الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي28%

الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 133

  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35157 / تحميل: 13476
الحجم الحجم الحجم
الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الكوفة كان قد آوى إلى بيت المختار ، واتّخذ منه مقرا لسفارته الحسينية. ومن المقر الجديد باشر مسلمعليه‌السلام ، بأداء مهمته بأخذ البيعة للإمام الحسينعليه‌السلام أداءً للعهد الذي قطعوه للإمام الحسينعليه‌السلام ، في كتبهم ورسائلهم إليه.

وهكذا تحوّل بيت المختار إلى مقر للمعارضة ، وكان ذلك من أبرز الأسباب التي ساعدت على نجاح الشهيد البطل مسلم بن عقيل في مهمته أول الأمر ، إذ أن الارتباط العائلي للمختار بوالي الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري ، باعتباره والد زوجته (١) ، قد يكون من بين أسباب عدم قيام الوالي بأي فعل ردعي لمسلم بن عقيل مادام في بيت المختار ، الأمر الذي حدا بيزيد ابن معاوية إلى عزله ، ومن ثم تولية عبيد اللّه بن زياد (٢) ، وعلى أثر ذلك غادر مسلمعليه‌السلام بيت المختار ولجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي (٣) ، لما علم بإلقاء القبض عليه من قبل شرطة ابن زياد وللأسباب التالية :

١ ـ لم يكن المختار قد كوّن حزبه السياسي.

٢ ـ لم يكن له جيش قوي في الكوفة يكفي لحماية مسلم بن عقيلعليه‌السلام من شرطة ابن زياد.

__________________

عبيد اللّه بن زياد الظرف الحاصل ودعى الناس إلى عدم مبايعة الإمام الحسينعليه‌السلام وقتل مسلما.

وقد استُشهد مسلم بن عقيلعليه‌السلام في التاسع من ذي الحجة عام ٦٠ للهجرة (٦٨٠ م).

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ في حوادث (سنة ٦٧ هـ).

(٢) الفتوح / ابن أعثم ٥ : ٣٦.

(٣) الفتوح / ابن أعثم ٥ : ٤٠.

٢١

٣ ـ كما أن والد زوجته ، النعمان بن بشير ، والي الكوفة كان قد عُزل من قبل يزيد بن معاوية ، وبذلك فقد المختار جانبا مهما من المساندة والنفوذ السياسي ، وجدير بنا أن ننوِّه ، بأن المختار لم يطلب من مسلمعليه‌السلام أن يغادر داره إلى بيت هاني بن عروة ، بل خرج مسلمعليه‌السلام من تلقاء نفسه ، ولو طال بقاء مسلمعليه‌السلام عنده لكان مصيره مثل مصير المختار وبذلك نهاية حياته ، ومن ثم الحيلولة دون قيامه بالفعل التاريخي العظيم.

ولما علمت أُخت المختار وهي زوجة عبد اللّه بن عمر بن الخطاب بسجن أخيها ، طلبت من زوجها أن يعمل على الإفراج عنه ، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع في المختار.

واستجاب يزيد لطلبه ، وكتب إلى ابن زياد يأمره بالإفراج عن المختار ، واضطر ابن زياد إلى طاعة أمر يزيد ، فأطلق سراح المختار ، ولكنه قرر نفيه خارج العراق وأمهله أن يغادره خلال ثلاثة أيام ، وإلاّ ضرب عنقه بعدها ، وخرج المختار من العراق إلى الحجاز وهو يقول : «واللّه لأقطعن أنامل عبيد اللّه بن زياد ولأقتلن بالحسين بن علي عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا» (١).

وبرّ المختار بقسمه ، فقد لقى ابن زياد مصرعه على يد المختار ، كما نجح المختار فيما بعد بقتل كل من اشترك في قتل الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام في كربلاء.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧١ ـ ٥٧٢ (سنة ٦٤ هـ)

٢٢

موقف المختار من التحوّلات السياسية

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله

من الثابت تاريخيا تشيّع المختار وموالاته لأهل بيت نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن المعروف أنّ أقطاب التشيع والمحدثة في ذلك الحين لم ينهضوا بأعباء تغيير الواقع التاريخي الذي ساد بعد غياب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأمور كثيرة ، أوضحها لدينا الاقتداء بأمير المؤمنينعليه‌السلام الذي صرح في بعض خطبه بالسكوت والصبر بعد أن لم يجد ناصرا ولا معينا ، ومن هنا اتخذ شيعته موقف المسالمة حفظا على بيضة الإسلام الذي كانت تحيطه الأخطار من كل حدب وصوب ، ولم يكن هذا الموقف ثابتا في تاريخ التشيّع ، إذ تغير بعد بروز نجم الأمويين بعد أن تمهّدت السبل إليهم ، وهنا يبرز المختار كشخصية شيعية معارضة فنراه قد فتح أبواب بيته لمبعوث الحسين بن عليعليهما‌السلام ، إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وهذا يساعدنا على اعتبار أن ثورتهرحمه‌الله كانت أمرا طبيعيا ومنتظرا من رجل شجاع ومخلص مثل المختاررضي‌الله‌عنه (١).

وحيث انتهى مصير الإمام الحسين إلى ما انتهى إليه من ثورة عملاقة على طغاة العصر وفراعينه كتبها الدهر بأحرف من نور ، وحيث لم تسنح الفرصة

__________________

(١) الأخبار الطوال : ٣٤١ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨٦ (سنة٦٠) ، بحار الأنوار ٤٥ : ٣٥٣.

٢٣

للمختار بالاشتراك في تلك الثورة ، إذ كان في سجن ابن زياد كما تقدم. وما ان أفرج عنه إلاّ وقد صمّم الانتقام من الشجرة الملعونة وأتباعها من اشترك في قتل ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسبطه الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٤

علاقة المختار بمسلم بن عقيل

لقد بلغ يزيد بن معاوية الطاغية المستبد لعنه اللّه الذروة في الشراسة والعنف ، فزرع الأحقاد والضغائن في كل مكان ، ومثل المجازر الدموية على مسرح الشهوات ، وأصبح الإسلام على حافة الهاوية والدمار ، يستعمله أداة لتحقيق أطماعه الجشعة. فقد وضع مصلحته الخاصة فوق كل الاعتبارات المقدسة ، وأطلق أيدي الأذناب والخونة والمرتزقة لتعبث بأموال الناس ، وتعبث في الأرض فسادا ، وتطعن الأمة الإسلامية في أقدس قضاياها.

وكان لاستهتار ذلك الوغد اللعين بمقدرات الأُمّة ، والأوزار الثقيلة التي نجمت عن تصرفاته الطائشة قد فجرت في نفس الإمام الحسينعليه‌السلام ، آلاما لا حدّ لها ، نتيجة لإحساسه بالمساوئ التي كان يعجّ بها المجتمع الإسلامي ، فاتّقدت الحمية في قلبه الشريف واستعر نارها ، تلك النار المحرقة لكل ظالم مستبد ، وجهر بإعلانه على التصميم والمضي قدما على طريق الكفاح ، التصميم الكامل على خوض المعركة الضارية مع المنحرفين ، وأشعل البركان الذي لا ينطفئ ، منغمرا في زحمة النضال ، مهما يتطلّب هذا النضال من تضحيات ، ما دام الإسلام في خطر عظيم ، وهوعليه‌السلام يعلم بأن كل ما يبذله في تصحيح المسار من ثمن ضد الذين لا يضمرون للإسلام إلاّ الحقد الأسود ، والعداء السافر ، هو بعين اللّه محسوب.

٢٥

وقد زاده ألما وملأه حسرة ، من أن يكون (يزيد) الماجن الخليع حاكما على المسلمين ، فيعمل على الانسلاخ من المبادئ السامية ، والطباع العربية الأصيلة ، فيرتمي في أحضان الخيانة ، ويخضع لأحقاده الموروثة على آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !

فما كان من الإمام الحسينعليه‌السلام وقد بلغته من الكتب ما يقرب من إثني عشر ألف كتاب ، فقرر عند ذلك السفر إلى العراق ولكنه بعث ابن عمه مسلم بن عقيل ليستوثق من البيعة ، وعلى أثر ذلك التفويض خرج مسلم ابن عقيلعليه‌السلام من مكة للنصف من شهر رمضان سنة ستين للهجرة (١) ، وبعد معاناة وصل مسلم الكوفة ، فنزل بدار المختار بن عبيد الثقفي (٢) ، وكان شريفا في قومه ، كريما عالي الهمة ، مقداما مجربا قوي النفس شديد على أعداء أهل البيتعليهم‌السلام .

