• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22182 / تحميل: 10137
الحجم الحجم الحجم
الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا. وقد بلغ ـ من حرصي ـ أن ساهمت أبني في الخروج فخرج سهمه. فرزق الشهادة وقد كنت عليها حريصا وقد رايت ابني البارحة ـ في النوم ـ في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول : إلحق بنا ترافقنا في الجنة. وقد ـ والله يا رسول الله ـ أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة

وقال أنس بن قتادة يا رسول الله هي إحدى الحسينين. إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر بهم ».

تلك صورة من أروع صور دفاع المرء عن عقائده واستعداده للتفاني في سبيلها. فالاستشهاد في ساحات القتال والظفر بالخصم سيان عند مالك بن سنان. فهو لا يبالي أيهما كان لأن في كل منهما الخير.

والاستشهاد في سبيل صيانة بيضة الإسلام ـ بنظر النعمان بن مالك ـ أفضل من الانتصار على المشركين على الرغم مما في ذلك الانتصار من إعلاء لكلمة الله.

فالنعمان مصم على دخول الجنة ـ اي انه قد وطد نفسه على نفسه الموت في ساحات القتال. وليس بعد هذا من شيء يستطيع أن يقدمه المرء في سبيل الدفاع عن معتقداته في الدين والسياسة والأخلاق.

أما خثيمة فقد تسابق مع ابنه في الوصول إلى الموت ، وأنه أسف على نجاته منه في معركة بدر بقدر ما كان فرحة شديداً باستشهاد ولده.

وقد رأى في المنام ولده الشهيد على احسن حال فشجعه على اللحاق به.

وإذا كانت الاحلاي كما يقول فرويد ـ العالم النفسي المعروف تعبيراً عن الرغبات المكبوتة لدى الإنسان ، اي أنها تحقيق لما لا يمكن تحقيقه في الحياة التي يحياها الإنسان ، فإن خيثمة ـ حلمه هذا ـ قد ضرب مثالا آخر من أروع الأمثلة في الدفاع عن الإسلام.

وهناك صور أخرى ، لا تقل روعة عما ذكرنا ، في التعبير عن موقف المسلمين

٢١

من الجهاد في عهد الرسول ، فمنها ما يتصل بموقف الأحداث وآبائهم من التضحية في سبيل الاسلام. قال الواقدي(١) :

عرض على الرسول غلمان عبد الله بن عمرو ، وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير ، وزيد بن أرقم والبراء بن عازب ، وأسيد بن حضير ، وغرابة ابن أوس وسمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، فردهم.

قال رافع بن خديج : فجعلت أتطاول ـ وعلى خفان ـ فأجازني رسول الله. فلما أجازني شكا سمرة بن جندب لربيبة ـ مرى بن سنان زوج أمه ـ ذلك. فقال : مرى يا رسول الله رددت إبني وأجزت رافع بن خديج !! وابني يصرعه. فتصارعا. فصرع سمرة رافعا فأجازه الرسول ».

ومنها ما يتعلق بحماس من أجاز لهم الإسلام أن يتخلفوا عن الجهاد.

وقد بلغ عمرو بن الجموح القمة في موقفه في هذا المضمار.

وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج. فلما كان يوم أحد ـ وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي أمثال الأسد ـ أراد بنوه أن يحبسوه.

فقال له المسلمون أنت رجل أعرج ولا حرج عليك ، وقد ذهب بنوك مع النبي. قال : بخ !! يذهبون إلى الجنة واجلس أنا عندكم ، فخرج ولحقه بنوه يكلمونه في القعود. فأتى رسول الله ؛ فقال :

يا رسول الله إن أولادي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك ، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال رسول الله أما أنت فقد عذرك الله ، ولا جهاد عليك. فأبى عمرو إلا الخروج معهم إلى أحد.

فقال أبو طلحة : نظرت إلى عمرو بن الجموح في الرعيل الأول يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنة ، وإبنه في أثره. حتى قتلا.

وكانت عائشة ـ زوج النبي ـ قد لقيت بنت عمرو بن حزام ـ راجعة

__________________

١ ـ مغازي رسول الله « ص » ص ١٦٩.

٢٢

بعد أحد ـ تسوق بعيراً لها ، عليه جثة زوجها عمرو وجثة أخيها عبد الله ، وجثة إبنها خلاد.

فقالت لها عائشة : فأين تذهبين بهم؟ قالت : إلى المدينة أقبرهم فيها

ثم أقبلت هند إلى رسول الله فقالت له : أدع الله عسى أن يجعلني معهم.

فعمرو بن الجموح خرج إلى الجهاد رغم إعفائه عن المساهمة في ذلك من الناحية الشرعية. وأراد أن يطأ بعرجته الجنة. فأخذ يتسابق ـ على ذلك ـ مع أحد بنيه حتى صرعا معاً.

وقد اصبح بذلك من التضحية في ذؤابتها.

أما زوجة هند فهي الأخرى قد سارت في طريق الخلود. فلم تكتفي باستشهاد زوجها وابنها وأخيها ـ وهو أمر لا تقوى على تحمله النساء ـ « حملهم على جملها من أحد إلى المدينة لدفنهم ، وهي جذلة متعالية » بل أرادت من الرسول أن يدعو لها باللحاق بهم.

كل ذلك طمسه الأمويون بالإضافة إلى طمسهم معالم الدين الأخرى كما سنرى.

ذلك ما يتصل بموقف العرب المسلمين من الأمم الاخرى في ضوء الدين الجديد.

أما ما يتصل بموقفهم من جاهليتهم فيمكننا أن نقول :

إن الدين الجديد قد استلزم ـ من الناحية النظرية على كل حال ـ إحداث تغييرات واسعة المدى وعميقة الغور في نظرة العربي لنفسه من حيث صلتها بالمجتمع الذي ينتمي إليه وبالكون الذي يعيش فيه.

كما إنه قد استلزم كذلك ـ من الناحية النظرية أيضا ـ إجراء تبدلات واسعة وعميقة في تصرفات العربي في المجالين الآنفي الذكر.

وبما أن دراستنا هذه منصبة ـ في جوهرها ـ على الجانب الأخلاقي للدين

٢٣

الجديد ـ بمقدار ما يتعلق الأمر بالأسرة الأموية ـ فسوف لا نتطرق للبحث في الدين الإسلامي ـ في جوانبه العقائدية ـ إلا عرضاً.

أي إننا سوف تقصر البحث في الجانب الأخلاقي ـ السياسي للأمويين في ضوء مبادئ الدين الحنيف. ويمثل الجانب السلبي للأخلاق الإسلامية لجانب الإيجابي لأخلاق العرب في جاهليتهم. أي أن كل تصرف نهى الدين العرب عن تعاطيه يعتبر خلقاً عربياً جاهلياً أصيلا فيهم. وفي القرآن الكريم آيات تصف الخلق العربي ـ في جانبيه الإسلامي والجاهلي ـ فتعبر جوانبها الإيجابية عن الخلق العربي الإسلامي. على حين أن جوانبها السلبية تصف الخلق العربي الجاهلي. وقد جعلنا محتويات تلك الآيات مقياساً لدراستنا لأخلاق الأمويين.

جاء في سورة الانعام : «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم :ألا تشركوا شيئا ولا تقربوا الفواحش ـما ظهر منها وما بطن ـولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق » وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى. وبعهد أوفوا »(١)

وجاء في سورة الحجرات : «يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ».

فاذا نظرنا إلى الآيات الآنفة الذكر في ضوء المجالين السالفين ـ علاقة المسلم بالكون وبالمجتمع ـ امكننا أن نحدد الخلق الإسلامي تحديداً دقيقاً. فتتلخص علاقة الإنسان بالكون في الإيمان بوحدانية الله.

أما علاقته بالآخرين فتبدو في الإقلاع عن الزنى والقتل ونكث العهد والغدر وتجنب الظلم بشتى صوره. تلك هي ـ بنظرنا ـ الاسس التي يرتكز عليها الإسلام في جوانبه الاخلاقية.

__________________

١ ـ وقد ورد شيء مشابه لهذا في سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، وهود ، ويونس ، والرعد ، في أكثر من موضع واحد.

٢٤

وقد جاء أغلبها بصيغة السلب ـ النهي ـ لان أضدادها ، على ما يلوح ، كانت هي : الاخلاق الشائعة في المجتمع العربي الجاهلي. فالاخلاق التي حثت الآيات السالفة الذكر العرب على التمسك بها هي الاخلاق الإسلامية ، وتطبيقها على العرب ما نسميه : « الخلق العربي الإسلامي ».

والأخلاق التي نهى الاسلام العرب عن السير وفق مستلزمها هي ما ندعوه : « الخلق الجاهلي » أي أخلاق العرب في جاهليتهم.

والاخلاق التي نهي الاسلام العرب على السير وفق مستلزماتها هي ما ندعوه : « الخلق الجاهلي » أي أخلاق العرب في جاهليتهم.

ذكر أبو عمرو ـ سفيان بن عبد الله : « قال : قلت يا رسول الله قل لي قولا في الاسلام لا أسأل عنه أحد غيرك قال : قل آمنت بالله ثم أستقم »(١) . فأوجز الرسول ـ بذلك ـ الاسلام ـ الاسلام في جانبيه العقائدي والأخلاقي.

فالإيمان بالله يستلزم القيام بالشعائر الدينية المعروفة. والإستقامة تتضمن السير وفق مستلزمات الأخلاق الاسلامية التي شرحناها.

ومن الطريف أن نذكر هنا أننا عثرنا على أكثر من ثلاثين آية تشير إلى أن الاسلام يتضمن الايمان بالله واستقامة الأخلاق(٢) . فهل آمن الامويون بالله؟ ومن ثم استقاموا؟

__________________

١ ـ وقد اشار الرسول ـ في قوله الآنف الذكر ـ إلى ما جاء في سورة فصلت : «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا » ، وفي سورة الأحقاف : «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ».

