سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله0%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 778
المشاهدات: 441030
تحميل: 8810


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 441030 / تحميل: 8810
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء 2

مؤلف:
العربية

فوق الجبال والتلال ، وللمزيد من تخويف سكان مكة والإظهار بمظهر القوة أمر بأن يشعل كل واحد من الجنود النار وحده ، في شريط طويل على الأرض.

كانت قريش وحلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة ، بينما كانت النيران من جهة اخرى قد غطت كلّ المرتفعات المشرفة على مكة فلم تستيقظ إلا على منظر أرعب قلوبهم ، ولفت أنظارهم.

وفي هذا الاثناء كان بعض سادة قريش ك : « أبي سفيان بن حرب » و « حكيم بن حزام » وغيرهما قد خرجا من مكة يتجسّسون الأخبار.

ففكّر « العباس بن عبد المطلب » الذي لازم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من منطقة الجحفة ، فكر في نفسه بأنه إذا ما اتفق أن واجه جنود الاسلام مقاومة من قريش عند دخول مكة لادّى ذلك إلى ان يقتل جمع كبير من قريش ، ولهذا فان من الأفضل أن يقوم بدور عمليّ لصالح الطرفين ، ويقنع قريشا بالتسليم ، وعدم المقاومة.

فركب بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيضاء وتوجه صوب مكة ليخبر قريشا بمحاصرة مكة من قبل جنود الاسلام ، ويخبرهم بكثرة عددهم ، وبمبلغ شجاعتهم وإصرارهم على تحقيق أهداف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقنعهم بأنه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا ، فيقول بديل : هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان : خزاعة أذلّ وأقلّ من ان تكون هذه نيرانها وعسكرها.

فصاح العباس بأبي سفيان وقال : يا أبا حنظلة.

فقال أبو سفيان : يا لبيك ، أبو الفضل ما لك؟

فقال العباس : هذا رسول الله في عشرة آلاف من المسلمين.

فارتعد أبو سفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الاسلامية ، فقال وهو

٤٨١

يرتجف ، وتصطكّ اسنانه من الفزع : فما الحيلة فداك أبي وأمي؟

فقال العباس : اركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستأمنه لك.

فركب أبو سفيان خلف العباس ، ورجع صاحباه ( حكيم وبديل ) إلى مكة.

ولقد كان مسعى العباس ـ كما ترى ـ في مصلحة الاسلام كله ، فقد أرعب شيطان قريش ، وزعيمها وعقلها المدبّر أبا سفيان ، وكان موفقا في هذه الخطوة جدا بحيث لم يعد يفكر أبو سفيان إلاّ في التسليم ، وإلقاء السلاح والكفّ عن المقاومة ، بل ومنعه العباس من العودة إلى مكة ، في نفس الليلة ( ليلة فتح مكة ) وأخذه معه إلى معسكر المسلمين بغية تقييده ، ومنعه من العودة مكة ، إذ كان من المحتمل جدا أن يقع فريسة أفكار المتطرفين في الزعامة المكية فيدبّرون معا خطة لمواجهة جيوش الاسلام ، فيقع ـ حينئذ ـ ما لا يحمد عقباه ، من سفك الدماء ، وذهاب الأنفس والارواح.

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي :

دخل العباس ـ وهو على بغلة بيضاء وقد اردف خلفه أبا سفيان ـ في معسكر المسلمين ، وهو يقصد خيمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال نيران المسلمين التي أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإشعالها ، وكان كلّما مرّ بنار من نيرانهم قالوا : عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يمنعون من مروره ، حتى اذا لقيا عمر بن الخطاب في الاثناء ورأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همّ بقتله في المكان ، ولكن عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجار أبا سفيان في الحال ، ومنع بذلك عمر من إلحاق الأذى به ، وهو في جواره.

وأخيرا وصل العباس برفقة أبي سفيان الى خيمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فترجّلا ، فاستأذن العباس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للدخول مع أبي سفيان عليه فاذن لهما ، فوقعت مشادة كلامية شديدة بين العباس وعمر بين

٤٨٢

يدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول أبي سفيان وكان عمر يقول : أبو سفيان عدوّ الله فلا بد أن يقتل ، ولكن العباس كان يقول : يا رسول الله إنّي قد أجرته ، فقطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دابر هذه المناقشة عند ما قال :

« اذهب يا عبّاس إلى رحلك ، فاذا أصبحت فاتني به ».