وليس نزول مسلمعليه‌السلام في بيت المختار بالشيء اليسير إذا نظرناه من وجهة الظروف الراهنة آنذاك ، ومن وجهة دعوة جديدة يُراد بها قلب نظام جماعي يدين بالولاء لبني أمية ، فهو على أية حال يعطينا صورة واضحة عن عقيدة هذا الرجل الذي جعل من بيته ندوة ينشر منها دعوة الحسينعليه‌السلام ، بالرغم من كثرة أزلام السلطة الأموية في الكوفة التي كانت تراقب كل شيء.

ومن بيت المختار راح مسلمعليه‌السلام ينشر دعوته ، ويجمع الأنصار من حوله ، وجدَّ في ذلك حتى بلغ عدد من بايعوه ثمانية عشر ألفا (٣) ، وقيل

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٨٦ ، الإرشاد / المفيد : ٢٢٨.

(٢) الطبري ٦ : ١٩٩.

(٣) المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : ٣١ ، نقلاً عن الطبري ٦ : ٢١١.

٢٦

خمسة وعشرين ألفا (١) ، حيث اكتظّت شوارع الكوفة بجماهير الهاتفين بتحيات الاستقبال ، وامتلأت الدار على سعتها بالمزدحمين من مختلف الطبقات على الترحيب به ، حاملين وسام حفلة الحفاوة بقدومه ، رافعين شعار التهاني والابتهاج بتشريفه.

وكان من جملة من بايعه ودعا الناس إليه هو المختار ، وكان أمير الكوفة يومئذٍ هو النعمان بن بشير ، ولكن جماعة من بني أمية لم يسكتوا عن تحركات مسلمعليه‌السلام فكتبوا إلى يزيد بجلية الحال. فقد كتب عبد اللّه بن مسلم الباهلي (٢) كتابا إلى يزيد يخبره فيه بنشاط مسلم بن عقيلعليه‌السلام وما كان من يزيد إلاّ أن يبعث (عبيداللّه بن زياد) ، واليه على البصرة ويضمّ إليه الكوفة. ثم تدور الدائرة وإذا بعبيداللّه بن زياد أميرا على الكوفة (وسيفه وسوطه على من ترك أمره وخالف نهيه) ، وإذا بأهل الكوفة الذين بايعوا مسلما بالأمس القريب يتخاذلون عنه ، فهم بين متخاذل وخائف مرتاب.

إنّ مجيء ابن زياد إلى الكوفة واليا عليها من قبل يزيد الفاسق الملعون كان سببا في خنق حركة مسلم بن عقيل ، حيث ان أول عمل قام به هو القضاء عليها ، وذلك بتثبيط عزائم قادتها ، وهناك ظفر بهم فسجنهم في بيوتهم ، وجعل عليهم رقابة شديدة ، ومنهم من ألقي في غياهب السجون.

أما المختار فلم يك يعلم بما حدث ، ولم يدر بخلده أن يتخاذل الناس عن مسلم ثم يسلّمونه للسيوف وهم يتفرّجون ، لأنّه يُروى أنه كان في قرية خارج الكوفة تسمى (القفا) وحين علم بذلك أقبل بمواليه وطائفة من قبيلته

__________________

(١) ابن شهرآشوب ٢ : ٣١.

(٢) وقيل عبد اللّه بن مسلم الحضرمي ، حليف بني أمية.

٢٧

لتلافي الموقف ومعه (عبد اللّه بن الحرث) ، وهو يحمل رايته الخضراء حتى انتهى به المطاف إلى (باب الفيل).

ولكن رأى فور وصوله ما لم يكن يقدر أن يراه ، رأى الكوفة وهي تموج بحركة قوية عنيفة وعلى رأسها السفاح (عبيد اللّه بن زياد) يصفعها بالسيف والسوط ، فماذا يكون موقفه ضد ذلك التيار الجارف؟ أتراه يقاتل بتلك الجماعة الضئيلة؟ كلاّ ، ولكنه الاستسلام والخضوع للأمر الواقع وليدخر ما عنده من قوى إلى فرصة أخرى ، فلبث وهو لا يدري ما يصنع حتى أُشير عليه أن يجلس تحت راية (عمرو بن حريث) ـ راية الأمان ـ ليأمن على حياته من هذا الطاغية ، فقبل مشورة ذلك الرجل الذي أشار عليه بالدخول تحت الطاعة والخضوع ، ولكنه قال ما يدل على تأثره وانزعاجه (أصبح رأيي مرتجيا لعظم خطيئتكم) ، وأكد عمرو هو الآخر أن يشهد له بالبراءة أن بلغ الأمير عنه ما يريب.

ولكنه سرعان ما مثل بين يدي اللعين ابن زياد :

ابن زياد : أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل وتتولّى أبا تراب وولده.

المختار : أما علي وأولاده فإنّي أحبّهم لمحبّة رسول اللّه. وأما نصرتي لمسلم فلم أفعل.

فانبرى عمرو عند ذلك وشهد له بالبراءة ، ولكن ابن زياد أبى أن يستجيب لهذه الشهادة والعمل على إخلاء سبيله ، بل عمد إلى سوط واستعرض به وجهه ضربا حتى أدماه ، كما أصاب عينه فشترها ، وهذا المشهد العدواني لاشك قد أثر في نفسه تأثيرا قويا وأومى إليه بالقسوة والانتقام وبخاصة من (ابن زياد) ، الذي حاول أن ينفذ فيه القتل ولكن شهادة عمرو

٢٨

خفّفت من حدّة الموقف فأمر به فغُيِّب (١).

في غيابة السجن :

أدخل المختار إلى السجن ، ولم يداخله اليأس من العودة إلى الحياة الحرة لمواصلة ثورته ، لأنّ البطل الذي يقوم بما قام به المختار من أعمال جبارة لايمكن أن يتسرب إليه اليأس والنكوص ، فإذا عرفنا بأنّه لم يكن رجلاً عاديا ولا من سائر الناس ، أدركنا بأنه رجل ملئ بالثقة والاطمئنان شأنه في ذلك شأن بقية الأبطال الثائرين ، فمن المؤكد بأنه لا يدري بوثوق بأن الحركات السياسية معرضة للفشل كما أنها معرضة للانتصار ، وهو يدري بأنه هو وأمثاله ينبغي لهم أن يعيدوا الكرة مرة أخرى إذا هم فشلوا في حركاتهم ومن شأنهم أنهم يحاولون مرة بعد أخرى حتى ينتصروا ، أما اليأس والتراجع فهما من صفات الجبناء المغفلين لامن صفات الأبطال الناهضين ، لذلك تملكه الأمل والرجاء في المستقبل.

فبقى صامدا ينتظر الساعة التي يخرج من السجن ويعمل في الحياة السياسية الثورية ، آملاً أن يحقق ذلك بعد أن يعمد إلى الخلاص من السجن حين تنتهي هذه الظروف أو تأتي فرصة تسمح له بالخروج ، فهو واثق من تحطيم أغلال السجن ويعيد العمل في الأمر الذي نذر نفسه من أجله وهو الطلب بثأر الحسينعليه‌السلام .

وظل بهذه الخواطر ونحوها وهو في محبسه بـ (قصر الإمارة) ، حتى انبثقت في ذهنه فكرة كانت بمثابة الخلاص من السجن ، وهي أن يكتب إلى عبد اللّه بن عمر ليتولّى مسألة إطلاق سراحه ، يقول المؤرخون أن شقيقته

__________________

(١) المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : ٣٤.

٢٩

ـ صفية ـ قامت بدورها في هذا المضمار بنصرته فحرّضت زوجها (عبد اللّه بن عمر) أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بهذا الكتاب :

« أما بعد فإنّ عبيد اللّه قد حبس المختار وهو صهري ، وأنا أحب أن يعفى ويصلح من حاله فإن رأيت ـ رحمنا اللّه وإياك ـ أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته والسلام».

وكتب يزيد إلى واليه (عبيد اللّه) بهذا الكتاب :

« أما بعد فخلِّ سبيل المختار حين تنظر في كتابي هذا. ».

وحالما وصل الكتاب إلى واليه ابن زياد ، أمر باحضار المختار وأطلق سراحه ولكنّه قال له : « قد أجّلتك ثلاثا فإن أدركتك بالكوفة فقد برئت منك الذمّة ». وهكذا أخرج المختار من محبس عبيد اللّه بن زياد ليتوجّه إلى الحجاز ولكنه يصادف في الطريق بمكان يدعى (واقصة) رجلاً يسمى (ابن عرق) ـ وهو مولى لثقيف ، فقال هذا الرجل : مالي أرى عينك على هذا الحال؟ قال فعل بي ذلك (ابن الزانية) ويعني به (ابن زياد) قتلني اللّه إن لم أقطع أنامله وأعضاءه إربا ، ولأقتلن بالحسين عدد الذين قتلوا بيحيى بن زكريا ، وهم سبعون ألفا (١).

