مقتل الحسين (عليه السلام) أو الحسين (عليه السلام) عبرة المؤمنين

مقتل الحسين (عليه السلام) أو الحسين (عليه السلام) عبرة المؤمنين33%

مقتل الحسين (عليه السلام) أو الحسين (عليه السلام) عبرة المؤمنين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 119

  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21981 / تحميل: 5125
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين (عليه السلام) أو الحسين (عليه السلام) عبرة المؤمنين

مقتل الحسين (عليه السلام) أو الحسين (عليه السلام) عبرة المؤمنين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مقتل الحسينعليه‌السلام

أو الحسينعليه‌السلام عبرة المؤمنين

العلّامة السيد جواد شبّر

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، وعلى أنبياء الله المرسلين.

وبعد، فهذا كتاب « مقتل الحسينعليه‌السلام »، أو « الحسينعليه‌السلام عبرةُ المؤمنين » للخطيب العلاّمة المجاهد السيّد جواد شُبّر (جزاه الله عن الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام خير الجزاء).

هذا الرجل الربّاني الذي مزج العلم بالحلم، وقرن القول بالعمل، فكان بحقّ مصداقاً لقوله تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) (١) .

إنّ هؤلاء الرجال، الكبار في أهدافهم ونفسيّاتهم، تبقى لهم مزايا وخصائص ليست لغيرهم؛ فهم تحمّلوا من العناء بحجم أهدافهم، وقد ابتلاهم خالقهم على قدر إيمانهم، وقدر حرصهم على الرسالة الإلهيّة، قال تعالى:( ... وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا ) (٢) ، ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (٣) . وعن الصادقعليه‌السلام : « إنّ أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل »(٤) .

لقد جسّد الخطيب المثالي السيّد جواد شبّر الأهداف الإسلاميّة العُليا بأوضح الصّور وأجلّ المعاني، وأعادَ إلى الأذهان نموذج الرجال الذين يحرصون على الأهداف الكبرى، ويعيشون لها لا عليها، وقد تبوّأ من أجل ذلك مكاناً عليّاً في القلوب والعقول(٥) .

إنّ مواكب البطولة على محراب الخطّ التوحيدي كانت ولا تزال قافلة عشق متواصلة الخُطى نحو الكمال المطلق، وهي حاشدة عبر امتدادات الأرض وأعماق الزمن، تعجّ بالمُضحّين ممّن اختصروا المسافات ليهنوا بجوار الله في رَوح وريحان وجنّة نعيم.

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٩.

(٢) سورة آل عمران / ١٤١.

(٣) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله / ٣١.

(٤) ميزان الحكمة ١ / ٤٨٢.

(٥) ومن أراد المصاديق على كلامنا فليسأل أهالي النجف الأشرف من رواد مجالسه العامرة، وكذلك أهالي الدجيل، والبصرة، وبعقوبة، وأهالي بغداد (الكرادة)، وكربلاء، والكوفة، وكذلك الأخيار في دولة الكويت وإيران وبيروت وغيرها.

٣

مميّزات شخصيّته

لقد امتازت شخصيّة العلاّمة الخطيب السيّد جواد شبّر بعدّة مميّزات، نذكر أبرزها:

١ - الخوف والخشية من الله: يقول تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١) ، فالعالِم الحق هو الذي يخشى الله تعالى ويخافه في كلّ حركاته وسكناته، وأمّا مَنْ يفتقد الخشية فهو ليس بعالِم حتّى لو امتلك بحاراً من العلوم المختلفة؛ لذا يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية الكريمة: (( يعني بالعلماء مَنْ صدّق فعلُه قولَه، ومَنْ لم يُصدّق فعلُه قولَه فليس بعالِم ))(٢) .

ويقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : (( أعظم الناس عِلماً أشدّهم خوفاً من الله ))(٣) ، وعنهعليه‌السلام : (( لا عِلْمَ كالخشية ))(٤) ، وعنهعليه‌السلام أيضاً: (( غاية العلم الخوف من الله سبحانه ))(٥) .

إنّ الخشية من الله كانت صفة ظاهرة على كلّ حركات سيّدنا المعظّم، وقد أزال هذا الخوف الحقيقي من الله كلّ خوف آخر من قلبه؛ فهو لم يَخَفْ طول حياته أحداً إلاّ الله سبحانه، ويشهد على ذلك جهاده أيّام المدّ الأحمر الذي غزا عراقنا الحبيب، فكان السيّد جواد شبّر من أوائل المتصدّين للشيوعيّة المقيتة، والمروّجين لفتوى الإمام الحكيمرضي‌الله‌عنه التأريخيّة(الشيوعيّة كفر وإلحاد) (٦) .

كما لا أنسى موقفه المُشرِّف من حادث اغتيال الحجّة السيّد مصطفى الخميني؛ فقد استدعاه الإمام الخميني العظيم للقراءة في مجالس الفاتحة التي أُقيمت على روحه الطاهرة في النجف الأشرف، وكأنّي بالسيّد الوالد وهو كالأسد الهصور يلقي من على منبر (مسجد الهندي) تلك الكلمات الحماسيّة المؤثرة في تلك الجموع الغفيرة من المُعزّين، ويشير إلى عظمة شخصيّة الإمام الخميني وقيادته الفذّة(٧) ، ويوم ذاك لم يكن اسم الإمام الخميني قد

____________________

(١) سورة فاطر / ٢٨.                                   (٢) الكافي ١ / ٣٦.

(٣) غرر الحكم.                                          (٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) لقد تعرّض السيّد جواد شبّر لعدّة محاولات لاغتياله وقتله بسبب مواقفه البطوليّة، وكان يحمل روحه على كفّه وهو غير مكترث بمؤامرات الجبناء.

(٧) كنت آنذاك في النجف الأشرف، وقد حضرت مجالس الفاتحة التي أُقيمت على روح السيّد مصطفى، وكنت أتشرّف بالجلوس تحت المنبر الحسيني، ولا زالت كلمات الوالد عالقة في ذهني وهو يشير إلى الإمام الخميني الذي كان جالساً عند الباب يستقبل المعزّين، ويقول: ستعلمون أنّ هذا الرجل العظيم ماذا سيفعل بالدنيا!

٤

اشتهر في إذاعات العالم كما حدث فيما بعد.

وقد حدّثني أحد تلاميذ الإمام الخميني الذي كان يقطن في المدرسة الشبّرية بأنّ الإمام قال لبعض مُقرّبيه: إنّ الخطيب الوحيد الذي يؤدّي الدور المطلوب في مجالس الفاتحة لمصطفى هو السيّد جواد شبّر. وهكذا يكون الخطيبُ الأكمل أخوف النّاس لله وأتقاهم؛ فيجعل الله له المنزلة العظيمة والكرامة المخصوصة، يقول تعالى:( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (١) .

٢ - يعمل بِعلمه ويفعل ما يقول: يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (( يا حملة القرآن، اعملوا به؛ فإنّ العالِم مَنْ علم ثمّ عمل بما علم، ووافق عملُه عِلمه ))(٢) .

إنّ السيّد شبّر كان عاملاً بعلمه، ولم يكن الكاتم للعلم أو الباخل به، بل كان مُعلّماً للخير، ومُربّياً للناس، وناشراً لعلوم محمّد وآل محمّد (صلوات الله عليهم)، ومصداقاً لـ «الأجود» الذي يشير إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه الشريف: (( ألا أخبركم عن الأجود الأجود؟ )).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (( الله الأجود الأجود، وأنا أجود ولد آدم. وأجودكم من بعدي رجل عَلِم علماً فنشر علمه، يُبعث يوم القيامة أُمّةً وحده، ورجلٌ جادَ بنفسه لله عزّ وجلّ حتّى يُقتل ))(٣) .

ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (( مَنْ نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من مُعلّم الناس ومؤدّبهم ))(٤) .

لقد عُرف عن هذا الخطيب الجليل بأنّه كان يأتمر بالمعروف قبل أن يأمر به، وينتهي عن المنكر قبل أن ينهى عنه غيره، وكان يتّعظ قبل أن يعظ غيره؛ لذلك كان كلامه مؤثّراً جدّاً في جمهوره الذي لمس فيه روح الإخلاص والصدق، والمحبّة والأُبوّة؛ لذلك كان إذا خطب اشرأبّتْ له الأعناق، وشخصت الأحداق، وانقطعتْ الأنفاس، وسكنتْ الأجراس... يسيطر على الألباب، ويهيمنُ على المشاعر، وينفذ إلى أعماق القلوب ببليغ منطقه، وعذوبة اُسلوبه، وقوّة شخصيّته، وسِحْر كلماته، وحماسة إلقائه، ولذيذ إنشاده وإنشائه(٥) .

____________________

(١) سورة النازعات / ٤٠ - ٤١.                                  (٢) نهج السعادة ٢ / ١٠٢.

(٣) الترغيب والترهيب ١ / ١١٩.                                   (٤) بحار الأنوار ٢ / ٥٦.

(٥) معجم الخطباء ١ / ٢٦٠ - ٢٦١.

٥

وكان السيّد الغيور يشدّ على اُولئك المدّعين للتدين وهم أبعد الناس عنه، مُردّداً مع جدّه علي بن أبي طالب: (( كفى بالمرء غوايةً أن يأمر الناس بما لا يأتمر به، وينهاهم عمّا لا ينتهي عنه ))(١) ، (( أظهر الناس نفاقاً مَنْ أمر بالطاعة ولم يعمل بها، ونهى عن المعصية ولم ينته عنها ))(٢) .

إنّ من أسباب مشاكلنا الكثيرة وتأخّر مجتمعنا هي تلك العلاقة المنافقة، حيث يشدّد الواعظون على غيرهم، ويخفّفون عن أنفسهم! الويل لكم يا علماء الشريعة! تحمّلون الناس أحمالاً باهظةً وأنتم لا تمسّوها بإحدى أصابعكم(٣) ؟! قال تعالى:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٤) ، وقال جلّ شأنه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (٥) .

٣ - الجهاد في سبيل الله: يقول تعالى:( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (٦) ، وقال سبحانه:( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (٧) .

ولما نهض سيّد الأحرار الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ضدّ الظالمين خطب قائلاً: (( أيّها النّاس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عبادِ الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقّاً على الله أن يُدخله مَدخله ))(٨) .

من هذا المنطلق كان يتحرّك الأستاذ السيّد جواد شبّر، يقارع الظلمة والطُغاة بلسانه الذي سخّره لخدمة دينه وعقيدته، وكان شعاره هذا البيت من الشعر الذي كتبه على غلاف كتابه

____________________

(١) مستدرك الوسائل ٢ / ٣٦٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) هذا القول للسيّد المسيحعليه‌السلام .

(٤) سورة البقرة / ٤٤.

(٥) سورة الصف / ٣ - ٤.

(٦) سورة النساء / ٩٤.

(٧) سورة المائدة / ٥٤.

(٨) حياة الإمام الحسين - للقرشي ٢ / ٢٧١.

٦

الخالد «أدب الطفّ»:

وما فاتني نصركم باللسان

إذا فـاتني نصرُكم باليدِ

وكأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنى أمثال هؤلاء بقوله: (( أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم والجهاد ))(١) .

فالسيّد جواد شبّر وقف مع العلماء الأعلام في تصدّيهم للظلم والانحراف؛ فكان اللسان الصادق، والمجاهد للمرجعيّة الرشيدة الواعية. ولا أنسى إشادته العلنيّة من فوق المنابر بشخصيّات علمائيّة تمثّل حجر العثرة أمام طموحات أنظمة الإجرام والخيانة...

ومن هؤلاء الأفذاذ المرجع السيّد محمّد باقر الصدرقدس‌سره الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالسيّد شبّر، فكان خطيبه في داره أثناء موسم شهادة باب الحوائج موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام ، كما إنّه كان يحثّ الشباب وبصورة علنيّة على الالتفاف حول الإمام الصدرقدس‌سره (٢) . ولا أنسى تلك اللحظات السعيدة التي كان السيّد الصدر يزورنا فيها إلى بيتنا ليقدّم الشكر للوالد على قراءته.

ونتيجة للمواقف الجريئة للسيّد شبّر فقد اعتقله النظام المتفرعن لعدّة مرّات، وأذاقه ويلات التعذيب، فكنتُ أنظر إلى آثار التعذيب على ظهره ورجليه ويديه. وكان آخر اعتقال له في الشهر السابع من عام ١٩٨٢ م، ولم يُعرف خبره لحدّ كتابة هذه الأسطر.

نسبه الشّريف

هو السيّد جواد ابن السيّد علي شبّر (١٣٠٤ - ١٣٩٣ هـ) ابن السيّد محمّد ابن السيّد علي ابن السيّد حسين ابن السيّد عبد الله شبّر (١١٨٨ - ١٢٤٢ هـ) ابن السيّد محمّد رضا شبّر (المتوفّى سنة ١٢٣٠ هـ - صاحب صلاة الاستسقاء) ابن السيّد محمّد ابن السيّد محسن ابن السيّد أحمد ابن السيّد علي ابن السيّد أحمد ابن السيّد محمّد ابن السيّد ناصر الدين ابن السيّد شمس الدين محمّد ابن السيّد محمّد ابن السيّد نعيم الدين ابن السيّد رجب ابن السيّد حسن «الملقّب شبّر» ابن الشريف محمّد بن أبي حمزة «الملقّب بُرْطلَّه» ابن العباس بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن الحسن الأفطس بن علي الأصغر ابن الإمام علي بن الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

____________________

(١) المحجّة البيضاء ١ / ١٤ (أخرجه أبو نعيم في فضل العالم).

(٢) احتفظ بكاسيت مسجّل بصوت الوالد، وبحضور السيّد الصدر في أحد المجالس الجماهيريّة في النجف الأشرف.

٧

أُسرته

آل شبّر من بيوت العلم والصلاح والشرف، عُرفت منذ قرون عديدة بالسيادة والفضل، وتميّزت بعدد كبير من رجالها الذين نبغوا في مختلف العلوم، كما إنّها تنحدرُ بنسبها إلى البيت العلوي الشريف، وتَصلُ سلسلة نسب أجدادها الأبرار بالإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

يقول البحّاثة جعفر آل محبوبة: آل شبّر أُسرة عراقية قديمة، وهي من أقدم الطوائف العلويّة القديمة في العراق، وأعرقها في العروبة، وأقدمها في الهجرة. كان مقرّها الأصلي في الحلّة الفيحاء، ولم تزل بقيّتهم بها حتّى اليوم، وبها عُرفتْ ومنها تفرّعتْ(١) . وذكرها النسّابة الشهير الداوودي في كتابه (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، كما جاء ذكرها في (بحر الأنساب)، و(وشي النجف) وغيرها. أصل الأُسرة من مدينة الحلّة في العراق، وقد كانت لهم مكانة كبيرة ومرموقة في قلوب أبناء هذه المدينة. انتقل بعض أبناء الأُسرة إلى الكاظمية قرب بغداد، ونزح البعض إلى مدينة النجف الأشرف في حين آثر البعضُ البقاء في موطنهم الأصلي. أمّا سبب التسمية بـ «شبّر»(٢) فهو لقب لجدّها الكبير السيّد الحسن ابن الشريف محمّد بن أبي حمزة المُلقّب بُرْطُلَّة.