فذهب العباس بأبي سفيان إلى رحله ، فبات عنده ليلته كما أمر ، فلما أصبح غدى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أبو سفيان بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لما مثل أبو سفيان عند الصباح بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيمته قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ويحك يا أبا سفيان ؛ ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلاّ الله؟ ».

فقال أبو سفيان : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله آله غيره ، لقد أغني عنّي شيئا بعد.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله »؟

قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، أما والله فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا!!

فغضب العباس من شك أبي سفيان ، ولجاجته وعناده فقال له : ويحك ، أسلم واشهد أن لا إله الاّ الله ، وأن محمّدا رسول الله قبل أن يضرب عنقك.

فشهد أبو سفيان شهادة الحق ، فاسلم ودخل في عداد المسلمين.

أن إسلام أبي سفيان الذي حصل في جوّ من الرعب والتهديد وإن لم يكن بالاسلام الذي كان يريده رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبه دينه الحنيف ، ولكنّ مصالح معيّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك اكبر سدّ ، وينزاح اكبر مانع من طريق الدعوة

٤٨٣

الاسلامية ، لأنّ رجالا مثل « أبي سفيان » و « أبي جهل » و « عكرمة » و « صفوان بن أميّة » وغيرهم ، كانوا قد أوجدوا جوّا من الرعب والخوف في مكة استمرّ أعواما عديدة ، فلم يكن يجرأ أحد من المكيّين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الاسلام ، أو يظهر رغبته في اعتناقه ، والانضواء تحت لوائه.

فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ والسطحيّ مفيدا من حيث الواقع ، ولكنه كان مفيدا جدا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وللذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان ونفوذ زعامته من جماهير مكة ، وبالتالي لمن كانت له علاقات قربى معه.

ومع ذلك لم يسمح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخلاء سبيل أبي سفيان لأنه لم يكن آمنا ـ وحتى مع إظهاره الاسلام ـ من جانبه قبل أن يتمّ فتح مكّة ، ولهذا أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليبصر عظمة القوات الاسلامية ، وكثافتها قائلا :

« يا عبّاس احبشه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ( أي انفه ) حتى تمرّ به جنود الله فيراها ».

ثم إن العباس قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله إنّ أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئا.

واستجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الطلب ، ومع أن أبا سفيان كان قد عادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّب ضدّه طيلة عشرين عاما ، وأثار في وجه دعوته الحروب والفتن الكثيرة ، ووجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الاسلام والمسلمين ، فمنحه ـ رغم ذلك ولمصالح خاصة ـ مقاما ، وقال كلمته التاريخية في حقه تلك الكلمة التي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمو روحه ، وعمق حكمته اذ قال :

« من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

٤٨٤

ومن أغلق بابه فهو آمن.

ومن دخل المسجد فهو آمن.

ومن طرح السلاح فهو آمن »(١) .

مكة تستسلم من دون إراقة دماء :

تقدّم جيش التوحيد العظيم نحو مكة ، حتى أصبح على مقربة منها.

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عازما على أن يفتح مكة من دون إراقة دماء ، وإزهاق أرواح ، وأن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

وكان من العوامل التي ساعدت على تحقيق هذه الغاية ـ مضافا إلى عامل التكتم والتستّر ومبدأ المباغتة ـ أنّ العباس عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه إلى مكة كداعية صلح ووسيط سلام بين قريش والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان أن أتى بأبي سفيان الى معسكر الاسلام كما أسلفنا ، وبذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان ، ولم يكن في مقدور سادة قريش أن يتخذوا قرارا حاسما من دون أبي سفيان.

وعند ما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الاسلام الفريدة وأظهر الاسلام ، رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستفيد منه لإرعاب المشركين اكثر قدر ممكن ، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بام عينيه حشود المجاهدين من المسلمين ـ كما أسلفنا ـ في وضح النهار مع كامل عدّتهم واسلحتهم ، ونظامهم وقوتهم ، فيخبر قريشا بذلك ، فيزيدهم خوفا ورهبة ، فينصرفوا عن فكرة مقاومة الجيش الاسلامي عند دخوله الى مكة.