أما قول الرسول الأنف الذكر فقد ورد في كتاب : « الفتوحات الوهبية » لإبراهيم المالكي ص ١٩٦.

٢ ـ راجع سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأعراف ، ويونس وهود ، والرعد ، وإبراهيم ، والنحل ، والكهف ، ومريم ، والحج ، والعنكبوت ، ولقمان ، والسجدة ، وفاطر ، وفصلت والجاثية ، ومحمد. وجميع تلك الآيات تبدأ بـ :

والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار » ويلوح لي ان الإسلام يهدف ـ من الإيمان بالله ـ تقويم الأخلاق.

٢٥

إن تاريخهم ـ الذي سنذكره ـ يشير بصراحة ووضوح إلى الإجابة بالنفي عن هذين السوال ـ هذا باستثناء سيرة عمر بن عبد العزيز. فقد كان الأمويون ـ كما سنرى ـ في صراع رهيب مع مبادئ الإسلام منذ انبثاق نوره ـ في عهد الرسول ـ حتى سقوط دولتهم عام ١٣٢ هـ.

وقد ظهر لي كذلك أن الامويين قد اتخذوا الدين الاسلامي ستاراً لتثبيت أخلاقهم الجاهلية التي حاربها الاسلام.

فقد تعاونوا ـ أباً عن جد عدا عمر بن عبد العزيز ـ على فصم عرى الاسلام عروة فعروة. ولم يسلم جانب من جوانب الدين من التعرض لاعتداءاتهم المتكررة كلما آنسوا ـ في ذلك الاعتداء ـ تركيزاً لأسس حكمهم الجاهلي البغيض. فلا يمكن أن يجمع المرء ـ على ما رأى ـ بين الأمويين والاسلام.

وإما أن يخلد الامويين على أساس أخلاقهم العربية الجاهلية التي مسخها الاسلام.

فإما أن يخلد الاسلام ـ بتعاليمه وأخلاقه ـ ويشجب الأمويون.

لأن محاولة الجمع بين الأمويين والاسلام فاشلة ويائسة بعد التحليل الدقيق.

وهناك أمر آخر لابد من الإشارة إليه في هذا الصدد ؛ هو : أن الحكام الامويين قد أخذوا يتسابقون ـ كما سنرى ـ على الايغال في الخروج على مبادئ الاسلام.

وأخذ الخلف منهم يسبق السلف ـ بمراحل ـ في هذا المضمار.

__________________

* وفي سيرة النبي من الأمثلة على ذلك الشيء الكثير. « روي عن ابن عباس أنه قال : كنا مع النبي في سفر. فمنا الصائم ومنا المفطر. فأنزلنا منزلا في يوم حار فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال الرسول : ذهب المفطرون بالأجر كله » جورج جرداق : الإمام علي ، ص ٩٤.

٢٦

وبما أن الامويين قد اغتصبوا الحكم الاسلامي : اغتصبوا الحكم الاسلامي اغتصاباً ، ولم يكن لهم ـ من الناحية الشرعية ـ ما يؤهلهم لزعامة المسلمين ، الانسب أن رأيناهم يسمعون إلى تثبيت أركان حكمهم بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة ، ومن الأرهاب والتنكيل حسبما تستلزم الظروف والمناسبات.

فانفسح ـ بسياستهم تلك ـ باب الشر على مصراعيه أمام الوصوليين الانتهازيين.

وأغدق الامويون عليهم العطايا وخلعوا عليهم الجاه والمناصب والنفوذ على حساب الدين.

وقد حول الامويون ـ كذلك ـ نشاط المشتغلين في الامور الدينية إلى وعظ الرعايا المسلمين وحثهم على التذرع بالصبر ، والطاعة ، والخضوع للاوضاع السياسية القائمة.

فأوجد بعض هؤلاء الحيل الشرعية لتبرير تصرفات الامويين.

فاحتمى بذلك الأمويون ، وعصموا ملكهم من التعرض للانهيار على أيدي المطالبين بالعودة إلى القرآن وسنة الرسول.

ويطلب أن أنبه القارئ ـ في ختام هذه المقدمة ـ إلى أن دراستي هذه محاولة لتفسير تاريخ الامويين في ضوء مبادئ الدين الاسلامي.

فقد وضعت الأمويين تحت مجهر الاسلام.

ووازنت بين تصرفاتهم وبين مبادئه التي جاءت في القرآن وسيرة الرسول فاكثرت من الاستشهاد بمحتويات القرآن وأحاديث النبي ـ لانها الوثائق التاريخية ، والمستمسكات القانونية الوحيدة في هذا السبيل.

كما استشهدت بحوادث كثيرة ذكرتها أمهات كتب التاريخ عن الامويين. ووازنت بين الجانبين.

وقد ظهر لي أثناء عملية الموازنة بين الجانبين بأن الدين الإسلامي شيء

٢٧

وتصرفات الامويين شيء آخر يختلف عنه تمام الاختلاف. فانكشف أمامي فشل المحاولة التي يبديها بعض الباحثين لتغليف سيرة الامويين بغشاء سميك من المغالطة والتدليس وإظهارها على غير مظهرها الذي جاءت به أمهات كتب التاريخ.

أما السبب الذي دعاني إلى قياس تصرفات الأمويين بمقياس الدين الاسلامي فهو : أنهم حكموا المسلمين باسم الدين ، وتظاهروا باتباع مبادئه ، وأخذ بعضهم البيعة لبعض آخر على هذا الاساس. ولا أراني بحاجة إلى أن أنبه القارئ إلى أن المحاولة التي يبديها بعض الكتاب المعاصرين لتطبيق مبادئ الدين الإسلامي على شؤون الحياة السياسية والاقتصادية في الوقت الحاضر أمر خارج عن نطاق هذه الدراسة.

فقد اقتصر البحث ـ كما سيرى القارئ ـ على تدوين سيرة الامويين في ضوء المبادئ الدينية التي تظاهروا بأنهم يسيرون وفق مستلزماتها. ولكي يستوفي البحث « الذي بين يدي القارئ » شروطه العلمية فقد تضمن ـ كما سلف أن ذكرنا ـ الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث(١) وموازنة ذلك بتصرفات الأمويين كما جاءت في أمهات كتب التاريخ الإسلامي.

فهذا البحث إذن بحث في التاريخ الأموي لا في السياسة المعاصرة أو في الدين.

لقد اكتسب الأمويون « مجدهم » ـ عند من يقول بذلك من الباحثين ـ بواسطة الإسلام. فقد رفعهم الإسلام ـ بنظر بعض الناس ـ من حضيض الجاهلية إلى مستوياته الرفيعة. فيصبح مدح أولئك الباحثين للأمويين ، وتدوينهم سيرتهم وتدريسها للناشئة ـ هذا الأساس ـ إنما هو مدح ضمني للإسلام.

وإنني بهذا الروح ـ روح الإطراء على الإسلام.

__________________

١ ـ وهي الجانب النظري ـ الدستوري ـ الذي ادعى الأمويون بأنهم يسيرون وفق مستلزماته في تصرفاتهم العامة والخاصة باعتبارهم « خلفاء » المسلمين ـ « خلفاء » النبي في رعاية رسالته والسير وفق هديه الذي نطق به القرآن والحديث.

٢٨

أنتقد سيرة الامويين. فقد ساقني البحث ـ كما سنرى ـ إلى الاعتقاد بأن الأمويين إنما اكتسبوا سلطاتهم على أساس هدم الإسلام ، لا على أساس رفع كلمته وتثبيت قواعد بنائه. فهم الذين انتزعوا منصب خلافة المسلمين ـ على رغم أنف الإسلام ومعتنقيه ، وساروا ـ في حياتهم العامة والخاصة ـ على نهج طوح بالمثل العليا التي جاء بها الإسلام. فذوي روح الإسلام ، وانطوت مبادؤه الاخلاقية على نفسها بدلا من أن تسير في طريق التوسع والانتشار.

بدأت هذه الدراسة في البحث في التاريخ الاسرة الاموية فتنبعث خطوطه العامة في الجاهلية والاسلام. ثم انتقلت إلى التحدث عن ضروب المقاومة التي أبداها الامويون للحيلولة دون إنتشار الإسلام في عهد الرسول. ثم بحثت أساليبهم في إيذاء الرسول في مكة والمدينة. وبعدها انتقلت إلى الحديث عن الوسائل التي استعانوا بها لتثبيت أركان حكمهم السياسي المناوئ لمبادئ الاسلام. وختمت هذه الدراسة بعرض نماذج من صراعهم الرهيب مع الدين منذ مصرع رابع الخلفاء الراشدين حتى زوال حكمهم على أيدي العباسيين.

بغداد في ٢٥ / ٥ / ١٩٥٦

نوري جعفر

٢٩

بسم الله الرحمن الرحيم

٣٠

الفصل الاول

الأمويون : الجاهلية الاولى

الأمويون هم نسل أمية بن عبد شمس. وينقسمون إلى : العنابس والأعياص. فالعنابس أشهرهم ـ في التاريخ الإسلامي المدون ـ حرب وأبو حرب ، وسفيان وأبو سفيان « صخر بن حرب » ومعاوية(١) . ويزيد ابنه ومعاوية بن يزيد.

وأما الاعياص فاشهرهم : أبو العاص وولده عفان ـ أبو عثمان ، والحكم وابنه مروان ، وعبد الملك بن مروان ، وأولاد عبد الملك : الوليد وسليمان ويزيد وهشام وعبد العزيز ـ أبو عمر ـ ، وأحفاد عبد الملك : الوليد بن يزيد وابراهيم ابن الوليد بن يزيد ومروان بن محمد بن عبد الملك.

