تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة0%

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 276

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

مؤلف: الدكتور نورالدين الهاشمي
تصنيف:

الصفحات: 276
المشاهدات: 37955
تحميل: 5099

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37955 / تحميل: 5099
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

مؤلف:
العربية

الشيعة والتاريخ

إن أي حركة دينية أو سياسية تعرف تاريخ انطلاقتها والأسس النظرية التي اسست نفسها عليها ، وخلال مراحلها التاريخية تعرف تطوراً سواءاً بإصلاح في نظريتها وتطويرها او عكسها ولا يمكن أن تكون هناك طائفة بدون انطلاقة تأسيسية ، والشيء الذي يجب أن ننتبه إليه أنه ممكن داخل أي حركة فكرية ، أو دينيّة أن تنبثق مجموعة من التيارات التي تأخذ أرضيتها من الحالة التأسيسية الاولى ، كما الحال مثلا بالنسبة للماركسية بحيث نلاحظ ماركسية ماو ـ ستي ـ تونغ والتي عرفت بالماوية ، او الماركسية التروتسكية ، او الغيفارية أو اللينينية ، لكن المشكل ، من منهم يمثل الحقيقة التي حاول تجسيدها ماركس من خلال أفكاره. وهكذا في الفكر الإسلامي ، بحيث لا توجد ظاهرة دينية تنوعت مذاهبها كمثل الإسلام ، ولكن الملاحظ هو أن الاختلاف لم يصل إلى حد إنكار المسلمات العامة والتي هي محل اتفاق المسلمين إلاّ أن الاختلاف في مجموعة من الأمور والتي قد تكون تأسيسية حاولت مجموعة من الطوائف التنازل عنها فصارت بعد ذلك محل نقاش وجدال ، وحاولت بعدها كل فرقة أن تثبت أهليتها ، وأنها

١٨١

الحقيقة الصافية التي جاء بها الإسلام هي التي تمثلها. فإلى أي حد كان التشيع يمثل هذه الحقيقة؟ وهل هو نتاج لتطور خلال المراحل التاريخية؟

إن الشيعة كمصطلح لغوي يقصد بها جماعة من المتعاونين على أمر واحد ، ويقال تشايع القوم إذا تعاونوا ، وربما يطلق على مطلق التابع(1) وقد استعمل اللّه هذا اللفظ في عدة مواضع من كتابه تعالى وذلك في قوله :

( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (2) .

وكذلك في قوله تعالى :( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم ) (3) .

وهذا دليل على أن الشيعة هي جماعة من الناس اتخذت من شخص لها قائداً وأعطته المحبة والموالات والتصديق المطلق.

إذن على هذا الاصطلاح هل هذه الطائفة تبلورت خلال المراحل الاولى من الدعوة الإسلامية أم جاءت متأخرة؟

إن الرجوع لكتب التاريخ يظهر تبايناً واضحاً في تحديد تاريخ تأسيس المذهب الشيعي. فبعضهم يرى أن التشيع ظهر بعد وفاة الرسول من قبل بعض أنصار الإمام عليعليه‌السلام الذين اجتمعوا في بيت

__________________

1 ـ جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل ص 7.

2 ـ القصص : 15.

3 ـ الصافات : 83 ـ 84.

١٨٢

فاطمةعليها‌السلام ، بحيث تخلفوا عن بيعة أبي بكر وهم قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن ابي طالب ، منهم العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبي بن كعب(1) . ويرى أصحاب هذا الرأي أن المرحلة التأسيسية قد ظهرت خلال هذه الفترة وقد عبر عنها أحمد أمين بأن هذه المعارضة لبيعة أبي بكر كانت البذرة الاولى للشيعة ، وهم الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه(2) . وكذلك عبر عنها المستشرق جولدتيسهر(3) بكون النشوء بدأ مع الخلاف الحاصل حول مشكلة الخلافة ونقمة مجموعة من الناس على طريقة انتخاب الخليفة.