وفعل العباس ما أمره الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحبس أبا سفيان

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٠٠ و ٤٠٤ ، مجمع البيان : ج ١٠ ص ٥٥٤ ـ ٥٥٦ ، المغازي : ج ٢ ص ٨١٦ ـ ٨١٨ ، شرح نهج البلاغة الحديدي : ج ١٧ ص ٢٦٨.

٤٨٥

حيث أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان ، وكانت بعض قطعات الجيش الاسلامي على النحو التالي :

١ ـ كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد ، وفيها لواءان ، أحدهما مع « عباس بن مرداس » ، والآخر مع « المقداد ».

٢ ـ فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل بقيادة « الزبير بن العوام » الذي كان يحمل معه لواء أسودا ، وكان اكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

٣ ـ فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة « أبي ذر الغفاري » وكان لواؤه معه.

٤ ـ فوج قوامه اربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة « يزيد بن الخصيب » ومعه لواؤه.

٥ ـ فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة « بشر بن سفيان » ورأيته معه.

٦ ـ كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني مزينة ، فيها ثلاثة ألوية ، لواء مع النعمان بن مقرن ، ولواء مع بلال بن الحارث ، ولواء مع عبد الله بن عمر.

٧ ـ كتيبة قوامها ثمانمائة مقاتل من جهينة ، فيها أربعة ألوية ، لواء مع « معبد بن خالد » و « سويد بن صخرة » و « رافع بن مكيث » و « عبد الله بن بدر ».

٨ ـ فوجان قوامهما مائتا مقاتل من بني كنانة ، وبني ليث وضمرة ، بقيادة « أبي واقد الليثي » ، وكان لواؤهما معه.

٩ ـ فوج قوامه ثلاثمائة ، مقاتل من بني أشجع ، وفيها لواءان أحدهما بيد « معقل بن سنان » والآخر مع « نعيم بن مسعود »(١) .

__________________

(١) لقد سجّل المؤرخ الاسلامي الشهير « الواقدي » عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه « المغازي » :

٤٨٦

وعند ما كانت هذه القبائل والقطعات تمرّ ، سأل أبو سفيان العباس عن اسمها ، وخصوصياتها ، فكان العباس يوضح له كل ذلك.

والذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالا وعظمة أن قادة هذه الافواج والكتائب كانوا اذا مرّوا على العباس وأبي سفيان كبّروا ثلاثا بأعلى أصواتهم وبشكل منظّم ، وكبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد ومنظم أيضا كأكبر شعار اسلامي.

ولقد كان لهذه التكبيرات الهادرة التي كانت تدوّي في وديان مكة ، وتردّدها الجبال والوديان ، أكبر الاثر في نفوس الاصدقاء والاعداء ، فكانت تزيد بهيبتها وجلالها من محبة الاصدقاء للنظام الاسلامي العظيم ، بينما ترهب أعداء الله ، وتغرقهم في خوف ورعب شديدين.

هذا وكان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة التي فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهذا كان يسأل العباس كلما مرّت قطعة من قطعات الجيش الاسلامي : أفيها محمّد؟ أو ما مضى بعد محمّد؟!

فيقول العباس : لم يمض بعد ، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيت الحديد والخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقة.

وبينما هما كذلك إذ طلعت كتيبة عظيمة قوامها خمسة آلاف مقاتل ، فيها ألفا دارع فقط ، فيها الرايات والألوية الكثيرة ، فيها المهاجرون والانصار ، مع كل بطن وقبيلة من قبائل الأنصار راية ولواء ، وكانت تسمى كتيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخضراء لأن أفرادها كانوا في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وقد ركبوا الخيول العربية الاصيلة ، والحمر من الإبل ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وسطها راكب على ناقته القصوى ، وقد أحدق به كبار الشخصيات من

__________________

ـ ج ٣ ص ٨٠٠ و ٨٠١ وص ٨١٩ بشكل دقيق ، وقد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج ١٧ ص ٢٧٠ و ٢٧١.