وقد حكم الأمويون الاسلامية زهاء قرن منذ مصرع الامام علي بن ابي طالب عام ـ ٤٠ هـ ـ حتى سقوط دولتهم سنة ١٣٢.

وقد اتصف الحكم الأموي ـ باستثناء السنتين « ٩٩ ـ ١٠١ » اللتين حكم أثناءهما عمر بن عبد العزيز ـ بمجافاته لروح الإسلام وبخروجه على مبادئ القرآن وسنة الرسول. كما سنرى.

__________________

١ ـ وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وعتبة هذا ـ الذي قتل في بدر ـ هو صاحب النفير ، وابو سفيان صاحب العير. وقد ذهب ـ موضوع العير والنفير ـ مثلا في التاريخ فيقال للخامل : لا في العير ولا في النفير. وهند ـ أم معاوية ـ هي أم أخيه عتبة. وقد اتهمت بفجور وعهر ـ كما سنرى ـ.

أما يزيد ومحمد وعنبسة وحنظلة ـ الذي قتل في بدر ـ وعمرو ـ الذي أسر في بدر ـ فهم أبناء أبي سفيان من أمهات شتى.

٣١

ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد هو أن بعض أحفاد أمية بن عبد شمس قد هرب « من اضطهاد العباسيين » الى الأندلس فأسس حكماً أموياً هناك استمر زهاء ثلاثة قرون. وبما أن أولئك الامويين قد ساروا ـ من حيث الاساس ـ على نهج أسلافهم في الشام فسوف لا نستشهد بسيرتهم المجافية لروح الاسلام ، لأن سيرة أجدادهم في الشام قد أغنتنا عن ذلك.

وهناك أمر آخر لابد من الالماع إليه في هذه المناسبة هو أننا سوف ندخل ضمن الامويين ـ لا من حيث وحدة النسب بالطبع بل من حيث وحدة الاتجاه وتوافق السيرة والخلق ـ أشهر الولاة الذين تعاونوا مع الامويين في تثبيت أركان حكمهم البثيض ؛ وفي مقدمتهم عمرو بن العاص ، وزياد به أبيه ، والحجاج بن يوسف الثقفي.

وجريا مع هذا المنطق نفسه يمكننا أن لا نعتبر عمر بن عبد العزيز « أموياً » من حيث الطبع.

ولابد لمن يتصدى للبحث في تاريخ الامويين أن يشير إلى حقدهم على أبناء عمومتهم الهاشميين ـ في الجاهلية وفي صدر الاسلام ـ وقد لخص الجاحظ(١) . طبيعة ذلك الحقد وعوامله حين قال :

« إن أشرف خصال قريش ـ في الجاهلية ـ اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة.

وهذه الخصال مقسومة لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بني عبد شمس على أن معظم ذلك صار شرفه بعد الاسلام إلى بني هاشم(٢) . وليس لعبد شمس

__________________

١ ـ رسائل الجاحظ ٦٧ ـ ٧٥.

٢ ـ وكان اسم هاشم عمرواً. وإلى هذا المعنى يشير ابن الزعبري :

عمرو العلى هشم الثرية لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وقد روى البيت بشكل آخر :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

قوم بمكة مسنتين عجاف

٣٢

لقب كريم ، ولا اشثق له اسم شريف ، ولم يكن لعبد شمس من يرفع من قدرة ويزيد في ذكره. ولهاشم عبد المطلب سيد الوادي(١) ومما هو مذكور في القرآن من فضائل هاشم ـ عدا حديث الفيل قوله تعالى لإيلاف قريش.

وقد اجمعت الرواة على أن أول من أخذ الايلاف هاشم بن عبد مناف والايلاف(٢) هو أن هاشماً كان رجلا كثير السعة والتجارة فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف الى الشام. فشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ، وجعل لهم ربحاً فيما يربح ، فكفاهم مؤونة الاسفار. وكان في ذلك صلاح عام

ثم حلف الفضول(٣) . وجلالته وعظمته. وهو أشرف حلف كان في العرب كلها ، وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام. ولم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب.

فكان هذا الحلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني تيم

__________________

١ ـ ولقبه شيبة الحمد. قال مطرد الخزاعي :

يا شيبة الحمد الذي تثنى له

أيامه من خير ذخــر الداخر

المجد ما حجت قريش بيته

ودعا هديل فوق غصن ناضر

وقد بلغ أولاد عبد المطلب عشرة بنين وست بنات : العباس وحمزة وعبد الله وأبو طالب « واسمه عبد مناف » والزبير والحرث وحجل والمقوم وضرار وأبو لهب « وإسمه عبد العزى » وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة واروى ويرة. فأم العباس وضرار فتيلة بنت جناب ، وام حمزة والمقوم وحجل وصفية هالة بنت وهيب ، وأم عبد الله وأبي طالب وزبير « وجميع النساء غير صفية » فاطمة بنت عمرو ، وأم الحرث سمراء بنت جندب وأم أبي لهب لبنى بنت هاجر.

٢ ـ راجع : ابن هشام ، سيرة النبي محمد ١٠ | ٥٧ ـ ٥٩ للاطلاع على معاني كملة « ايلاف ».

٣ ـ راجع ابن هشام « سيرة النبي محمد » : ١ | ١٤٤ ـ ١٤٥ للاطلاع على تفاصيل هذا الحلف.

٣٣

ابن مرة. تعاقدوا ـ في دار ابن جدعان في شهر حرام قياماً يتماسحون بأكفهم صعداً ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه

وشرف هاشم يتصل ـ من حيث عددت ـ. كان الشرف معه كابراً عن كابر.

وليس بنو عبد شمس كذلك ، فإن الحكم ابن أبي العاص ، كان عارياً في الاسلام ولم يكن له ثناء في الجاهلية.

وأما أمية فكان مضعوفاً وكان صاحب عهار ، وصنع امية ـ في الجاهلية شيئاً لم يصنعه أحد في العرب :

زوج أبنه ـ أبا عمرو ـ من أمرأته في حياته فأفولدها أبا معيط.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول : إن اساس الخصومة بين الهاشميين والأمويين يعود إلى التنافس على الرئاسة والصدارة في المجتمع العربي القديم. ومبدأ تلك الخصومة قد جاء من الامويين. فقد شعر هؤلاء بالحرمان الإجتماعي ـ وما يتعلق به وينتج عنه ـ وعرفوا أنهم غير قادرين على تصديع شرف الهاشميين بالأساليب الشريفة المعروفة. فلجأوا إلى الأساليب الملتوية التي ذكرناها. فكانت النتيجة أن الهاشميين أخذوا بالتسامي في مجدهم أبا عن جد.

وسار الأمويون في طريق التدهور والسقوط خلفاً عن سلف.

فحاول الهاشميون أن يسمو أبناؤهم فوق مسلك أبائهم السامي ـ كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

وسعى الامويون على العكس من ذلك تماماً.

فقد سعى عبد المطلب ـ سيد الوادي ـ إلى أن يضيف « بمسلكه » كرما إلى مكارم أبيه. وهبط أميه ـ عن مستوى أبيه الوضيع ـ فكان مضعوفاً وكان صاحب عهار.

ويرتفع محمد فوق مستويات أجداده الرفيعة.

٣٤

وانحدر أبو سفيان في حضيض مستويات الأمويين الذين سبقوه.

ومن الغريب أن يلاحظ الباحث أن لكل هاشمي خصما من الأمويين يسير كل منهما في الاتجاه الذي يسير عليه أجداده.

فهذا هاشم وذاك أمية وهذا عبد المطلب وذاك حرب ، وهذا محمد وذاك أبو سفيان ؛ وهذا على وذاك معاوية ، وهذا الحسين وذاك يزيد ألخ

فكان شرف بني هاشم في عشيرتهم وكريم خصالهم وشهامتهم وكرمهم قد أثارت حفائظ الأمويين فحقدوا عليهم وحاولوا عبثاً أن يطاولوهم. وذكر الطبري(١) .

أن الحارث حدثه عن محمد بن سعد « قال : أخبرنا هشام بن محمد قال : حدثني معروف بن الخربون المكي قال : حدثني رجل من آل عدوي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه قال : قال وهب بن عبد قصي في إطعام هاشم قومه الثريد :

تحمل هاشــم ما ضاق عنـه

وأعيــا أن يقـوم به ابن بيض

أناهــم بالغرائــر متأفـات

من أرض الشــام بالبر النفيض

فأوسع أهل مكـة من عشيــم

وشاب الخبز باللحم الغريض(٢)

قال : فحسده أمية بن عبد شمس ـ وكان ذا مال ـ فتكلف أن يصنع صنيع هاشم. ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم لسنه وقدره. ولم تدعه قريش واحفظوه قال : فإنني أنافرك على خمسين ناقة سود حدق تنحرها ببطن مكة ، والحلاء عن مكة عشرسنين. فرضى بذلك أمية. وجعلا الكاهن الخزاعي(٣) . بينهما. فنفر هاشما عليه. فأخذ هاشم الابل فنحرها وأطعمها من حضره. وخرج أمية إلى الشام

__________________

١ ـ تاريخ الأمم والملوك ٢ | ١٨٠ ـ ١٨١.

٢ ـ متأفات : ممتلئات. البر النقيض القمح النقي ، شاب خلط ، الغريض الطري.

٣ ـ جد عمرو بن الحمق الخزاعي أحد خيار المسلمين الذين غدربهم الأمويون بشكل لا يجيزه الاسلام كما سنرى.