والرأي الثاني هو الذي يقول كون التشيع وليد الفتنة التي وقعت في عهد عثمان ، وآخرين يرون أن التشيع وليد زمن علي لمّا تسلم اُمور الخلافة بحيث كانت الأرضية السياسية ملائمة ، وقد أشار الشهيد الصدر في كتابه بحث حول الولاية إلى هذا الرأي قائلاً : « ومنهم من يرد ظاهرة التشيع إلى عهد خلافة الإمام عليعليه‌السلام وماهيأه ذلك العهد

__________________

1 ـ اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 124.

2 ـ أحمد أمين فجر الإسلام ص 266 ط بيروت.

3 ـ جولدتيسهر العقيدة والشريعة في الإسلام 169 ط القاهرة.

١٨٣

من مقام سياسي واجتماعي على مسرح الأحداث(1) .

إن هذا التضارب في تحديد تاريخ التشيّع ينم في داخله عن شيء معين ، إذ كل الطوائف الإسلامية الأخرى معروف تاريخ تأسيسها ، وأصحاب الملل والنحل يبيّنون تاريخ ومؤسس كل فرقة بصورة واضحة لم يختلف عليها أحد من عامة المسلمين ، إلاّ التشيع فإنه ظل ولا يزال محل خلاف ، ومن شدة التيه التحقيقي في هذه المسألة ظهرت نظريات حاولت إعطاء رؤى تقريبية لهذه المدرسة ، فظهر تقسيم عجيب تداولته الالسن ، وهو تقسيم إلى تشيّع السياسي ، وتشيع مذهبي.

إن هذا التقسيم لم يكن موضوعياً ، وإنما قصد منه ضربة التشيّع في الصميم. وقصد بالتشيع السياسي هو حالة المشايعة التي عرفها آل البيت من أجل الحصول على السلطة السياسية وخصوصاً بعد استشهاد الامام الحسينعليه‌السلام ، مما أدى إلى تشكيل طائفة سياسية تعلن الولاء السياسي لآل البيت.

ويرى الدكتور كامل مصطفى الشيبي أن التشيع السياسي ، وإن ظهر في الفترة التي افترضها الباحثون السابقون ، إلا أن دلالة الاصطلاح ( شيعة ) على الكتلة التي ندرسها من المسلمين وانصرافه إليهم دون غيرهم ، قد بدأت مع حركة التوابين التي ظهرت سنة 61 ، وانتهت

__________________

1 ـ بحث في الولاية ـ الشهيد الصدر ص 25 ط بيروت.

١٨٤

بالفشل سنة 65 وكان قائد الحركة يلّقب بشيخ الشيعة(1) .

والأغرب من ذلك هو نسبة التشيّع لليهود ، والقول بأنّ التشيّع ذات اُسس يهودية تأسست على يد عبد الله بن سبأ رغم ما لهذا القول من ضعف. بحيث ثبت ضعفه من جانب التحقيق التاريخي ، وكذلك في مجموعة من العقائد التي حاولوا نسبتها إلى اليهود وأنها دخيلة على الإسلام ، في حين أن هذه العقائد اصلاً غير موجودة عند اليهود! فقالوا أن العصمة مأخوذة من عندهم مع العلم أن الكتاب المقدس يذكر الأنبياء بأبشع صور فها نحن نقرأ في سفر التكوين الإصحاح كيف أن النبي لوط لما صعد من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، وبات ليلتين في جماع ابنتيه بعد أن سقي خمراً وأن البنت البكر ولدت منه ابنا اسمه موآب والصغرى ولد سمته ابن عمي. وكذلك قالوا أن الولاية والوصية أصل يهودي في حين انهم هم أنفسهم يقولون أن الوصاية لم تكن لهارون كي تكون لعلي. إذن من أين جاءت هذه الوصاية وبنو إسرائيل أنفسهم في القرآن الكريم يقول الله على لسانهم( ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي ) فلو كان مبدأ الوصاية ذا أصول يهودية لوجد الوصي دون أن يلجأوا إلى طلب ملك يقاتلون فيه.