مع ابن الزبير :

كان ابن الزبير ممن يطلب الخلافة لنفسه بعد هلاك معاوية ، وحينما جاء المختار إلى مكة بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، علم ابن الزبير بمقدمه ثم حضر عنده وسأله بدوره عن نفسيات أهل الكوفة وما هم عليه فأجابه المختار : « هم في السرّ أعداء ، وفي العلانية أولياء ».

فقال ابن الزبير : « هذه واللّه صفة عبيد السوء ، إذا حضر مواليهم خدموهم ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٩.

٣٠

وإذا غابوا عنهم شتموهم ».

ذرني من هذا وابسط يدك لأبايعك واعطني ما أرضى به لأكون لك من الدعاة في الحجاز ، فسكت ابن الزبير وكأنه لم يصادف هوى من نفسه بهذا الشرط الأخير ، فتركه المختار ومضى إلى الطائف بعد أن رأى ما لا يعجبه فقال : «وإني لما رأيت استغنى عني ، أحببت أن أريه أني مستغنٍ عنه».

بقي المختار في الطائف عاما كاملاً ثم عاد ثانية إلى مكة وحضر عند ابن الزبير وبايعه. وهنا قد يخطر في البال ، لماذا بايع المختار ابن الزبير ، وقد رفض بيعته أول الأمر؟ وجوابه :

أولاً : إنّه كان يعلم عداء ابن الزبير للأمويين وسعيه للوصول إلى السلطة فانضم إليه بهدف الاطاحة بالحكم الأموي لا إيمانا بقضية ابن الزبير ولا حبا وإخلاصا له.

ثانيا : قد تكون بيعة المختار لابن الزبير وسيلة لا غاية ، يهدف من خلالها إلى تحقيق أهدافه وآماله الثورية والسياسية التي وضعها على نفسه في أخذ ثار الحسينعليه‌السلام ، وحين علم أن ابن الزبير لا يحقق ما كان يصبو إليه ولا ينفذ طلباته ولا يفي له بالشروط التي اشترطها عليه انسحب عنه.

وبمعنى آخر : كانت هذه البيعة السبب المباشر للقضاء على الذين اشتركوا في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ، وإلاّ لتمتّع هؤلاء القتلة المجرمون بالعيش الهانئ والقصور الفارهة التي أقرّها لهم النظام الأموي.

ثالثا : ربما أن البيعة تمّت بطلب من عبد اللّه بن الزبير ، بدليل أن المختار فرض عدّة شروط من أجل أن يبايع ابن الزبير ، كما ذكر الطبري (١) ، والشروط

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٤٥.

٣١

كما يلي :

١ ـ أُبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني.

٢ ـ أكون أول من تأذن له ، وآخر من يخرج من عندك.

٣ ـ إذا ظهرت ، استعنت بي على أفضل عملك.

على أية حال ، فكل ذلك يدلّنا بجلاء ووضوح من أن المختار لم يبايع ابن الزبير لا لكونه خارجا عن طاعة بني أمية فحسب ، بل يضاف إلى ذلك أن المختار لم يكن بالرجل العادي الذي يعترف لابن الزبير بالخلافة حتى يمد إليه يده صاغرا ، وهو يعرفه جيدا بأنّه الرجل الممالئ المنحرف في عقيدته ومذهبه ، وأنّه قد شبّ على عداء آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ظهر العداء فيه واضحا حين ترك الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء خطبه حتى نقده الناس ولاموه ، فقال كلماته النكراء التي توضّح مدى عقيدته :

«إن له ـ أي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أهل بيت إذا ذكرته اشرأبت نفوسهم إليه وفرحوا فلا أحب أن أقرأ ذلك في عينهم».

وبعد كل ذلك ، وبعد أن تيقّن للمختار عدم صدق عبد اللّه بن الزبير معه قرر السفر إلى الكوفة على أن يجد ما يصبو إليه من الثورة والأخذ بالثأر من قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام .

٣٢

المختار قائدا

لا نشك ، في أن موقف المختار من تولّي معاوية للخلافة كان من موقف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإنّما دعاه إلى موقفه السلبي هو الظروف السائدة حينها ، إذ باتت بوادر ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ، من خلال رفضه لمبايعة يزيد ، وإرساله مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ممثِّلاً عنه إلى أهل الكوفة.

برز دور المختار واضحا في مساندته للإمام الحسينعليه‌السلام ، من خلال تحويل بيته إلى مقرّ للسفارة الحسينية ، وملتقى للمعارضة الشيعية ، غير أن استشهاد مسلمعليه‌السلام ، بأساليب ابن زياد التي نوّهنا عنها سابقا ، وما أعقبها من إلقاء القبض على المختار ، وزجِّه في السجن ، وشتر إحدى عينيه ، الأمر الذي حال بينه وبين الاشتراك في القتال إلى جانب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان غيابه الذي أكره عليه قد أثّر في نفسه أثرا شديدا ، ومن هنا نذر نفسه على الانتقام ، والثأر من قتله الإمام الحسينعليه‌السلام ، وما كان له ـ والوضع في الكوفة يدعوا للخيبة واليأس ـ إلاّ أن يباشر حركته تلك ، خصوصا وأن ابن زياد كان قد أمره بمغادرة الكوفة بعد أن أخرجه من السجن بواسطة عبد اللّه بن عمر ، فكان أن توجه إلى بلاد الحجاز ، وهناك التقى بعبد اللّه بن الزبير الذي لم يجرؤ على أن يدعو لنفسه والإمام الحسينعليه‌السلام على قيد الحياة. وإذ لقى الحسين ربه ، أظهر ابن الزبير دعوته على الملأ ، وبيّن للناس حقّه في الخلافة ،

٣٣

ووقف يخطب بالناس ، فهاجم أهل الكوفة لغدرهم بالحسينعليه‌السلام (١) ، وكان لكلماته رنّة السحر في نفوس العلويين وأهل الحجاز خاصة ، والساخطين على الحكم الأموي عامة ، فالتفّوا حوله ، وناصروه ورأوا فيه الزعيم الذي يأخذ بثار شهيدهم الحسينعليه‌السلام ، ويقضي على الحكم الأموي ، ولما طلبوا منه أن يبايع لنفسه ، لم يجبهم إلى طلبهم كأنّما يريد أن يظهر للناس زهده في الخلافة (٢).

وقد ذكر خروج المختار من الكوفة إلى الحجاز ولقائه بابن الزبير ومبايعته له على شروط قبلها المختار للأسباب التالية :

أ ـ خوف ابن الزبير على السلطة التي لم يكن يحلم أن تؤول إليه بهذه السهولة.

ب ـ تخوّف ابن الزبير من المختار الذي أصبحت له منزلة عظيمة بين أشراف المسلمين ، وفي قلوب الشيعة بشكل خاص.

ج ـ أو ربما لاسترضاء عبد اللّه بن عمر بن الخطاب صهر المختار والذي كان ابن الزبير بأمسِّ الحاجة إلى كسب ودِّه.

ولمّا تبيّن لدى المختار ، أن ابن الزبير ليس بالرجل المؤتمَن الذي يتولّى تحقيق وتلبية مطالب الشيعة وطموحاتهم بالقضاء على الحكم الأموي والأخذ بثار الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن ثم إقامة حكومة تلبّي مطالب عامة الناس من الفقراء ، والمعوزين ، وكان من بينهم الموالي الذين عانوا من الاضطهاد الأموي الكثير الكثير. لذلك فقد حزم المختار أمره وجاء إلى الكوفة

__________________

(١) انظر الخطبة في تاريخ الطبري ٤ : ٣٦٤.

(٢) المختار الثقفي / الخربوطلي ٤ : ٣٦٤ ، نقلاً عن الطبري.

٣٤

ليتولّى بنفسه قيادة الجموع وذلك في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان عام ٦٤ هـ (السادس من مايس عام ٦٧٤م) (١). بعد هلاك يزيد بن معاوية لعنهما اللّه بنحو سنة وبضعة أشهر إذ هلك يزيد لعنه اللّه في يوم الخميس لأربع عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول (سنة / ٦٣ هـ).

وكان يصحب المختار رجل واحد هو عبد اللّه بن كامل الهمداني ، وقد لقيا بـ (العذيب) ، هاني بن أبي حبة الوداعي (٢) ، فسأله المختار عن أخبار الكوفة ، فقال : تركت الناس كالسفينة تجول بلا ملاح عليها. فقال المختار : أنا ملاحها الذي يقيمها (٣).