٤٨٧

المهاجرين والانصار ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدّثهم.

فارعبت عظمة هذه الكتيبة أبا سفيان ، بشدة ، حتى أنه قال للعباس من دون اختيار : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة يا أبا الفضل! والله يا ابا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.

فقال له العباس ـ بنبرة موبّخة ـ : ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.

فليس هذه العظمة والجلال من أثر الملك المادّي الدنيوي إنما هو هو فعل الرسالة الالهية ، إنه جلال النبوة ، وانه بالتالي من فضل الله عزّ وجلّ الذي أدخل الاسلام في قلوب هذه الجماهير المؤمنة ، وهذه الجموع المجاهدة في سبيل الله.

أبو سفيان يرجع إلى مكة :

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة ، فقد أرعب أبو سفيان من قوة الاسلام العسكرية الكبرى ، ولهذا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكة قبل دخول جنود الاسلام فيها ، فيخبر أهلها بعظمة وقوة الجيش الاسلامي القادم إليهم ، ويحذّرهم من مغبة المقاومة والمواجهة ، ويدلهم على طريق الخلاص والنجاة ، وهو التسليم للأمر الواقع ، والقاء السلاح ، والاستسلام من دون قتال ومقاومة ، ومن دون قيد وشرط ، لأن بمجرد تخويف أهل مكة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليتحقق هدف النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الفتح من دون دماء.

فدخل أبو سفيان مكة ، وقد بات الناس ليلتهم في رعب شديد ، وترقّب رهيب حتى أصبحوا ، ولم يكن بامكانه أن يقرّروا شيئا من دونه ، فلما رأوه قادما أحاطوا به ، فاخذ يشير الى ناحية المدينة ، وقد اصفرّ وجهه ، وانهارت قواه وصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، أو قال : هذا محمّد في عشرة آلاف فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن.

٤٨٨

على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة التي أعلنها للجوء الناس إليها حتى يأمنوا من القتل ، موضعا آخر ، حيث عقد لابي رويحة « عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي » لواء وأمره أن ينادي :

« من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن »(١) .

وقد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكة بشدة حتى أنهم انصرفوا عن فكرة المقاومة ، لو كانت ، وأثمرت جهود العباس ومساعيه في الليلة الفائتة ، وأصبح فتح مكة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي وعند من ينظر الى واقع الامور ، أمرا مسلّما وقطعيا.

ففزع الناس ، وتفرّقوا ، ولجأ بعضهم إلى دورهم ، والبعض الآخر الى المسجد ، وأسدى أعدى أعداء الرسالة ونعني أبا سفيان ، ونتيجة لتدبير رسول الله الحكيم ، أكبر خدمة لجنود الاسلام ، حيث مهّد لهم ـ بما أوجده في نفوس المكيين وقلوبهم من هزيمة نفسية ـ طريق الفتح العظيم بسلام ، ومن دون مشاكل تذكر ، اللهم إلا « هند » زوجة أبي سفيان التي كانت تحرّض الناس على المقاومة ، وراحت تشتم زوجها وتسبّه باقذع الشتائم والسباب ، وتتهمه بالجبن والذل.

بيد أنّ الأمر كان قد قدر ، ولم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة ، ولم تكن تلك الكلمات والأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

ونظير هذا الذي فعلته هند ، ما فعله وقام به بعض الزعماء المتطرفين مثل « صفوان بن أميّة » وعكرمة بن أبي جهل » و « سهيل بن عمرو » ممثّل قريش في صلح الحديبية ، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن يعملوا على منع قوات الاسلام من دخول مكة ، وانخدع بهم فريق من البسطاء والمغفلين ، فشهروا السلاح في وجه أول قطعة من قطعات الجيش الاسلامي ، وسدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٧٩.

٤٨٩

يائسة لتحقيق مآربهم.

القوات الاسلامية تدخل مكة :

وقبل ان تدخل قوات الاسلام مكة كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد دعا جميع قادة وامراء جيشه وقال لهم بانه يريد ان يفتح مكة من دون إراقة أيّة دماء ، ولهذا امرهم ان لا يقاتلوا إلاّ من قاتلهم ، إلاّ أنه أمر بقتل عشرة وان وجدوا تحت أستار الكعبة وهم : « عكرمة بن أبي جهل » و « هبار بن الاسود » و « عبد الله بن أبي سرح » و « مقيس بن حبابة الكندي » و « الحويرث بن نقيذ » و « عبد الله بن خطل » و « صفوان بن أميّة » و « وحشي بن حرب » قاتل حمزة.

