تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة0%

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 276

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

مؤلف: الدكتور نورالدين الهاشمي
تصنيف:

الصفحات: 276
المشاهدات: 37947
تحميل: 5099

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37947 / تحميل: 5099
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

مؤلف:
العربية

كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام : في وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الساعة؟ قال الشامي : في وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والساعة من؟ فقال هشام : هذا القاعد التي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وإنه عن أب عن جد. قال الشامي : فكيف لي أن أعلم ذلك! فقال : سله عما بدا لك(1) .

وقد كان تاريخ التشيع مليئاً بعلماء الكلام الذين أبدعوا في هذا المجال وذلك طيلة الصيرورة التاريخية التي عرفت بروز علم الكلام وعلى امتداد القرون الثلاثة له ، فبرز في القرن الثاني بالإضافة إلى هشام بن الحكم ، زرارة بن اعين وفي القرن الثالث الفضل بن شاذان والحكم بن هشام بن الحكم وإبراهيم بن سليمان المازني اما في القرن الرابع فقد كان الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه والحسن بن علي بن أبي عقيل واسماعيل بن علي بن اعاق(2) .

وهكذا كانت إنطلاقة التفكير العقلاني عند الشيعة الإمامية ابتداء من علم الكلام الذي وجدوا فيه مجالا خصباً لبلورة أفكارهم ولم يكن بعد قد انفتحوا على الفلسفة في حين كان الشيعة الإسماعيليون في أوج عطائهم الفلسفي مع الفارابي وإخوان الصفا وحميد الكرماني وقد كانت قلعة ألموت إحدى مراكز الفلسفة الإسماعيلية لكنها اندكت بالهجوم المغولي عليها. لكن الخصوصية المعرفية للفلسفة ، وهي المعرفة الدقيقة

__________________

1 ـ الكليني ، الكافي : 1 / 172.

2 ـ للمزيد من المعلومات يراجع بحوث في الملل والنحل ج6.

٢٠١

لأسرار الوجود من أجل السيطرة على العالم الموضوعي ومن ثم السيطرة على قوانينه من أجل تغييره ، جعلت الشيعة الإمامية تدخل معترك الفلسفة وقد دشنت هذا الانتقال المعرفي مع الخواجة نصير الدين الطوسي لينقل العقل الامامي من الجدال الكلامي إلى التأمل الفلسفي وكانت ـ الإمامية ـ بعد ذلك الوريث للفلسفة الإسماعيلية فطورتها بما يوافق خصوصية المذهب الاثني عشري.

فبعد القطيعة التي عاشتها الفلسفة بنوعيها قبل بروز الإمامية الاثنا عشرية والتي تمثلت بالمشائية الأرسطية والعرفانية الافلوطينية جاء الشيعة الإماميون ليقوموا بتركيب نمط فلسفي جديد جمع الخطين الفلسفيين بالإضافة إلى مذاهب المتكلمين وقد عرفت تطورها الكلي مع الملا صدرا الشيرازي وكان التاريخ الفلسفي الإمامي مليئاً منذ انطلاق الشرارة الاولى بفلاسفة كبار منهم السهروردي ، وحيدر آملي ، والشيخ زين الدين الإحسائي ، وميرداماد ، وملا هادي السبزاوي بالإضافة إلى شيخ الطائفة الكبير الشيخ المفيد ، والعلامة الحلي ، والرازي.

ولقد كانت المدرسة الفلسفية الإمامية مميزة عن مثيلتها في الفكر الإسلامي بحيث أن أغلبها اكتسى طابع المحاكاة للفلسفات اليونانية القديمة وبالتحديد النمطين السابقي الذكر. مما لم يعطها استقلاليتها المعرفية الكاملة. وقد بلغت الفلسفة الإمامية أوجها مع الملا صدرا الشيرازي بحيث صار الفارق الجوهري بين الفلسفتين فارقاً يتحدد

٢٠٢

بالموقف الانطلوجي الواضح من إشكاليتي الوجود والماهية او حقيقة أصالة إحديهما(1) . وكما كان علم الكلام هو للدفاع عن الإسلام وأصوله جاءت الفلسفة لتعطي المعنى الحقيقي للإسلام ، والطريق الامثل للوصول إلى هذه الحقيقة المتعالية ، عن طريق التحقيق والتدقيق والتتبع ونفي التقليد والتحجر. إذ أن معرفة الله تعالى وعلم المعاد وعلم طريق الآخرة ليس المراد بها الاعتقاد الذي تلقاه العامي او الفقيه وراثة وتلقنا. فإن المشغوف بالتقليد والجمود على الصورة لم ينفتح له طريق الحقائق كما ينفتح للكرام الإلهيين(2) .