٣٥

فأقام بها عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة بين هاشم وأمية. وفي عهد عبد المطلب ابن هاشم استأنف الامويون حقدهم على الهاشميين ، وساروا في طريق غوايتهم بشكل لم يكن مستساغاً حتى بمقاييس الجاهلية. وتفصيل ذلك على ما يروي ابن الاثير : انه « كان لعبد المطلب جاري يهودي يقال له أذية يتجر وله مال كثير. فغاظ ذلك حرب بن أمية. فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو بن كعب التيمي ـ جد ابي بكر فلم يعرف عبد المطلب قاتله فلم يزل يبحث حتى عرفهما ـ وإذا هما قد استجار بحرب بن أمية. فأتى حرباً ولامه. وطلبهما منه. فأخفاها. فتغالظا في القول وجعلا بينهما نفيل(١) بن عبد العزى العدوي ـ جد عمر بن الخطاب ـ فقال نفيل(٢) لحرب : يا ابا عمرو أتتنافر رجلا هو أطول منك قامة ، وأوسم وسامة ، وأعظم هامة ، وأقل منك ملامة » وأكثر منك ولداً وأجزل منك صفداً ،(٣) وأطول منك مدداً

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٢ | ٩.

٢ ـ ونفيل هذا هو الذي خاطب حرب ـ مشيراً الى عهر أبيه الذي مر معنا ذكره ـ بقوله :

أبوك معاهــر وأبــوه عوف

وذاد الفيــل عن بلد حــرام

أبــوك يعني أمية « أبا حرب »

وأبوه يعني هاشما أبا عبد المطب

٣ ـ الصفد العطاء ، فغضب حرب وقال : من انتكاس الزمان أن جعلت حكما وأخذ عبد المطلب من حرب مئة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي ، وارتجع ماله كله إلا شيئاً هلك فعزمه من ماله.

٣٦

الفصل الثاني

الامويون : ضروب إيذائهم للرسول

عندما انبثق نور الاسلام ـ في مكة وبدأ يغمر سائر مدن الحجاز ـ سعى الأمويون لإطفائه بكل ما لديهم من سطوة وحول. فبدؤا يؤذون الرسول الكريم بمختلف الأساليب ـ بشكل فردي متفرق أحياناً ، وجماعي منظم أحياناً أخرى. وتفنن الأمويون ـ ومن هم على شاكلتهم من المشركين ـ في ابتداع الوسائل الدنيئة لإيذاء رسول الله.

فبعثوا النظر بن الحرث ، وعقبة بن ابي معيط إلى أحبار اليهود لتأليبهم على النبي وتسفيه رسالته.

وأرسلوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص إلى الحبشة لإقناع النجاشي بطرد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة تخلصاً من إيذاء المشركين.

وعذبوا المستضعفين من المسلمين ـ كبلال بن رباح الحبشي مؤذن الرسول ، وعمار بن ياسر وأمه وأبيه ، وخباب بن الأرت ، وصهيب بن سنان الرومي ، وعامر بن فهير ، وابي فكيهة ، ولبيبة(١) ـ جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي ابن كعب ، وزنيرة ، والنهدية « وأم عبيس ـ وآخرين ».

__________________

١ ـ وقد أسرف عمر بن الخطاب ـ أثناء شركة ـ في تعذيبها وتعذيب زبيرة ، وتعذيب أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد بن نفيل بن عبد العزى ـ ابن عمه ـ وخباب بن الارت. وكان شديداً على الرسول كذلك.

« خرج عمر يوما متوشجاً بسيفه يريد رسول الله فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمداً هذا الصابي الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله. فقال له نعيم :والله لقد غرتك نفسك يا عمر. اترى بني عبد مناف غير تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت !! فجاء إلى رسول الله فقال حمزة : ائذن له. فإن جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه » ابن هشام : « سيرة النبي محمد » ١ | ٣٦٥ | ٣٦٨.

٣٧

ذلك ما يتصل بإيذاء الأمويين للرسول عن طريق إيذائهم لأتباعه.

ولما رأى الأمويون أن تعذيب أولئك الاتباع لم يزدهم إلا تعلقاً بالإسلام ونبيه وأن رسول الله سائر في نهجه ـ على الرغم من مقاومتهم له واعتدائهم على اتباعه فكر رؤساؤهم بأسلوب جديد للحد من نشاطه. فقابل وفد منهم مكون من :

عتبة ـ أبي هند أم معاوية ـ وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس ، وأبي سفيان ابن حرب بن أمية أبا طالب ـ عم النبي ـ ورجوه أن يطلب إلى ابن أخيه أن يكف عن عيب آلهتهم.

غير أن أبا طالب لم يصغ إلى شكواهم فسند ابن أخيه وشجعه على المضي في رسالته. فلجأ الامويون إلى أسلوب جديد في إيذاء الرسول فوصفوه بالسحر ، والجنون عند من يقدم إلى مكة لصدهم عن الإيمان برسالته. فلم يجدهم ذلك نفعاً. فانتدبوا جماعة منهم لمجاهرته بالعداوة والإيذاء ـ وفي مقدمتهم :

عتبة وشيبة إبناً ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبو سفيان ، والحكم بن أبي العاص ، والعاص بن وائل السهمي ـ أبو عمرو ـ وإبنا عمه نبيه ومنبه. فاستهزأ هؤلاء بالرسول وازدروا به واسمعوه الكلام القارص ، وأروه المعاملة الخشنة.

وكان الحكم بن أبي العاص ـ أبو مروان ـ من أكثرهم إيذاء للرسول واستهزاء به واعتداء عليه الأمر الذي اضطر النبي ـ بعد ذلك ـ إلى نفيه وأولاده إلى الطائف.

ولم يقتصر إيذاء الامويين للرسول على الرجال بل تعداه للنساء وفي مقدمتهن أم جميل حمالة الحطب(١) . غير أن ذلك كل لم يجدهم نفعاً. فعمدوا إلى مقاطعة

__________________

١ ـ التي نزلت في ذمها سورة من القرآن الكريم أنظر : سورة المسد : آية ٤.

٣٨

الهاشمين. فصمد الهاشميون بوجههم ثلاث سنين عجاف(١) .

وأخيراً دبر الامويين ـ واتباعهم ـ مؤامرتهم الكبرى لاغتيال النبي. فأحبطها بهجرته إلى المدينة وتركه علياً في فراشه إيهاماً للمشركين.

ولما انتقل النبي الى المدينة استجمع الامويون قواهم ـ وألبوا مشركي قريش وحلفاءهم : اليهود ـ على مقاومة الدين الجديد في شخص رسوله الكريم.

وكان قائدهم عتبة بن ربيعة(٢) أبو هند أم معاوية ـ وصهره أبو سفيان وابن عمه الحكم بن ابي العاص ، فنشبت بدر وقتل من الامويين عتبة وابنه شيبة وعقبة بن ابي معيط واسر منهم أبو العاص بن الربيع ، وعمرو بن أبي سفيان. ونجا معاوية من القتل والأسر فهرب من المعركة.

وقد بلغ حقد أبي سفيان على النبي حدا يفوق الوصف لإنكسار بعض أوتاد خيمة الشرك التي يحتمي بظلها.

__________________

١ ـ وقد بلغ وفاء أبي طالب حد الإعجاز في الدفاع عن الرسول وتحمل ثقل المقاطعة من الناحيتين المادية والمعنوية. فقد عز عليه أن يخذل ابن أخيه ، وهو سيد البطحاء ، كما عز عليه أن يعيش في الشعب منعزلا عمن حوله من الناس. ولكنه تحمل القطيعة في سبيل حماية الرسول وصيانة الدعوة الإسلامية. وله قصائد مشهورة في هذا الصدد ـ نذكر منها على سبيل المثال قوله له « ابن هشام ، سيرة النبي محمد ١ | ٢٨٦ ـ ٢٩٠ ».

ولمــا رايت القـوم لا ود فيهــم

وقد قطعوا كل العرى والوسائــل

وقد صارحونــا بالعـداوة والأذى

وقد طاوعوا أمر العدو المزايــل

صبرت لهم نفسي بسمـراء سمحـة

وأبيض عضب من تراث المقـاول

واحضرت عند البيت رهطي وأخوتي

وأمسكــت من أثوابـه بالوسائل

كذبتــم وبيت الله نبــري محمـداً

ولمــا نطاعن دونــه ونناضل

ونسلمــه حتــى نصـرع حولـه

ونذهــل عن أبنائنــا والحلائل

٢ ـ وكان يطلق على أبي سفيان ـ كما ذكرنا ـ « صاحب العير » ويمسى عتبة « صاحب النفير » وفيهما يضرب المثل فيقال للخامل لا في العير ولا في النفير. وسبب تلك التسمية أن أبا سفيان قدم بالعير المحملة بالبضائع من الشام إلى مكة ـ فحماها من المسلمين.

أما عتبة فقد استنهض قريش لحرب النبي فوقعت بدر وكان هو أحد ضحاياها.

٣٩

فزرع حقده هذا في نفوس المشركين بمختلف الوسائل المتيسرة لديه.

ومنعهم من البكاء على قتلاهم كما منع الشعراء عن التحدث عنهم أو رثائهم. وطلب من شركائه في المصيبة أن يتذرعوا بالصبر والجلد.

وقد برهن أبو سفيان ـ بذلك ـ على براعته في النفاذ إلى مكامن نفوس المشركين. فاستثار نوازعهم النفسية حين خاطبهم بقوله(١) « فأنتم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأقعدكم عن عداوة محمد وأصحابه ، مع أنه إن بلغ محمداً وأصحابه شمتوا بكم. فيكون أعظم المصيبتين شماتتهم. ولعلكم تدركون ثأركم. فالدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزوا محمداً ».