وتفرّع من هذه الشجرة المباركة صفوة من العلماء والأُدباء، وأهل التقوى والصلاح، حيث امتلأتْ الكتب والموسوعات بذكرهم. ومن هؤلاء الأفذاذ العلاّمة الكبير السيّد محمّد رضا شبّر؛ فقد كان من علماء عصره الأعلام وفقهائه المشاهير، ومن أهل النسك والصلاح والتقوى وسلامة الباطن، وتُروى له بعض الكرامات الباهرة. ذكره الشيخ عبد النبي الكاظمي في تكملة نقد الرجال، فقال واصفاً له ولولده العلاّمة السيّد عبد الله شبّر بقوله: ثقتان، عينان، مجتهدان، فقيهان، فاضلان، ورعان، حازا الخصال الحميدة. ثمّ صرّح بأنّه تلميذهما، وأنّه قرأ عليهما واستفاد منهما(٣) . وذكره السيّد محمّد بن مال الله بن محمّد معصوم القطيفي النجفي في

____________________

(١) الأُسر العلويّة - للبحّاثة جعفر آل محبوبة.

(٢) لمّا وُلد الحسن بن علي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام : (( ما سمّيتَه؟ )). قال: (( يا رسول الله، لم أكنْ لأسبقك باسمه )). فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( وأنا لم أكن لأسبق ربّي بذلك )). فنزل جبرئيلُ وقال: يا رسول الله، إنّ الله يُقرئك السّلام، ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويقول لك: (( إنّ عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون )). قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( وما اسمُ ابن هارون؟ )). قال: شبّر. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( هذا لسان عِبْري، وأنا لساني عربي، فما معناه؟ )). قال: الحسن. فسمّاه الحسن. (كتاب المناقب لابن شهر آشوب). ومن معاني شُبّر: الخير والعطاء والجود. شُبّر (لغةً): العظيم، يُقال شَبَّر فلاناً تشبيراً فتشبّر، أي عظّمه فتعظّم. (تاج العروس / ١٢٧)

(٣) عن كتاب طبقات أعلام الشيعة - الكرام البررة - في القرن الثالث بعد العشرة - لشيخ الباحثين آقا بزرگ الطهراني - القسم ٢ من الجزء ٢، الناشر: دار المرتضى - مشهد - مطبعة سعيد - الطبعة الثانية / ١٤٠٤.

٨

رسالته التي ألّفها في أحوال أُستاذه السيّد عبد الله ابن السيد محمد رضا شُبَّر، ووصفه بقوله: سلالة العالم المحقّق، والماهر المُدقّق، مُستنبط الفروع من الأصول، ومرجع الدليل إلى المدلول، علاّمة الزمن، وحجّة الإسلام، مُحيي الليل بالعبادة.

ثمّ أضاف قائلاً:... قد شاهدتُ له فضيلة تفوق الفضائل: في سَنَة مُجدبة من السنين أمر الوالي سعيد باشا جميع أهل بغداد أن يصوموا ثلاثة أيام ويخرجوا للاستسقاء وطلب المطر، ففعلوا ذلك وخرجوا، وكان بعضُ السحاب في الجو، فلمّا دعوا انجلى السحاب وأشمست، وحُجبوا ورجعوا في خيبة وخجل.

وأمر السيّد محمّد رضا شبّرقدس‌سره أهل بلد الكاظمين بالصيام ثلاثة أيام فصاموا، وخرج مع جميع أهل البلد إلى مسجد (براثا) حافي الأقدام، مُبتهلاً إلى الله تعالى، ولم يركب دابّة مع أنّه عاجز عن المسير؛ حيث إنّه كان بديناً جسيماً حتّى دخل المسجد المذكور، وصلّى ودعا وبكى، فما أتمّ دعاءه حتّى انسدّ الفضاء بالسحاب، وأرعدت وأبرقت وصبّتْ مطراً سقتْ جميع أراضي العراق من نواحي بغداد وغيرها(١) .

هاجررحمه‌الله من النجف إلى الكاظميّة، فكان عَلَماً يُشار إليه في كلّ فضيلة، ورأس فيها، واشتغل بالتدريس والإفادة، وتخرّج عليه جماعةٌ منهم ولده الجليل السيّد عبد الله، وتوفي في حدود سنة ١٢٣٠ هـ، فدُفن في رواق الكاظمينعليهما‌السلام في الحجرة المشهورة بالخزانة الواقعة على يمين الداخل للرواق من جهة القبلة، ودُفن معه من بعده ولده السيّد عبد الله المتوفّى سنة ١٢٤٢ هـ.

أمّا السيّد عبد الله شبّر فقد استحوذ ذِكْرُه على بقيّة أعلام الأُسرة ورجالاتها، ولمع نَجْمُهُ واشتهر أمره، وبلغ صيته الآفاق الواسعة، ورزقه الله من العلم والمعرفة الشيء الكثير، وما تزال الأجيال ترفد منه وتنتهل من معينه الثّر رغْم مضي ما يزيد على قرنين من الزّمان على وفاته(٢) .

ولدرحمه‌الله عام ١١٨٨ هـ في النجف الأشرف، وهو من أعاظم علماء عصره، وأحد علماء الشيعة الأكابر، وفقهاء الطائفة الأعلام، وحجج العلم وأساطين الشريعة الأجلاّء، ومن المؤلّفين المكثرين؛ ولكثرة ما صنّف وألّف فقد اشتهر بـ «المجلسي الثاني».

هاجر بصحبة والده إلى الكاظميّة، فتربّى على يديه وتلقّى العلم عنه، وعن المقدّس الكاظمي السيّد محسن الأعرجي صاحب (المحصول)، وغيره من شيوخ العلم وأساطين الدين، واُجيز من الشيخ الأكبر الشيخ

____________________

(١) هذه الكرامة نقلتها عن مقدّمة كتاب الأخلاق - للسيّد عبد الله شبّر.

(٢) مجلّة الموسم العدد (١) - السنة١ / ١٩٨٩.

٩

جعفر كاشف الغطاء وغيره.

وقد برع العلاّمة شبّر في أكثر العلوم من الفقه والأصول، والحديث والتفسير، والفلسفة والكلام، واللغة والأدب والتاريخ وغيرها، وكان مرجعاً كبيراً في التدريس والفُتيا والقضاء، ونشر الأحكام وهداية الأنام.

وقد حظيقدس‌سره بعناية إلهيّة خاصة، وتوفيق عظيم من ناحية التأليف؛ فقد طرح الله البركة في وقته وعمله، فتمكّن من تأليف عشرات الكتب العلميّة الرّصينة القيّمة مع مشاغل زعامته ومرجعيّته. وقد سمعت من الوالد السيّد جواد شبّر بأنّ السيّد عبد الله ألّف خمسمئة كتاب ورسالة وبحث. توفّيرحمه‌الله بعد مضي ست ساعات مِن ليلة الخميس في شهر رجب سنة ١٢٤٢ هـ عن أربع وخمسين سنة، ولمّا أصبح الصباح ماجت بلدة الكاظمين بأسرها، ووافى أهل بغداد من الجانبين، وكثر الصراخ والبكاء والضَجيج، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وحُمِلَ على الأعناق، وقد أرّخ الخطيبُ الشهير الشيخ كاظم آل نوح وفاةَ السيّد بقوله:

خَطْبٌ دهى فَراحَ عنّا راحِلا

اِبـنُ النبيّ الطاهر المُطهّرِ

وقد بكاهُ الدّين حُزناً أرّخوا

(قـد ماتَ عبدُ اللهِ اِبنُ شُبَّرِ)

١٢٤٢

ومن أعلام الأُسرة الشبّرية العلاّمة الفقيه آية الله السيّد علي شبّر (والد المؤلّف)، هو ابن السيّد محمّد ابن السيّد علي ابن السيّد حسين ابن السيّد عبد الله شبّر.

والسيّد علي هو الأخ الأكبر للشهيد السيّد قاسم شبّر. ولد في النجف سنة ١٣٠٤ هـ، وفيها تربّى ونشأ ودرس على أعلامِ عَصْرِه؛ فتتلمذ في الحكمة والكلام على الشيخ مرتضى الطالقاني، ودرس الفقه والأصول على الشيخ باقر الجواهري، وأتمّ دراسته العالية على المرجعين الكبيرين الشيخ محمّد حسين النائيني، والسيّد أبي الحسن الأصفهاني، وحاز منهم على شهادة الاجتهاد العالية وهو بعد في نضارة عمره. ثمّ تفرّغ للتدريس، فتسابق المُحصّلون والفضلاء للانتهال من علمه الجَمّ، واستمرّ بالتدريس عدّة سنوات حتّى سنة ١٣٧٥ هـ حيث انتدبه مرجع عصره السيّد حسين البروجردي ممثّلاً دينيّاً للكويت، فسافر إليها يوم ٢٣ ربيع الثاني سنة ١٣٧٥ هـ، واستُقبل هناك استقبالاً كبيراً لدى شعب الكويت بالمحبّة والاعتزاز.

وفي عام ١٣٨٤ هـ قامرحمه‌الله بإنشاء المدرسة الشبّريّة في النجف، وكان افتتاحها في ليلة ١٥ شعبان ١٣٨٧ هـ باحتفال مهيب من أروع الاحتفالات التي شهدتها النجف، وشارك فيها مجموعة من العلماء والأُدباء، وقد خرّجتْ المدرسة هذه العشرات من العلماء والفقهاء،

١٠

وتولّى إدارة المدرسة والقيام بشؤونها الخطيب الكبير السيّد جواد شبّر نجل المؤسّس، فاهتمّ بإنشاء مكتبة فيها تحوي على أشهر الكتب وأندرها، وخصوصاً مخطوطات الأجداد والعلماء الماضين....

أمّا أبرز آثار السيّد علي شبّر فهي موسوعته الفقهيّة «العمل الأبقى في شرح العروة الوثقى»، وقد طُبعت بأربعة مجلّدات بين سَنَتي (١٣٨٣ - ١٣٩٣ هـ) وتقع في ألفي صفحة. انتقل إلى رحمة الله عصر الخميس في آخر يوم من شهر رجب سنة ١٣٩٣ في الكويت، وشُيّع تشييعاً مهيباً قلّ نظيره، ونُقل إلى النجف الأشرف حيث دُفن عند جدّه عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ومن رجال الأُسرة الأفذاذ العالم المحقّق، والقاضي الفاضل، والشاعر الأديب السيّد عبّاس شبّر. ولد في مدينة البصرة سنة ١٣٢٢ هـ، نبغ في كثير من العلوم وهو فتى يافع، وكتب بعض البحوث، وبرز في الوسط الأدبي كشاعر موهوب يأتي بالأفكار المبتكرة، ونشرت له أُمّهات الصحف والمجلاّت.

تولّى منصب القضاء الشرعي في العمارة ثمّ في البصرة فبغداد فكان المثال الرائع للنزاهة(١) . له ديوان «جواهر وصور»، وديوان «الموشور». توفي ليلة الجمعة ٨ شوال ١٣٩١ هـ، وقد شيّع في كلّ من البصرة والعمارة، والكاظميّة وكربلاء والنجف حيث مثواه الأخير.

ومِن علماء الأُسرة وشهدائها الأبرار آية الله المجاهد السيّد قاسم شبّر المولود عام ١٣٠٨ هـ في مدينة النجف الأشرف، وكان وكيلاً في مدينة النعمانية من قِبل السيّد الأصفهانيرحمه‌الله ، ثمّ من قِبل السيّد الحكيمرحمه‌الله ؛ حيث جسّد بسلوكه المهذّب وخُلُقه العالي وجهاده الخلق الإسلامي وسيرة أجداده الطاهرين محمّد وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ممّا جعله مَهوىً لأفئدة الناس فأحبّوه حُبّاً جَمّاً، واتّخذوه قائداً وأباً عطوفاً.

وقد وقف السيّد قاسم موقفاً مناهضاً من المدّ الشيوعي الأحمر، ثمّ مِن النظام المتفرعن؛ ممّا أدّى بالأخير إلى اعتقاله، ثمّ إعدامه في ليلة الخامس من شعبان من عام ١٣٩٩ هـ والمصادف سنة ١٩٧٩ م رمياً بالرصاص، ولم يُسلّموا جُثته لِذَويه، بل اكتفوا بمنحهم شهادة الوفاة... ولم يُعلم في أيّ مكان دُفِن.

ولادته ونشأته

ولد السيّد جواد في ١٣ جمادي الآخرة ١٣٣٢ هـ في النجف الأشرف، وبها تَربّى ونشأ

____________________

(١) كتاب أدب الطفّ أو شعراء الحسين - للسيّد جواد شبّر ١٠ / ٢٦٢.

١١

ودرس واعتُقِل..

يقول صاحب مُعجم الخطباء(١) : وُلد خطيبنا المترجم في أحضان أسرة علمية ليكون خطيبها المفوّه، ولسانها المُعبّر؛ إذْ ليس في الأُسرة خطيب سواه، فهو الدرّة اليتيمة، والمفخرة العظيمة حتّى اختطّ ولده الأمين نهجه، وسلك طريقته في خدمة سيّد الشهداءعليه‌السلام .

نشأ وترعرع السيّد في أُسرة علميّة عريقة، فنهل مِن أبيه الذي نشأ وتربّى تحت رعايته، كما أخذ العلوم والمعرفة مِن علماء النجف الأشرف آنذاك. وإلى جانب دراسته التقليدية انتسب لمدارس منتدى النشر الحديثة، واجتازها بتفوّق حتّى أصبح من مدرّسيها الأماثل وأساتذتها الأفاضل، ثمّ شغل سكرتارية المجمع الثقافي للمنتدى المذكور. وبعد أن جمع بين الثقافتين التقليدية والعصرية اتّجه بكلّ طاقاته الخلاّقة وقدراته المتفوّقة إلى خدمة المنبر الحسيني الشريف، وكانت تراوده هذه الرغبة الملحّة منذ سنّه المبكّر حتّى حقق طموحه، ونبغ في تخصّصه، واحتلّ موقع الصدارة في الطراز المتميّز من خطباء المنبر الحسيني(٢) .