و « عبد الله بن الزبعرى » و « حارث بن طلالة » واربع نسوة وكان كل واحد من هؤلاء قد قتل أحدا او ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة او حرب ضدّ الاسلام والمسلمين(١) .

وقد بلغ الأمراء والقادة هذا الأمر إلى جنودهم كافة ، ومع أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف مسبّقا بمعنويات المكيين المنهارة ، وعدم قدرتهم على المقاومة ، إلا أنه ـ مع ذلك ـ لم يترك جانب الاحتياط والحذر الذي يفرضه العمل العسكري ، عند دخول مكة ، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

فقد وصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجيشه كله إلى « ذي طوى » ( وهو موضع مرتفع كانت ترى منه بيوت مكة ومنازلها ) وهو في كتيبة قوامها خمسة آلاف ، فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منازل مكة اغرورقت عيناه بدموع الشوق والحنين ، فانحنى تواضعا لله تعالى وشكرا ، حتى رأى ما رأى من فتح الله ، وكثرة المسلمين حتى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرجل أو يقرب منه.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١٠ ، تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٩٠ ـ ٩٤ وقد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبه هذه الجماعة المهدورة دماؤها وما آل إليه أمرهم بعد فتح مكة.

٤٩٠

ومراعاة لجانب الحذر والاحتياط فرّقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكة من أسفلها ، وأمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها ، ولم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بان تدخل من جميع المداخل والطرق المؤدية إلى داخل مكة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الاسلامي وقطعاته وكتائبه وفرقه مكة من دون قتال ومن دون ان تلقى من أهلها مقاومة ، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم الاّ المدخل الذي دخل منه « خالد بن الوليد » بفرقته ، فقد عمد جماعة من المكيين بتحريض من « عكرمة » و « صفوان » و « سهيل » على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين ، ورموا بالنبل لمنعهم من دخول مكة ، ووقع قتال بين الجانبين ، ولكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شيء من القتال والمقاومة ، وفرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصا(١) .

ومرة اخرى قام أبو سفيان ومن حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الاسلام في هذه الحادثة ، فانه كان لا يزال مرعوبا ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الاسلامية وقوتها وكان يعلم ان المقاومة لا تجدي نفعا ولا تجرّ على أهل مكة إلاّ الضرر ، ولهذا نادى بأعلى صوته ـ حقنا للدماء ـ : يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن فلا يدفع محمّدا شيء ، فضعوا اسلحتكم ، وادخلوا في بيوتكم ، واغلقوا عليكم أبوابكم او ادخلوا المسجد ، تسلموا.

فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور ، ويغلقون عليهم ، ويطرحون السلاح في الطرقات حتى يأخذها المسلمون ، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

ولما ظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على « ثنية أذاخر » نظر إلى لمعان

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٤٠٨ ، وحسب المغازي : ج ٢ ص ٨٢٥ ـ ٨٢٦ قتل ثمان وعشرون رجلا.

٤٩١

السيوف وهي تصعد وتهبط فقال : « ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال »؟

فقيل : يا رسول الله ، خالد بن الوليد قوتل ، ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قضى الله خيرا ».

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل مكة من ناحية أذاخر ، وهي أعلى نقطة في مكة في موكب عظيم جليل ، فضرب له قبة من أدم بالحجون ( عند قبر عمّه العظيم أبي طالب ) ليستريح فيها ، وقد أصرّوا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن ينزل في بعض بيوت مكة فأبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

كسر الاصنام وغسل الكعبة :

لقد استسلمت مكة التي كانت مركزا رئيسيا للشرك والوثنية طوال أعوام عديدة ومديدة ، أمام قوات التوحيد الظافرة ، وسيطر جنود الاسلام على جميع نقاط تلك المدينة المقدسة.