ومن الطريف أن نذكر هنا أن الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده في بدر. وكان يحب أن يبكيهم ولكنه توقف عن ذلك خوفاً من أبي سفيان. فبينما هو كذلك إذ سمع إمرأة تجهش بالبكاء. فأراد أن يستحلي الأمر ليبكي هو على قتلاه. فأرسل غلامه وقال له : أذهب فاستفسر هل بكت قريش على قتلاها « لعلي أبكي فإن جوفي قد احترق » فذهب الغلام وعلم : أن الباكية إمرأة ضل بعيرها فهز الأسود رأسه وقال :

أتبكي أن يضل لها بعيـر

ويمنعهـا من النوم السهود

ولا نبكي على بدر ولكـن

على بدر تصاغرت الخدود

فكان ابو سفيان إذن شيخ المؤلبين على حرب رسول الله بعد بدر. فعل ذلك أثناء جمعه جموعهم ، وأثناء تأليبه أياهم ، وفي إخراجه النساء معهم إلى أحد(٢) .

__________________

١ ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ خرج أبو سفيان بهند وزوجة أخرى وصفوان بن أمية بأمرأتين وطلحة بأمرأته والحارث بن هشام بأمرأته. وخرجت خناس بنت مالك مع ابنها والحارث بن سفيان بأمرأته وكنانة بأمرأته وسفيان بن عويف بأمرأته والنعمان وجابر إبنا مسك بأمهما.

٤٠

وقد مروا الابواء في طريقهم إلى أحد ـ فاقترح عليهم أبو سفيان أن ينبشوا قبر آمنة بنت وهب أم الرسول « وكانت قد توفيت هناك وهي راجعة بالرسول ـ وعمره سنتان ـ إلى مكة بعد زيارتها لإخواتها من بني عدي بن النجار » وقال لهم : فإن يصب محمد من نسائكم أحداً قلتم : هذه رمة أمك.

فإن كان باراً ـ كما يزعم ـ فلعمري ليفادينكم برمة أمه.

وإن لم يظفر بإحدى نسائكم فلعمري فليفدين أمه بمال كثير. فاستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك.

فقالوا : لا تذكر من هذا شيئاً »(1) .

وقد ظهر أثر أبي سفيان في تأليب المشركين على حرب النبي ـ بالإضافة إلى ما ذكرنا ـ في تهيأته الجو لمعركة أحد ، وفي حرصه الشديد على وضع الجيش بشكل يساعده على دحر المسلمين ، وفي موقفه من بني عبد الدار في مسألة المحافظة على اللواء أثناء القتال.

فوضع على ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.

وجعل على الخيل عمرو بن العاص. وخاطب بني عبد الدار في مسألة حمل

__________________

1 ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص 158 ـ 160. ولابي سفيان ـ وحلفائه المشركين ـ مواقف أخرى كثيرة من هذا النوع البشع. من ذلك مثلاً : التحدث مع المشركين حول أبنتي النبي زينب وأم كلثوم ـ وكان النبي قد زوج أولاهما من أبي العاص ابن الربيع بن عبد العزي والثانية من عتبة بن أبي لهب وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي. فلما نزل عليه الوحي آمنت بناته به وبقي أزاجهن. فمشى نفر من قريش « إلى أبي العاص بن الربيع فقالوا : فارق صاحبتك بنت محمد ونحن نزوجك أي أمرأة شئت من قريش. فقال لاها الله !! لا أفارق صاحبتي ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب فقالوا له طلق بنت محمد ونحن ننكحك اي أمرأة شئت من قريش. فقال إن انتم زوجتموني ابنه أبان بن سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص ففارقا ». راجع ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 3 | 350 الطبعة الأولى بمصر.

٤١

اللواء فقال(1) :

« يا بني عبد الدار نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا. إنما أؤتينا ـ يوم بدر ـ من اللواء. وإنما يؤتى القوم من قبل لوائها. فالزموا لواءكم وحافظوا عليه. أو خلوا بيننا وبينه.

فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نسلم لواءنا؟ لا كان هذا أبداً.

ثم أسندوا اللواء بالرماح واحدقوا به ».

وكانت هند زوج أبي سفيان لا تقل تحمساً عن زوجها في تأليب المشركين. وهي التي أغرت وحشياً على قتل عم النبي(2) .

ذلك جانب من جوانب تعبير الأمويين عن مقتتهم للدين الحنيف. فقد شنوها ـ كما رأينا ـ حرباً شعواء لا هوداة فيها على النبي. ولم يثنهم اندحارهم في بدر عن مواصلة الكفاح المرير ضد الإسلام ومعتنقيه. فوقعت أحد ـ كما رأينا.

وكان الامويون وحلفاؤهم من المشركين أن يناولوا من الرسول فيها بعد أن قتلوا عمه الحمزة ومثلوا به على شكل من الوضاعة قل أن يحدث في التاريخ.

__________________

1 ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص 172.

2 ـ وكان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل. وقد قتل أبوها يوم بدر فقالت لوحشي إنك حر إن قتلت محمداً او حمزة أو عليا لانها لم تر في المسلمين كفوءا لأبيها غيرهم.

ومن الانصاف للتاريخ أن نشير هناك إلى أن الحمزة لم يقتل نتيجة لشجاعة وحشي بل لظروف استثائية غير متوقعة. فقد كان صائماً ، وكمن له وحشي فقصده الحمزة فاعترض سبيله سباع ابن أم نمار فصرعه حمزة وأقبل إلى وحشي فزلت قدمه فضربه وحشي فأرداه قتيلاً. فأقبلت هند فرحة فخلعت حليها وقدمتها لوحشي.

ثم بقرت بطن حمزة وأخرجت كبده فمضغتها وقطعت مذاكيره وأذنيه وجدعت أنفه. وكان ألم النبي على حمزة ممضا فوقف على جثته وقال : « ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلى من هذا أنني لن أصاب بمثلك أبداً » الواقدي : « مغازي رسول الله » ص 221 / 222.

٤٢

ولولا أنه خيل إليهم أن الرسول قد قتل لما رجعوا من ساحات القتال.

فلما بلغهم أن الرسول ما زال على قيد الحياة اجمعوا أمرهم على الرجوع إليه فصدهم عن ذلك معبد الخزاعي كما هو معروف(1) . غير أن إخفاق أبي سفيان في مؤامرته المسلحة لوأد الإسلام ونبيه ـ في بدر وأحد ـ لم يثنه عن مواصلة الكفاح المرير لإثارة وقائع أخرى ضد المسلمين.

فألب الأحزاب في حرب الخندق وما بعدها. ولم يعلن إسلامه ـ في الظاهر ـ كما سنرى إلا حين رأى أن ذلك أجدى من السيف في تحطيم الإسلام.

ويصدق الشيء نفسه على قادة الأمويين آنذاك من النساء والرجال.

ولما رأى الأمويون فشلهم المتواصل في مقاومة النبي والأسلام لجأوا إلى اتباع أسلوب جديد للإيقاع بالاسلام. وكان هذا الأسلوب ـ في واقعه ـ أكثر الأساليب إيجاعا للعقيدة الاسلامية. فتقمص قادتهم الاسلام والتزموا ببعض مظاهره ليتمكنوا من إعلانها حرباً شعواء على الدين من داخله ـ بعد أن أعياهم أمره في حربهم أياه من الخارج.

فأسلم ـ في الظاهر ـ قائدهم أبو سفيان يوم فتح مكة بعد أن لجأ إلى العباس عم النبي مضطراً ، والتمسه ان يأخذه إلى الرسول. فلما أتى به العباس.

قال له رسول الله « ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟

فقال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !!

والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا. فقال : ويحك :

ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !! أما هذه ففي النفس منها شيء.

__________________

1 ـ فقد لقي معبد ابا سفيان واتباعه بالروحاء يريدون الرجوع إلى أحد الاجهاز على النبي والمسلمين. فأخبرهم بأن النبي كان قد تهيأ برهط كثيف من اتباعه للخروج في تعقيب المشركين وأشار عليهم بضرورة تفادي ملاقاة المسلمين خشية من الهزيمة. فثناهم عن رأيهم القديم.

٤٣

فقال له العباس ويحك !! أسلم قبل أن يضرب عنقك »(1) .

وقد حاول أبو سفيان أن يضبط أعصابه التي نشأت على الكفر وتشربت ببغض الاسلام فتظاهر بنبذ عبادة الاوثان والاعتراف بالدين الجديد. ولكن ذلك ـ مع هذا ـ لم يعصمه ـ في مناسبات كثيرة ـ من غمر الدين الحنيف. من ذلك مثلا ما ذكره ابن هشام(2) حينما خاطب الحرث بن هشام أبا سفيان بعد فتح مكة ـ على أثر سماعهما المؤذن يؤذن : « أما والله لو أعلم أن محمداً نبي لا تبعته !! فقال أبو سفيان لا أقول شيئاً. لو تكلمت لأخبرت عني الحصا ».

فلو كان أبو سفيان مسلماً لا نبرى لتنفيذ زعم ذلك المشرك البغيض.

أما إقراره لرأي الحث ـ ضمناً ـ كما يبدو من عبارته فدليل عن وثنيته.

اما السيدة هند ـ زوجة أبي سفيان ـ فقد بايعت الرسول مضطرة ـ بعد فتح مكة ـ فتقمصت رداء الاسلام. فلما تقدمت هند لمبايعة النبي « اشترط شروط الاسلام عليها. فأجابته بأجوبة قوية. فما قاله لها : تبايعنني على ان لا تقتلي اولادك !! فقالت هند :

أما نحن فقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر. فقال لها : وعلى أن لا تزنين !! فقالت هند وهل تزني الحرة؟ فالتفت رسول الله إلى العباس وتبسم(3) .

وكان المسلمون في عهد الرسول يسمعون أبا سفيان ومن هم على شاكلته بالطلقاء.

__________________

1 ـ ابن خلدون : « كتاب العبر » الخ 2 | 234.

2 ـ سيرة النبي محمد 4 | 23.