خطابته

تعتمد شخصيّة الخطيب الحسيني المتفوّقة ثلاثة مصادر أساسيّة في بلورة الملكة الخطابيّة، ومقوّمات نجاحها، وعناصر تأثيرها في الجماهير:

١ - الموهبة والاستعداد الفطري: ويعتبر هذا المصدر القاعدة الصلبة لانطلاقة الخطيب وممارسة فنّ الخطابة.

٢ - الكفاءة العلميّة والثقافيّة: حيث إنّ الموهبة الفطريّة مثلها كمثل الأرض الخصبة التي تحتاج إلى رعاية واهتمام لتعطي الناتج الجيد، وكذلك المواهب الإنسانيّة تحتاج إلى صقل وتنمية وتهذيب لتنمو وتنطلق وتبدع، وذلك باعتماد المنطق العلمي والثقافي أساساً متيناً وتوأماً شقيقاً للاستعداد الفطري.

٣ - التزوّد برصيد كبير من الشعر والأدب العربي عموماً على أن يكون لأدب الطفّ حصة الأسد في ذلك الرصيد؛ حيث إنّ الشعر والأدب الحسيني يمثّل المادّة الخام والثروة الأدبيّة الكبرى التي يتحقّق معها تكامل الخطيب.

وتظافرت هذه الروافد والقنوات الثلاثة فشكّلت شخصية اُستاذنا الجواد الخطابية، فهو

____________________

(١) معجم الخطباء ١ / ٢٨٤.

(٢) معجم الخطباء ١ / ٢٨٦.

١٢

الخطيب الموهوب، والعالم المثقف، والشاعر الأديب، جمع بين الشعر والخطابة، والتأليف والكتابة إلاّ أنّ سمته المميزة أنّه خطيب بالفطرة، وكأنّما يد المقادير صهرته في بوتقة، وسكبته في قالب أُعدّ خصيصاً لخطابة المنبر الحسيني؛ فهو ببزّته وقيافته، وهيئته وملامح شخصيّته لا بدّ أن يكون ركناً هامّاً في تاريخ المنبر الحسيني الشريف. أمّا اُستاذه الأوّل في هذا الفنّ المقدّس فهو الخطيب المغفور له الشيخ محمّد حسين الفيخراني، وأصبح مفخرة الأعواد التي إذا اعتلاها أدهش حتّى أساطين الفنّ وجهابذة الخطباء، واشتهر بأنّه خطيب المناسبات. وطالما سمعته يحثّ تلامذته بإصرار وتأكيد على وجوب تنوّع معارف الخطيب الحسيني واستعداده الكامل لتوقّع المناسبات المفاجئة، بأن يكون جاهزاً للحديث في مواجهة أيّ ظرف طارئ يقتضي الارتجال والتحدّث؛ فقد كان يركز هذه الفكرة، ويؤكّد علينا هذا الطرح، وخصوصاً في المدرسة الشبّريّة عندما يُقام احتفال لأحد طلاّبها عند تتويجه بزي أهل العلم، واعتماره العمّة الروحانية. وكأنّي أراه الآن وهو يخاطب الطلبة الحضور بلهجته المعهودة في إحدى تلكم الحفلات وهو يردّد أبيات الشبيبي:

آراؤكم لا السيوف البيض قام بها

لـله فـي الأرض تكبيرٌ وتهليلُ

أرست مَنار الهدى في كلِّ مملكة

هـذي الـعمائمُ لا تـلك الأكاليلُ

وطالما كان يردّد: العمامةُ تيجان العرب، والعمّة لباس الأئمّة، ويدعو إلى صيانتها واحترامها والالتزام بمقتضى حرمتها وقدسيّتها. ومن خصائص الاُستاذ الجواد كثرة استظهاره للشواهد الشعريّة، فلا تكاد تمرّ مناسبة أو تُحدّثه بحديث أو حكاية إلاّ واستشهد لك بروائع الأشعار وغرر المقاطع. ولعمري فإنّ من أمتع اللحظات وأسعدها تلك التي نجلس فيها إليه ونستمع حديثه الشيّق، وهو ينتقل بنا من بستان وارف إلى حديقة غنّاء من مُلحه وأدبه ونثره. وما يعلق ببالي الآن من تلك الجلسات قوله في عبد السّلام عارف عندما احترقت طائرته في الجو بمَنْ فيها، قال:

رأيتَ كيفَ اصطرعا

عـبد السّلام والـقدَرْ

هـبّتْ بـه عـاصفةٌ

مـنقدحٌ مـنها الشررْ

وكــوّرتْ طـائرة

كـما تـكوّرُ الأُكـرْ

ومـذْ قضى أرّختهُ

لقد مضى إلى سقرْ(١)

ومرّةً سألته: أبتاه، مُنذ كم وأنتم تقرؤون على الحسينعليه‌السلام ؟ فقال: أوّل مَرّة قرأتُ كان عمري تسع سنين فقط.

____________________

(١) معجم الخطباء ١ / ٢٨٦.

١٣

وحدّثني (فرّج الله عنه) عن بعض مواقفه الخطابيّة الرائعة في بيروت عند عودته من إحدى سفراته التبليغيّة في موسم شهر رمضان المبارك، قائلاً: في كلّ عام وبمناسبة شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام يُقام احتفال جماهيري غفير في بيروت، تشارك فيه شخصيّات إسلاميّة ومسيحيّة، وتُنشَدُ القصائد والكلمات الأدبيّة بحضور رجال الفكر والأدب والسياسة، بالإضافة إلى حضور بعض الوزراء وأعضاء مجلس النوّاب، وتُخصّص الحكومة اللبنانيّة ساعتين لبث وقائع الحفل عبر الإذاعة.

يقول السيّد الوالد: فدُعيتُ إلى ذلك المهرجان الجماهيري الغفير... وبدأتْ فقراتُ الحفل الثرية بالأدب والثقافة والمُتعة... ومن تلك القصائد كانت رائعة الشاعر اللبناني الشهير رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي). يقول السيّد: وكانت آخر فقرة - قبل كلمتي - كلمة الإمام السيّد موسى الصدر، حيث أذهل الجمهور بكلماته الرائعة، ووصفه لعظمة أمير المؤمنينعليه‌السلام وصفاته الملكوتيّة، حيث انفجر الجمهور بالتصفيق والتشجيع والإعجاب. بعد ذلك تقدّم عريف الحفل الذي كان خطيباً مفوّهاً ولبقاً، وله قابليّة عجيبة في شدّ الجمهور، فأعلن بصوته قائلاً: أمّا الآن فتستمعون إلى كلمة خطيب العراق جواد شبّر....

يقول السيّد: فقمتُ إلى المنصّة، ولكن ماذا سأقول، وكيف أتحدّث بعد ما طال المقام بالجمهور، وبعد هذه الكلمات والقصائد الرائعة، وخصوصاً بعد كلمة الإمام الصدر؟! وقفت على منصّة الخطابة وقلتُ: أيّها الحفل الكريم... ما عساني أن أقول أو أتحدّث بعد ما أغنانا الإمام الصدر بكلماته العذبة... ما عساني إلاّ أن أتمثّل بقول الشاعر:

إذا جاء موسى وألقى العصا

فـقد بطل السحرُ والساحرُ

ما إن قرأتُ هذا البيت الشعري إلاّ وشعرتُ بالجمهور قد انفجر بالتصفيق الحاد... فقد أعاد هذا (الاُسلوب) الحيويّة والنشاط في الجمهور، وكأنّ الحفل قد بدأ لتوّهِ بمادّته الأُولى... ثمّ شرعتُ بالتعليق على كلمات السيّد الصدر في حقّ الإمام عليعليه‌السلام . وهنالك مجالس تأريخيّة للسيّد جواد شبّر كنتُ قد واكبتها معه ولا أنساها مطلقاً؛ منها المجلس السنوي الضخم الذي كان يُقيمه آية الله المرحوم السيّد نصر الله المستنبط بمناسبة شهادة الصدّيقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في وقت الضحى، حيث يكتظّ بالفضلاء وطلبة الحوزة، والعلماء الأعلام والمراجع العِظام؛ كالسيّد الخوئي، والسيّد الصدر، والسيّد الشاهرودي، والسيّد السبزواري، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد عبد الله الشيرازي وغيرهم... وكأنّي أنظر إلى هؤلاء مع الجمهور الغفير وكلّهم آذان صاغية لما يقوله السيّد جواد شبّر، ثمّ ينفجرون بالبكاء لمصائب الصدّيقة الشهيدة المظلومة.

ومن تلك المجالس التأريخيّة المجلس السنوي الذي يقيمه المرحوم الحاج صالح

١٤

الجوهرچي في مسجده في شارع المدينة صباح يوم شهادة زين العابدينعليه‌السلام ، حيث يكتظّ الجمهور النجفي للاستماع إلى حديث خطيبهم الشهير، ثمّ النظر إلى صورة رأس الحسينعليه‌السلام بالبكاء والنحيب. إلى غير ذلك من المجالس التأريخيّة في منزل الشيخ محمّد علي (أبو الزوالي)، ومنزل السيّد (فاضل زوين)، ومنزل السيّد (حسن الخرسان)، نسأل الله تعالى أن يعيد تلك الأيّام الخالدة.

تكريم السيّد للعلماء

علاقة السيّد جواد شبّر بالعلماء والمراجع علاقة إخلاص وحُبّ وإيمان؛ فقد كان اللسان الصادق للمراجع العظام الذين أحبوه ووثقوا به، وحثّوا الناس على الاستماع إلى مجالسه؛ فعلاقته الوطيدة معروفة لدى الجميع، خصوصاً بالمراجع الذين أتذكّر بأنّه كان يصطحبني معه في زيارتهم والجلوس معهم طويلاً، وهم: السيّد محسن الحكيم، والسيّد الخوئي، والسيّد الخميني، والسيّد الشاهرودي، والسيّد عبد الأعلى السبزواري، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد عبد الله الشيرازي، والشهيد الصدر، والسيّد عبد الكريم الكشميري، والسيّد السيستاني. ولا أنسى زيارته لشيخ الباحثين آقا بزرگ الطهراني صاحب كتاب الذريعة، حيث دخلتُ معه لزيارته قبل وفاته لليلتين، ولمّا ماترحمه‌الله قام السيّد الوالد يحثّ الناس على الاشتراك في تشييعه التشييع المهيب. وكنتُ أسير خلفه وهو يتجوّل على أصحاب المحلاّت في السوق الرئيس في النجف (سوق الكبير) فيقول لهم واحداً واحداً: اغلِق محلك وتعال لتشييع الذي خدم التشيّع ببحوثه. حتّى صار له موكباً مهيباً وتشييعاً عظيماً حتّى الحرم الحيدري المقدّس، فاعتلى السيّد المنبر وألقى تلك الكلمة الارتجاليّة العظيمة مُشيداً بالشيخ آقا بزرك الطهراني وبالعلم والعلماء.

وأتذكّر الأبيات الشعريّة التي ألقاها، وهي:

آراؤكم لا السيوفُ البيض قام بها

لـله فـي الأرض تكبيرٌ وتهليلُ

أرست مَنار الهدى في كلِّ مملكة

هـذي الـعمائمُ لا تـلك الأكاليلُ

حدّثني الوالد بعد مرور سنوات على هذا التشييع المهيب، وبعد اعتقاله الأوّل، قال: في سجن الأمن العامة ببغداد قال لي الجلاّد:... أتذْكُرْ كيف تشمّر بيديك وتصيح: هذي العمائم...، ثمّ تشير على غرفة (الكليدار) - وكان فيها المجرم عبد الحسين الرفيعي(١) - وتقول: لا تلك الأكاليل؟! ثمّ أخذوا بتعذيبي بالسياط على كتفيّ وظهري.

____________________

(١) مسؤول فرقة حزب البعث في النجف، وكان حاقداً على العلماء والمؤمنين، وعميلاً متملّقاً للنظام المتفرعن.

١٥

أمّا موقفه الشهم والنبيل عند وفاة العلاّمة الشيخ عبد الحسين الأميني فقد حثّ الناس وأهل الأسواق، وبذل الجهود الحثيثة من أجل تشييع مهيب ولائق لصاحب موسوعة (الغدير).

وفعلاً قاد (فرّج الله عنه) الناس والجماهير بما فيهم طلبة العلوم الدينيّة من جامعة النجف الدينيّة في (حيّ السعد) إلى الحرم الحيدري الشريف، حيث ألقى بالمشيّعين تلك الكلمة الرائعة مُشيداً بجهود العلاّمة الأميني في بيان حقّ أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخلافة، وبيان عظمته ورفع ظلامته.

أمّا موقف السيّد شبّر وجرأته في تأبين الإمام الحكيمرضي‌الله‌عنه (١) فلا يُنسى قط، ولا يُمحى من ذاكرة الزمن النجفي، يقول السيّد حسن الكشميري - أحد تلاميذه -: عندما توفي المرجع الكبير السيّد البروجرديقدس‌سره اعتلى الخطيب السيّد جواد شبّر المنبر في تلك الجموع الغفيرة من الجماهير التي خرجت بمسيرات ضخمة ومواكب حداد، فألقى في الجماهير خطاباً عظيماً، أشاد بالمرحوم المرجع البروجردي، ثمّ بيّن عظمة الإمام الحكيم مُشيداً بدور مرجعيّته وجهاده، ومواجهته لحركاتِ الإلحاد والانحراف؛ ممّا أدّى بالكثيرين إلى الرجوع إلى قيادة السيّد الحكيم المرجعيّة.

ويقول السيّد الكشميري: تعرّض السيّد جواد إلى محاولتين للاغتيال مِن قبل الشيوعيّة، وكنتُ معه فيها:

الاُولى: بين الشامية وأبي صخير.

الثانية: بين الكفل والنجف.

____________________

(١) كانت وفاة الشيخ الأميني قبل مرور أربعين يوماً على وفاة المرجع السيّد الحكيم سنة ١٩٧٠ م؛ لذلك كان المشيّعون يردّدون:

فَـجَعَتْنا نُوَبُ الدّهـ

ـر فسالتْ كـلّ عَينْ

أعلى المحسن نبكي

أم عـلى عبد الحسينْ

يا مصاباً طبّق الكو

نَ وأشـجى الـخافقينْ

١٦

حيث تعرّضَتْ سيّارته إلى هجوم شرس نجا منه بأُعجوبة(١) .