ونعود إلى قسمي التشيع المختلفين ونقول أن قصدهم بالتشيع المذهبي هو المرحلة التي وضعت فيها الأسس العقائدية والتأسيسية

__________________

1 ـ الشيبي : الصلة بين التصوف والتشيع : 1 / 122 ، ط بيروت.

١٨٥

لهذا المذهب. وكان قصد المخالفين من هذا التقسيم مايلي :

إن التشيع السياسي هي مرحلة انطلقت بدون أصول معرفية وإنما هي حالة عاطفية ، وانجذاب سياسي لأشخاص معينين. إذن تغيب في هذه المرحلة كل العلائق الدينية ، لكن بعد مرور مرحلة زمنية معينة لاحظ هؤلاء الأشخاص أنه لا طائل من بقائهم على هذا الحال بدون موجه ديني فيبقى أمامهم خيارين :

الالتحاق بالركب العام أو تأسيس قاعدة دينية ذات أصول حتى يتم لهم الاستمرار ، والنظر في كلا الاحتمالين غير وارد على اعتبار أن الشيعة عاشوا على قطيعة مع نظام السلطة منذ تأزم الوضع بشكل كلي خصوصاً مع قيام الدولة الاموية. بحيث أن تاريخ الدولة الاموية لم يهدأ باله قط من الثورات الشيعية ، وثاني شيء هو أن القاعدة الفكرية قد تأسست مع أقوال الرسول وخطب الامام عليعليه‌السلام ، وما الأئمة إلاّ صورة واحدة تتخذ أشكال معينة وما قول أحد الأئمة إلا قول الأئمة الآخرين ، إذن مرحلة التأسيس المذهبي التي حاولوا ربطها بالامام الصادقعليه‌السلام ماهي إلاّ محاولة لفك الشرعية عن تتابع الأئمة ، والوصول في الأخير بطريقة غير مباشرة لخلع الشرعية الدينية لولاية الامام عليعليه‌السلام ، وجعلها سياسية ويصبح الحسينعليه‌السلام مثله مثل الخارجين عن السلطة المطالبين بها بدون أسس دينية ، ولا موجبات شرعية ، فتصير فتوى شريح القاضي في حق الامام الحسينعليه‌السلام لها مصوّغ ديني بعد ما رفع التكليف الشرعي للامام ، وواجب الولاية الشرعية ، ومنه يصير

١٨٦

الامام الحسينعليه‌السلام خارج عن الشرع. إذن يبقى سؤالاً جوهرياً ، وهو ما حقيقة التشيع في ظل هذا الخليط من التحليلات؟

إن الوقوف على حقيقة هذا المصطلح أو بالأحرى حقيقة المذهب يلزمنا الرجوع إلى الموروث التاريخي القديم ، وتفحصه بدقة لأن الاختلاف في تحديد تاريخ طائفة معينة ـ على أن تاريخ كل الطوائف الإسلامية محدد بالتدقيق ـ يخفي وراءه حقيقة تعمد المؤرخون إخفائها حتى يتسنى لهم إبداء آرائهم ووجهات نظرهم ، والأهم من ذلك هو : تمديد موقعهم داخل خريطة العقيدة الإسلامية.

إن أغلب القرائن التاريخية تثبت أن مصطلح الشيعة ظهر في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان مجموعة من الصحابة معروفين بهذا المصطلح نتيجة علاقتهم بالامام عليعليه‌السلام بحيث لما نزل قوله تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول خير البرية : هم أنت يا علي وشيعتك(1) .

وقد تعدد ذكر هذا الخبر عند الكثير من العلماء ، فقد ذكره السيوطي في الدر المنثور قائلاً لما نزلت الآية ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الامم للحساب تدعون غرا محجلين )(2) .

__________________

1 ـ الطبري : تفسير الطبري 3 / 315 ، ط بيروت.

2 ـ السيوطي : الدر المنثور 6 / 379 ، ط بيروت.

١٨٧

وقد تعددت الالفاظ في ذكر سبب نزول هذه الآية والدالة على تخصيص التشيع بالموالين ، والمشايعين لعلي ابن أبي طالبعليه‌السلام وكان من بين الأشخاص الذين عرفوا بهذا الإسم من خيرة الصحابة وهم أبو ذر ، وعمار ومقداد ، وسلمان الفارسي.