ولم تكن فقط الطريقة العرفانية هي الطريق الأمثل عند الملا صدرا للوصول إلى معرفة الحقيقة بل التدقيق النظري اي تحقيق التكامل الذاتي للإنسان مابين الجانب العرفاني فيه وكذلك الجانب العقلاني بحيث يحصل التوافق بين ما يمثل الجانب الحسي الروحي والمادي العقلي فإذا كان النص السابق مربوط بالالهيين او الروحانيين عن طريق المعرفة الروحية العرفانية فإن استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ماهي عليها والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا آخذاً بالظن او التقليد ، بقدر الوسع الإنساني ، وإن شئت قلت نظم العالم نظماً عقلياً على حساب الطاقة البشرية(3) .

__________________

1 ـ ادريس هاني ، محنة التراث الآخر ص 261.

2 ـ ملا صدرا ، الأسفار : 1 / 11.

3 ـ المصدر السابق : 1 / 20.

٢٠٣

وبهذا تكون الفلسفة الإمامية قد حققت قفزة نوعية على مستوى الإدراك الفلسفي بتطوير هذه الفلسفة وجمعها بين نمطين كان إلى زمن بعيد منفصلين وهما المعرفة بالذوق والمشاهدة او ما تعارف عليها بالمعرفة العرفانية هي استعمال الذوق الروحي في الوصول الى الحقائق كما هو ملاحظ عند محيي الدين ابن عربي بحيث يكتفي إلى الذوق لا الاستدلال وأما الاستدلال العقلي كطريقة لتثبيت ما وصلت إليه الروح من معرفة فقد كان الملا صدرا المبدع الأكبر لهذه المدرسة وهذا ما غفل عنه المؤرخون ودارسوا العلوم الفلسفية الذين حسروا الفلسفة وانهوا تاريخها مع ابن رشد والذي لا يمثل إلاّ حالة متقادمة من الفلسفة المشائية التي لم تأتي بجديد للفلسفة باستثناء شروحات ارسطو طاليس ولم تكن شيئاً مميزاً عكس ما كان مع الفلسفة الإمامية.

وعلى كل حال فإن التاريخ العلمي للشيعة لم يقف عند حد اللغة والنحو وعلم الكلام والفلسفة بل تعداه إلى مختلف ضروب المعرفة فكانوا على طول التاريخ من المساهمين في بناء الصرح المعرفي للثقافة الإسلامية وكانت دوافع الرغبة الدينية هي التي تدفع بالشيعة للدخول في هذا المضمار من أجل ايضاح الوجه الحقيقي للإسلام لا يثنيهم عن ذلك ظلم الطغمة السياسية الحاكمة بل كان الهم المعرفي هو الدافع الاسمي لهم رغم تجاهل المؤرخ والذي هو في أصله الناطق الرسمي باسم السلطان ، والذي ترك أثره في بعض المتعاطين للتاريخ فحاولوا تحجيم البعد العلمي والمعرفي للشيعة وحصره في حركة

٢٠٤

سياسية ذات بعد سلطوي ، لكن الحقائق التاريخية استطاعت أن تهدم كل ما حاول السلطان بناءه واستطاع المذهب الشيعي عبر خوضه لجميع المعارف الإسلامية أن يحافظ على استمراريته ، والتي لم تكن تلك الاستمرارية المتجمدة والتي حجرت حركتها الفقهية ووقفتها في القرن الثالث الهجري أو معارفها الفلسفية بربطها بنهاية لا معرفية مع ابن رشد ، بحيث ركب في ذهن البعض انتهاء الفلسفة مع نهاية ابن رشد.