تواضعه

التواضع خُلُقٌ كريم، وخلّة جذّابة تستهوي القلوب، وتستثير الإعجاب والتقدير، قال تعالى مخاطباً نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

وقد أشاد أهل بيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بشرف هذا الخلق، وشوّقوا إليه بأقوالهم الحكيمة وسيرتهم المثاليّة. يقول الصادقعليه‌السلام : (( إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمَنْ تواضع لله رفعاه، ومَنْ تكبّر وضعاه ))(٣) .

إذا عَظُمَ الإنسانُ زاد تواضعاً

وإنْ لَـؤُمَ الإنسانُ زاد تَرفّعا

إنّ كلّ مَنْ عرف السيّد جواد شبّر يلحظ بوضوح صفة التواضع لله وللأئمّة والعلماء والناس؛ وذلك بالاستجابة للخدمة الحسينيّة أينما كانت. وقد ذكرتُ صوراً من ذلك للأخ السيّد داخل - أحد تلاميذ الوالد - فدوّنها في كتابه (معجم الخطباء)(٤) قائلاً: ومن خصاله وميزاته أنّه كان بغاية التواضع في الخدمة الحسينيّة، فهو لا يردّ أحداً يدعوه ولو كان متواضعاً في حاله ومحلّه، فقد يُدعى إلى مناطق نائية وعرة الطريق صعبة الوصول ومع ذلك يتجشّم العناء ويصل ويرقى المنبر ويؤدّي خدمته. فقد دعاه ذات مرّة أحد الحمّالين البسطاء في النجف للقراءة في بيته المتواضع بمناسبة شرائه، فسأله السيّد عن موقع بيته، فقال: في منطقة الجدول، وهي من المناطق المنهكة الوصول، فقد استأجر السيّد عربة تجرّها الخيول كما هو المألوف هناك، وصحبه ولده السيّد أمين والدليل صاحب المجلس. يقول ولده الأمين: حتى وصلنا إلى أعماق الجدول، وانقطع الطريق على العربة وضاق فلا يتّسع لمرورها؛ فترجّلنا ومشينا على الأقدام مسافة طويلة حتى وصلنا إلى بيت الرجل، وهناك رقى السيّد المنبر وبارك البيت وأهله بكلّ فرح وسرور، ولم يبدو عليه أيّ تذمّر برغم التعب والوعثاء، ثمّ عاد بعد فراغه معتزّاً بخدمة الحسين وإدخال السرور على قلب ذلك الإنسان المتواضع وهو الخطيب الذي يصقع الأسماع، ويدهش العقول بمجالسه الجماهيريّة الحاشدة في بغداد والبصرة، والنجف

____________________

(١) نقل الحديث عن الكشميري الأخ الشيخ حمزة الخويلدي في تاريخ ٢ ربيع الثاني ١٤١٥ هـ.

(٢) سورة الشعراء / ٢١٥.

(٣) الكافي - أخلاق أهل البيت / ٣٦.

(٤) معجم الخطباء ١ / ٢٩١.

١٧

والدجيل، والخليج ولبنان وغيرها من البلاد الإسلاميّة.

ومن معتقداته الحسينيّة أنّ أطهر الأموال وأنقاها وأبعدها عن الشبهة تلك التي تصله عن طريق خدماته الحسينيّة؛ فقد كان لا يطعم أولاده وعائلته إلاّ منها، معرضاً عن موارده الأُخرى كإيجارات البيوت التي كان يمتلكها. يقول ولده السيّد الأمين: كنت أصحب والدي إلى السوق لنتبضّع بعض احتياجاتنا اليومية، فأراه يُخرج كيساً خاصاً يدفع منه اللوازم البيتية، فسألته: أبه، ما هذا الكيس؟

فقال والدي: هذه أموال خالصة من الحسينعليه‌السلام أنا اُطعمكم منها ليكون منبتكم ودمكم ولحمكم من المال الحلال بلا أدنى شك أو شبهة؛ لأنّي لم أشترط على أحد عوضاً، ولم اُساوم أو اُماكس على تقديم خدمتي، وإنّما هم يدفعون لي عن طيب نفس، وهم راضون مرضيّون.

الفارس في ميدان الشعر

من المواهب التي حَضِيَ بها السيّد جواد شبّر هي موهبة الشعر؛ فكان ينظم الشعر ويقوله في عدّة مناسبات، أمّا حافظته للقصائد الكثيرة والمتنوّعة واستشهاده بالأبيات المناسبة فشيءٌ قَلّ نظيره.

وأتذكّر في أحد المرّات كان مدعوّاً في بيتنا بعضُ الشعراء والأُدباء، فسأله الأديب الوجيه محمّد علي الحكيم: سيّدنا، كم تحفظ مِن الأشعار؟ فقال السيّد: كم تُخمّن؟ قال: عشرة آلاف بيت. فقال له: قُل: مئةِ ألف ولا تخشى. وقد نشرت له عدّة صحف ومجلاّت قصائد رائعة ومُعبّرة؛ كمجلّة الإيمان، ومجلّة النجف، والأضواء، ومجلّة العرفان اللبنانيّة، وجريدة الهاتف وغيرها.

كما إنّ للسيّد ديوان مخطوط ليس بأيدينا الآن، ولكنّه محفوظ بحفظ الله إن شاء تعالى، وهذه بعض الزهور اخترتها من روضته الشعريّة الغَنّاء:

١ - قصيدة بعنوان (طفلتي)، ويقصد بها أُختنا الكبيرة العزيزة (أُمّ حوراء)، نشرها في كتابه (إلى ولدي)(١) :

عـوّذيها عـن الـعيونِ بنشره

واحـمليها مـا بينَ نهديكِ زهره

ودعـيها تـحسُّ مـنكِ بعطفٍ

يـملأ الـقلبَ فـرحةً مستمرّه

اطـبعي قـبلةً عـلى ناظريها

واحذري الخدَّ إنَّ في الخدِّ جمره

____________________

(١) إلى ولدي / ٤٥.

١٨

نـضّدي شعرَها لتبصرَ عيني

روعةَ الحُسنِ نظرةً إثرَ نظره

اعـقديه تـاجاً على مفرقيها

وإذ زادَ رصّـفي مـنهُ وفره

دغـدغيها لـكي تـقهقه حتّى

تستثيري هوى فؤادي وشِعره

دغـدغيها وأنـت أُمٌّ وأدرى

إنّ ضحكَ الوليد يوحي المسرّه

ضـحكة الطفلِ لا تَصنُّعَ فيها

وكـذا كلّ ما نرى منهُ فِطره

هـدهديها بـنبرةٍ عـند نومٍ

ثـمّ مـيلي فـهدهديني بنبره

ضمّدي قلبيَ الجريحَ احتسابا

واجـعـليها لـوالديكِ مـبرّه

٢ - قصيدة (ذكريات مصطاف) نشرت في مجلّة العرفان:

يـا ربـوةَ الـشام يا رمزَ المسرّاتِ

عـلـى لـيـاليكِ آلافُ الـتحيّاتِ

مـلأتِ عـاطفتي لَـطفاً وقد طفحت

كـأسي بـها فـاستفاضت أريحياتي

مـهما اتّـجهتُ رأيتُ الحسنَ منتثراً

في الوردِ في الناسِ في جمعٍ وأشتاتِ

تـنفّسَ الـقلبُ مـن آلامـهِ ورمى

عـنهُ قـيودَ مـحيطٍ غـاشمٍ عاتي

هـذي الـطبيعةُ بالبشرى تصاحبني

وفـي الأصـيلِ تُـحيّيني بـلذّاتي

قـرأتُ فـي وجـهكِ الفتّان منظرَه

لـلـحُسنِ أبـدعَ إعـجازٍ وآيـاتِ

تـدفّقَ الـماءُ فـي نـهدَيكِ مـتَّشياً

كـعـقدِ درٍّ عـلى نـحرٍ ولـبّاتِ

* * *

لـطفٍ كـما تشتهيهِ النفسُ دبَّ على

شـغافِ قـلبي فـخفّت مـنهُ أنّاتي

شـلاّلكِ الـعذب من عالٍ يسحُ على

رضــراضِ درٍّ بـأنـغامِ مـلذّاتي

كـأنّ مـجراهُ فـي قـلبي ورقّـته

من رقّةِ الروحِ أو من لطفِ «أبياتي»

نـسائمٌ عـانقتني بـعدما رقـصت

فصلاً مع الوردِ يسبي الذاهبَ الآتي

وداعـبـتني لـكن بـعدما عـبثتْ

فـي نـهدِ خودٍ وفي أعطافِ غاداتِ

سـاعات اُنـسٍ أرى بـخساً بقيمتها

لـو قـلتُ أفـديكِ يا تلكَ السويعاتِ

مـاذا لـقي الـعمرُ من جرّاءِ طيلتهِ

فـي عـالمٍ مـا بـهِ غيرَ الكدوراتِ

يا ربّ إن كان في الدنيا الجنان كذي

فـكم بـدارِ الـبقا روضـاتِ جنّاتِ

جـاءَ الـربيعُ فـهاجت ذكرياتك لي

عـهود أنـسٍ عـلى تلكَ النطاقاتِ

وعـالماً مـن جـمالِ اللهِ صـوّره

لـكي يـرى خـلقه بعض العناياتِ

تـموّج الـحسن في زاهي شوارِعها

وافـتـرَّ مـبتسماً ثـغرُ الـجماداتِ

هـذا الـرصيفُ أطارَ الحُسنِ طرّزه

وذاكَ يـطـفو بـأقـمارٍ وهـالاتِ

١٩

على الرصيفينِ والأشجارُ مائلةً

مـاسَ الـجمالُ بنهدٍ بارزٍ آتي

بـدا كـرمّانُ «سوريّا» موردةً

قـانٍ وأبـيضهُ مـجلوّ مـرآةِ

توسّطت «بردى» تنسابُ صافيةً

وذوّبـت بـرقيقِ الجري آهاتي

٣ - وله قصيدة بعنوان (تحيّة شاعر)، موجهة إلى الشاعر القروي رشيد سليم الخوري:

يـا زهرةَ الجيلينِ بل يا ملتقى الـ

ـفكرينِ ذا مـاضٍ وهذا آتِ

أحسنتَ بل أبدعتَ في اُغرودةٍ

مـنضودةِ الإيـقاعِ والكلماتِ

داعـبتَ أوتـارَ القلوبِ بنغمةٍ

رقّـت وفـاقت أبدعَ النغماتِ

تـطفو عـليها مسحةً روحيةً

فـكأنّها مـن جـملةِ الآيـاتِ

أفهلْ ترى كلماتِ عيسى أُنزلت

أو أنّ مـوسى جـاءَ بالتوراةِ

أو قبسةٌ من نورِ أحمدَ أشرقتْ

فـانجابتِ الدنيا عن الظلماتِ

* * *

يا شاعرَ الجيلينِ بل يا ملتقى الـ

ـروحينِ أحـمدَ والمسيح

صـرّحت عـن رأي وعقـ

ـل الـمرءِ بـالرأي الـصريح

يـا شاعرَ الفصحى وما

لئ عـصـرنا أدبـاً فـصيح

يـا نـاظمَ الـغيدَ الـملا

ح ونـاثـرَ الأدبَ الـمـليح

بـصـبـاحةٍ مـجـلـوّة

هـنّئتَ بـالوجهِ الـصبيح

* * *

يـا شـاعرَ الجيلينِ يا ملتقى الـ

ـبحرينِ بحرُ عُلاً وبحرُ معاني

حـلّق وأطـلق للخيالِ عنانه

فـلأنتَ فـينا فـارسُ الميدانِ

وأَجِـلْ خـيالكَ في سما آفاقِنا

لـتحقّقَ الآمـالَ في الجولانِ

خضنا بحورَ الشعرِ لكن بحرك الـ

ـزخّارُ بـالآلاءِ والـمرجانِ

وتـراقصت أوزانُـهُ فتمايلت

هـذي الـقلوبُ برقةِ الأوزانِ

فـاسلم ودم فـينا رشيداً سالماً

بـأعزّ حـصنٍ شامخِ البنيانِ

٤ - وقال في تأبين شيخ الخطباء (الشيخ محمّد علي اليعقوبي):

حـياتك كـلّها غـيثٌ عميمُ

ولـفـظكَ كـلّهُ درٌّ نـظيمُ

ونـثركَ يـملأ الأجواءَ طيباً

كـأنّ حـروفهُ عـطرٌ شميمُ

مربّي الجيلَ أنتَ وكان حقّاً

رثـاؤكَ أيّها الرجلُ العظيمُ

تذيعُ على الورى ستّينَ عاماً

دروسـاً نـهجها جزلٌ قويمُ

٢٠

وأنّـكَ خـالدُ الـذكرى ويـبقى

حـديثكَ تـستطيبُ بـهِ النسيمُ

أبـا الأعـوادِ والـحكمِ اللواتي

تـمثّلَ فـيهما الأدبُ الـصميمُ

تَـرِفُّ عـلى روائـعها قـلوبٌ

لـرقّـتها ويـهـتزُّ الـجـسومُ

رأيـتكَ تـسحرُ الألبابَ وعظاً

فـكانت فـي يـديكَ كما ترومُ

وآلافُ الأنـامِ إلـيكَ تـصغى

ووجـهكَ لاحَ مـطلعُهُ الـوسيمُ

ودوّى صـوتكَ الـمرهوب فيها

كـأنّكَ فـي الـلقا أسـدٌ هجومُ

وقـد ضـاقَ المكانُ بهم فضلّتْ

عـلـى مـرآكَ أرواحٌ تـحومُ

مـواقفُ لـستُ أُحـصيها بعدٍّ

على الدنيا وهل تُحصى النجومُ

* * *

أبـا الأعوادِ منبركَ المرجّى

لـنفعِ الـناسِ يعلوهُ الوجومُ

فـهل أسـندتهُ لـفتى أبيٍّ

وهـل أحـدٌ يقومُ بما تقومُ

فمَنْ لشبابِ هذا العَصْرِ يهدي

إذا عصفت بفكرتهِ السمومُ

تُـجاذبهُ العواملُ ليس يدري

عـلى أيّ الـمبادئ يستديمُ

وجـاءت موجةُ الإلحادِ يقفو

خطاها الشرُّ والخطرُ الجسيمُ

أيا خطباءَ هذا العصرِ جدّوا

فـما بـلغَ المرامَ فتى تؤومُ

فـإنّ منابرَ الإسلامِ عطشى

إلى خـطباءِ زانتهم علومُ

تُـتـوّجهم عـقولٌ نـيّراتٌ

يـكون سنادها الذوقُ السليمُ

ويـمزجهم بهذا الشعبِ ذوقٌ

كـما امـتزجَ المنادمُ والنديمُ

وإنّ شعارها الإخلاصُ مهما

تـجاهلت الأسافلُ والخصومُ

لـيلمسَ منكمُ الشعبُ انطلاقاً

إلى اُفـقٍ جلت عنهُ الغيومُ

كفاكُمْ حربَ جسّاسٍ وصخرٍ

وما تبكي الطلولُ أو الرسومُ

فـما في عصركم قتبٌ وكورٌ

ولا سـلعٌ وربـعٌ والـغميمُ

أروهم حلوةَ الإسلامِ تزهو

جـوانـبهُ ومـنبعهُ الـعميمُ

وذا قـرآنـكمْ فـيهِ كـنوزٌ

يـحيرُ بوصفها اللبُّ الحليمُ

وكـان بـهِ اكتشافٌ وارتقاءٌ

وكـان بهِ الصراطُ المستقيمُ

أطـبّاءَ النفوسِ وهل رضيتم

لـمجتمعٍ يـعيثُ بهِ السقيمُ

وذي جـذواتكم تخبو ويبقى

يـسودُ بـجوّنا الفكرُ العقيمُ

٢١

فـكونوا للمنابرِ صوتَ حقٍّ

وسـيفاً لـيس يـعروهُ ثلومُ

خطيبُ القومِ أرجحهم كمالاً

خـبيرٌ بـالسقامِ بـهِ عليمُ

يكوَّن من شظايا القلبِ وعظاً

كأنّ عظاتهُ جمعت كلومُ(1)