ثم سار المختار حتى انتهى إلى نهر الحيرة ، فنزل واغتسل ولبس ثيابه ، وتقلّد سيفه ، وركب فرسه ، ودخل الكوفة نهارا ، والناس يتهيئون للصلاة ، فجعل لا يمر بملأ إلاّ وقف وسلّم ، وقال : «ابشروا بالفرج ، فقد جئتكم بما تحبّون ، وأنا المسلّط على الفاسقين ، والطالب بدم أهل بيت نبي رب العالمين». ثم دخل الجامع وصلّى فيه ، فرأى الناس ينظرون إليه ، ويقول بعضهم لبعض : هذا المختار ما قدم إلاّ لأمر ونرجو به الفرج.

وخرج من الجامع ، ونزل داره ، ثم بعث إلى وجوه الشيعة وعرفهم أنه جاء من محمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين السجّادعليه‌السلام ، للطلب بدماء أهل البيتعليهم‌السلام . فقالوا : « أنت موضع ذلك وأهل ».

__________________

(١) الطبري ج٨ ، طبقات ابن سعد ٥ : ٧١.

(٢) المصادر نفسها.

(٣) كذا.

٣٥

وخلال ذلك هرب ابن زياد من الكوفة إلى الشام (١) ، وبعد أُسبوع من وصول المختار ، أرسل عبد اللّه بن الزبير واليا من قبله على الكوفة هو ، عبد اللّه ابن يزيد الخطمي ، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه عاملاً على الخراج (٢).

__________________

(١) لم يحدد لنا كتبة التاريخ والسير ، تاريخ هروب ابن زياد من الكوفة. لكننا حصرنا ذلك بعام ٦٤ هـ ، لأنّ ابن زياد حين علم بوفاة يزيد سنة ٦٤ هـ ، وطرد واليه على البصرة ، ثم هروب أكثر الولاة الأمويين من الولايات التابعة للمملكة الأموية ، التحق هو مع من هرب إلى عاصمة الأمويين ـ الشام ـ ، حيث جرى تسليم الحكم في الكوفة إلى رجل اتفق عليه بالإجماع من قبل زعماء الكوفة وأشرافها ، وهو عامر بن مسعود ، الذي ما لبث أن دان بالولاء لعبد اللّه بن الزبير ، الذي تمكن من توحيد مركزه في العراق. راجع : الطبري ٧ : ٢١ ، الخوارج والشيعة / فلهوزن : ١٩٠.

(٢) الطبري ٥ : ٥٦٠.

٣٦

التوّابون

كان لاستشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام بهذه الصورة المأساوية نتائج خطيرة في تاريخ العراق والدولة الأموية عامة. فقد عاشت الشيعة بشكل خاص ، والمسلمين بشكل عام عقدة الذنب مثقلاً بمرارة الموقف الانهزامي الذي وقفته إزاء كربلاء.

وتحرّج النظام الأموي الذي لم يقدر فظاعة المأساة ، وكان عليه أن يجابه نتائجها السريعة والمستقبلية التي أخذت تنعكس منذ ذلك الحين على بنية هذا النظام.

وليس ثمة شك في أن ـ يزيد ـ كان المسؤول الأوّل والأخير عن مجزرة كربلاء ، وكان مسوقا إلى ارتكابها بدافع ما كان يمتلئ به صدره من حقد ، وغيظ وحسد ، للإمام الحسينعليه‌السلام ، وللهاشميين عموما باعتباره امتدادا لذلك الأسن الأموي الجاهلي مما غيّب عنه الرؤيا الصحيحة للواقع السياسي كما كان ذلك علامة وسببا لفشله في تبوّء مركز السلطة ، ذلك المركز الذي بذل في سبيله أبوه الطليق الباغي معاوية كل إمكانياته ، وصرف كل جهوده من أجل الحفاظ عليه (١).

__________________

(١) سليمان بن صرد الخزاعي / د. إبراهيم بيضون : ٧٩.

٣٧

كانت مأساة كربلاء لا تزال ماثلة في أذهان أهل الكوفة بالذات ، وكان كثير منهم يشعرون بالندم ، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن دم الإمام الحسينعليه‌السلام وآل بيته وأنصاره ، وباتوا يتطلّعون إلى الأخذ بثاره ، فأخذوا يبحثون عن زعيم يقودهم لتحقيق هذا الغرض.

فأدرك المختار هذه الحقيقة ، ورأى أن يكون هو ذلك الزعيم المنشود ، فقد ذكر المسعودي : « أنه بعد استقرار المختار في الكوفة ، راح يبكي على الطالبيين ، وشيعتهم ، ويحثّ على أخذ الثار لهم ، والمطالبة بدمائهم ، فمالت الشيعة إليه ، وصاروا من جملته لاحقا » (١).

إلاّ أنه لاحظ أن عدد الذين التفّوا حوله ، لا يمكنه بهم أن يحقِّق أهدافه مع انضمام الكثير إلى حركة التوابين التي قادها سليمان بن صرد الخزاعي (٢) ، وأربعة من كبار زعماء الكوفة ، وهم : المسيب بن نجبة (٣) الفزاري ، وعبد اللّه ابن سعد بن نفل الأزدي ، وعبد اللّه بن وائل التميمي ، ورفاعة بن شدّاد البجلي ، الذين هيَّأوا مستلزمات الثورة من جمع الأسلحة واستمالة الناس ، كما واتفقوا على أن يعقدوا لقاءات دورية لتقويم النشاطات التي قاموا بها ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢١.

(٢) وكان اسمه في الجاهلية (يسار). سماه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سليمان وكان خيرا فاضلاً ، له دين وعبادة ، وشرف وقدر في قومه. شهد صفين مع الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكان ممن كتب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، يسأله القدوم إلى الكوفة ، فلما قدمها ترك القتال معه ضد المعتدين ، ثم ندم على ذلك ، وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الإمام عليعليه‌السلام .

انظر الاستيعاب بهامش الاصابة ٢ : ٦٣ ، والاصابة / ابن حجر ٢ : ٧٦.

(٣) ورد في البداية والنهاية / ابن نجية ٨ : ٢٤٧. أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهد القادسية وفتح العراق. فيما ذكر ابن سعد ، أنه كان مع الإمام عليعليه‌السلام ، في مشاهده.

٣٨

والانجازات التي حققوها ، ومن ثم لتحديد موعد للخروج وإعلان الثورة ، واستقرّ رأيهم على أن يكون التجمع في النخيلة (١) ، في نهاية ربيع الآخر من سنة ٦٥ للهجرة (٢) ومن هنا فإنّنا نعتقد أن سبب اجتماع هذه النخبة يعود إلى :

١ ـ الشعور بهول المأساة ، وفداحة الإثم.

٢ ـ الإسراع باتخاذ موقف انتقامي من المسؤولين عن مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، سواء الأمويين ، أم المتواطئين معهم.

٣ ـ الإلحاح في طلب التوبة عن طريق التضحية بالنفس.

٤ ـ إنقاذ الأمة الإسلامية من جور وطغيان الأمويين اللامتناهي.

٥ ـ فضح بني أمية وإظهارهم على حقيقتهم الظالمة وكما هو حالهم حيث تمسّكهم بالحكم والكرسي ، وهذا معناه أنهم لا يعترفون بدين ، ولا بشريعة ، وأنهم على استعداد تام أن يفعلوا أي منكر وقبيح ما داموا لا يعترفون بجنّة ولا بنار.

٦ ـ تحريك عواطف المسلمين من أجل تكوين حركات كفاحية أُخرى ضد جبروت المملكة الأموية ، لأنّ التصميم على الكفاح ينتج عنه ضرورة التغيير.

ومهما كان شكل هذا الاجتماع المحفوف بالخطر ، فإنّه أفضل من الانتظار الجامد.

كانت سنة خمس وستين للهجرة (٦٨٤م) ، قد حلّت وفي هذه السنة انتقلت ثورة التوابين من محتواها التخطيطي ، وإطارها التبشيري إلى مرحلة

__________________

(١) النخيلة : مكان بالقرب من الكوفة.

(٢) ابن الأثير ٨ : ٢٤٧.

٣٩

التنفيذ الحاسم. وكان من شعارات التوابين التي كثر ترديدها حينئذٍ :

« من أراد الجنّة فليلتحق بسليمان في النخيلة ».

« من أراد التوبة فليلتحق بسليمان » (١).

إلى غير ذلك من الشعارات التي لم تخرج عن إطار الغفران والتكفير عن الذنب.