3 ـ ابن الطقطقي : « الفخري في الآداب السلطانية » ص 76 ـ 77. لعل ابتسامة الرسول تشير إلى العهر الذي عرفت فيه هند واتهام العباس بن عبد المطلب بالاجتماع معها على زنى ، كما سنرى.

٤٤

الأمويون والعقيدة الإسلامية

لقد مر بنا وصف موجز للصراع بين الامويين ومبادئ الإسلام في حياة الرسول. ونود أن ننتقل إلى البحث في ذلك الصراع « بين الامويين ومبادئ الإسلام » ـ باجلى أشكاله ـ في محاربتهم علي بن أبي طالب أثناء خلافته ، وفي اغتصابهم أمرة المسلمين. وكان قائدهم ـ آنذاك ـ معاوية نجل أبي سفيان قائد الأمويين في حربهم مع النبي.

وإذا كان الفشل قد كتب للأمويين في صراعهم مع النبي ـ لاعتصامهم بالأوثان بشكل سافر ـ فإن القضاء لم يكن في متناول ابن أبي طالب لتقمصهم ـ في الظاهر ـ رداء الإسلام الفضفاض.

ومهما يكن من الامر فإن غدر الامويين بعلي ـ تحت زعامة معاوية ـ قد أصاب روح الإسلام قبل أن يصيب أبا تراب. فقد انفسخ باغتيال الإمام المجال واسعاً امام قوى الشر التي حبسها علي في نطاق ضيق من خشية الله ومبادئ الدين الحنيف. فتلاشت من القلوب حرارة الإيمان التي كانت تجمع بين قلب الخليفة الكبير وقلوب رعاياه.

واستهان الولاة والحكام بتطبيق مبادئ الدين على شئون الحياة.

وعمدوا إلى إسكات الجماهير بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة أو الارهاب والتجويع. فذوي روح الإسلام وانطوت مبادؤه على نفسها بدلا من أن تسير في طريق التوسع والانتشار.

وكانت حصيلة ذلك الانتشار التدمر والالحاد في جسم المجتمع العربي الاسلامي ، وتدني المستويات الخلقية الرفيعة بين الحكام والمحكومين على السواء.

فبرز : الاستهتار « والظلم ، والخروج على القرآن وتعاليم الرسول من جهة الحاكمين ، والملق والمداهنة والانقياد من جهة الرعايا.

٤٥

واختفى القائلون بالحق وراء سحب المطاردة والاضطهاد ، فأصبح المطالبون بحقوقهم التي ضمنها لهم الإسلام « زنادقة » و « ملحدين » و« ورفضة » وصار الوصوليون المنافقون أصحاب الخطوة والكلمة النافذة.

ذكر الزبير بن بكار في « الموفقيات » عن المغيرة بن شعبة أنه قال : قال لي عمر بن الخطاب يوما يا مغيرة هل أبصرت بعينك العوراء منذ اصيبت؟ قلت لا. قال : أما والله ليعورون بنو امية الاسلام كما أعورت عينك هذه. ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء(1)

ورى : « إن يزيد بن معاوية قال لمعاوية ـ يوم بويع له عهده فجعل الناس يمدحونه ويطرونه ـ يا أمير المؤمنين ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا !!! فقال له معاوية : كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته(2) ».

ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين نظر إلى « ولاة » المسلمين في بعض الأيام فقال :

الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقدة بن شريك بمصر وعثمان بن يوسف باليمن امتلات الأرض والله جورا(3) .

ومن الغريب أن يستولي الأمويون على خلافة رسول الله ويستأثروا بها دون سائر المسلمين والعرب وأن يتلقفوها كالكرة واحدا بعد الآخر منذ مصرع رابع الخلفاء الراشدين دون أن يكون لهم أدنى حق في ذلك.

فهل يرشحهم كرههم للنبي وسعيهم لقتلة وتعذيب اتباعه لتسنم أمرة المسلمين؟

__________________

1 ـ ابن الحديد ، شرح نهج البلاغة 3 | 115.

2 ـ المبرد ، الكامل في اللغة والأدب 1 | 305 مطبعة مصطفى محمد بمصر عام 1355 هـ ومن المضحك حقاُ أن يخاطب يزيد أباه يا أمير المؤمنين ولسنا فعلم حق معاوية في أمرة المؤمنين أو مؤهلاته لتلك الأمرة او الأسلوب الذي اتبعه للحصول على تلك الامرة غير أن معاوية ، من الجهة الثانية أمير « المؤمنين » الذي هم من طراز ولده يزيد.

3 ـ ابن عساكر ، تاريخ دمشق 49 : 307 ، الذهبي ، سيراعلام النبلاء 4 : 409.

٤٦

أم أن خروجهم على أسس العقيدة الاسلامية ـ كما سنرى ـ هو الذي هيأهم لارتقاء منبر النبي؟

الواقع : أن مواقفهم الدنيئة في الجاهلية وفي حياة الرسول وفي الفترة التي نؤرخها في هذه الدراسة تجعلهم أبعد الناس عن تسلم إمرة المسلمين.

قال الجاحظ « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الانصار والمهاجرين في العام الذي سموه عام الجماعة وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة.

والعام الذي تحولت فيه الامامة ملكا كسرويا والخلافة غصباً قيصريا ، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق. ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا(1) .

حتى رد قضية رسول الله رداً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهرا في ولد الفراش وما يجب للعاهر(2) مع اجتماع الامة أن سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا ، وأنه إنما كان بها عاهرا. فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار.

وليس قتل حجر بن عدي ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر.

وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفئ ، واختيار الولاة علىالهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس جحد الاحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة ، وسواء في باب ما يستحق من الكفار جحد الكتاب ورد السنة إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره ، إلا أن احدهما اعظم وعقاب الآخرة عليه أشد.

__________________

1 ـ يشير الجاحظ بذلك إلى فقرات سالفة من رسالته التي بين أيدينا ح ذكر فيها جانباً من موبقات معاوية.

2 ـ يشير إلى قضية استلحاق معاوية زياد بن سمية بأبي سفيان.

٤٧

فهذه أو كفرة كانت في الأمة ، ثم لم تكن إلا فيمن يدعى امامتها والخلافة عليها. على ان كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره. وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت : لا تسبوه فان له صحبة ، وسب معاوية بدعة ، من يبغضه فقد خالف السنة.

فزعمت أن من السنة ترك البراءة ممن جحد السنة !!

ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عماله وأهل نصرته ، ثم غزو مكة ورمى الكعبة واستباحة المدينة ، وقتل الحسين في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام وأوتاد الإسلام فأحسبوا قتله ليس بكفر.

واباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بجاحد.

كيف تقولون في رمي الكعبة وهدم البيت الحرام وقبلة المسلمين؟

فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المتحرز به والمتحصن بحيطانه !! فما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن يعطي بيده !!

وأي شيء بقى من رجل قد أخذت عليه الأرض إلا موضع قدمه !!

وأحسبوا ما رووا عليه من الاشعار ـ التي قولها شرك والتمثل بها كفر ـ شيئا مصنوعا.

كيف نصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين !!

والكشف عن عورة علي بن الحسين عند الشك في بلوغه !! كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين !!

وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته : دعوني أقتله فانه بقية هذا النسل فأحسم به هذا القرن وأميت به هذا الداء وأقطع به هذه المادة.

خبرونا علام تدل هذه القسوة وهذه الغلظة !! بعد أن شفوا انفسهم بقتلهم ونالوا ما احبوا فيهم !!

٤٨

أتدل علىنصب ، وسوء رأي وحقد وبغضاء ونفاق وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج؟

أم تدل على الإخلاص وعلى حب النبي والحفظ له وعلى براءة الساحة وصحة السريرة؟ فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال ، وذلك أدنى منازله.

فالفاسق ملعون ومن نهى عن لعن الملعون فملعون.

وزعمت نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا أن سب ولاة السوء فتنة ، ولعن الجورة بدعة ، وإن كانوا يأخذون السمى بالسمى والولي والقريب بالقريب ، وأخافوا الأولياء وآمنوا الاعداء وحكموا بالشفاعة والهوى واظهار الغدرة والتهاون بالامة والقمع للرعية والتهم في غير مداراة ولا تقية ، وإن عدا ذلك إلى الكفر وجاوز الضلال إلى الجحد ، فذاك اضل ممن كف عن شتمهم والبراءة منهم. على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل كمن استحقه برد السنة وهدم الكعبة.

وليس من استحق اسم الكفر بذلك كمن شبه الله بخلقه.

وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير. والنابتة ـ في هذا الوجه ـ اكفر من يزيد وابيه وابن زياد وابيه.

ولو ثبت أيضا ـ على يزيد ـ أنه تمثل بقول ابن الزبعري :

ليت اشياخـي ببدر شهـدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لاستطاروا واستهلـو فرحـا

ثم قالوا يا يزيـد لا تســل

قد قتلنا الغـر من ساداتهـم

وعدلنـاه ببـدر فاعتــدل

كان تجوير النابتي لربه وتشبيهه بخلقه أعظم من ذلك وأفضع ، وعلى أنهم مجمعون على أنه ملعون من قتل مؤمنا متعمداً أو متأولا.

فإذا كان القاتل سلطانا جائراً واميراً عاصيا لم يستحلوا سبه ولا خلعه ولا نفيه

٤٩

ولا عيبة ، وإن أخاف الصلحاء وقتل الفقهاء وأجاع الفقير ، وظلم الضعيف ، وعطل الحدود والثغور ، وشرب الخمور واظهر الفجور !!!

ثم ما زال الناس يتسكعون مرة ويداهنونهم مرة ، ويقاربونهم مرة ويشاركونهم مرة إلا بقية ممن عصمه الله.

حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعاملهما الحجاج بن يوسف ومولاه يزيد بن أبي مسلم.