5 - قال في ذكرى مولد سيّد الشهداء الحسينعليه‌السلام :

باسمِ الحسينِ حلتْ لنا الأشعارُ

وسـمتْ بـفضلِ سموّهِ الأفكارُ

وتـنـبّهتْ آمـالُنا وتـفتّحتْ

فـرحاً كـما تـتفتّح الأَزهـارُ

وتـبسّمتْ دنـيا السّرورِ مليئةً

بـالمبهجاتِ وأشـرقت أنـوارُ

وتـباشرت حورُ الجنانِ وهلّلتْ

لـجمالِ طـلعةِ وجههِ الأنظارُ

هـذي الـثغورُ يحفّها استبشارُ

والـحفلُ يـعبَقُ نشرهُ المعطارُ

لـمّا أبـو الأحرارِ أشرقَ نورُه

أضـحت لـهُ تتباشرُ الأحرارُ

طـافَ الهَناءُ يُديرُ كأسَ مديحه

وتـعـلّلت بـحديثهِ الـسمّارُ

اِسـمُ الـحسينِ وما ألذَّ حروفَه

فـكأنّهُ الـشهدُ الـحَلالُ يُـدارُ

ذكـرى إبـائَك عـزّةٌ وفخارُ

درسٌ بـهِ تـتحدّثُ الأعصارُ

أما روى الراوون بعضَ فصوله

راحـت فـلاسفةُ الزمانِ تُحارُ

وتـيقّنوا أنّ الـحسينَ ونـهجَهُ

لا جـورَ يـحكمهُ ولا استعمارُ

عـلّمتنا مـعنى الحياةِ بموقفٍ

فـيهِ تـمثّلَ عـزمُكَ الـجبّارُ

وأريـتنا أنّ الـمماتَ سـعادةٌ

ولـدى المهانةِ ترخصُ الأعمارُ

خـلّدتَ يعربَ مذْ عقدتَ لهامها

تـاجاً عـليهِ مـن عُلاكَ وقارُ

وكـسوتها حـللَ الخلودِ وإنّها

لا الـعصرُ يـبليها ولا الأدهارُ

إنْ مـرّ ذكرٌ للحسينِ تمثّل الـ

إعـظامُ والإجـلالُ والإكـبارُ

وإذا ذكـرتَ يزيدَ تبصرُ كومةً

مـن فـسقهِ يـطفو عليهِ العارُ

الـحقّ إشـعاعٌ يـلجُّ ضـياؤه

عـبرَ الـقرونِ ونـورهُ سيّارُ

فـبكلّ قـلبٍ نـبرةٌ لـشعورِه

وبـكلّ نـفسٍ رنّـةٌ وشـعارُ

أكـذا يـدومُ الـحقُّ في أبطاله

أكــذا تـخلّدُ آلـهُ الأطـهارُ

____________________

(1) ذكر الاُستاذ شبّر في كتابه ( أدب الطفّ 10 / 142 ) أنّ هذه القصيدة قالها في رثاء الشيخ كاظم نوح، بينما ذكرت مجلّة الإيمان في عددها الخاص بالشيخ اليعقوبي ص31 أنّها في رثاء اليعقوبي، وإنّي أرى لا مانع من تكرارها في الشخصيّتين وإن نُظمت في إحداهما، والأقوى أنّه الشيخ كاظم نوح.

٢٢

هـذا الـحسينُ ضريحهُ نوّارُ

عـكفت بـعتبةِ بـابهِ الزوّارُ

فـبكلّ نـفسٍ روعـةٌ لجلالِه

وبـكلِّ قـلبٍ مـرقدٌ ومزارُ

تـسمو على فلكِ السماءِ قبابه

ويـشعُّ لـلقصّادِ مـنهُ مـنارُ

وتـحطُّ تـيجانُ الملوكِ ببابه

ولـها ملاذٌ في الحمى وجوارُ

تـنهارُ أعماقُ القرونِ وذكرُه

بـاقٍ فـلا يـبلى ولا يـنهارُ

يا زمرةَ الجيلِ الحديثِ تيقّظوا

لـمصيركم خُلقَ الزمانُ مهارُ

هدفُ الحسينِ عليه نبني مجدنا

وبـضوءِ نهضتهِ لنا استبصارُ

الـدورُ دوركمُ خذوا بنصيبكمْ

مـن قبل أن تتصرّمَ الأعمارُ

6 - قصيدة رائعة في مولد الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان (أسرار المولد):

يـا محفلَ الذكرى لسيّد البشر

أذع فـتاريخكَ تـاريخٌ أغـر

فـإنّما الـمولودُ فـيكَ أحـمدٌ

مَـن حرّر العقلَ وأطلقَ الفكر

أذع فـهذا الـمنقذُ الأكبرُ والـ

مـشرّعُ الأعظمُ والأبُ الأبر

شـعّ عـلى الـعالمِ نورهُ فذا الـ

ـتمدينُ من لئلاءِ عقلهِ ازدهر

لـقد سما بالعربِ حتّى أذعنت

مـمالكُ الأرضِ لهم بحراً وبر

وطـأطـأت تـواضعاً لـعزّه

جـباهُ قيصرٍ وكسرى والخزر

بجنبكَ «الإيوان» فاحفِه الخبرْ

حقّاً ترى عند «جُهينة» الخبر

قـف وانظر الشقَّ بجنبهِ غدا

آيـةَ إعجازٍ على مرِّ العُصر

سـله وسـائل شـرفاته ففي

صـموته تـقرأ أفصحَ العبر

لأيّ أمـرٍ حـلّ تـنشقّ ومن

قـلّصَ ذلـك النعيمَ والبطر

ونـار فـارس خبت ألم تكن

مُذ ألف عامٍ قد تقادحت شرر

سـمعاً أبا العُرب وتاجها الذي

كـوّنَ مـنهم أُمّـةً ذات خطر

وزجّـها نـحو الـخلودِ عاقداً

لـها لـواءً رفّ فـوقهُ الظفر

وانـتشلَ الـعالمَ مـن تدهورٍ

يـؤولهُ الـلاتَ ويـعبدُ الحجر

وبـاعثاً دستورَ حقّ يكفِ للـ

سـعادةِ الـكبرى بآياتٍ غرر

لأنـتَ نـعمَ الحظّ قد كنت لها

لـكننّا بـئسَ الـعشير والنّفر

يا صاحبَ النورِ أضعنا مبدأً

يـمشي مع العقلِ سموّاً وكبر

تـنـاوحتنا طـغـمةٌ أجـلّها

لـو قـلت أنّـها حثالةُ البشر

يـضيمني أنّ يـدي تـعافني

وأنّ غيري نالَ في يدي الوطر

٢٣

ما كنتُ بالمأسوفِ لو أنّ أخي

يـدري إلى أينَ وأينَ المستقر

ولا الـمضام لـو تماسكت إذا

مـا قـيلَ لي أنّ أخاكَ قد عثر

يـا وتـر الساسةِ كم تطربهمْ

أجل وضرب العودِ يقطعُ الوتر

يا محفلَ الذكرى أبن لمَنْ وعا

مـقامَ طه في الحديثِ والسور

عـلّمهمُ الـغايةَ مـن تـذكاره

وسـرّ هـاتيك الرموز والدرر

أكـان يُـعلي قـدرهُ وشـأنه

بـعد ثـناءِ اللهِ شعرُ من شعر

بـموجةِ التصفيقِ يسمو شأوهُ

وبـالوفودِ زُمـراً إثـر زمر

ذي روح أحمدٍ وقد رفّت على

حـفلكمُ تـطلبُ جـوهرَ الأثرْ

ترى أضعنا الروحَ من أعمالنا

وأنّـنا قـد اجـتزينا بالصور

يـا خـابطَ السير تبصّر حسناً

سـيركَ مـعوجّ فكرّر البصر

الـفخرُ أن يُـقالَ شـقّ للعلا

طريقهُ ما الفخرُ عاث أو سكر

وطـالباً إصـلاحنا كـفى بأن

نـأمنَ منكَ الاعتداءَ والضرر

هـذي تجاربُ الحياةِ قد قضت

أن نكتفي لا نبتغي خيراً وشر

7 - وله غديريّة ألقاها في احتفال (منتدى النشر) في النجف عام 1363 هـ:

لـمَنْ الـحفلُ رائـعاً يـتلالا

يـزدهي مـنظراً ويزهو جمالا

ولـمَنْ هـذهِ الـروائعُ تُـتلى

والأنـاشيدُ بـاسمِ مَـنْ تتولّى

قـيلَ قـد توّج الوصي وهذي

بـهجةُ الـتاجِ زانتِ الاحتفالا

وانـتشقنا طـيبَ الـولايةِ منه

وسـعـدنا بـنـعمةِ اللهِ حـالا

واهـتدينا بـنورهِ مـذ تـجلّى

بـسماءِ الـدينِ الـحنيفِ هلالا

وعـلى مشرع (الغديرِ) احتسينا

فـي كـؤوسِ الولا نميراً زلالا

وجـديرٌ هـذا الـشعورُ بـيومٍ

فـيهِ ديـنُ الإلـهِ تـمّ كـمالا

رنّـةُ الوحي في المسامعِ دوّت

تـملأ الـنفسَ هـيبةً وجلالا

بـلّغ الـناسَ مـا أتـاك وإلاّ

لـم تـبلّغ وحـي الإلـهِ تعالى

إنّـمـا أنـتَ مـنذرٌ وعـليٌّ

هــو هـادٍ يُـسيّر الـضُلاّلا

فـي فـلاةٍ تـكادُ تـلهبُ ناراً

ولـظى حـرّها يـذيبُ الرمالا

وإذا بالرسولِ يلقى عصا السيـ

ـرِ وتـلكَ الـجموعُ تلقى الرحالا

وتـعالى الـهتافُ مـنه أجيبوا

داعـي اللهِ فـاستخفّوا عـجالا

كـسيولٍ جـاشت وراءَ سيولٍ

أو جبالٍ في السيرِ تقفوا الجبالا

٢٤

زمـرٌ قـد تـحاشدت حـولَ طه

حـشدها يـومَ مـنه ترجو النوالا

غـصّت الـبيدُ واستحالت رجالاً

ونـواحي الـفضاءِ ضاقت مجالا

ورقـى مـنبرَ الـحدوجِ ومـدّت

نـحـوهُ الـهامُ خـضّعاً إجـلالا

وانـبرى يرسلُ الخطابَ وذاك الـ

ـجمـعُ مُـصغٍ تـهيّباً وامـتثالا

ونـعـى نـفـسهُ وقـالَ أتـاني

أمـرُ ربّـي وحـثّني الـترحالا

وأنــا راحــلٌ وبـعدي عـليٌّ

واحــدُ الـدهرِ مَـوئلاً ومـآلا

سـنّـةُ الأنـبياءِ قـدماً تـمشّت

تـقطعُ الـدهرَ والـقرونَ الطوالا

هـل نـبيٌّ مـضى بـغيرٍ وصيٍّ

فـاسألوا الـدهرَ واسألوا الأجيالا

خـصّـهُ اللهُ بـالإمـامةِ لـمّـا

كــانَ لـلحقِّ والـرشادِ مـثالا

هـو أقـضاكمُ وبـابُ عـلومي

فــاقَ فـضلاً وبِـذاكُمُ إفـضالا

وهـو فـيكم مـمثّلي ووصـيِّ

لـعنَ اللهُ مَـنْ عـليه اسـتطالا

أُمّـتـي لا أراكـمُ بـعدَ مـوتي

قــد رجـعتم نـواكصاً جـهّالا

فـاستجابوا وعـجّت الـبيدُ منهم

تـحسبُ الأرضَ زلـزلت زلزالا

ورســولُ الـهدى يـردّدُ فـيهم

ربّـي والـي الـذي لـحيدرَ والا

عـنهُ سـل مـحكمَ الكتابِ وسائل

آلَ عـمـرانَ واســأل الأنـفالا

مَـنْ بـبدرٍ وتـلك أوّلُ حـربٍ

قـد رآهـا وقـد أراهـا الـوبالا

مَـنْ دحـى البابَ مَنْ باُحدٍ تلقّى

عـمدَ الـدينِ حـين زالَ ومـالا

مَنْ قضى غيره على الشركِ قل لي

مَـنْ لـعمرِ بـيومِ صال وصالا

صـولةً تـفضلُ الـعباداتِ طرّاً

وسـمـا شـأوهـا وعـزّ مـنالا

ولـكم مـوقف يـرنّ بإذنِ الدهـ

ـرِ والـدهـرُ مـنهُ يـلقى انـذهالا

هـكـذا فَـلْتَكُ الـبطولةُ دومـاً

(هـكـذا هـكـذا وإلاّ فـلا لا)

8 - وله في ذكرى ولادة الإمام الصادقعليه‌السلام :