ولقد استراح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخيمة التي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن اطمأنّ واغتسل ركب راحلته « القصواء » وتوجّه الى المسجد الحرام لزيارة بيت الله المعظم والطواف به ، بينما كان يحمل معه السلاح ، والمغفر على رأسه ، وتحيط به هالة من العظمة والجلال ، ويحدق به المهاجرون والانصار ، وقد صفّ له الناس من المسلمين والمشركين ، بعض يغمره الفرح والسرور ، وآخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

ولما انتهىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون تقدّم على راحلته ، ولم يترجّل منها لأسباب خاصة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده ، وكبّر فكبّر المسلمون لتكبيره ، ورجّعوا التكبير حتى ارتجّت مكة لتكبيرهم

__________________

(١) الامتاع : ج ١ ص ٣٨٠.

٤٩٢

ودوّى صوتهم في الجبال والوهاد ، وسمعه المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد وقد بلغ من هياج المسلمين ، وهم يطوفون بالبيت من شدة سرورهم جدا كاد أن يمنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الطواف بالبيت بفكر هادئ فاشار إليهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اسكتوا ، فسكت الجميع بأمره ، وساد الصمت كل أرجاء المسجد الحرام ، فطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبيت على راحلته ، وقد أخذ بزمامها « محمّد بن مسلمة » وفيما احتبست الاصوات في الصدور ، واتجهت الأبصار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقعت عيناه الشريفتان ـ في الشوط الأول من طوافه ـ على الاصنام الكبرى « هبل » و « اساف » و « نائلة » منصوبة فوق الكعبة ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول : « جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه.

وأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهبل اكبر أصنام المشركين فحطم وكسر في مرأى من المشركين ، ولقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية ، ويسيطر على أفكارهم أعواما عديدة.

ولما كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان وكان ينظر إلى ذلك المشهد : يا أبا سفيان لقد كسر هبل ، أما إنك قد كنت منه يوم « احد » في غرور ، حين تزعم أنه قد أنعم.

فقال أبو سفيان : دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمّد غيره لكان غير ما كان.

ولما انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد ، والناس حوله ، ثم أرسل بلالا إلى « عثمان بن طلحة » يأتيه بمفتاح الكعبة ، وكان عثمان يومذاك سادن الكعبة ، وقد كانت السدانة تتوارث جيلا بعد جيل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمرك أن

٤٩٣

تأتي بمفتاح الكعبة ، فاستجاب عثمان ، إلاّ أنّ امّه منعته عن ذلك ، وكان المفتاح يومئذ عندها وقالت له : اعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه.

فقال لها عثمان : فو الله لتدفعنّه إليّ ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك ، فسلّمته إياه.

ففتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به باب الكعبة ودخل البيت ، ودخل من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسامة بن زيد وبلال وعثمان وسادتها ، ثم أمر النبيّ باغلاق باب الكعبة ، ووقف خالد بن الوليد على الباب يذبّ الناس عن الباب.

وكانت جدران الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء والملائكة وغيرهم ، فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحوها جميعا ، وغسلها بماء زمزم.

عليّعليه‌السلام على كتف النبيّ :

يقول المحدّثون والمؤرّخون : لقد كسرت بعض الأصنام الموضوعة في الكعبة على يد « عليّ بن أبي طالب » وذلك عند ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام :

« اجلس ».

فجلس إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منكبي ثم قال : انهض بي إلى الصنم فحاول أن ينهض فلم يطق.

فلما رأى النبي ضعفه تحته ، قال :

« اجلس ».

فجلس عليّعليه‌السلام ثم نزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه ، ثم جلسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال :

« يا عليّ اصعد على منكبي ».

٤٩٤

فصعد عليّعليه‌السلام على منكبه ، ثم نهض به فالقى صنم قريش الاكبر ، وكان من نحاس ، ثم ألقى بقيّة الاصنام إلى الارض وحطّمها.

وقد أنشد شاعر الحلة الشهير بابن العرندس ، وهو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكرها فيها هذه الفضيلة بقوله :

وصعود غارب أحمد فضل له

دون القرابة والصحابة أفضلا(١)

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بان يفتح باب الكعبة فوقف على الباب ، وأخذ بعضادتى الباب فاشرف على الناس بطلعته المنيرة ومحياه الجميل وقال :

« الحمد لله الّذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ».