فالمرحلة التأسيسية للتشيع لم تكن شيئاً مفصولا عن مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية التي باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إذ نلاحظ أن أول عمل قام به الرسول خلال الدعوة السرية هو ربط الإسلام بالإمام عليعليه‌السلام ، وكان ذلك في حديث الدار حيث جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً وصياً له وخليفة من بعده.

ومن المحال عادة أن يعيّن قائد نهضة أحد أصحابه ووزيراً وخليفة له ويعلنه على الملأ فيما يبقى الأمر مخفياً على الخلص من أنصاره والثلة المضحية(1) . إذن طرح الإسلام كان مربوطاً بشخص ، وإظهار مكانته حتى يتم الإرتباط به من طرف عموم المسلمين.

والمواقع متعددة لإثبات مكانته من الدار إلى الغدير ، لذلك نرى أول ما عمله هؤلاء الأشخاص هو الاعتراض على بيعة أبي بكر ، والاجتماع في منزل فاطمةعليها‌السلام ، وهذا الرفض لم يكن وليد صدفة أو اللحظة ذاتها ، لأنه لمجرد الانتهاء من تغسيل الرسول ودفنه احتجوا

__________________

1 ـ السيد محمد حسين الطباطبائي مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي ص 208 تعريب خالد توفيق.

١٨٨

على المنفذين لهذا الامر ـ أي البيعة ـ ، وهذا دليل على أن هناك أرضية مشتركة يعملون من خلالها ، فيصير مصطلح الشيعة إذن هم اولئك الذين يشايعون علياً وأولاده باعتبار أنهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده ، نصبهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه وتعالى وذكر أسمائهم. وقد قال الامام عليعليه‌السلام في هذا المقام : ( لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة ).

فلهذا لايصح ربط التشيع بحالات متأخرة عن التشريع الإلهي والزمن النبوي المبارك ، ونعود هنا إلى نقطة سابقة وهي قولنا في الاختلاف في تحديد تاريخ التشيع بأنه ينم عن شيء مخزون في نفوس المؤرخين ، فهم يحاولون سلب مشروعية التشيع ، في حين هم غافلين بأن السنة والجماعة هي وليدة حالة السيطرة لمعاوية ومحاولته أدلجة المجتمع الإسلامي في قالب خاضع له فسمي عامه عام الجماعة وخلقت أحاديث كثيرة تستعمل هذا المصطلح كلفظ نبوي ، حتى يكتسب شرعيته الدينية ، والتاريخية علماً أن التحقيق التاريخي يثبت أنه من المصطلحات المتأخرة عن أيام حياة النبوي ، مما يفقدها هذه الشرعية ، ويبقى المنافس القوي لهذه المدرسة هو التشيع وذلك للشرعية التاريخية والدينية التي اكتسبها من أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٩

إذن يبقى التخلص من هذه الفكرة هو التشويش على أصلها حتى تصير صعبة الاستقبال من طرف الناس ، وتظل مدرسة بني أمية هي المكتسبة لهذه الشرعية المحرفة التي تبلورت لها من قبل السلطة والمال وعلماء السوء.

١٩٠

مذهب وعلماء

لقد أخذ بعض الناس عن المذهب الشيعي هذه النظرة بأنّه فقط مذهب للمعارضة السياسية ، والمطالبة بإزالة الأنظمة السياسية التي توالت على الدولة الإسلامية عقب حرمان آل البيتعليهم‌السلام من حقهم الطبيعي. ولم ينظر إليه على أنه ذلك المذهب الذي استطاع أن يصمد طيلة هذه المدة الطويلة ، رغم الاضطهاد والقمع التي تعرض لها في حين أن أغلب الطوائف الاُخرى قد انقرضت واضمحلت.