في حين في الطرف المقابل لا زالت الحركة الاجتهادية الفقهية مسترسلة عبر نظام المرجعية رغم غيبة الإمام الثاني عشر تساير من خلالها التطورات التي يعرفها العصر كما أن الإبداع الفلسفي لا زال يعرف طريقه داخل المجامع العلمية الشيعية والحوارات وخير مثال على هذا الإبداع هو الظهور في الآونة الأخيرة لما يسمى علم الكلام الجديد للإجابة على الإشكالات الجديدة التي طرحها العصر الحاضر ويرى الإسلام ضرورة الإجابة عنها. ويكون بذلك التاريخ الثقافي والعلمي للتشيع هو تاريخ مسايرة الأحداث والوقائع ، ومسايرة تطور الزمن الذي يفرض في كل لحظة اشكالات جديدة تجعل الإسلام في إجابته عليها يعبر عن صلاحيته لجميع الأزمنة وأنه غير مرتبط بفترة زمنية محددة. قاضياً بذلك على التحجّر الفقهي الذي أنشأه التاريخ السلطاني.

٢٠٥

٢٠٦

الفصل السادس

النظام السياسي

نظرية الولاية في الفكر السياسي الاسلامي

إن الإنطلاقة الفعلية للفكر الإسلامي بـاعتباره الأرضية التـي تتفاعل حوله الرسـالـة ، يـبـتـدأ بالبناء المنهجي لآلـيـاتـه وذلـك بـتـحـديد الإطار الـمـرجـعـي الذي يمكن أن يعطي نـقـطة البدء ويحدد المفهوم الحقيقي لها

المؤلف

 

٢٠٧

٢٠٨

الفكر السياسي الاوروبي

لقد عاش الإنسان منذ وجوده على سطح الأرض إشكالية الصراع بين الأفراد خصوصاً خلال مرحلة غياب السلطة السياسية. فكان الهدف بالنسبة له هو الوصول إلى طريقة يستطيع من خلالها خلق نظام سياسي يمكن المجتمع البشري من الاستقرار. وفي ظل هذا عاش المجتمع الأوربي هذه الإشكالية وعاش في كل لحظة مرارة التحوّل من نظام كانت السلطة مطلقة إلى نظام برزت فيه الحريات وقد توالت على أوربا أنظمة سياسية متعددة ومتنوعة حيث ميّزت كل مرحلة طبيعة الثقافة السائدة والتي أثرت بخصوصيتها على النظام السياسي المقتبس ، إذ عرفت أوربا خلال المراحل السابقة أساليب متنوعة لممارسة السلطة والعلاقة بين الشعب والحاكم.

لقد كان نظام القانون الإلهي من أشهر الأنظمة السياسية التي ألقت بظلالها على أوربا ، وظلت مدة طويلة وهي متسلطة على الشعب الاوروبي حتى انطلقت الثورة الفرنسية ; والتي أثرت على كل أوربا ، وقد كانت مرتبطة بالأفكار التحررية والتي برزت مع فولتير وجان جاك روسو أو بدأت تتردد بين الأوساط السياسية آنذاك رداً على سيطرة الكنيسة.

٢٠٩

إن نظرية الحق الإلهي هي نظرية الحكم المطلق والمرتبط بالشرعية الدينية ، إذ التقت الكنيسة ممثلة في شخص الرهبان والنظام السياسي الحاكم الممثل في القياصرة والملوك ، وخلال تلك المرحلة عاشت أوربا أسوأ أيامها ، حيث كان الحاكم يعتبر الحاكم المطلق ، والنائب عن الله. وكانت الكنيسة تسانده. فكانت حرية التصرف المطلق للحاكم. واستدرج الشعب إلى استعباد غير معلن ، وكذلك ادخل في سذاجة تستخف بالعقول البشرية ، وقد كانت صكوك الغفران إحدى نماذج هذا الاستخفاف والاستهجان بالشعب ، فتوفرت بذلك للنظام الحاكم الشرعية الدينية والتي أصبغوه بها الرهبان باعتبار الحاكم هو خليفة الله في الأرض ، فتوفرت له بذلك السلطة المطلقة والاستعباد التام للشعب فأفرغ هذا الأخير من مضمون وجوده المتمثل في تحقيق المعنى الذاتي له. وانتفت الغاية من وجود نظام سياسي على هذا المثيل والذي اتحدت فيه القوة الدينية المتخلفة والممثلة بالرهبان والكنيسة ونظام الحكم القائم ، فقامت على أثر هذه الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها أوربا آنذاك حركات إصلاحية عرفت بحركة الإصلاح الديني وقد كان مارتن لوتر أحد متزعمي هذه الحركة الإصلاحية وبداية ظهور البذور الاولى للكنيسة البروتيستانتية. وبعدها تزايدت الثورات ضد الكنيسة ومفاهيمها فبعد مارتن لوتر. ظهر يوحنا كلفان والذي اعطى ظهور الكنيسة الكلفانية وبعدها الكنيسة الانجلكانية في بريطانيا.