يـا قـلمَ التاريخِ سجّلْ لنا

يـوماً مـن الأيّـام معدودا

أذعْ فـذا يـومٌ لـهُ شـأنهُ

كـانَ على التاريخ مشهودا

حدّثْ عن الصّادقِ واستنطق الـ

ـتاريخَ يروي الدُرَّ منضودا

وحـدّث الـعالَمَ عـن عالِمٍ

قـد مـلأ الـدنيا أسـانيدا

تَـبلى الأقـاويلُ وأقـوالُهُ

بـاقـيةٌ تــزدادُ تـخليدا

آراؤه الـغـرُّ وأفـكـارُه

يـعجزُ عنها الحصرُ تعديدا

٢٥

مـا حـدَّ اُفق العلم في غايةٍ

ولا يـرى الـعالَم مـحدودا

شـتّان مـنْ يـفتَحُ أبوابه

ومَـنْ يـعدُّ البابَ مسدودا

سـلِ ابن حيّان وسل غيرَه

أئـمّـةَ الـعلم الـصناديدا

مَنْ طبّق الدنيا سوى جعفرٍ

مـعـارفاً تَـزدادُ تـرديدا

وسـلْ تـلاميذَ لـهُ أنّـهم

كـانوا عـلى الدّنيا أسانيدا

هـم فـتحوا لـلكيميا بابَه

وكـان منهُ البابُ موصودا

وخـلّدوا الـدهرَ بـأقلامهم

أفـنوا ربـيعَ العمر تسهيدا

وخـلّفوا أغـلى تـراثٍ لنا

لو لم يكنْ في النّاس مجحودا

9 - وله قصيدة بعنوان (يوم المحنة) قالها على إثر انتكاسة العرب في حرب حزيران 1967، اُذيعتْ من دار الإذاعة العراقية، ووُضِعَتْ في المناهج الرسمية لمدارس المقاصد في لبنان، وهي:

يَـومٌ عـلى الدهرِ لا يُطفى له لَهَبُ

إنْ تـنسهُ العُرْبُ ما هم بعدهُ عُربُ

وإن غفت عن طلابِ الثأرِ لا سجعت

يـوماً بـأمجادها الأقـلامُ والـكتبُ

عـهدي بـها لا تـقرّ الضيمَ شيمتُها

حـتّى ولـو طالتِ الأعوامُ والحقبُ

الـعيشُ بـالذلِّ مـرٌّ فـي تجرّعه

والـموتُ بـالعزّ حلوٌ وردهُ عذبُ

مـت إن تمت قاهراً والنفسُ راضية

ولا تـمت صاغراً والحقُّ مُغتصبُ

شـراذمُ مـن نـفايا الأرض تبعثها

ثـعالبُ الـغربِ فـيها يشهدُ الذَّنَبُ

تـدوسُ أقـدسَ أرضٍ مـن معابدنا

ونـحنُ نـبصرها بـالرغمِ تُستلبُ

فـواجعٌ بـغّضت طـعم الـحياةَ لنا

وكـدّرت صـفو عيشٍ فهو مكتئبُ

سـادَ الوجومُ على الأقطارِ وانكمشت

هذي الوجوهُ وعمّ السخطُ والصخبُ

لا عـينَ في الشرقِ إلاّ وهي ساهرةٌ

ولا مـشاعرَ إلاّ وهـي تـضطربُ

تـجاوبت نـخوةُ الإسـلامِ طـائعةً

وأعـلنت أنّـها طـوعٌ لـما يجبُ

وألـهبت عزماتِ العُربِ وانتفضت

حـميّةٌ فـهي كـالبركانِ تـلتهبُ

عـسى يكون وراءَ الصمتِ منطلقٌ

يُـجلى بـهِ الغمُّ والأحزانُ والكُرَبُ

بـالأمسِ انـكلترا تُـدعى صديقتَنا

والـيوم قـد جاءنا من ويلها الحَرَبُ

مـاذا جـنيناهُ قُـل لي من صداقتنا

ظـهرٌ فـيُركبُ أو ضـرعٌ فيُحتلبُ

وذي ربـيـبتها بـل [قـل] ولـيدتُها

ولا تـسل هـل لـها بين الأنامِ أبُ

قـد صرّحَ الحقّ وانزاحت بهِ الريبُ

وشـفّ عـن جـسمهِ ثوبٌ لهُ قُشبُ

٢٦

قـف بـي على الأردن المشهود موقفُه

لألـثم الـجرحَ لـكنّ الـحشا يـجبُ

قـذائفُ الـنارِ عـاثت فـي محاسنِه

وشـوّهت أوجـهاً تـستافها الـشهبُ

قـف بـي عـلى قبلةِ الإسلامِ أسألها

عـمّا جـرى مـن دواهٍ كلّها خطبُ

ومـسجدِ الـصخرةِ الـمحزونِ منظرُه

بـالدمعِ والـدمِ مـطبوعٌ ومـختضبُ

قـد أوحـشَ المنبرَ العالي وقد ذويت

أعــوادُهُ فـهـي تـنعاهُ وتـنتحبُ

ثـمّ اسـتمع رنّـةَ الـمحرابِ أحزنه

فَـقْدَ الـمصلّينَ مـذ طـلاّبهُ غربوا

وحـيّ تـلكَ الـمروجَ الخضرِ ناعيةً

أحـبابها فـهي ثـكلى خَـدُّها تَـرِبُ

يـا طـيبَ عيشٍ على الوادي باُمسيةٍ

رقّـت ورقّ الـهوى والماءُ والعُشبُ

أبـناءَ عـمّانَ لا يـحزنكَ ما ارتكبوا

فـالكأس سـكّابة طـوراً ومـنسكبُ

والـعـربُ مـغلوبةٌ يـوماً وغـالبةٌ

مـا كـلّ سـبّاقةٍ تـجري لها الغلبُ

أدّيــت قـسـطك والأيّـام شـاهدة

وإنّ يـومـكَ فـيهِ تـفخرُ الـعربُ

ووقـفـةٍ لاُسـودِ الـرافدينِ غـدت

أرسى من الهضبِ لا بل دونها الهضبُ

جـيشُ الـعراقِ وحـامي سورَ منعتِه

إن سـارَ كـان لـهُ الإقـدامُ والغلبُ

عـاشت دمـشقُ فـلا عُتبى ولا عتبٌ

لـقـد أرتـنا نـضالاً كـلّهُ عـجبُ

يـومٌ تـهجّم وجـهُ الـبغي وانبعثت

قـواذفُ الـشرّ يسري جيشها اللجبُ

نـيـرانُهُ تـمـلأ الأجــواءِ قـاذفةً

لـهيبها ضـاقَ فـيها اُفـقها الرحبُ

وتـقـتـفيها أسـاطـيـلٌ مـدمّـرة

حـتّـى إذا أخـذت لـلغابِ تـقتربُ

هـبّـت مـغـاويرُ سـوريّا مـشمرةً

كـالاُسدِ لـم يـثنها خوفٌ ولا رهبُ

فـهل رأيـتَ اُسـودَ الـغابِ مغضبةً

دونَ الـحمى أرأيـتَ الـليثَ إذ يثبُ

أبـناء يـعربَ جـدّوا فـي عزائمكمْ

فـالأمرُ قـد جـدّ والأسـماعُ ترتقبُ

وإنّ أحـسـابكم أمـسـت تُـطالبكمْ

فـحقّقوا أمـلاً يـسمو بـهِ الـحسبُ

10 - وله في رثاء الخطيب الشهير الشيخ محمّد علي قسّام، يقول السيّد جواد شبّر في أدب الطفّ 10 / 65:... وكان يوم 29 كانون الثاني 1954، يوم مجيء جثمانه للنجف من الأيّام المشهودة؛ فقد اُقيمت على روحه عدّة فواتح، كما تبارى الخطباء والشعراء يوم أربعينه في (مسجد الهندي) بالنجف، وكنتُ ممّن شارك بقصيدة مطلعها:

سند الشريعة في جميعِ الأعصرِ

هذي الروائعُ من خطيبِ المنبرِ

ذاك الذي يُمسي ويُصبح ناشراً

عـلمَ الـجهادِ كقائدٍ في عسكرِ

أمـعلّم الأجـيالِ تنثرُ جوهراً

فـكأنّ صدركَ معدنٌ من جوهرِ

٢٧

يـا مـنبرَ الإسلامِ دمت متوّجاً

بـالأنجبينَ وكـلّ ليثٍ قسورِ

يـا مـنبرَ الإسلامِ دمت منوّراً

طـولَ الزمانِ بكلّ عقلٍ أنورِ

يـا منبرَ الإسلامِ دمت مضمّخاً

بـالرائعاتِ مـن الفمِ المتعطّرِ

ومجالسٍ هي كالمدارسِ روعةٌ

اُمٌّ لـكـلّ مـهـذّبٍ مـتنوّرِ

الـمنبر الـعالي رسالة مرشدٍ

جـاءت لـعقلِ النابِهِ المتحرّرِ

الـمنبر الـعالي حكيمٌ مبصرٌ

يصفُ الدواءَ بحكمةِ المتبصّرِ

يـا فارسَ الميدان عزّ عَلَيّ أن

تهوي وحولكَ سابغاتِ الضمّرِ

يـا مَنْ إذا أرسلت لفظك لؤلؤاً

جـرتِ الـعيونُ بلؤلؤٍ متحدّرِ

أو قمت في أعلى المنابرِ خاطباً

فـكأنّ قولكَ ريشةٌ لمصوّرِ(1)

11 - ومِن روائع شعره القصيدة التي حيّا بها الإمام المصلح الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عند عودته من مؤتمر باكستان عام 1371 هـ(2) :

كـذا يـلمعُ الـقمرُ الـنيّرُ

كـذا ينهضُ المصلحُ الأكبرُ

كـذا ترتقي عالياتُ النفوس

وهـامُ الأثـيرِ لـها مـنبرُ

كـذا يعذبُ العمرُ في مثل ذا

وإلاّ فـما قَـدْرُ مَنْ عَمّروا

كـذا يشمخُ العلمُ فوقَ السُّها

فما عرشُ كسرى وما قيصرُ

أشـيخَ الـشريعةِ بل رمزها

ومـفخرها عـشتَ يا مفخرُ

أُقــدّسُ شـخصك إذ إنّـه

مـثالُ الـكمالِ مـتى يذكرُ

إذا مـا انتسبتَ إلى «جعفرٍ»

فـحسبكَ مـنتسباً «جعفرُ»

لأن حـسبتك الـورى واحدا

«ففيك انطوى العالمُ الأكبرُ»

نـهضتَ لتجلوَ رينَ القلوب

وتـوقظَ جـيلاً بـدا يشعرُ

نهضتَ وبُوركتَ مِن ناهضٍ

فـما وثـبةُ الاُسـدِ إذ تزأرُ

وأبلغتَ في النصحِ في مجمعٍ

تـجدّدُ تـاريخهُ الأعـصرُ

وهزّ صدى صوتك المشرقين

ودوّى كـقـاذفـةٍ تـفـجرُ

حـياةَ الـشعوبِ بـأبطالها

وتـاريخها مـجدها الأزهرُ

إذا جـمعَ الناسَ «نيروزُهم»

فـنيروزنا وجـهكَ الأنـورُ

فـطـرت ولـكن بـآمالنا

ورحـت بـأرواحنا تـعبرُ

____________________

(1) القصيدة بكاملها نشرتها مجلّة العرفان اللبنانيّة مجلّد 41 ص1164.

(2) أدب الطفّ 10 / 49.

٢٨

فـحدّث أبـا الصالحاتِ التي

تـعالت سـناءً فـلا تسترُ

تـحدّث إلـينا فكلّ الحواس

شـعورٌ وأكـبادنا حـضّرُ

أتـينا لـنصدرَ عـن موردٍ

ومـنكَ حلى الوردُ والمصدرُ

تـحدّث فـهذي القلوب التي

تـرفرفُ جـائتكَ تـستخبرُ

تـلـقّتكَ تـفرشُ أكـبادها

وخـفّـت لـلقياكَ تـستبشرُ

تـحدّث ألـستَ أميرَ البيان

إذا مـا جـرى لفظهُ يسحرُ

أَبِـنْ لـلوفودِ عن المسلمين

فـمثلكَ لـلجرحِ مَـنْ يسبرُ

أَبِنْ فالحديثُ حديثُ الشجون

ومـن وقـعهِ القلبُ يستعبرُ

فـكيف تلمّستَ شرعَ الهدى

وهـل مـن أمانٍ بها تسمرُ

كـأنّي بـروحِ النبي الكريم

عـلى كـثبٍ نـحونا تنظرُ

متى هانَ شعبك يا مصطفى

مـتى ذلّ قومك واستُعمروا

مـتى طأطأت جبهةُ الفاتحين

لـذلّ اليهودِ إذا استصغروا

أيـا قـالعَ البابَ بابَ اليهود

ويـا فـاتحَ الحصنَ يا حيدرُ

تـداعت لـتدرك أوتـارها

وأنـتَ عـلى ردّهـا أقـدرُ

أبـا الشرعِ هـذي يـدٌ بـرّة

يـوافيكَ فـيها الفتى (شبّرُ)

12 - وقال في تأبين الشاعر أحمد الصافي النجفي:

ما جئتُ أرثيكَ أو أذري الدموعَ أسىً

إنّ الـرثاءَ لـشخصٍ ماتَ واندرسا

قـالوا لـقد مـاتَ قلتُ اليومَ مولدُه

ونـجمهُ قـد تـجلّى يـطردُ الغلسا

والـيوم يـبدأ تـاريخٌ لـهُ عـبقٌ

وطـيبُ تـأريخه قـد أنعشَ الجُلَسا

مـا الـحيُّ مقياسهُ مرُّ السنين ولو

طـالَ الـبقاءُ ولا تـردادهُ النفسا

إنّ الـحـياةَ بـأفـكارٍ يـخـلّدها

عبرَ العصورِ وغرساً صالحاً غرسا

وآخــذاً بـيـدِ الـعافي ومـنقذه

سـواء أحـسنَ هـذا أم إلـيه أسا

* * *

مـا كان أحمدُ في عصرٍ يعيشُ به

إلاّ كـشعلةِ نـورٍ تـحملُ الـقبسا

يعيشُ في الناسِ لكن روحُهُ انفردت

عنهم كمَنْ عاشَ بين الخلقِ محتبسا

سـما إلى عـالمٍ أسـمى بفكرته

لـذاك مـهما خـلا في نفسهِ أنسا

فـلا تـرى مـعهُ في بيتِ عزلته

إلاّ الـيراعة أَمَّ الـشعرُ والطرسا

* * *

٢٩

إيـهٍ أبـا الـخالداتِ النيّراتِ سنا

والـسائراتِ أقامَ الدهرُ أم جلسا

هـذي روائـعك الـغرّا يـردّدها

فـمُ الزمانِ ومن أنوارها اقتبسا

أمـواجُها انـدفعت تـتلو أشعّتها

تـجلي العقولَ ومنها تغمرُ اليبسا

وذي الهواجسُ ما أحلى هواجسَها

تـداعبُ الروحَ إن دقّت لها جرسا

رفّـت تـناغيك هـمساً في تدلّلها

والحبّ يعذبُ إن ناغى وإن همسا

أشـعّـةٌ فــي مـعانيها مـلوّنةٌ

إشعاعها مشرفٌ عن روحك انعكسا

إن كنتَ حلّقت أو أبدعت لا عجبٌ

قـرآنُ أحـمد قـدماً حيّر القسسا

وأذعـنت لـغةُ الفصحى لروعته

وعـادَ مـنطيقها مـستسلماً خرسا

الـناظمُ الـدرَ نـظماً لا نظيرَ له

بالشعرِ ينبوعهُ الصافي قد انبجسا

والمرسلُ الشعرَ سهلاً غير ممتنعٍ

سـلساله العذبُ يجري سائغاً سلسا

* * *

زَهـدتَ فـي هذه الدنيا وزخرفِها

إذ أنت أرفع ممّن يرتضي الدنسا

وكـنت تـهزأ ممّن راح يعشقها

ومَـنْ بـأوطارها قد ظلّ منغمسا

نـفسٌ ترى فوق هام النجم رفعتَها

وبـزّةٌ إذ تـراها بـزّة الـبؤسا

تـريـهمُ إنّ دنـياكم وبـهرجَها

كـشملتي هـذه من سامها بخسا

لاويت دهرك حتّى رضت جامحه

كـمن يروِّضُ من فرسانها فرسا

بـعزمة شـهد الـتأريخُ واقـعها

مـا كـنتَ هـيّابةً يوماً ولا نكسا

عـرفت دنـياك مذ وازنت قيمتها

وإنّـها عـرفتك الـنيقد الـمرسا

وكـم دعتك لِوصلٍ وهي ضاحكةٌ

لـكن رأتك على ما تبتغي علبسا(*)