وان هذه المقاومة الثابتة لمذهب آل البيت طيلة هذه القرون يُعبِّر عن امتلاكه قوة ومناعة ذاتية جعلته يصمد ازاء محاولات الاطاحة من قبل خصومه ، ولم يكن ذلك من قبيل العبث لكن هو راجع لاتباع هذه المدرسة التي لم يقف شريانها العلمي ، والمعرفي عن النبض. فكانوا السباقين إلى مختلف العلوم وأصحاب السبق فيها ، فأبدعوا في الفقه والحديث واللغة ، وكانت لهم السابقة في الفلسفة وعلم الكلام ، فكان الشيعة خير من حافظ على بيضة الإسلام المعرفية ، وأول من واجه الأفكار الدخيلة ، وإذا ما حاولنا استعمال النقد النزيه والتجرد من الذاتية فإننا نرى ان طائفة العامة مليئة بنوع من الافكار الشاذة في العقائد

١٩١

وخصوصاً فيما يتعلق بالتوحيد المرتبط بالله سبحانه وتعالى ، وما لاحقه من التجسيم والتشبيه والذي هو مأخوذ خصوصاً من العقائد الأخرى كاليهودية أو المسيحية لكن التشيع حاول منذ الوهلة الاولى ، ولأرتباطه بآل البيتعليهم‌السلام أن يحافظ على العقائد الإسلامية الخالصة. ومن هذا المنطلق حاول الشيعة ضبط اللغة التي أنزل بها الدين الاسلامي. فكان إبداع الشيعة فيها إبداعاً منفرداً لا زالت أسسه لحد اليوم قائمة ويرجع إليها كل علماء اللغة. والجدير ذكره هو أن نهج البلاغة للامام علي يعتبر المرجع المعرفي في ضبط المعارف من قواعد ، وفلسفة ، وكلام ، ولا زال هذا الموروث المعرفي يعبر لحد هذا الوقت عن بحر أذهل الدارسين ، رغم تشكيك المشككين في نسبته للامام علي إلا أن متانته وتناسقه الأدبي والعلمي والفلسفي يلزم المعارضين الإذعان له والاعتراف بحقيقته ، وذلك لبلاغته العجيبة وحكمته البليغة ، ونرى ذلك في كل خطبة والتي تمثل هذه الخطبة إحدى نماذج هذه البلاغة والإحاطة بقدرة الله تعالى. يقولعليه‌السلام :

( وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف صنعته ، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف ، يبسا جامداً ثم فطر منه أطباقا ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بامره ، وقامت على حده يحملها الأخضر المتعنجر ، والقمقام المسخر.

قد ذل لأمره ، وأذعن لهيبته ، ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل جلاميدها ونشوز متونها واطوادها ، فأرساها في مراسيها وألزمها

١٩٢

قرارتها ، فمضت رؤوسها في الهواء ، ورست أصولها في الماء ، فأنفد جبالها عن سهولها وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فاشهق قلالها ، وأطال انتمازها ، وجعلها للأرض عماداً ، وأرزها فيها أوتاداً فسكنت على حركتها أن تميد بأصلها أو تسيخ بحملها ، أو تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، واجمدها بعد رطوبة أكنافها ; فجعلها كحلقة مهاداً ، وبسطها لهم فراشاً ، فوق بحر لجي راكد لا يجري ، وقائم لا يسري تكر كره الرياح العواصف وتمخضه الغمام الذوارق ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ).

الشيعة وعلم النحو واللغة

إن الاهتمام باللغة العربية وأصولها ليعتبر خير دليل على حب الإسلام والسعي لخدمته ، وإيصاله إلى الآخرين بطريقة يسهل عليهم استيعابه وفهمه ، لأنه متى تم حصول الإدراك لأساليب اللغة فإن فهم أي سفر يصير ، مسيّرا كما أنّها تصير مفتاحاً له والعكس صحيح ; إذا تم جهل هذه الأساسيات والعلوم لكانت الدراسة صعبة ممتنعة. فقام الشيعة من أجل صيانة هذا الكنز الإسلامي الثمين ، وخصوصاً بعد شيوع اللكن في القرآن فكانت أمس الحاجة إلى ضبط قواعد اللغة(1) . فقام المحبون للإسلام والراغبون في الحفاظ عليه بوضع قواعد نحوية من أجل صيانة القرآن الكريم. وكان أول من قام بذلك هو أبو الأسود

__________________

1 ـ جرجي زيدان تاريخ آداب اللغة العربية : 1 / 219.