إن هذه الثورات لم تقتصر فقط على جانب الإصلاح الديني بحيث

٢١٠

لم يكن وحده كافياً لأحداث ثورة سياسية في المنطقة بل برزت الحركات الإصلاحية الفكرية والتي أعطت الانبعاث لأوربا.

لقد أعطى ذلك الاستبداد المطلق للسلطة في غياب الممارسة الفعلية للشعب لتحديد مصيره وترك الصلاحيات بيد الكنيسة إلى ظهور نظرية العقد الاجتماعي ، وكان أول من طرح هذه النظرية هو هوبز.

ونظرية التعاقد في مضمونها هو الاتفاق بين كل مكونات المجتمع ، والتعاقد على المصير السياسي لهم في انتخاب الحاكم أي الوصول إلى سلطة سياسية تخرج المجتمع من حالات الفوضى التي يعيش فيها وكذلك من حالات الاستبداد السياسي المطلق.

إن هوبز يرى أن العقد الذي يتم بين أفراد الجماعة ، لا يدخل فيه الفرد الذي اختاروه رئيساً لهم ، ونصبوه ملكاً عليهم فالتعاقد تم بين جميع أفراد الجماعة باستثناء فرد واحد هو الرئيس الذي وقع عليه الاختيار. ويقول هوبز : أن الأفراد تنازلوا لرئيسهم عن كل حقوقهم ، فله أن يتصرف فيها بلا قيد او شرط ، ونظراً لأنه ليس طرفاً في العقد فسلطته مطلقة ولا يعتبر مسؤولا أمام الأفراد ، بل يجب أن تقابل تصرفاته بالخضوع والطاعة(1) .

إن الخلاصة العامة لفكر هويز هي الانصياع المطلق لفرد واحد الذي

__________________

1 ـ توفيق السيف ، ضد الاستبداد الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة ص 202 ، ط1 ، 1999 ، المركز الثقافي العربي.

٢١١

هو نتيجة التعاقد بين أفراد المجتمع وتسليم الرقاب وكل السلطات له ، والهدف منه هو الحفاظ على سلامة الناس عن طريق ضابط رادع.

وهوبز في الحقيقة لم يخرج أوربا من خلال نظريته من الاستبداد ـ باستثناء التعاقد الذي طرحه ـ ولكن ظلت السلطة مطلقة في يد شخص واحد مما يفتح ذلك باباً جديداً من الاستبداد الذي تغيب فيه سلطة الكنيسة إلى استبداد تظهر فيه سلطة الفرد.

إن هذا الطابع الاستبدادي لنظرية هوبز جعلها تكون محل نقد ، لأنه أخضع الرعايا إخضاعاً مطلقاً لإرادة الحاكم ، ولم يترك لهم أي حق تجاهه(1) . باستثناء التعاقد الذي تم التوافق عليه كحل أمثل لخروج المجتمع من دوامة الاستبداد الذي يعيش فيه.

وكان لجون لوك رأي آخر وهو إحداث سلطة مقيدة. فبعدما أعطى هوبز كل السلطات لشخص واحد من دون مراقبة الشعب له بحيث له حق التصرف ، جاء جان لوك ليجعل هذه السلطة عبارة عن وديعة في يد الحاكم سلمه إياه الشعب ، وله الحق في سحبها منه متى ما تعارضت مصالح الشعب مع مصالح الحاكم وتقوم نظرية لوك في العقد الاجتماعي ، على أن الأفراد لم يتنازلوا في هذا العقد عن جميع حقوقهم ، وإنما عن جزء منها وتمسكوا بالآخر. ويعتبر لوك الحاكم

__________________

1 ـ روبرت ماكيفر ، تكوين الدولة ، ترجمة حسن صعب ص 34 دار العلم للملايين ، بيروت 1966.