رحماك ليست نفوس الناس واحدةً

إن خفّ ذاك فهذا في الوجود رسا

هـذي الـحياة وكم غذّيتها حكماً

غرّا وأرسيتَ من أركانها اُسسا

فـكنت تـشبعها بـحثاً وتـجربةً

وكـنت تـنشرها درساً لمن درسا

وتـوضح القول مجلوّاً ومزدهراً

فـلم يـعد بـعد فيها الأمر ملتبسا

دُمْ لـلخلود فـذي الأيّـام طوعك والـ

ـدهرُ استلان وإن قدماً عليك قسا

13 - وقال محيّياً الشيخ الأميني صاحب (الغدير) بمناسبة افتتاح مكتبة أمير المؤمنينعليه‌السلام العامّة في النجف، بعنوان (تحيّة المؤسّسة الفكريّة):

مـعهد الفكرِ طاولَ الدهرَ فخرا

ذاك يـبلى وأنتَ تخلدُ ذكرى

كلُّ شيء فانٍ سوى العلم والعد

لِ فإن شئت سل بإيوان كسرى

سـاندت ركـنك القديم يدُ العلـ

ـمِ فـلا زـت خـالداً مـشمخرّا

____________________

(*) هكذا وردت المفردة الأخيرة (علبسا)، ومعها يختل المصراع الثاني من البيت.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٣٠

منجباً كلّ أصيد يبعث النشـ

ـأ يـقود الأجيال عقلاً وفكرا

منجباً كلّ أصيد يجعل الدّهـ

ـرَ غـلاماً لـديه نـهياً وأمرا

وبرغم الزمان جئت ويبقى

لك عبداً وأنت لا زلت حُرّا

* * *

عـشت يـا صرحُ للعلوم مناراً

فـاض أشعاعُه على الكون بدرا

همّةُ المصلح (الأمينيّ) ثارتْ

فـاستثارت لـها الـعزائمُ طرّا

قـد أشـادتك بـعد جـهدٍ جهيدِ

كـرعت في سبيلك الصّاب مُرّا

ضـربت فـوقك القلوبُ رواقاً

يـوم قـدّت من العزائم صخرا

بـسطت مـن شُغافها لك أرضاً

وبـنت فـي ضلوعها لك وكرا

ثـمّ راحت عليك تحنو احتفاظاً

مـثلما تـحفظ الأضـالع سرّا

معهد الفكر هل علمت بأنّ الشيـ

ـخَ أفـنى من أجل عمرك عمرا

ومـشى ثـابت الخُطى باتّزانٍ

أشـبع الـدهرَ خـبرةً ثمّ سبرا

هـازئاً بـالخطوب تعرف منه

إنّ فـي أمـره مـع الله سـرّا

أي أبـا الطيّبات أحـييت فـينا

أمـلاً كـاد أن يـبدّد صـبرا

يـوم ضاق الفضا قنوطاً ولكن

فـاض من راحتيك يمناً ويسرا

قـد أرتـنا الأيّـامُ حمر المنايا

وتـرينا أنـت الأمانيَ خضرا

بـمساعيك قـام لـلعلم صرحٌ

عـشت لـلعلم والـديانة ذخرا

هـمّةٌ تـدفع الـسماء وعـزمٌ

يـسع الـكون مـذ يـنفذ أمرا

لـك فـي الـصالحات غرُّ أيادٍ

ويـدٌ في (الغدير) بيضاءُ غرّا

وحـقـيقٌ أقـول إنّـك فـينا

رابـح الـنشأتين دنـياً وأُخرا

14 - ودخل يوماً عائداً الخطيب المعروف السيّد علي الهاشمي على إثر وعكة صحيّة، فخاطبه:

متى كان في الظنّ أنّي أراك

ألـيف الـفراشِ حليفَ الألمْ

متى حوّمت حولك الواهمات

مـتى نـهشتك نيوبُ السّقمْ

متى زعزعتك سوافي الرّياح

وعـهدي بـك طـودٌ أشَـمْ

ألـست المُعاني الّذي يمتلي

نـشاطاً يزينك لطف الشّممْ

وثغرك ذاك الضحوك الوقور

يـعـطّر أجـواءنا بـالنّسمْ

٣١

فأجابه السيّد علي الهاشمي:

هـزار الـغريّين أتـحفتني

بـغرّاء تـذهب عنّي السّقمْ

نـظمت قـوافيها كـالعقود

فـنعم الـمنظّم والـمنتظمْ

فـقـبّلتها بـفـم الامـتنان

مـقلٌّ لـتقبيلها ألـف فـمْ

وجـلت بـبحرِ تـقاطيعها

بـمطرفةٍ دمـعُها مـنسجمْ

ومـا ذاك إلاّ اشـتياقٌ إليك

لأنّـك أنـت الـذي لا تُذمْ

فدم «يا جواداً» بكلّ الصِفات

ويـا عـلماً رفّ فوقَ العلمْ

وإنّـي لأكـبر هـذا الحنان

فـحبّك لي من جليل النِّعمْ

شعر التاريخ عند الخطيب شُبّر

1 - قال في تاريخ وفاة والده السيّد علي شبّر:

يـا أيّـها الـسائلُ عـن تاريخِه

مضى وأبقى العملَ الأبقى علي(1)

2 - وأرّخ فقيد الشباب السيّد نعيم الدين ابن السيّد عبّاس شبّر:

حـملتُ لـقبره إكليلَ وردٍ

وحنَّ القلبُ مِن شَغَفٍ وأنّا

وقلتُ لأدمعي سقياً فدهري

عـلينا بـالفراق لقد تجنّى

فنادتني احتبِسْ للدمع عيناً

فذا ماءُ الشباب يفيض عينا

وذا تـاريخه يـزهو بهاءً

نـعيمٌ لـلنعيم مضى مُهنّا

3 - وقال في تاريخ تمديد رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى للإمام السيّد موسى الصدر:

زهى المجلسُ الشيعيُّ والصدرُ زانه

بـطلعته الـغرّاء يـرفلُ مـأنوسا

فـعوّذته بـالغرِّ مـن آل هـاشمٍ

بـأربعِ عـشرٍ تدفع الضرَّ والبؤسا

أضـفناهمُ لـليمنِ مـذْ قيلَ أرّخوا

وقـلنا لـقد اُوتيت سؤلك يا موسى

4 - وقال مؤرّخاً بناء حسينيّة الزهراءعليها‌السلام في المنصوريّة (الكويت):

دارٌ لأهل البيت تسمو علاً

لـله فـيها بـعضُ أسراره

شعّتْ بنورِ السبطِ مذ أرّخوا

تـرفُّ إشـعاعاً بـأنواره

5 - وقال مؤرّخاً وفاة العلاّمة الشيخ حسين الفيليرحمه‌الله :

فـي يوم عاشوراءَ فارَقْتَنا

وقد بكتهُ السحبُ دمعاً صيّبا

____________________

(1) المقصود كتاب (العمل الأبقى في شرح العروة الوثقى) - للسيّد علي شبّر.

٣٢

ذاك الحسينُ واحدُ الفضلِ الذي

تـاريخهُ نـورُ حـسين غُيّبا

6 - وقال في تاريخ تزيين المرقد المطهّر للإمام عليعليه‌السلام بالمرايا والزجاج البديع:

مرآةُ قدس الله شعَّ سناؤها

فـتموّجتْ بزجاجةِ المرآةِ

قال الموحّدُ فيه أرِّخ زاهياً

مصباحُ نور الله في المشكاةِ

نشاطاته الاُخرى

1 - المباراة الدوليّة الثقافية للتأليف حول شخصيّة الإمام عليعليه‌السلام : هذا المشروع التاريخي طرحه السيّد على الوجيه السيّد هاشم شُبَّررحمه‌الله ، وهو تخصيص جوائز نقديّة لكلّ مَنْ يؤلّف كتاباً حول شخصيّة الإمام عليعليه‌السلام على أن يفوز من خلال المباراة.

وكان السيّد أميناً لسرّ اللجنة المنظّمة للمسابقة، فوجّه نِداءً لأرباب الفكر والأدب في العالم بعد ما أعلن برنامجه، وتشكّلتْ اللجنة المُحكّمة، وكانت تتألّف مِن أفذاذ العلم والوعي والتُقى، الأعلام الثلاثة: الشيخ مرتضى آل ياسين، والسيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد موسى بحر العلوم، فقُدّمت الكتب مِن قبل مؤلّفيها، فكانت النتائج كما يلي:

الفائز الأوّل: كتاب (الإمام علي - نبراس ومتراس) لمؤلّفه الكاتب اللبناني المعروف الاُستاذ سليمان كتّاني، وهو رجل مسيحي.

الفائز الثاني: كتاب (ملامح من عبقريّة الإمام) بقلم الدكتور مهدي محبوبة.

الفائز الثالث: كتاب (الإمام علي - رجل الإسلام المخلّد)، تأليف الاُستاذ عبد المجيد لُطفي.

ومن الكتب التي وقع الاختيار على طبعها كتاب (الإمام علي - أسد الإسلام وقدّيسه) للكاتب (روكس بن زائد العزيزي) رئيس رابطة حقوق الإنسان في الأُردن، وهو مسيحي.

2 - اهتمامه بالشعراء الشعبيين وتشجيعهم على الكتابة في رثاء سيّد الشهداء، وقد قرّض الديوان الشعري لكلّ مِن:

أ - الحاج محمّد باقر الإيرواني - شعراء الحسينعليه‌السلام .

ب - الشاعر المرحوم هادي القصّاب - ديوان الهداية الحسينيّة.

ج - الخطيب المرحوم الشيخ محمّد حسن دگسن - الروضة الدگسنيّة.

د - الحاج زاير - الشاعر الشعبي العراقي.

هـ - السيّد الشرع - منهل الشرع.

3 - اهتمامه ببناء وتشييد مراقد وأصحاب أهل البيتعليهم‌السلام كسعيه لبناء مرقد زيد الشهيدعليه‌السلام ، ومرقد رشيد الهجري، وكميل بن زياد وغيرهم مِن الأفذاذ والمظلومين؛ فقد كان

٣٣

يبذل لعمرانها من ماله الخاص.

4 - تحقيقه لبعض الكتب العظيمة ونشرها؛ فقد اعتنى السيّد بنشر ديوان (جواهر وصور) للفقيه السيّد عبّاس شبّر، وإخراجه أجمل إخراج بحلّة قشيبة وورق مؤطر بإطار ملوّن جميل يحيط بالقطعة الشعريّة، كما إنّه جمع وطبع وأشرف على إصدار ديوان (الموشور) للسيّد عبّاس شبّررحمه‌الله .

وقد كان للسيّد جواد الدور الرائد في صدور كتاب (الأخلاق) للسيّد عبد الله شبّر الذي عنى بنشره وطبعه. أمّا كتاب (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين - للراغب الأصفهاني) فقد عنى السيّد بنشره وإصداره؛ لأهمّيّته العلميّة.

5 - على صعيد الإصلاح: السيّد جواد شبّر كان من الروّاد الأوائل لحركة الإصلاح المنبري والاجتماعي. يقول في مقال كتبه تحت عنوان (الوعي نواة الإصلاح) في مجلّة الوعي الإسلامي: من أعذب الكلمات على السمع والروح كلمة الإصلاح، إنّها خفيفة على المشاعر، لطيفة في الأحاسيس، يترشّفها السامع ويتمنّى تحقيقها، ويتغنّى بها المجتمع ويهوى تطبيقها، لكن تختلف الآراء في الطريق المؤدّية إليها والوصول إلى أهدافها.

فالبعض يرى ذلك منحصراً في تسليم القيادة إلى موجّه حكيم، وهو الذي يقود الأُمّة إلى ساحل السلامة والنجاة، أمّا عقيدتي فهي أنّ أقرب الطرق إلى الإصلاح هو إيجاد الوعي العام في الأُمّة واليقظة في الشعب، والعمل على أن يشعر الكلّ بواجب المسؤوليّة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ عن طريق الكتابة والخطابة، وتعاون الفرد والجماعة؛ فـ (( كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته ))(1) .

أمّا محاولاته الإصلاحيّة فيما يتعلّق بمؤسسة المنبر الحسيني فلقد كان من المبادرين السباقين لصيانة هذه المؤسسة الكبرى من الفوضى والترهّل، وحمايتها من الانحدار والتسيّب، ووضع الأسس والضوابط للانطلاق بها إلى مستوى المسؤوليّة، والارتقاء إلى مصاف المؤسّسات الإسلاميّة الهادفة.

يقول الخليلي في ترجمة الشيخ محمّد علي اليعقوبي أثناء حديثه عن الدعوة إلى إصلاح خطباء المنابر: وكان من أنشط العاملين في حلبة الإصلاح والدعوة إلى تهذيب الخطباء هو الخطيب السيّد جواد شبّر؛ ففتح في مدرسة المنتدى صفّاً خاصّاً بتعليم الخطباء فنّ الخطابة، وتهذيب الأخبار التي يروونها، وإعدادهم إعداداً يتّفق وروح العصر(2) .

