا الحيل لالحاق الأذى والضرر بالمسلمين ، ومن جملة ذلك حادث عبد الله بن عمر الذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب فلما عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان » فقال لصحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كان له حق عند اليهود فليأخذه ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم وتآمرهم المستمر. ( المصدر ).

٤١٩

أظهرهم انتقاما لمن أصاب من رجالهم.

ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحا شديدا ، ثم قال الحجاج لهم.

أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي فإني أريد أن اقدم خيبر فأصيب من محمّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار الى ما هنا لك فجمعوا له ماله كاسرع ما يكون.

فلما سمع « العباس بن عبد المطلب » هذا الخبر جاء الى الحجاج وقال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به ، فأشار الحجاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر ، ثم التقى العباس خفية وأخبره بأنه ماكر أهل مكة ، وأنّ النبي ظفر بيهود خيبر ، وطلب من العباس أن يكتم ذلك حتى يغادر مكة ، وينجو بنفسه وماله.

فلما فرغ من جميع ماله كله غادر مكة بسرعة فائقة. فلما مضى على ذلك ثلاثة أيام واطمأنّ العباس من نجاة الحجاج لبس حلة جميلة ، وتعطر وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فتعجبت قريش لذلك ، وظنت أنه فعل ذلك تجلّدا ، فقالت للعباس : يا أبا الفضل هذا والله التجلّد لحرّ المصيبة ، قال : كلا ، والله الذي حلفتم به ، لقد افتتح « محمّد » خيبر ، وترك عروسا على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها ، وأصبحت له ولأصحابه.

فقالوا : من جاءك بالخبر.

فقال : الذي جاءكم بما جاءكم ( ويعني الحجاج الذي احتال عليهم ). ولقد دخل عليكم مسلما ، فأخذ ماله ، وانطلق ليلحق بمحمّد وأصحابه ، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة وانزعجت انزعاجا شديدا ، ولكن بعد فوات الأوان ، ولم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على اعدائهم(١) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٤ ، زاد المعاد : ج ٢ ص ١٤٠ ، والسيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٤٥ و ٣٤٦.

٤٢٠