٢١٢

جزءاً من العقد ، فإذا أخل بشروطه جاز للأفراد فسخ العقد وعزل الحاكم وقد ارتكزت الثورة الأمريكية على نظرية لوك في العقد الاجتماعي(1) .

إذن تكون نظرية لوك التخفيف من تسلط الفرد لكن سمحت له بصلاحيات ناتجة عن تنازل المجتمع عن بعض حقوقه لصالح فرد معين. لكن ثورة العقد الاجتماعي وشهرته عرفت خصوصاً مع الفرنسي جان جاك روسو حتى ظن البعض أنه مبدع هذه الفكرة ، علماً أن صاحبها هو هوبز ، لكن الحرية المطلقة التي منحها روسو للأشخاص في مقابل الفرد الحاكم جعلت هذه النظرية منسوبة له كما أن كتابه العقد الاجتماعي أخذ شهرة عجيبة في المجال السياسي.

يرى روسو أنه لا يوجد مبرر لخضوع الكائن البشري لغيره ، كما أن التعاقد هو حركة إرادية حرة بين الأفراد ودون ضغط خارجي ، وأما السلطة الشرعية للمجتمع فتتحقق عن طريق اتفاق يقوم على التراضي المتبادل بين أفراد المجتمع ، وأن المجتمع بارتباطه بالعقد يمثل مصادر السلطة العليا وأن الفرد محكوم بالسلطة الجماعية وخاضع لمبدأ العقد المبرم الذي هو نتاج التفاعل الجماعي لانتاجه ، بحيث يصير هذا العقد ملزماً كل فرد بالتنازل عن حقوقه لصالح غيره(2) . لكن رغم هذه

__________________

1 ـ توفيق السيف : ضد الاستبداد الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة ص 203.

2 ـ انظر العقد الاجتماعي لجان جاك روسو ، ترجمة دوقان فرقوط.

٢١٣

المحاولة الجادة لإخراج المجتمع من فوضى سلطة الاستبداد فإن جان جاك روسو تنبه إلى أمر مهم هو حقيقة هذا التعاقد الجماعي الذي يضمن حقوق الكل ، إذ أن الأمر لا يعدوا أن يكون نوعاً من الاستبداد الجماعي او استبداد الأغلبية إذ لا يمكن أن يتحقق توافق جماعي مائة بالمائة. وبالتالي تصير حالة فئة معينة خاضعة لإرادة الآخرين. لكن السؤال الجوهري هل فعلا استطاع الفكر الحديث أن يجيب على إشكالية السلطة بحيث تتحقق العدالة المطلقة؟ وهل البشر قادر على الوصول إليها؟

قد يخيل للبعض أن الأنظمة الديمقراطية الحالية قد حلت هذا المشكل لكن في واقع الأمر ماهي إلاّ محاولات لتخفيف حدة الظلم السياسي السابق لكن نظام الدولة المقتبس نفسه لم يستجب لهذا المبتغى وقد كانت النظرية الماركسية أكبر صيحة في فشل نظام الدولة الحالية في تسيير أمور الشعب ومعبر أقوى عن استمرارية الظلم البشري. بحيث ترى أن الخلاص الكلي للفرد من التسلط ، هو انتفاء جهاز الدولة والعودة إلى المرحلة المشاعية مروراً بالمرحلة الإشتراكية التي يشارك فيها عموم الشعب في تسير دواليب الحكم.