١٩٣

الدؤلي بتكليف من أمير المؤمنين عليعليه‌السلام . وكان أبو الاسود الدؤلي من التابعين صاحب عليا وشهد معه صفين ثم أقام في البصرة ، وفي مسألة أهتمامه بالنحو والعمل على ضبط قواعده يُحكي عن أبو سلامة الشامي النحوي : أن علياً دخل عليه أبو الاسود الدؤلي يوماً ، قال فرأيته مفكراً فقلت له : مالي أراك مفكراً يا أمير المؤمنين؟ قال إني سمعت من بعض الناس لحنا وقد هممت أن أضع كتاباً أجمع فيه كلام العرب ، فقلت : إن فعلت ذلك أحييت أقواماً من الهلاك ، فألقى اليّ صحيفة فيها؟ الكلام كله إسم وفعل وحرف فالإسم مادل على المسمى ، والفعل مادل على حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس بإسم ولا فعل ـ وجعل يزيد على ذلك زيادات : قال واستأذنته أن أضع في النحو ما صنع ، فأذن وأتيته به فزاد فيه ونقص.

وفي رواية أنه ألقى إليه الصحيفة وقال له : انح نحو هذا فلهذا سمي النحو نحواً(1) . وقد زاد ابو الأسود الدؤلي على هذا فابتكر كل الآليات اللغوية التي تعطي للنحو علماً متكاملا حتى يصير سهلا إذ قام بإكمالها وضبطها وبتمييز المنصوب عن المرفوع والاسم من الفعل بعلامات نسميها الاعراب.

ولم يقف الحد عند أبو الأسود الدؤلي ، بل استمر التيار الشيعي في

__________________

1 ـ حسن الصدر تأسيس الشيعة ص 51 عن بحوث في الملل والنحل : 6 / 532 ، وابن النديم : الفهرست 66 نقلا عن المصدر السابق.

١٩٤

تطوير هذا العلم فبرز خليل بن احمد الفراهيدي ، وأبدع في هذا الفن. قال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي : والخليل بن احمد الفراهيدي أوحد العصر وفريد الدهر ، وجهبذ الأمة وأستاذ أهل الفطنة الذي لم ير نظيره ولا عرف في الدنيا عديله ، ومد أطنابه وسبب علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج(1) .

كما كان الخليل بن احمد مبدع في علوم اللغة العربية والتي يقصد بها الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث أصولها ، واشتقاقها ومعناها ، حيث كان سيد أهل الأدب وأسبق العرب إلى العرب إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على حروف المعجم ، إذ ألف في هذا المجال كتاب العين الذي يحوي فيه كل ما كان معروفاً في أيامه من ألفاظ اللغة وآدابها ، وأما ارتباطه المذهبي فقد كان شيعياً إمامياً وقد ألف كتاباً في الإمامة اورده بتمامه محمد بن جعفر المراغي في كتابه واستدرك عليه مالم يذكره واسماه الخليلي.

وقد قال النجاشي محمد بن جعفر بن محمد ابو الفتح الهمداني الوادعي المعروف بالمراغي كان يتعاطى الكلام ، له كتاب مختار الأخبار كتاب الخليلي في الإمامة وكتاب ذكر المجاز من القرآن(2) . وهذا دليل واضح على كون الفراهيدي احد المتشايعين لآل البيتعليهم‌السلام .

__________________

1 ـ جعفر السبحاني في الملل والنحل 6 / 522.

2 ـ النجاشي ، الرجال : 2 / 318.

١٩٥

وقد قال العلامة الحلي في الخلاصة القسم الأول 67 : كان الخليل بن أحمد الفراهيدي أفضل الناس في الأدب ، وقوله حجة فيه واخترع علم العروض وفضله أشهر من أن يذكر ، وكان إمامي المذهب.