فأعادوا على البيت بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو.

فهدموا الكعبة واستباحوا الحرمة وحولوا قبلة واسط.

وأخروا صلاة الجمعة إلى مغيربان الشمس. فإذا قال رجل لأحدهم : اتق الله فقد اخرت الصلاة عن وقتها قتله ـ على هذا القول ـ جهارا غير ختل وعلانية غير سر.

ولا يعلم القتل على ذلك إلا اقبح من إنكاره. فكيف يكفر العبد بشيء ولا يكفر بأعظم منه !!

وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة وخوفهم العواقب وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج ابن يوسف فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه. فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه.

فأحسب تحويل الكعبة كان غلطا وهدم البيت كان تأويلا ، واحسب مارووا ـ من كل وجه ـ انهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله ارفع عنده من رسوله إليهم(1) ، باطلا ومسموعا مولدا ! واحسب وسم أيدي المسلمين ونقش أيدي المسلمات وردهم ـ بعد الهجرة ـ إلى قراهم.

__________________

1 ـ يشير الجاحظ إلى مخاطبة الحجاج للعراقيين في إحدى خطبه « ويحكم أخليفة أحكم في أهله أكرم عليه أم رسوله اليهم؟ » يريد بذلك تفضيل مقام الخلافة على مقام الرسالة راجع « العقد الفريد » لابن عبد ربه 3 | 255.

٥٠

وقتل الفقهاء وسب أئمة الهدى والنصب لعترة الرسول لا يكون كفراً !!

كيف تقول في جمع ثلاث صلوات ـ فيهن الجمعة ـ ولا يصلون إلا أولاهن حتى تصير الشمس على اعالي الجدران كالملاء المعصفر !!

فإن نطق مسلم خبط بالسيف وأخذته العمد وشك بالرماح. وإن قال قائل : اتق الله. أخذته العزة بالاثم. ثم لم يرض إلا بنثر دماغه على صدره وبصلبه حيث تراه عياله.

ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلا في طريق التمرد على الله والاستخفاف بالدين والتهاون بالمسلمين والابتذال لأهل الحق أكل امرائهم الطعام وشربهم الشراب على منابرهم أيا جمعهم وجموعهم

وقد كانت هذه الامة لا تتجاوز معاصيها الاثم والضلال إلا ما حكيت لك عن بني أمية وبني مروان وعمالهم(1) ».

ذلك رأي الجاحظ في الامويين ومدى صلتهم بالإسلام. وهو الرأي الغالب عند جمهرة مفكري المسلمين ومؤرخيهم.

وقد ذهب المقريزي ـ بما له من مكانة مرموقة بين المؤرخين ـ إلى القول بأنه كان يعجب من تطاول الامويين إلى الخلافة وكيف حدثتهم أنفسهم بذلك !! وأين بنو أمية ، وبنو مروان بن الحكم ـ طريد رسول الله ـ ولعينه ـ من هذا الحديث مع شدة عداوة بني أمية لرسول الله ومبالغتهم في أذاه وتماديهم في تكذيبه !!

__________________

* ويلوح أن الحجاج لم يسأل نفسه الخبيثة حتى عن معنى كلمة خلافة. فخليفة الشخص من ينوب عنه. هذا إذا فرضنا ـ جدلا ـ أن الامويين خلفاء بهذا المعنى ، فهل يكونون أفضل ممن خلفهم؟

1 ـ الجاحظ : « رسائل الجاحظ » ص 293 ـ 298.

٥١

إذ ليس لمبنى لبني أمية سبب إلى الخلافة ولا بينهم وبينها نسب. فاسباب الخلافة معروفة فمنهم من ادعاه لعلي ـ باجتماع القرابة والسابقة والوصية بزعمهم. فإن كان الأمر كذلك فليس لبني امية في شيء من ذلك دعوى عند أحد من أهل القبلة. وإن كانت لا تنال إلا بالسابقة فليس لهم في السابقة قديم مذكور. بل كانوا ـ إذا لم تكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ـ لم يكن فيهم ما يمنعم منها أشد المنع كان اهون وكان الامر عليهم ايسر !! فقد عرفنا كيف كان ابو سفيان في عداوته للنبي وفي محاربته وفي إجلابه عليه ولا يكون أمير المؤمنين إلا اولاهم بالايمان واقدمهم فيه. هذا وبنو امية قد هدموا الكعبة وجعلوا الرسول دون الخليفة ، وختموا في اعناق الصحابة وغيروا أوقات الصلاة ، ونقشوا اكف المسلمين ثم إني ماذا أقول ـ يا عجبا ـ كيف يستحق خلافة رسول الله على امته شرعا من لم يجعل له حقا في سهم ذي القربى؟ ثم كيف يقيم دين الله من قاتل رسول الله ونابزه وكايده وبذل جهده في قتله؟ وليت إذ ولى بنو امية الخلافة عدلوا انصفوا !! بل جاروا ـ في الحكم ـ وعسفوا واستأثروا بالفيء كله وحرموا بني هاشم جملة ، وزادوا في العتو والتعدي حتى قالو : إنما ذوي القربى قرابة الخليفة منه. وحتى قرروا ـ عند أهل الشام ـ أن لا قرابة لرسول الله يرثونه إلا أولاد أمية وحتى صعد الحجاج بن يوسف يوماً أعواد منبره وقال ـ على رؤوس الاشهاد : أرسولك أفضل ام خليفتك؟ يعرض بأن عبد الملك بن مروان أفضل من رسول الله(1) .

__________________

1 ـ المقريزي : النزاع والتخاصم ص 5 ـ 8 و 27 ـ 28.

٥٢

الفصل الرابع

أساليب تثبيت الحكم عند الامويين

لقد مر بنا القول بأن الامويين أبعد المسلمين ـ من الناحية الشرعية ـ عن تولى خلافة رسول الله. ولكنهم ـ مع هذا ـ قد ارتفعوا إلى مستويات الحكم في البلاد الإسلامية. وكان ارتفاعهم هذا ، كما سلف أن ذكرنا ، نتيجة للأساليب الفاسدة التي استعانوا بها في هذا المضمار. فلا عجب أن رأيناهم يستعينون بالأساليب الفاسدة أيضا لتثبيت قواعد حكمهم الممقوت. وتتلخص أساليبهم تلك في الامور التالية :

ـ 1 ـ

اتباعهم سياسة الشدة واللين

اتباعهم سياسة الشدة ـ ووصلهم إلى ذروتها من جهة ، وتبنيهم سياسة اللين وبلوغهم منتهاها من جهة أخرى.

وقد رافق ذلك ونتج عنه تبذير لأموال المسلمين وصرفها في غير مواضعها المشروعة من جهة ، وحبس لها عن مستحقيها من جهة ثانية. وقد جرى ذلك كله حسب مستلزمات الظروف التي كانوا يعيشون فيها. فأثرت تلك السياسة ـ بجناحيها ـ في الخلق العربي الإسلامي اسوأ تأثير.

وتعدى أثرها العهد الأموي فانتشر ـ عن طريق الوراثات الأجتماعية ـ بين العرب المسلمين جيلا بعد جيل حتى أدرك العهد الذي نعيش فيه ، وربما انتقلت أثاره إلى الأجيال القادمة.

وإلى القارئ طائفة من الأمثلة لتأييد وجاهية ما ذهبنا إليه. قال ابن عبد ربه(1) .

__________________

1 ـ العقد الفريد : 1 | 194.

٥٣

قدم يزيد بن منبه على معاوية بن أبي سفيان من البصرة ـ وهو أخو يعلى بن منبه صاحب جمل عائشة ـ فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه. فقال معاوية : ياكعب اعطه ثلاثين ألفاً. فلماولى قال معاوية وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى.

ولا ندري كيف استحق الرجل ذلك المبلغ الضخم من مال المسلمين !! وهل الخروج على الإمام علي في حرب الجمل جهاد يستحق عليه الناس تناول هذا المبلغ الكبير من بيت المال؟

وإذا كان يزيد قد استحق ذلك المبلغ الجسيم لأن أخاه كان صاحب جمل عائشة فما هي حصة يعلى؟

هل كان معاوية يعتبر أصحاب الجمل وأصحاب صفين ـ كما سنرى ـ من ذوي السابقة في « الإسلام »؟ فيجعل منزلتهم كمنزلة البدريين عند عمر؟

ذلك جانب من جوانب الاعتداء على حرمة الإسلام في سبيل تثبيت قواعد الحكم الأموي.

أما الجوانب الأخرى ـ في هذا الصدد ـ فتظهر في الأمور التالية :

عندما أراد معاوية أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة ويستعمل بدله سعيد بن العاص بلغ ذلك المغيرة فقدم على معاوية واقترح عليه تولية يزيد ـ من بعده ـ « خليفة » المسلمين. متثنى ذلك معاوية عن عزله وأوجد في نفسه ميلا لتخليف يزيد. فمضى المغيرة ، حتى دخل على يزيد وقال له : أنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي. وبقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا واعلمهم بالسنة والسياسة.

ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة !! فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة. فأحضر معاوية المغيرة.

٥٤

فقال المغيرة يا أمير المؤمنين قد رايت ما كان من سفك الدماء وفي يزيد منك خلف فاعقد له. فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس

قال معاوية : ارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى.

وسار المغيرة(1) حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه أمر يزيد. فأجابوا إلى بيعته. فأوفد منهم عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم وجعل عليهم ابنه موسى.

وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد فقال معاوية لموسى : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال بثلاثين الفاً.

قال : لقد هان عليهم دينهم(2) . فقوى عزم معاوية على البيعة ليزيد.

فكتب إلى عماله بتقريظ يزيد ، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة فتبادلوا الكلام في يزيد.

ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال : هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ومن أبى فهذا ـ وأشار الى سيفه.