إن هذه الاهتزازات الفكرية في الفكر السياسي الاوربي تعبر بشكل واضح عن قصور الفرد عن الاستيعاب الكلي لطبائع البشر وإذ أن إرادتهم تبقى في يد بشر من نفس الجنس له نفس الخصائص وهو محاط بالقصور في الفهم الكلي لطبائعهم واحتياجاتهم. وحتى لو أخذنا

٢١٤

الأنظمة السياسية الديمقراطية الحالية أترى هل حققت فعلا طلب الشعب؟

لنفترض انتخابات وقعت في بلد معين وفي هذا البلد ثلاث مرشحين على أقل تقدير. وغالباً ما تكون النتائج على النحو التالي : المرشح الأوّل 40% والمرشح الثاني 35% و المرشح الثالث 25% وبهذا يصير الحق لصالح 40% على حق 60% ، وبهذا تقع السلطة بيد الأقلية لا تحكم الأغلبية. إذن هل حققت الغاية من سيادة الرأي العام وحتى لو كان المرشح الأوّل 55% والثاني 45%(1) فتكون النتيجة اهمال 45% من أصوات الشعب باعتبارهم الخاسرين ، وبهذا يضيع حقهم او يجب عليهم التنازل عن حقهم وهذا من المستحيلات ، وقد حاول الفكر الغربي تجاوزها بإعطائها الشرعية الجماعية او ما اصطلحوا عليها بإرادة الجموع بصورة مجازية(2) ، لكن في حقيقة الأمر تعبر عن الضعف البشري في إيجاد الحل الأمثل لتسيير المجتمع البشري

__________________

1 ـ معلوم أنه في الدور الثاني للإنتخابات حيث يتبارى مرشحين فقط تتدخل المصالح السياسية والذاتية بين المرشحين كما تكون للتحالفات بين الأحزاب الدور الأساسي في تعيين الحاكم وتغيب إرادة الشعب ، مما يجعل النسبة التي أردجناها لها واقعية أي؟؟؟ المخالفة ونضيف إليها الممتنعين عن التصويت مما يفقد هذا النوع من التحاكم شعبيته وبالتالي تغيب الغاية الأصلية من وجوده وهو التعاقد المجتمعي.

2 ـ ثروت بدوي : النظم السياسي ص 31 دار النهضة العربية القاهرة 1972.

٢١٥

والاستجابة لمتطلبات كل الأفراد. ولا زالت أوربا تعيش هذه الاشكالية إلى يومنا هذا رغم ما وصلت إليه من حرية وديمقراطية.

إذن ماهو الحل الحقيقي الذي يمثل كل أفراد المجتمع؟ وهل استطاع الفكر الإسلامي الإجابة على هذا الإشكال؟

٢١٦

الفكر السياسي الإسلامي والآخر

إن استمرار أي نظام سياسي مرتبط بطبيعة الأرضية السياسية أو طبيعة الفكرة التي تعطي الديمومة والحركية له ، وقد تختلف مناهج بقاء الأنظمة وقيامها ووسائل استمرارها ، فبعد الإطلالة التي قمنا بها على المدارس السياسية في أوربا والتي توصلت في الأخير إلى وضع الأمر في يد أفراد المجتمع ، حيث يستطيعون عبر تعاقد جماعي من تحديد طبيعة النظام القائم ، نقوم بإطلالة على الوضع السياسي الإسلامي.

وأما على صعيد مدرسة الفقه السياسي الإسلامي ، فإن مسألة الدولة وتداول السلطة عرفت اختلافاً كبيراً وذلك ناتج عن اختلاف الفرق الإسلامية ووجهة نظرها لهذه المسألة السياسية الحساسة ، ولقد عبر الشهرستاني على كون الحكم في الإسلام من أكثر المسائل التي استلت فيها السيوف وأُريقت فيها الدماء ، والتاريخ الإسلامي خير معبر على ذاك التناحر الحاصل منذ ذلك الوقت ، فمنذ وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى يومنا هذا اختلفت المدارس الفكرية الكلامية حول نظام الحكم في الإسلام.