وبعد تشاورٍ ، رأى زعماء الحركة ، أن قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، موزعون في أنحاء الأرض ، وليس سهلاً أن تطالهم سيوف التوابين كما يتصور البعض ، لذلك ارتأوا أخيرا أن تكون الشام ـ قاعدة الطغيان ـ والمسؤولة قبل أي أحد عن مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وفي رأيهم أن النظام هو الذي ينبغي أن يحاسب وليس الأشخاص (٢) لأنّ أولئك القتلة كانوا فقط الأداة التي نفّذت الأوامر ، وقامت بما طلب منها بأبشع ما يكون.

وبعد هذا كله غادر التوابون الكوفة ليلة الجمعة في الخامس من ربيع الثاني سنة ٦٥ هـ التاسع عشر من تشرين الثاني سنة ٦٨٤م ، ووجهتهم (النخيلة) ، المكان الذي ستلتقي فيه وفود المتطوعين الذي تعاهدوا على الالتحاق بإخوانهم في الموعد المحدد.

وبعد إقامة سليمان ورفاقه أياما ثلاثة (٣) ، في المعسكر لم تكن الاستجابة بالمستوى المقدَّر لها ، وانخفض العدد الذي التزم بالخروج مع زعيم الحركة إلى الربع تقريبا ، حيث قدر أن آخر ما وصل إليه تجمع التوابين في

__________________

(١) قيل إن عدد المتطوعين ارتفع إلى نحو عشرين ألفا. انظر ابن كثير ٨ : ٢٥١.

(٢) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ٢ : ٥٨.

(٣) الطبري ٧ : ٦٧ ، ابن الأثير ٢ : ٢٥٢.

٤٠

النخيلة لم يتجاوز الأربعة آلاف مقاتل (1) ، وربما انخفض إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة مقاتل (2) إبان المعركة الفاصلة ، وكان من أبرز المتخلفين شيعة المدائن والبصرة (3) ، فضلاً عن تخلّف عدد غير قليل من شيعة الكوفة.

وما كان لعزوف الكثيرين عن تلبية دعوة سليمان في (النخيلة) ، أي تأثير على معنويات زعماء الحركة أو أي انعكاس على عزائمهم الثابتة.

فقد بلغ بهم الإيمان حدّا جعلهم لا يفكرون إلاّ بالهدف الذي خرجوا من أجله ، ولن يعيقهم عن الحقيقة عائق مهما بدت الطريق إليه صعبة وشائكة. ثم كانت وفاة يزيد وما تبعه من انقسام بني أمية.

فاعتبرها التوابون نصرا لهم ، وظن ابن صرد ، أن وفاة الطاغية الملعون يزيد ستؤدي إلى التفاف الناس حوله ، فما يكتب لحركة التوابين النصر.

تقدم (التوابون) ، حتى بلغوا قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهناك استرحموا عليه ، وبكوا بكاءً مرا ، وهم يردّدون في خشوع :

« اللهمّ إنا نشهدك على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبّيهم ، اللهمّ إنا خذلنا ابن بنت نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاغفر لنا ما مضى منا ، وتب علينا ، وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين ، وإنا نشهدك إنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

وبقي سليمان آخر من بقي من أصحابه يتضرّع عند القبر الشريف ، ويستغفر لذنوبه ، ويأتي آخر وهو (وهب بن زمعة) فيبكي الحسين بأبيات

__________________

(1) الطبري 7 : 67 ، ابن الأثير 2 : 252.

(2) الفتوح / ابن الاعثم الكوفي 5 : 214.

(3) الطبري 7 : 69.

٤١

(عبد اللّه بن الحر الجعفي) كأنه أراد أن يواسي أميره بالبكاء واللوعة والتوبة :

تبيت النشاوى من أُمية نوما

وبالطف قتلى ما ينام حميمها

فأقسمت لا تنفك نفسي حزينة

وعيني تبكي لا تجف سجومها

حياتي أو تلقى أُمية خزية

يذلّ لها ـ حتى الممات ـ قروحها

ثم ساروا إلى الأنبار ومنها إلى قرقيسيا ، وكان بها زفر بن الحارث الكلابي عامل ابن الزبير ، فقدم لهم المال والمؤن ، وعرض عليهم البقاء في قرقيسيا وتوحيد جهودهم ليسهّل لهم القضاء على ابن زياد ، ولكن ابن صرد أصرّ على المسير لقتال ابن زياد قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

وكان ابن زياد في طريقه إلى قرقيسيا فأتته الأنباء بوفاة مروان بن الحكم ، وتولّيه ابنه عبد الملك ، الذي أرسل إليه يقرّه على ما ولاّه أبوه مروان ، فسار ابن زياد حتى لقى (التوابين) ، عند عين الوردة (1) فطلب منهم أن يبايعوا الخليفة الأموي الجديد عبد الملك ، فردّ عليه ابن صرد طالبا منه الاستسلام ، كما دعا جند الشام إلى خلع عبد الملك ومساعدة التوابين في إخراج عمال ابن الزبير من العراق ، وتسليم الأمر إلى أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) وكأن التوابين كانوا يعبرون تماما في ذلك الحين عن آراء المختار ومبادئه ، فقد كان المختار يدعو إلى القضاء على كل من النفوذين الأموي والزبيري بالعراق ، كما يدعو إلى إقامة خلافة علوية ، ولكن التوابين والأمويين أبوا إلاّ أن يقاتلوا في سبيل

__________________

(1) رأس عين نبع على بضعة أميال إلى الشمال من قرقيسيا على نهر الفرات ، انظر ابن الأثير 4 : 76.

(2) أنساب الأشراف / البلاذري 5 : 21.

٤٢

الأغراض التي خرجوا من أجلها.

وكان من البديهي ، أن يرفض القائد الأموي شروط زعيم التوابين ، وكان معنى ذلك أن الحرب أصبحت وشيكة الوقوع.

وفعلاً اندفع التوابون من مواقعهم بقيادة سليمان بن صرد ، والتحموا مع قوات الحصين بن نمير السكوني ، والأموية التي تفوقهم كثيرا في العدد ، وذلك في يوم الأربعاء في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 65 هـ (4 كانون الثاني 685م) بعد خمسة أيام من نزولهم في (عين الوردة) (1).

ويظهر من سير الاشتباكات الأولية ، أن وضع (التوابين) ، ـ برغم قلّتهم العددية ـ كان جيدا ، ومعنوياتهم بارتفاع دائم ، أما الحماس فقد بلغ حدّا لا يوصف ، وكانت تستثيره نداءات سليمان في صخب المعركة فتزيده التهابا وتأجّجا : «يا شيعة آل محمد ، يا من يطلبون بدم الشهيد ابن فاطمة ، أبشروا بكرامة اللّه عزّوجلّ ، فواللّه ما بينكم ودخول الجنّة ، والراحة من هذه الدنيا إلاّ فراق الأنفس ، والتوبة ، والوفاء بالعهد) ، وفي وسط المعمعة كان صوت سليمان يخترق الأذان مردّدا : «عباد اللّه ، من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه ، والوفاء بعهده فإليّ» (2).

وكانت هذه الكلمات آخر ما ردّده القائد التوّابي وهو يشقّ بسيفه صفوف الأمويين بكلّ جرأة ، ورباطة جأش.

وانتهت معركة عين الوردة بقتل سليمان بن صرد ومعظم أصحابه (3).

__________________

(1) الخوارج والشيعة / فلهوزن : 195.

(2) الطبري 7 : 76.

(3) تاريخ الطبري 5 : 599 ، البداية والنهاية 8 : 254.

٤٣

وهكذا أخفقت ثورة التوابين في تحقيق أهدافها وتحطّمت قوتها الأساسية في (عين الوردة) للأسباب التالية :

1 ـ الاختلال الظاهر في ميزان القوى بين الجيش الأموي والتوابي ، حيث كان عدد أفراد الجيش التوابي ، أربعة آلاف ، أو أقل. في حين تجاوز تعداد الجيش الأموي العشرين ألفا (1) وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن الجيش الأموي بلغ الستين ألفا (2).

هذا مع عدم وفاء بعض القبائل العربية بعهودها لقاء الثورة بسبب الضغوط الأموية أو بسبب رشوتهم. حيث قيل أن عدد متطوعي ثورة التوابين ارتفع إلى نحو عشرين ألفا ، قبل الشروع في المعركة ، في حين أن الذين اشتركوا مشاركة فعلية في تلك المعركة قدر عددهم بأربعة آلاف ، أو أقل بكثير.

2 ـ عدم قضاء الثوار على زعماء الكوفة ، والموالين للأمويين والذين قد شاركوا مشاركة فعلية في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ، أولئك الزعماء ، باتوا يعملون المستحيل للحيلولة دون التحاق المزيد من الثوار بحركة سليمان بن صرد.