____________________

(1) مجلة الوعي الإسلامي الكويتيّة، السنة الأُولى - العدد الثاني سنة 1965 م.

(2) هكذا عرفتهم - للخليلي 1 / 159، ومجلة الإيمان، عدد خاص في ذكرى اليعقوبي، سنة 1312 هـ.

٣٤

ولعمر الحقّ أنّ هذه المهمّة الشاقّة نحن بأمسّ الحاجّة إلى مَنْ يشمّر عن ساعد الجدّ ويتصدّى لتهذيب وتقويم هذه المؤسسة الهامّة؛ لئلاّ تكون مرتعاً سهلاً لمَنْ هبّ ودبّ، وسوقاً سوداء للمتاجرين بدماء الحسينعليه‌السلام ونبل أهدافه وشرف قضيّته(1) .

مؤلّفاته

للسيّد عدّة كتب ألّفها في حياته المعطاءة، وهذه أهمّها:

1 - إلى ولدي: كتاب في الأدب التربوي، جمع فيه عيون الشعر لأساطين الشعراء، طُبِع الطبعة الأُولى في النجف سنة 1954 م، ثمّ أعدتُ طبعه (مصوراً) في قم سنة 1984 م.

2 - قبس مِن حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام : وُزّع على الجمهور الذي شارك في الاحتفال بمناسبة ميلاد الإمام الحسينعليه‌السلام في النجف الأشرف.

3 - أشعة مِن حياة الصّادقعليه‌السلام : قُدّمَ هدية للمحتفلين بمولد سيّد الشهداء سنة 1385 هـ - 1965 م في النجف الأشرف.

4 - مقتل الحسينعليه‌السلام - عبرة المؤمنين: وهو الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم.

5 - المطالب النفيسة: يقع في ثلاثة مجلّدات في التراجم والأخلاق والفلسفة الإسلاميّة (مخطوط).

6 - شواهد الأديب: مختارات شعريّة في ثلاثة أجزاء (مخطوط).

7 - المقتطفات: نوادر وحكم وأدب في جزئين ضخمين (مخطوط).

8 - شعراء العصر الحاضر (مخطوط).

9 - سوانح الأفكار في منتخب الأشعار: ثلاث مجلّدات في مدح ومراثي أهل البيتعليهم‌السلام (مخطوط)(2) .

10 - المناهج الحسينيّة: مجموعة مجالس قرأها في لبنان - مجلد واحد طبع في بيروت ثمّ أُعيد طبعه في قم.

11 - ديوان شعره: وفيه كثير من المراسلات والمساجلات، والقطع المستملحة والأوصاف البديعة(3) (مخطوط).

____________________

(1) معجم الخطباء 1 / 330.

(2) مشهد الإمام 3 / 160.

(3) شعراء الغري - للخاقاني 2 / 473.

٣٥

12 - أدب الطفّ أو شعراء الحسين - طُبع منه 10 أجزاء.

13 - الإسلام دين ودولة - 3 مجلّدات (مخطوط).

14ـ الأخلاق الإسلاميّة - 3 مجلّدات (مخطوط).

موقف بطولي وتأريخي

هنالك موقف تاريخي للسيّد الوالد ذكرته للأخ السيّد داخل، فدوّنه في موسوعته (معجم الخطباء)(1) قائلاً: ( يقول النجلُ الأصغر لسيّدنا المترجم الخطيب السيّد أمين عن أحد معارفه إنّه التقى في الهند بأحد عملاء النظام، وكان يتولّى تعذيبه عندما كان سجيناً، ولكنّه لم يعرفه لتغيير ملامحه، فاتّصل به وتظاهر بأنّه من الموالين للنّظام، وسأله عن بعض المساجين وبينهم السيّد جواد شبّر، فقال: إنّ أمر هذا الرجل لعجيب؛ فقد اجتمع مدير الأمن بضباطه ذات يوم ودار الحديث حوله وكيفيّة التعامل معه، وأخيراً قرّروا استمالته وتقديم العروض المغرية لتبديل موقفه، فاجتمعوا به وتحدّثوا معه بأنّك شخصيّة عراقية هامّة، ولك المواقف المشهودة، والخطب المؤثرة، والكلمة المسموعة في أوساط الشعب، فلا نريد منك سوى أن ترقى المنبر في الصحن الحيدري أو أيّ مكان عام وتخطب مشيداً بالسيّد الرئيس، وتشجب ما يقوم به الخميني اتّجاه العراق... إلخ!

ويذكّرني هذا المكر بمكر معاوية عندما طلب من الأحنف بن قيس بأن يرقى المنبر ويمتدح يزيد، فقال: لو تركتني لكان خيراً. قال: لماذا؟ قال: لأمرين؛ إذا صدقت أغضبتك، وإذا كذبت أغضبت الله. فلمّا طلبوا ذلك من السيّد مقابل إطلاق سراحه وإعطائه جواز سفره وبعض الإغراءات الأُخرى، أخرج السيّد لسانه وقال: اقطعوا لساني خير ممّا تدعونني إليه.

تحيّة لك أيّها البطل، ومرحى لصلابتك أيّها العظيم، وطبتَ حيّاً وميتاً، والسّلام عليك كلّما بدأ يعود ورحمة الله وبركاته.

قالوا في السيّد جواد شبّر

* قال الاُستاذ الأديب علي الخاقاني في (شعراء الغري): والسيّد جواد أديب ذكي، وخطيب شجاع، يعبّر عن كثير من الآلام التي يتحسّسها مجتمعه، ويندفع في تصوير ما يراه صالحاً لقومه بلهجة يغلب عليها الحماس، ويتخلّلها لون من الثورة النفسيّة؛ ولحماسه القوي فقد تصوّره فريق أنّه يتصنّع ذلك، غير أنّ مَنْ عرف سلوكه يعرف أنّه

____________________

(1) معجم الخطباء 1 / 348.

٣٦

صادق بتعبيره. (شعراء الغري 2 / 472).

* ووصفه الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني في معجمه: عالم فاضل، خطيب متكلّم، شاعر مجدّد، مؤلّف مؤرّخ متتبّع، نظم الشعر وجاهد بقلمه ولسانه في سبيل عقيدته ورسالته وتشيّعه الذي يعتبر بحقّ الإسلام الصحيح.

كتب بحوثاً ومواضيع توجيهيّة وأدبيّة في الصحف دلّت على تفوّقه العلمي ونضوجه الأدبي، اعتقلته السلطة الرعناء في شهر رمضان وضاع خبره حتّى هذه الساعة. (معجم رجال الفكر 2 / 713).

* وقال المرجاني في خطباء المنبر: هو أحد حسنات النجف الأشرف، وأحد خطبائها البارزين، وتراه إذا رقى ذروة المنبر انحدر كالسيل المتدفّق. واسع الرواية، قوي الحجّة. (1 / 136).

* وقال صاحب كتاب ومضات الشباب: اجتمعت له أسباب التوفيق في الحياة من انتشار صيت، وحسن حال، واستيعاب معرفة، ورخامة صوت، ونشاط أدبي ملموس الأثر؛ فانطلقت خلفه عيون فريق من مرتقي المنابر الذين يشاركونه المزاولة ولا يشاركونه المؤهّلات والمقام. (مشهد الإمام 4 / 154).

* قال الفقيه المظلوم الشيخ محمّد تقي الجواهري: السيّد جواد ليس له نظير في خطابته؛ فهو يركّز العقيدة. (المناهج الحسينيّة، تقديم: علي محمّد علي دخيّل).

* وقال العلاّمة الشيخ قاسم محيي الدين: الجواد هو رجل المناسبة، وأمل المستقبل في الخطابة. (خطباء المنبر 1 / 137).

* وقال العلاّمة العبقري الشيخ محمّد جواد مغنية في ختام تقديمه لموسوعة أدب الطفّ: وختاماً نسجّل تقديرنا لخطيب المنبر الحسيني الكفوء، صاحب هذه المجموعة التي ضاعفت حسناته بعدد أبياتها، وشهدت له بالتتبع وسعة الاطّلاع. (أدب الطفّ 1 / 16).

* ولمّا كان الشيخ محمّد جواد مغنية يقطن في المدرسة الشبّريّة، كنت أذهب إلى غرفته للاستفادة، ومرّةً حضر مجلساً حسينياً أُقيم في باحة المدرسة وقد قرأ الوالد، ولمّا انتهى قلت للشيخ مغنية: ما رأيكم بقراءة الوالد؟

فقال لي: إنّ أباك خطيب العُلماء، وعالم الخطباء.

* ومن ذكرياتي: تبادل الرسائل باستمرار بين الوالد والكاتب (روكس بن زائد العزيزي) رئيس رابطة حقوق الإنسان في الأُردن، فقد كنتُ أقرأ على ظرف رسائله كلّها عبارة: (... إلى أمير المنابر جواد شبّر...).

٣٧

* في لقاء مع آية الله العلاّمة السيّد محمّد مُفتي الشيعة في قم المقدسة(1) قال: كان الخطيب الفاضل السيّد جواد شبّر خطيباً مُبرزاً، واعياً جامعاً في خطابته، متكلّماً متميّزاً لفصاحته وبلاغته وشجاعته؛ حيث يُبيّن المطالب المنبريّة المهمّة... متحدّياً... دون تردّد ومداهنة...

وقد عرفته من الخطباء المتميّزين في شدّة ولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام ... مهيمناً على تلك المطالب، عارفاً بحُضّار مجالسه من العلماء والعامّة من الناس.

وكان هو الخطيب الذي يُختارُ غالباً لارتقاء المنبر الشريف في مجالس العلماء والمراجع... وكان ممّن ينصبُّ عليه الاهتمام في تأبين العلماء والمراجع؛ لإحاطته بكثير ممّا يتعلّق بسيرهم وحياتهم وآثارهم.

وممّا أتذكّره أنّه كان المعوّل عليه في تأبين العلماء والمراجع: السيّد الحكيم، والسيّد الميلاني، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد جواد التبريزي، والشيخ حسين الحلّي، والسيّد محمود الشاهرودي، وآقا بزرك الطهراني وغيرهم مِن أعلام الدين (رضوان الله تعالى عليهم).

* وقال الشيخ عبد الحسين الحويزي مخاطباً السيّد جواد شبّر(2) :

يـا آلَ شبّر لم تزل أنوارُكمْ

تـأبى بـأنديةِ الهدى إطفاءا

عرجت بكم هممٌ لغاياتِ العُلا

سبقت فجاوزت المدى إسراءا

تلامذته

يعتبر الخطيب السيّد جواد شبّر مدرسة واعية معطاءة تميّزت بإخلاصها وشموليّتها؛ فقد كان السَيّد موسوعة أدبيّة فقهيّة، حديثيّة تاريخيّة، فكنتُ عندما أجلس معه أو في مجالسه العامّة، أخرج بزيادة علم ومعرفة وأدب. وقد تتلمذ على يديه جمع من الخطباء نذكر بعضهم:

1 - الخطيب السيّد حسن الكشميري(3) .

2 - الخطيب الشيخ صالح الدجيلي(4) .

____________________

(1) اللقاء في تاريخ 18 شعبان 1420 هـ.

(2) أدب الطف 10 / 128.

(3) كما يشير هو في مجالسه من على المنبر، بل ويفتخر بذلك، ومعجم الخطباء 2 / 337.

(4) نقلاً عن السيّد حسن الكشميري.

٣٨

3 - الخطيب الشيخ شاكر القرشي(1) .

4 - الخطيب السيّد داخل السيّد حسن(2) .

5 - الخطيب السيّد عامر الحلو(3) .

6 - الخطيب الشيخ صالح الجزائري(4) .

7 - الخطيب الشيخ عبد الأمير أبو الطابوق(5) .

سيّدي الاُستاذ والوالد والمُربّي، أيّها المُغيّب عنّا في السجون، يا مَن خَدَمْتَ منبر جدّك الحسينعليه‌السلام أكثر مِن نصف قَرن، ثمّ أودعوك في زنزانات مُظلمة. أيّها الأسد الهصور، كُنت تقول لنا - نحن أبناؤك -: مَنْ منكم يسلك طريقي، طريق الخطابة الحسينيّة؟

فكانت (اُمنيتك)، وها أنا أُحقّق أُمنيتك أيّها الكبير العظيم، وعلى طريقك ونهجك أيّها المخلص.

أدعو لك مع مُحبّيك وجمهورك بالفرج من أيدي الطغاة.

أدعو لك بدموعي الممزوجة بلوعتي على فراقك.

أدعو لك مِن على منبر جدّك الذبيح، مِن على نفس المنبر الذي كُنّا نراك عليه، وكلّنا آذان صاغية لحديثك المُمتع:

فـما اسـتشعرَ الـمُصغي إليك مَلالةً

ولا قُلتَ إلاّ قال مِن طَرَبٍ: زِدني

فـأعظمُ مَـجدي كـان إنّـك لي أبٌ

وأكـبرُ فـخري كان قولك: ذا اِبني

ولدك: محمّد أمين        

7 ذو القعدة 1420 - 13/2/2000

____________________

(1) نقلاً عن خطباء المنبر الحسيني - للمرجاني 4 / 135.

(2) نقلاً عن خطباء المنبر الحسيني - للمرجاني 6 / 142.

(3) معجم الخطباء 2 / 361.

(4) خطباء المنبر الحسيني 5 / 174، ومعجم الخطباء 4 / 212.

(5) معجم الخطباء 7 / 224.

٣٩

الحسينعليه‌السلام عبرة المؤمنين

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرونَ بالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) «آل عمران 169 - 170».

عن عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليه‌السلام في يوم عاشوراء، فألفيته كاسفَ اللون، ظاهرَ الحزن، ودموعُه تتحادر مِن عينيه، فقلتُ: يابنَ رسول الله، مِمّ بكاؤك لا أبكى الله لك عيناً؟!

فقال: (( أوَ في غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسينعليه‌السلام أُصيب في مثل هذا اليوم؟! )) ثمّ بكى أبو عبد الله حتّى اخضلّت لحيته بدموعه.

المقدّمة

احتفال الأئمّة بيوم عاشوراء

جرت عادة الشيعة الإماميّة على الاحتفال بذكرى واقعة الطفّ الدامية، واتّخاذ يوم مقتل سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام يوم حزن وبكاء، اتّخذوا ذلك على سيرة الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)؛ فقد كان الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام إذا هلّ هلال عاشوراء اشتدّ حزنه، وعَظُمَ بكاؤه على مُصاب جدّه الحسينعليه‌السلام ، وتَفِدُ إليه الناس من كلّ جانب ومكان يُعزّونه بالحسينعليه‌السلام ويبكون وينوحون معه.

وكان الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تَغلبُ عليه حتّى تمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119