لكن رغم كثرة آراء الطوائف الكلامية في هذا المجال ، فإن الأمر انحصر في مدرستين ، وذلك بعد انقراض مدرسة الخوارج والتي

٢١٧

اتخذت من شعار الحاكمية لله أساساً لنظريتها ، وجعلت الخروج على الملك الجائر إحدى الطرق للوصول إلى هذا المطلب. لكن الشعار الذي رفعه الخوارج يبقى في مضمونه شعاراً فضفاضاً لا يحتوي على قاعدة أساسية واُصول تشريعية تضمن له الاستمرار. إذ يبقى السؤال الجوهري إذا كانت الحاكمية لله فبأي طريقة تتم هذه الحاكمية؟ إذ تغيب الآليات التي تجعل منه حقيقة واقعية. لأن الأرضية العملية مفقودة إذا لم نقل متعدمة لأنه لا بد من شخص قادر على أن يستوعب طبائع البشر وخصائصهم وحاجاتهم ومتطلباتهم حتى يتمكن من تحقيق هذه الحاكمية الإلهية المطلقة. فكان مآل مدرسة الخوارج كمدرسة سياسية : الانقراض باستثناء بعض البقع الصغيرة التي لا زالت في العالم وخصوصاً في سلطنة عمان والتي تحاول فكرياً أن تندمج مع العالم السني ، بتخليها عن مجموعة من المقومات الفكرية التي قام عليها الخوارج ، وخصوصاً فكرة الخروج على الإمام الجائر.

ويقول أبو الحسن الأشعري في هذا الباب : والأباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف ، لكنهم يرون ازالة ائمة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه بالسيف او بغيره(1) .

كان هذا هو الموقف الاول لكن التاريخ غيّر من موقفهم السياسي ، فأصبحوا وجهاً ثانياً للمدرسة السنية حيث يقول يحيى معمر : إن

__________________

1 ـ مقالة الإسلاميين ، الاشعري ص 189.

٢١٨

الإباضية يرون أنه لابد للأمة المسلمة من اقامة دولة ونصب حاكم يتولى تصريف شؤونها ، فإذا ابتليت الأمة بأن كان حاكمها ظالماً ، فإن الإباضية لا يرون وجوب الخروج عليه لا سيما إذا خيف أن يؤدي ذلك إلى فتنة وفساد(1) .

وقد علّق العلامة جعفر السبحاني عن هذا الرأي بقوله : وأظن أن ما كتبه يحيى معمر في هذا الكتاب وفي كتاب « الإباضية في موكب التاريخ هو دعايات وشعارات من أجل التقريب بين الإباضية وسائر الفرق ولا سيما أهل السنة(2) . هكذا أثر التاريخ على نظرية الخوارج التي كما قلنا سابقاً تفتقر إلى رؤية واضحة للإطار السياسي الذي تتحرك فيه ، مما جعلها سريعة الانحلال وبالتالي الاضمحلال.

لكن المدرستين واللتان بقيتا قائمتين إلى يومنا هذا هما مدرسة الخلفاء ، والتي تعتمد في بنائها النظري للنظام السياسي على مبدأ الشورى ومدرسة أهل البيت والتي جعلت من الإمامة هي القاعدة الأساسية للنظام السياسي لها.

الشورى الدلالة والحقيقة

تعتبر الشورى القاعدة الأساسية للنظام السياسي السني ، وهي المنهج المتبع في تحديد الحاكم إذ ترى المدرسة السنية أن الرسول بعد

__________________

1 ـ انظر : جعفر سبحاني : بحوث في الملل والنحل : 5 / 264.

2 ـ المصدر السابق ص 265.

٢١٩

وفاته ترك الأمر لصالح الشعب وله الحق في أن يختار حاكمه وقد استندوا في ذلك إلى مجموعة آيات رأوا أن فيها دلالة على مبدأ التشاور.

قوله تعالى :( فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [ آل عمران : 159 ].

وقوله تعالى :( فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراض مِنْهُما وَتَشاوُر فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) [ البقرة : 233 ].

وقوله تعالى :( وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) [ الشورى : 48 ].

ونقف أولا عند المعنى اللغوي لمصطلح التشاور : يقول الراغب : والتشاور والمشاورة والمشورة.

استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم ; شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه(1) .

إذن المسألة تدل على مفهوم مرتبط بعمل جماعي في التشاور حول أمر معين ، لكن السؤال الجوهري هل فيه دلالة كافية للتأصيل لفكرة تداول سلطة؟ إن النظر إلى الآيات الثلاث ، يجعلنا نخرج الآية الأولى من سياق التشاور المرتبط بالنظام السياسي لكون الآية واضحة المعنى

__________________

1 ـ السيد الطباطبائي ، تفسير الميزان : 18 / 63 ، 64.

٢٢٠