3 ـ عدم تعاون الثوار مع ابن الزبير والذي كان يسعى هو الآخر للإطاحة بالأمويين أيضا. إذ كان من الممكن أن يمدّهم بشيء من أسباب الانتصار كما انهم لم يتحالفوا مع المختار ، كما يقتضي الحال بوحدة هدفهم (الأخذ بثار الإمام الحسين) ، والحق أننا لم نقف على سبب يحول دون تحقيق ذلك التحالف ، وبإمكاننا أن نعلّل ذلك بتأثير جماعة سليمان بما روّجه الأمويون

__________________

(1) البداية والنهاية / ابن كثير 8 : 251 ، ابن الأثير 8 : 252.

(2) الطبري 5 : 583 ، تاريخ خليفة 1 : 331.

٤٤

من كون المختار كان يهدف إلى الوصول للسلطة.

4 ـ كان الإعلام للثورة ضعيفا جدا ، إذ انحصر موطنه في الكوفة وأطرافها ، ولم يتعدَّ هذه الحدود ، ولو كان قد امتدّ إلى ما وراء تلك الحدود لجذب أنصارا آخرين لصفوف الثورة.

5 ـ عدم اهتمام الثوار بالقاعدة ، فلو سيطر سليمان على الكوفة سيطرة كاملة لكانت فرص النجاح بالنسبة إليه أكثر ، لكنه فكر في رأس عبيد اللّه وجعله الهدف الأساسي لثورته.

6 ـ كان يفترض بسليمان أن يحارب الانحراف السائد في مجتمعه ، وبالتالي أن يهيء المجتمع للقيام بالثورة. وبمعنى أدقّ كان عليه أن يحارب من أجل الأهداف التي خرج بسببها الإمام الحسينعليه‌السلام .

7 ـ لم يعتمد سليمان على الموالي المعروفين بحبّهم وولائهم لآل البيت إذ كانوا يشكّلون الأكثرية المسحوقة ، والمحرومة ، والمستضعفة في الكوفة قاعدة الثورة ، كما فعل المختار في ثورته.

وعلى أية حال : تبقى عدّة أسئلة تدور في الذهن حول أهم الأسباب التي أدّت إلى اندلاع ثورة التوابين منها :

هل إن التوابين نهضوا بوحي من آل الزبير الذين كانوا ـ بلا ريب ـ يودّون في قرارة أنفسهم أضعاف بني أمية والقضاء على حكمهم؟ أم أنهم ثاروا بتحريض من بعض الأحزاب المعارضة للدولة الأموية آنذاك ، ولو كانت الدعوة العباسية في بدايتها لاحتملنا أن تكون هذه الحركة من تحريضها فعلى هذا التقريب لم تكن هذه المحتملات صحيحة ولا قريبة من الواقع.

وإتماما لذلك نرى أن احتمالاً أخيرا قد يخطر على الذهن يتعلّق

٤٥

بسليمان بن صرد ـ زعيم الحركة ـ كونه المؤثّر الخارجي على هؤلاء الجماعة لأجل أن يستغلّها للحصول على السيطرة أو الزعامة ، ولكننا نقول على الفور من أن هذا الاحتمال باطل كسوابقه حيث أن التاريخ لم يذكر لنا هذا الاحتمال الذي يمكن بسهولة أن يتقول به الأمويون وهم في سلطانهم بعدما فشل سليمان في حركته وقتل ، ومعروف ما في الأمويين من صفة التهريج والتشنيع على معارضيهم ، فالذين يتّهمون الإمام الحسين ـ ابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأنّه خارجي فمن السهل إذن أن يتّهموا سليمان بأشنع التهم وأفظعها ، وعلى هذا فإنّ سليمان بريء من احتمال حيازة السلطة أو الزعامة إلى نفسه ، وحقيقة الأمر كما نرى أنه رجل كسائر التوابين غير أنه امتاز عليهم بالحنكة السياسية والدهاء العسكري ، ولذا وقع عليه الاختيار وتزعّم الحركة التوابية.

وعلى الرغم من فشل ثورة التوابين لكنها أعطت الغذاء والقاعدة لثورة المختار فيما بعد.

٤٦

بوادر ثورة المختار

بعد أن خرج سليمان بن صرد الخزاعي ، واتباعه لقتال ابن زياد ، وأهل الشام ، أثارت نشاطات المختار شكوك قادة الكوفة ، الذين كان كثير منهم قد شارك في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

فقد حذروا الوالي الزبيري من المختار قائلين : «أن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد. أن سليمان إنّما خرج يقاتل عدوكم ، ويذللهم لكم ، وقد خرج عن بلادكم ، وأن المختار ، إنّما يريد ، أن يثب عليكم في مصركم».

ولو حللنا مضمون تحذير زعماء الكوفة للوالي الزبيري من المختار لاستنتجنا ، أن من وراء هذا التحذير أسبابا خاصة منها :

1 ـ أن أغلبهم كانوا متهمين بالاشتراك مع النظام الأموي في واقعة الطف. وبما أن المختار ، توعّد كل من اشترك ، أو قام بالتواطئ على قتل الحسينعليه‌السلام ، فمن مصلحتهم والحال هكذا ، أن يحذروا الوالي من تحرك المختار.

2 ـ لعلّ والي الكوفة هو الذي بثّ مثل هذا الخبر ، خوفا على منصبه الذي سيخرجه منه المختار رغم أنفه فيما بعد ، ولخشيته أن لا يُحرج مع ابن الزبير في حالة تعاطفه مع المختار.

3 ـ أو ربما أن ابن الزبير هو الذي كلّف زعماء الكوفة لإشاعة مثل هذا

٤٧

الخبر ، للإيقاع بالمختار ، لتخوّفه منه ، إذ قد يعد المختار جيشا ويزحف به إليه ، ويقصيه عن عرشه.

ونتيجة لذلك قُبِضَ على المختار وسجن ، حيث بقى حتى رجوع أتباع سليمان بن صرد من المعركة (عين الوردة) ، 63ه ، التي استُشهد فيها سليمان ومعظم أتباعه ، ولما قدم أصحاب سليمان بن صرد من الشام ، كتب إليهم المختار من الحبس :

« أما بعد : فإنّ اللّه أعظم لكم الأجر ، وحطّ عنكم الوزر ، بمفارقة القاسطين ، وجهاد المحلين ، إنكم لن تنفقوا نفقة ، ولم تقطعوا عقبة ، ولم تخطوا خطوه ، إلاّ رفع اللّه لكم بها درجة ، وكتب لكم حسنة ، فابشروا فإنّي لو خرجت إليكم ، جرّدت فيما بين المشرق والمغرب من عدوكم بالسيف بإذن اللّه ، فجعلتهم ركاما ، وقتلتهم فردا ، وتوأما ، فرحم اللّه لمن قارب واهتدى ولا يبعد اللّه إلاّ من عصى وأبى ، والسلام يا أهل الهدى » (1).

فلما جاء كتابه ، وقف عليه جماعة من رؤساء القبائل وأعادوا الجواب : « قرأنا كتابك ، ونحن حيث يسرك ، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك من الحبس فعلنا ». فأخبره الرسول ، فسرّ باجتماع الشيعة له ، وقال : « لا تفعلوا هذا فإنّي أخرج في أيامي هذه » ، وكان المختار قد بعث إلى عبد اللّه بن عمر بن الخطاب : « أما بعد فإنّي حبست مظلوما ، وظن بي الولاة ظنونا كاذبة ، فأكتب فيّ رحمك اللّه إلى هذين الظالمين ، وهما عبد اللّه بن يزيد الخطمي ، وإبراهيم ابن محمد ، كتابا عسى اللّه أن يخلّصني من أيديهما بلطفك ومنِّك ، والسلام

__________________

(1) البحار 45 : 363.

٤٨

عليك » (1).

فكتب إليهما ابن عمر : « أما بعد فقد علمتما الذي بيني وبين المختار من الصهر ، والذي بيني وبينكما من الودّ ، فأقسمت عليكما لما خلّيتما سبيله ، حين تنظران في كتابي هذا والسلام عليكما ، ورحمة اللّه وبركاته » (2).

فلما قرءا الكتاب ، طلبا من المختار كفلاء فأتاهم بجماعة من أشراف الكوفة ، فاختار منهم عشرة ضمنوه ، وحلفوه أن لا يخرج عليهما ، فإن هو خرج فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ، ومماليكه كلهم أحرار. فخرج وجاء داره.

قال حميد بن مسلم ، سمعت المختار يقول : « قاتلهم اللّه ما أجهلهم ، وأحمقهم حيث يرون أني أفي لهم بايمانهم هذه. أما حلفي باللّه فإنّه ينبغي إذا حلفت يمينا ، ورأيت ما هو أولى منها أن أتركها ، وأعمل الأولى ، وأكفر عن يميني ، وخروجي خير من كفيّ عنهم ، وأما هدي ألف بدنة فهو أهون علي من بصقة ، فوددت أن يتمّ لي أمري ولا أملك بعده مملوكا أبدا (3).