وقال ابن داوود : الخليل بن أحمد شيخ الناس في علوم الأدب ، فضله وزهده أشهر من أن يخفى ، كان إمامي المذهب(1) .

وهكذا كان التشيع يساير تطور اللغة ويسهر على تطويرها من أجل خدمة هذا المذهب الذى حاول المؤرخون جعله حالة شاذة داخل المجتمع نظرا لتعارض وجهات النظر بينه وبين السلطة الحاكمة. لكن من العيب جدا وفي ظل التحقيق التاريخي أن يخرج من دائرة الفكر الإسلامي من أجل إرضاء النزوات المذهبية المتعصبة ، والذي يلاحظ خصوصاً مع كاتبنا محمد عابد الجابري ، فإن كان الفكر المتحجر وقف ضد هذه الحركة الفكرية فكذلك كان جزاء العلماء الشيعة وقتلهم لم يطل فقط الخارجين بالسيف كزيد بن محمد الباقرعليه‌السلام ، بل تعداه إلى علماء اللغة أيضاً ، وابن السكيت أحد ضحايا العنف السلطاني الذي لاحق العلماء الموالين لآل البيت ، فقد كان يعقوب بن جعفر السكيت أحد جهابذة اللغة وله كتب عديدة من بينها « إصلاح المنطق » ، كتاب « الألفاظ » ، كتاب « ما اتفق لفظه ، واختلف معناه » ، كتاب « الاضداد » ، كتاب « المذكر والمؤنث » ، كتاب « المقصور

__________________

1 ـ جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل : 6 / 539.

١٩٦

والممدود »(1) وقد كان سبب قتله حبه لآل البيت حيث قتله المتوكل ، وسبب قتله أن المتوكل سأله يوماً وهو يعلّم ابنيه وقال : يا يعقوب أيهما أحب إليك ، إبناي هذان ، أم الحسن والحسين؟ فأجابه : إن قنبراً خادم علي خير منك ومن ابنيك. فأمر المتوكل فسلوا لسانه من قفاه فمات ، وقد خلف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر استشهد سنة 244(2) .

وتاريخ الشيعة في الفن والأدب لم يقف عند هذا الحد ، وعند هؤلاء العلماء ، فلقد أبدعوا في الشعر وعلم العروض وبرز علماء جهابذة حصنوا اللغة العربية ودافعوا عليها بتمتين قواعدها حتى تصير في متناول الدارسين للموروث الإسلامي المقدس ألا وهو كتاب الله تعالى ، فسايروا بذلك التطور التاريخي ولعبوا في تاريخ اللغة والنحو والفنون دوراً مهماً وبارزاً ، لا يخفى أثره حتى ولو حاول المعارضون أن يقفوا ضدهم ، لأن مسألة العلم شيئاً يستحسنه العقل البشري ويتقبله ، رغم ما يمكن أن تعمل السلطات وعملاء التحريف والتزوير التاريخي. ولم يقف الحد عند اللغة وفنونها بل تعداه إلى مجالات متعددة من فقه وفلسفة وخصوصاً هذه الأخيرة حيث كان للشيعة اليد الطولى في بلورة الفلسفة الإسلامية وتطويرها.

__________________

1 ـ النجاشي الرجال : 1 / 272.

2 ـ جرجي زيدان تاريخ آداب اللغة : 1 / 424.