ولقد كان الله سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده الى مسقط راسه اذ قال : « إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد قل ربّي اعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين »(٢) .

وقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحمده هذا عن تحقّق وعد الله له ، وبرهن مرة اخرى على صدقه ، وصحة دعواه.

وفي ما كان الصمت يخيّم على أرجاء المسجد الحرام ، وفي ما كانت الانفاس محتبسة في الصدور ، وتجول في رءوس الحاضرين وانفسهم أفكار مختلفة ، وخواطر شتى ، ويتذكر أهل مكة المشركون ما ألحقوه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتباعه من الأذى والعذاب الشديد ، فتذهب بهم تصوراتهم مذاهب شتى!!

إن الذي سبق لهم أن اشعلوا حروبا كثيرة ضد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتلوا خيرة شبابه وأصحابه ، بل وتمادوا في غيهم وعدوانهم حتى أنهم تآمروا

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل : ج ١ ص ٨٤ باسناد صحيح ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٨٦. تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٨٦ و ٨٧ ، مستدرك الحاكم : ج ٢ ص ٣٦٧ ، وراجع بقية المصادر في موسوعة الغدير : ج ٧ ص ١٠ ـ ١٣.

(٢) القصص : ٨٥.

٤٩٥

لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلا ، وتقطيعه بالسيوف إربا إربا ، ها هم الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته ، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

إن من الطبيعي أن يتحدث أهل مكة في أنفسهم وهم يتذكّرون معاداتهم الشديدة والطويلة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجرائمهم الكبرى بحقه ، وبحق دعوته ويقول بعضهم : أنه سيقتلنا حتما ، أو يقتل فريقا منا ، ويحبس آخرين ، ويسبي ذريتنا ونساءنا ، جزاء ما فعلنا.

وبينما كانوا ـ في تلك اللحظات ـ فريسة هذه الافكار والتصورات الشيطانية ، كسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدار الصمت الرهيب الذي يخيم على أرجاء المسجد الحرام وقال سائلا :

« ما ذا تقولون وما ذا تظنون؟! ».

فقال أهل مكة : وقد تملّكتهم حيرة شديدة ، وخوف عظيم وهم قد عرفوا رحمة النبي ورأفته ، ولطفه لطفه ، وخلقه العظيم : نقول خيرا ، ونظن خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت.

فقال رسول الله ونبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سمع هذه العبارات العاطفية :

« فاني أقول لكم كما قال أخي يوسف « قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين »(١) .

وكان أهل مكة قد اطمأنّوا إلى عفو النبي وصفحه قبل ذلك نوعا ما عند ما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عند ما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكة من احدى مداخلها :

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٨٣٥ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٠٧ و ١٣٢ والآية المذكورة هي ٩٢ من يوسف.

٤٩٦

فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الشعار وقال ردا عليه :

« اليوم يوم المرحمة »(١)

كما أنه أمر ـ لغرض تأديب من أطلق هذا الشعار ـ بأخذ اللواء منه ، وأعطاه إلى شخص آخر ، وقيل إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزله عن قيادة المجموعة ، وأمرّ ابنه مكانه ، وكان هذا الأمير هو سعد بن عبادة رئيس الخزرج.

وقد دفع هذا النوع من اللطف والموقف الايجابي الذي لاحظه أهل مكة المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة ، خاصّة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان ، أو ألقى السلاح ، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كل هذه الامور كانت قد فتحت على أهل مكة بصيصا من الأمل في العفو الشامل.

النبي يعلن عن العفو العام :

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلن عن العفو العام عن جميع أهل مكة بقوله :

« ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم ، وأخرجتم ، وآذيتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني اذهبوا فانتم الطلقاء »(٢) .

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة :

ثم حان وقت صلاة الظهر ، فعلا مؤذن الاسلام « بلال » الحبشي سطح الكعبة المعظمة ، ورفع في الحاضرين وبصوت عال نداء التوحيد والرسالة

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٨٢١ و ٨٢٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٠٦ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١٢.

٤٩٧

( الأذان ) ، فكان كل واحد من المشركين يقول كلاما ، غضبا وحنقا على بلال.