ويبدو لنا ، أن المختار كان قد حلف على أساس من التقوى ، وهو مضطر معتمدا على فحوى قوله تعالى :( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْءَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ

__________________

(1) الطبري 6 : 8.

(2) الطبري 6 : 8.

(3) الطبري 6 : 9.

٤٩

تَشْكُرُونَ» (1) وهنا يجب أن نلتفت إلى أمرين ، هما :

الأمر الأول : أنّ المختار كان متعطّشا لملاقاة قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، خاصة وأنّه قد أحسّ بأنّهم أمنوا الطلب ، وأن الناس قد هرمت قلوبهم ، وقد استسلموا للكسل في طلب ثار آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فقد أراد أن يكسب وقتا ليحرّك فيه الناس ويدبر دوافع الثورة والثأر.

الأمر الثاني : استهانة المختار بملك الدنيا ، والمتمثل بالمال والعبيد الذين كان يملكهم.

على أية حال ، استقرالمختار في داره ، واختلف إليه الناس ، واجتمعت عليه ، واتفقوا على الرضا به ، وكان قد بويع له وهو في السجن ولم يزالوا يكثرون ، وأمرهم يقوى ويشتد. وقد أدرك عبد اللّه بن الزبير في هذا الوقت خطر المختار وحركته ، فعيّن واليا جديدا على الكوفة هو عبد اللّه بن مطيع. الذي قدمها في 27 رمضان سنة 65 (6 مايس سنة 685م) وقد مكن قدوم هذا الوالي الجديد ، المختار من العمل بحرية أكثر ، إذ لم تكن بينهما أية ارتباطات أو عهود (2).

وفي خطبته الأولى أخبر ابن مطيع أهل الكوفة بأنّه سيسير معهم بسيرة عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وحذّرهم من الفرقة وإثارة المتاعب (3).

وعلى الرغم من ذلك فقد عارض الكوفيون هذا الوالي علنا ، حتى أجبروه على التراجع فأعلن في النهاية أنه سيتّبع السياسة التي تعجبهم (4).

__________________

(1) سورة المائدة : 5 / 89.

(2) الخلافة الأموية / د. عبد الأمير دكسن : 70.

(3) الطبري 6 : 10.

(4) الطبري 6 : 11.

٥٠

لقد ظهرت هذه المعارضة العلنية للوالي الجديد بصورة واضحة ، وعدم إطاعتهم لعبداللّه بن الزبير ، وكذلك عكست القوة التي أصبح عليها المختار وأتباعه.

في هذا الوقت بدأ المختار ، يستعد للسيطرة على الكوفة في محرم 66 هـ (آب 685م) ، فأرسل لأتباعه وأخذ يجمعهم في الدور حوله ، وبينما هو منشغل في التحضير للثورة ، شك جماعة من بين أتباعه في ادعائه أن ابن الحنفية (1) أرسله إليهم ، فقرروا الذهاب إلى مكة ليسألوه عن ادعاء المختار هذا ، وفي مكة التقى الوفد بمحمد بن الحنفية ، فلما سمع كلامهم قال لهم : «قوموا بنا إلى إمامي ، وإمامكم علي بن الحسين» ، فلما دخل ودخلوا

__________________

(1) هو محمد بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي وكنيته أبو عبد اللّه وقيل أبا القاسم ، أمه خولة بنت جعفر بن قيس بن بكر بن وائل. ويقال أنها من سبي اليمامة فصارت إلى الإمام عليعليه‌السلام ، وأخو الحسن والحسينعليهما‌السلام ابني فاطمة الزهراءعليها‌السلام . وأما سبب تسميته بابن الحنفية ، أن أباه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كان له ثلاثة أولاد محاميد وهم محمد الأكبر ، ومحمد الأوسط ، ومحمد الأصغر. أما الأصغر فكنيته أبو بكر ، وأمه ليلى بنت مسعود ، وهو الذي استشهد مع اخوته في واقعة الطف بكربلاء. وأما الأكبر فلقب بلقب أمه خولة كي يميزه عن الآخرين ، الأوسط والأصغر.

واختلفت الآراء في وفاتهرضي‌الله‌عنه فقيل توفي في أول محرم 72 ـ 73 هـ بالمدينة المنورة ، ودفن بالبقيع وقيل إنّه توفي ببلاد أيلة. وايليا اسم مدينة ببيت المقدس ، وقيل معناه بيت اللّه. وقد سمي بيت المقدس ايليا بقول الفرزدق :

وبيتان بيت اللّه نحن ولاته

وقصر بأعلى إيليا مشرق

معجم البلدان / الحموي البغدادي 1 : 294 ، أجوبة المسائل الدينية / السيّد عبد الرضا الحسيني المرعشي الشهرستاني 3 : 85.

٥١

عليه ، أخبر خبرهم الذي جاءوا لأجله. قال : «يا عم لو أن عبدا زنجيا تعصّب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد ولّيتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت ».

فخرجوا وقد سمعوا كلامه ، وهم يقولون : « أذن لنا زين العابدين ، ومحمد ابن الحنفية » (1). وبعد شهر عاد الوفد ، وأخبر المختار بأن ابن الحنفية أمرهم بتأييده ، ونصرته. عند ذلك جمع المختار أهل الكوفة وأعلن لهم تأييد علي ابن الحسينعليهما‌السلام ومحمد بن الحنفية له.

وقد أكّد ذلك رئيس الوفد وأتباعه الذين خطبوا بهذه المناسبة ، ثم أن المختار جمع من كان قريبا فقال :

« يا معشر الشيعة ، إن نفرا أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به ، فخرجوا إلى إمام الهدى ، والنجيب المرتضى ، وابن المصطفى المجتبى ، علي زين العابدينعليه‌السلام ، فعرفهم ، أني ظهيره ، ورسوله ، وأمركم باتباعي وطاعتي » (2).

ويرى البلاذري أن وجوها من الشيعة جاءوا لمحمد بن الحنفية وقالوا : « أنكم أهل بيت قد خصّكم اللّه بالفضيلة وشرّفكم بالنبوة وقد أصبتم بحسينرحمه‌الله ، وأتانا المختار يزعم أنه جاء من تلقائك يطلب بدمه فمرنا بأمرك؟» فقال ابن الحنفية : « إنّ الفضل من اللّه يؤتيه من يشاء وما جاءكم المختار إليه فواللّه لوددت أن اللّه انتصر لنا بمن شاء » (3).

فقالوا : هذا إذن منه رخصة.

__________________

(1) البحار 45 : 365.

(2) البحار 45 : 365.

(3) أنساب الأشراف 5 : 221.

٥٢

أما اليعقوبي ، فيؤكّد أن محمدا كان يشجّع دعوة المختار شأنه في ذلك شأن من سبقه حيث قال ابن الحنفية لهم حينما سألوه : « ما أحبّ إلينا من طلب بثأرنا وأخذ لنا حقّنا وقتل عدونا » (1).

والمقدسي يرى أن محمد بن الحنفية كان سبب قيام المختار بالدعوة (2).

ولكن (محمد بن الحنفية) ، لم يستقل بإعطاء الرأي وحده دون أن يأخذ رأي ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، فقد قال له كما تقدم : «يا عم لو أن عبدا زنجيا تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت ».

وبذلك ، أصبح المختار قائدا ، وواليا رسميا على الكوفة وحواضرها. فلنمضِ سوية مع المختار القائد. لنشاهده وهو يهوي بسيف الحق على رقاب الذي أضلّوا طريق اللّه.

ولا بأس أن تشير قبل الحديث عن المختار القائد إلى أن أذناب الشجرة الملعونة ورواتها قد أشاعوا الكذب على المختار الثقفيرحمه‌الله لا سيّما إمامهم الشعبي سفير طاغية بلاط الشام وسفيره إلى الروم ، ومن ثم تلقّفت مزاعمه كثير من الأبواق المأجورة المحسوبة على الخط الأموي ، ولم تزل كذلك إلى يوم الناس هذا.

__________________

(1) التاريخ 2 : 308.

(2) البدء والتاريخ 6 : 20.

٥٣

المختار ، وابن الأشتر

كان المختار يرى أن انضمام إبراهيم بن مالك الأشتر (1) إلى قواته ، سيؤدّي إلى ترجيح كفته ، وسيساعده على تحقيق النصر ، خاصة وأنه مقبل على رحلة صعبة ومعقّدة ، تتمثّل بمواجهة الأمويين الذين بدّلوا نهج اللّه ورسوله بنهج أبي سفيان وجاهليته.