فقال له معاوية : اجلس فأنت سيد الخطباء.

وخطب معاوية فذكر يزيد فمدحه وقال : من أحق بالخلافة منه في فضله وعقله وموضعه !!(3)

__________________

1 ـ وقد علق المغيرة على ذلك فقال « لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبداً ». كل ذلك في سبيل بقائه أميراً على الكوفة.

2 ـ وقد فات معاوية أن يتذكر انه اشترى دين المغيرة بولاية الكوفة وأنه باع دينه باغتصاب خلافة المسلمين. وجميعها امور متشابهة من حيث الأساس.

3 ـ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ 3 | 249 ـ 251. ويروي ان معاوية ـ في الجلسة التاريخية الآنفة الذكر ـ سأل الأحنف بن قيس عن رأيه في يزيد : فأجابه الأحنف : بخافكم إن صدقناكم ونخاف الله ان كذبنا. وأنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره

٥٥

منكم(1) منكراً فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان(2) ».

أما القصص والأخبار المكذوبة فإلى القارئ طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارئ نفسه. ولنبدأ بقصة نفي العهر والزنى عن هند ام معاوية(3) :

تحدث عتبة مع ابنته هند في أحد الايام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زواجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زوجها بأبي سفيان ، وأخبر عتبة إبنته قائلا : إنك إذا كنت زاينه فإنني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة. محلقت أنها لا تعرف لنفسها جرماً وإنه لكاذب عليها.

فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها. فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها. فرأى ذلك أبوها.

فقال لها أبوها : إني أرى ما بك. وما ذاك إلا لمكروه عندك. فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟

فقالت : يا إبتي إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطء ويصيب ولا آمن يسمني ميسما يكون علي عاراً عند نساء مكة.

__________________

1 ـ كذا في الأصل المطبوع والصواب : من رأى منكم « الناشر ».

2 ـ ابراهيم المالكي ، الفتوحات الوهبية ص 261.

3 ـ سوف نذكر قصة عهر السيدة هند في مكان آخر من هذه الدراسة كما رواها كبار المؤرخين.

٥٦

ودراستنا هذه تحتوي على طائفة كبيرة من تلك الأمثلة. ويدخل ضمن تلك الأساليب تصرف آخر توضحه الحادثة الطريفة التالية أوضح تمثيل.

« دخل اياس بن معاوية الشام وهو غلام. فقدم خصما ـ إلى باب القاضي ـ في أيام عبد الملك بن مروان. فقال له القاضي أما تستحي تخاصم ـ وأنت غلام ـ شيخا كبيرا؟

فقال الغلام : الحق أكبر منه. فقال القاضي اسكت ويحك !! فقال الغلام فمن ينطق بحجتي؟.

فقام القاضي ودخل على عبد الملك واخبره. فقال له عبد الملك : إقض حاجته واخرجه من الشام لكيلا يفسد علينا الناس(1) ».

« وخطب معاوية فقال له رجل كذبت. فنزل مغضبا. فدخل منزله ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماء. فصعد المنبر فقال ايها الناس إن الغضب من الشيطان وأن الشيطان من النار. فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء(2) .

وقد بدا معاوية ـ في هذا المثال ـ على جانب كبير من المرونة وضبط النفس. كما بدا الشخص الذي رماه بالكذب متثبتاً من قوله. ولو استطاع معاوية أن يثبت عكس ذلك لناقشه على الأقل أو لأمر به فنال ما يستحقه من عقاب لتطاوله على الخليفة.

وقد تجلت أيضاً براعة معاوية في الإلتواء ، وبرز دهاؤه « في التملص من المآزق الحرجة » في إشغاله السامعين بالتحدث عن وسائل إزالة الغضب بدلا من التحدث عن أصل المشكلة التي كان يتحدث عنها فرمي بالكذب من أجلها.

ومن أطرف ما عثرنا عليه أثناء البحث في هذا الجانب من جواب الموضوع

__________________

1 ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » 4 | 133.

2 ـ ابن قتيبة ، « عيون الأخبار » 1 | 290.

٥٧

إن يزيد ابن شجرة الرهاوي ذكر انه بينهما كان سائراً مع معاوية ومعاوية يحدثه « إذ صك وجه يزيد حجر عاثر فادماه ـ وهو منصت.

فقال له معاوية : لله أنت ! ما نزل بك؟ قال وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال هذا دم وجهك يسيل.

قال : إن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري فما شعرت بشيء حتى نبهني أمير المؤمنين. فقال له معاوية. لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء وأخرجك من عطاء أبناء المهاجرين وكماة أهل صفين.

فأمر له بخمسمائة ألف درهم. وزاده في عطائه الف درهم(1) .

ولا ندري ما هو حق ابن شجرة بهذا العطاء من مال المسلمين.

هل صك الحجر وجهه أثناء الجهاد في سبيل العقيدة الاسلامية؟ أم أثناء النفاق للخليفة؟

وأنكى من ذلك أن بن هند يعطي من بيت مال المسلمين عطاء خاصا لكماة صفين ـ الذين حاربوا عليا ـ واعتدوا على قدسية الإسلام.

ولسنا نعلم فيما إذا كان الذين حاربوا عليا ـ من أهل الشام ـ كماة أم لا. إن الذي نعلمه ـ بالتأكيد ـ أن معاوية وجنوده في ليلة الهرير قد اندحروا أمام جيوش الإمام كما تندحر جيوش الظلام أمام أشعة الشمس فلجأ معاوية إلى الدس والمرواغة ـ كما هو معروف في التحكيم ـ وفي معرض التحدث عن جنس ما ذكرنا

يقول الجهشياري(2) .

__________________

1 ـ الجاحظ : « التاج في اخلاق الملوك » ص 55 ـ 57. وقد عبر أحدهم عن هذا النوع من العطاء بقوله :

سألنـاه الجزيل فما تلكا

وأعطى فوق منبتنا وزادا

وأحسن ثم أحسن ثم عدنا

وأحسن ثـم عدت له فزادا

مراراً لا أعود إليـه إلا

تبسم ضاحكا وثنى الوسادا

2 ـ الوزراء والكتاب ص 59.

٥٨

لما توفي يزيد بن عبد الملك وأفضى الأمر إلى هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة. فلما قرأ الكتاب سجد. وسجد من كان معه من أصحابه خلا سعيد فإنه لم يسجد

فقال له هشام : لم لم تسجد؟ فقال علام أسجد؟ أعلى إن كنت معي فصرت في السماء؟ قال له فإن طيرناك معنا؟

قال : الآن طاب السجود.

وشبيه بهذا قول مالك بن هبيره لحصين بن نمير ـ على أثر تنازل معاوية بن يزيد عن « الخلافة » ـ هلم فلنبايع لهذا الغلام ـ أي خالد بن يزيد ـ « الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب(1) .

« يتضح من هذين المثالين أن مقياس الخلافة قد أصبح عند الناس في العهد الأموي خاصة ـ هو المصلحة الشخصية بأضيق معانيها. وقد حصل ذلك ـ على ما يبدو ـ كنتيجة من نتائج الحكم الأموي نفسه. ومن ثم صار سبباً من أسباب تثبيته. فهو نتيجة وسبب في آن واحد.

وقد عبر عن ذلك كله خالد بن عبد الله بن أسيد في جوابه لعبد الملك بن مروان حين عاتبه عبد الملك على قلة المال الذي أرسله إليه حينما كان والياً على العراق :

استعملتني على العراق وأهله رجلان : سامح مطيع مناصح وعدو مبغض مكاشح

فأما السامع المطيع المناصح فاجزيناه ليزداد ودا إلى وده.

وأما المبغض المكاشح فأنا دارينا ضغنه وسللنا حقده. فكثرنا لك المودة في صدور رعيتك ».

روي ابن الكلبي عن أبيه عبد الرحمن بن السائب ان الحجاج قال يوماً « لعبد الله بن هاني » ـ وهو رجل من بني أود وكان شريفاً في قومه وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته ـ والله ما كافأتك بعد.

__________________

1 ـ الطبري : « تاريخ الامم والملوك » 7 | 38.

٥٩

ثم أرسل الحجاج إلى أسماه بن خارجة ـ سيد بني فزارة ـ أن زوج عبد الله بن هانىء من ابنتك. فقال لا والله ولا كرامة. فدعا له بالسياط. فلما رأى الشر قال نعم أزوجه.

ثم بعث الحجاج إلى سعيد بن قيس الهمداني ـ رئيس اليمانية ـ زوج ابنتك من عبد الله بن هايئ من أود.

فقال : ومن أود؟ لا والله لا أزوجه ولا كرامة. فقال علي بالسيف. فقال دعني حتى أشاور أهلي. فشاورهم.

فقالوا : زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه.

فقال الحجاج لعبد الله : قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان. وما أورد هناك !! فقال لاتقل ـ أصلح الله الأمير ـ ذلك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب. قال وماهي؟ قال ماسب امير المؤمنين عبد الله بن مروان ـ في نادينا قط.

قال الحجاج : منقبة والله. قال وشهد معنا صفين مع أمير المؤمنين ـ معاوية ابن أبي سفيان ـ سبعون رجلا وما شهد منا ـ مع أبي تراب ـ إلا رجل واحد ، وكان ـ والله ما علمته امرأ سوء.

قال الحجاج : منقبة والله. قال ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص. ففعلن.

قال الحجاج : منقبة والله. قال وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة.

قال الحجاج : منقبة والله. قال وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة :

فضحك الحجاج وقال : أما هذه ـ يا أبا هانئ ـ فدعها(1)

__________________

1 ـ وكان عبد الله بشع المنظر مجدوراً قبيح الوجه شديد الحول. راجع ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 1 | 357 الطبعة الأولى بمصر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182