١٩٧

الشيعة : الفلسفة وعلم الكلام

إن الفتوحات التي قام بها المسلمون في المناطق الخارجة عن شبه الجزيرة العربية والتي كانت تعيش قبل ذلك في ظل حضارات قديمة كانت تمتلك قدرة معرفية قوية جداً ، وكانت إشكالاتها المطروحة على صعيد المعرفة الدينية أيضاً قوية ، نظراً لامتزاجها بالمعارف المأخوذة من الثقافات الفلسفية الموجود هناك ، منها المشائية ( الارسطية ) ، العرفانية ( الافلوطونية ). مما اضطر الفكر الإسلامي أن يدخل مجال معرفي آخر خارج عن إطار الحديث والفقه والاستدلال الظاهري إلى حقل معارف جديدة ليتمكن بها من مواجهة هذه التيارات المدعومة ابستمولوجيا بمدارس فكرية. فكانت ضرورة علم الكلام والفلسفة ملحة. لكن الجدير ذكره هو أن علم الكلام كحالة استدلالية ومعرفية قد سبقت الفلسفة للظهور ليُعبر من خلاله على طبيعة المذهب الكلامي ، وكذلك التعبير بشكل أوضح عن أسسه ومعتقداته ، فكانت بذلك مجالات علم الكلام محددة ومرتبطة بمجموعة من الإشكالات التي تطرح على الفكر الإسلامي ، فكان لزاماً إيجاد مخرج لها في مواجهة جميع الافكار الدخيلة والمنافسة ، فكان علماء الكلام الشيعة من المدافعين عن حقيقة هذا الدين والعاملين على تخليصه من الشوائب التي يمكن أن تدخل في المعتقدات التي تلقاها الإسلام إبان الفتوحات.

فبرز علماء كثيرون لصد هجمات الخصوم وتبيين الأفكار الإسلامية الخالصة وكان من أشهرهم هشام بن الحكم وقد كان من تلامذة الإمام

١٩٨

الصادقعليه‌السلام وقد قال فيه ابن النديم : هو من متكلمي الشيعة الإمامية ، وبطانتهم ، وممن دعا له الصادقعليه‌السلام فقال أقول لك ما قال رسول الله لحسان : لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. وهو الذي فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب وسهل طريق الحجاج فيه ، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب(1) .

وقد قال عنه أحمد أمين : أنه كان أكبر شخصية شيعية في الكلام وكان قوي الحجة ، ناظر المعتزلة وناظروه ، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهته. وقوة حججه(2) . وقد كان غزير العطاء فذكر له النجاشي صاحب الرجال تصانيف عديدة تهتم بأهم القضايا الكلامية منها :

1 ـ التوحيد.

2 ـ الرد على ارسطا طاليس في التوحيد.

3 ـ الشيخ والغلام في التوحيد.

وأخرى في طرح الإمامة والنظرية الشرعية للامامة ومنها :

1 ـ الوصية والرد على منكريها.

2 ـ المجالس في الإمامة.

3 ـ الإمامة.

وكتب اُخرى اهتمت بالردود على الاتجاهات المخالفة وكان

__________________

1 ـ ابن النديم : الفهرست ص 257.

2 ـ جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل : 6 / 578.

١٩٩

الغرض منها إيصال حقيقة المذهب إلى الآخر. وقد ذكر له الكليني في الكافي مناظرة مع شخص وذلك في حضرة الإمام الصادقعليه‌السلام تبيّن مدى إدراكه ، وحسن اُسلوبه في ردع المخالفين وهذا نص كلام هشام ابن الحكم :

... فقال ( أي الإمام الصادقعليه‌السلام ) للشامي كلّم هذا الغلام يعني هشام ابن الحكم ، فقال نعم ، فقال لهشام : يا غلام! سلني في إمامة هذا ، فغضب هشام حتى ارتعد ، ثم قال للشامي : يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم ، فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه ، قال : ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال : أقام لهم حجة ودليلا كي لا يتشتتوا ويختلفوا ، يتألفهم ، ويقيم أودهم ، ويخبرهم بفرض ربهم ، قال : فمن هو؟ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال هشام فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الكتاب والسنّة ، قال هشام : فهل نفعنا الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنها؟ قال الشامي : نعم ، قال : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك ، قال فسكت الشامي ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام للشامي : مالك لا تتكلم؟ قال الشامي : إن قلت لم نختلف كذبت ، وإن قلت إن الكتاب والسنّة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت ، لأنهما يحتملان الوجوه ، وإن قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحقّ فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة. إلاّ أن لي عليه هذه الحجة ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام سله تجده ملياً ، فقال الشامي : يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم فقال هشام : ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم ، فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع لهم

٢٠٠