فمنهم من قال : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا البوم!!

وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا ، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء!!(١) .

إن هذا العجوز الخرف المعاند الذي لم يشرق في قلبه نور الإسلام حتى آخر لحظة من حياته ، خلط بين مسألة الاطلاع على الغيب ، وتلقّي الحقائق عن طريق الوحى ، وبين مسألة التجسس الذي يعتمده جبابرة العالم وطغاته.

إن مسألة اطلاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قضايا الغيب أمر يحصل بطرق غير عادية ولا متعارفة ، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الامور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية ، أو من يسمّون برجال المخابرات والأمن.

وعلى كل حال فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا « عثمان بن طلحة » وردّ إليه مفتاح الكعبة ، وقال له :

« هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء »(٢) .

وروي أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

« خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلاّ ظالم »(٣) .

ولم يكن غير هذا بمتوقع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فإن النبي الذي بعثه الله سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الامانة ـ فيما يدعوهم إليه ـ وليبلّغهم قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها » من المسلّم أن يكون أول من يلتزم بهذا التعليم الالهي ، فيعيد مثل تلك الامانة الكبرى إلى صاحبها.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١٣.

(٢) و (٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١٢ ، المغازي : ج ٢ ص ٨٣٨ الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٢ ص ١٣٧.

٤٩٨

إنه لم يكن بالذي يهضم حقوق الناس ويدوسها ، في ظل ما أوتي من قوة ، ويقول للناس بكل صراحة : « خذوها يا بني أبي طلحة ، تالدة خالدة لا ينزعها أحد منكم إلا ظالم ».

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألغى جميع مناصب الكعبة التي كانت في الجاهلية إلاّ ما كان نافعا للناس كالسدانة والحجابة ( وهي القيام بشئون أستار الكعبة ) وسقاية الحجيج(١) .

النبي يتحدث إلى أقاربه :

ولكي يعرف أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن وشيجة القربى التي تربطهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ترفع عن كاهلهم أيّة مسئولية من المسئوليات ، بل تزيد من مسئوليتهم ألقى فيهم خطابا خاصا بيّن فيه أن رابطة القربى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الاسلامية ، ويتخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة وغطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

ولقد شجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطابه هذا الذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم وبني عبد المطلب ، كل تمييز ، وتفضيل غير صحيح ، ودعا إلى لزوم العدل ومراعاة المساواة ، بين جميع الطبقات اذ قال :

« يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب إنّي رسول الله إليكم ، وإنّي شفيق عليكم ، لا تقولوا : إنّ محمّدا منّا ، فو الله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتقون فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة.

ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم ، وفيما بين الله عزّ وجلّ وبينكم وإن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ، ص ١٣٢.

٤٩٩

لي عملي ولكم عملكم »(١) .

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام :

كان الاجتماع الذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكة اجتماعا عظيما جدا.

المسلمون والمشركون ، والصديق والعدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع ، وكانت تجلل هالة من عظمة الاسلام وعظمة نبيه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحاب ذلك المكان المبارك ، وكان الصمت والهدوء ، وحالة من الانتظار والترقب ، تخيم على اجواء مكة.

لقد آن الأوان ـ الآن ـ لأن يكشف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة ويوقف ذلك الحشد الهائل المتعطش على معالم رسالته العظمى ، ومبادى دينه الحنيف ، وبالتالي أن يكمل حديثه الذي بدأه قبل عشرين عاما ولكنّه لم يوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين ، ومعارضتهم ، وبسبب ما أوجدوه من عقبات وعراقيل في طريقه.

ولقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن تلك المنطقة ، وتلك البيئة ، ولهذا كان عارفا ـ تمام المعرفة ـ بأمراض المجتمع العربي ، وأدوائه ، وعلاج تلك الأدواء ودوائها.

لقد كان يعرفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علل انحطاط المجتمع المكيّ واسباب تخلفه عن ركب الحضارة والمدنية ، وعن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد.

من هنا رأى أن يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض ، وأن يعالج امراض البيئة العربية بشكل كامل ، وكأي طبيب حاذق ، وحكيم ماهر.

ونحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الذي ألقاه سيد المرسلين

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١١١.

٥٠٠