إن تصرفا مثل هذا لا يصدر إلاّ عن ذي عقل راجح ، فمكانة إبراهيم بين أفراد قبيلته (مذحج) عظيمة جدا ، إذ أن وجود إبراهيم إلى جانب المختار سيزيد من احتمالات تحقيق انتصاره على الأمويين بشكل عام ، وعلى قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام بشكل خاص.

إن عقل المختار يهضم ما قد يصعب فهمه على بعضهم فهو جمّ من

__________________

(1) قال الطبري في التاريخ ، الأشتر مالك بن الحارث بن عبيد بن يغوث بن مسلمة ابن ربيعة بن الحارث بن جديمة بن سعد بن مالك بن النخع بن مذحج. وهو والد إبراهيم.

ولد في عصر الجاهلية ، وكان رئيس قومه ، لقب بالأشتر ، لضربه من قبل رجل من أياد يوم اليرموك على رأسه فسالت الجراحة إلى عينيه فشتر به.

مات الأشتررحمه‌الله سنة 39 هـ في مصر ، سمه الوغد معاوية بن أبي سفيان. وكان مالك رضي اللّه تعالى عنه من أصحاب الإمام عليعليه‌السلام ، وشهد معه الجمل ، وصفين ومشاهده كلها.

٥٤

التواضع والرحمة ، واللين ، وشديد ، وصلب عنيف في المواقف الصعبة ، ولا ينقص من قدر المختار ، أو يناله بسوء ما ذهب إليه ، وروّجه بعض كتبة التاريخ والسير الدائرين في فلك الأفق المعادي لأهل البيتعليهم‌السلام من أن المختار كان يهدف إلى غاياته الخاصة ، حيث يطمح بالاستحواذ على الكوفة والسلطة ، غير أن الحقيقة عكس ذلك. لأنّ وجهته كانت للّه ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولآلهعليهم‌السلام ، واستشهاده في سبيل ذلك خير دليل ، وشهادة متينة على ما نقول.

وبعد أن استقرّ الوضع للمختار ، رحّب إبراهيم بالزعيم الجديد ترحيبا حارا افتتح المختار معه الكلام : « إنَّ اللّه أكرمك وأباك في موالاة بني هاشم ونصرتهم ومعرفة فضلهم وما أوجب اللّه من حقهم ـ ثم قال ـ وهذا كتاب محمد بن علي وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء اللّه ورسله يأمرك أن تنصرنا وتؤازرنا ، فإن فعلت اغتبطت ، وإن امتنعت فهذا الكتاب حجّة عليك ، وسيغني اللّه محمدا وأهل بيته عنك ».

يقول الشعبي وهو من رواة الشجرة الملعونة : «وكان المختار قد دفع إليّ كتابا مختوما حين خرجنا إلى المنزل فلما فرغ من كلامه هذا ، قال : ادفع الكتاب إلى إبراهيم ، فدفعه إليه ففضّه وقرأه فإذا فيه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر. سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو.

أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي ، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنّك إن نصرتني وأجبت دعوتي ، كانت لك بذلك عندي فضيلة ، ولك أعنَّة الخيل وكل جيش غازٍ وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة

٥٥

وأقصى بلاد الشام.

عليّ الوفاء بذلك ، عليَّ عهد اللّه فإن فعلت نلت به عند اللّه أفضل الكرامة ، وإن أبيت هلكت هلاكا لاتستقيله أبدا » (1).

تلكّأ إبراهيم بادي الأمر ، لكنه سرعان ما قبل الفكرة ، وبايع المختار حينما شهد له مشيخة المصر والثقاة فيهم.

وبعد مداولات ناجحة قام بها المختار مع إبراهيم ، انضم إبراهيم إلى قوات المختاررضي‌الله‌عنه .

كان لانضمام إبراهيم بن الأشتر إلى المختار كسبا عظيما لحركته ، فقد كان ابن الأشتر من أبرز شخصيات عصره ، كما كان عصبة قوية أصبحت تضمّها صفوف المختار.

وقد انتهى بانضمام ابن الأشتر ورجاله إلى المختار دور الاستعداد للثورة ، وبدأ الدور الإيجابي ، دور الثورة.

وكان إبراهيم ظاهر الشجاعة ، واري زناد الشهامة ، نافذ حد الصراحة ، مشمّرا في محبّة أهل البيتعليهم‌السلام عن ساعديه ، متلقّيا راية النصح بكلتا يديه ، فجمع عشيرته ، وإخوانه ، وأهل مودّته ، وأعوانه ، وكان يتردّد بهم إلى المختار في هامة الليل ، ومعه حميد بن مسلم الأزدي ، حتى تصوب النجوم ، وتنفض الرجوم ، وقد اجتمع رأي المختار ، وأصحابه على الثورة وحدّدوا يوم الخميس 14 ربيع الأول سنة 66 هـ الثلاثاء (19 تشرين الأول سنة 685م).

وكان إياس بن مضارب صاحب شرطة عبد اللّه بن مطيع أمير الكوفة ،

__________________

(1) جمهرة رسائل العرب 2 : 126.

٥٦

فقال له : « إنّ المختار خارج عليك لا محالة ، فخذ حذرك ، ثم خرج إياس مع الحرس ، وبعث ولده راشد إلى الكناسة (1) وجاء هو إلى السوق ، وأنفذ ابن مطيع إلى الجبايات ، بالرجال يحرسها من أهل الريبة.

تقدم قائد المختار الكبير إبراهيم على رأس فرقة من مائة جندي مسلح ، والتقى في طريقه بإياس بن مضارب رئيس الشرطة ، وقام صدام مسلح بين الفريقين انتهى بمصرع إياس.

وأقبل إبراهيم إلى المختار ، وعرفه ذلك فاستبشر وتفاءل بالنصر ، والظفر ، ثم أمر بإشعال النار في هرادي القصب ، وبالنداء :

« يا لثارات الحسين » ، ولبس درعه ، وسلاحه ، وهو يقول :

قد علمت بيضاء حسناء الطلل

واضحة الخدين عجزاء الكفل

أني غداة الروع مقدام بطل

لا عاجز فيها ولا وغد فشل

فأقبل الناس من كل ناحية وجاء عبيد اللّه بن الحر الجعفي في قومه ، وتقاتلوا ، قتالاً عظيما ، فانهزم الناس ومن كان في الطريق ، والجبانات من أصحاب السلاح ، وتفرّقوا في الأزقة خوفا من إبراهيم ، وأشار شبث بن ربعي على الأمير ابن مطيع بالقتال ، فعلم المختار ، فخرج مع أصحابه حتى نزل (دير هند) ، مما يلي بستان زائدة في السبخة ، ثم جاء أبو عثمان النهدي في جماعة من أصحابه إلى الكوفة ونادوا « يا لثارات الحسين » ، « يا منصور أمت » وهذه علامة بينهم ، يا أيها الحيُّ المهتدون ، ألا إن أمين آل محمد ، قد خرج فنزل (دير هند) ، وبعثني إليكم داعيا ، ومبشرا ، فاخرجوا إليه

__________________

(1) مكان خارج الكوفة ، يتخذ سوقا ، للمباريات الأدبية وكان يشبه في ذلك مربد البصرة حاليا.

٥٧

رحمكم اللّه.

قال الوالبي ، وحميد بن مسلم ، والنعمان بن أبي الجعد :

« خرجنا مع المختار ، فواللّه ما انبلج الفجر حتى فرغ من تعبئة عسكره ، فلما أصبح تقدّم ، وصلّى بنا الغداة فقرأ ، والنازعات ، وعبس ، فواللّه ما سمعنا إماما أفصح لهجة منه » (1) ، ونادى ابن مطيع في أصحابه ، فلما جاءوا ، بعث بشبث بن ربعي في ثلاثة آلاف ، وراشد بن إياس في أربعة آلاف ، وحجّار بن أبجر العجلي في ثلاثة آلاف ، وعكرمة بن ربعي ، وشدّاد بن أبجر ، وعبد الرحمن بن سويد في ثلاثة آلاف.

وتتابعت العساكر نحوا من عشرين ألفا ، فسمع المختار أصواتا مرتفعة ، وضجّة ما بين سليم ، وسكة البريد ، فأمر باستعلام ذلك ، فإذا هو شبث بن ربعي ، ومعه خيل عظيمة ، وأتاه في الحال ، سعد بن أبي سعر الحنفي ، وهو ممن بايع المختار ، يركض من قبل مراد ، فلقي راشد بن إياس ، فأخبر المختار ، فأرسل المختار ابن الأشتر في تسعمائة فارس ، وستمائة راجل ، ونعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس ، وستمائة راجل ، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة فقاتلهم حتى أدخلوهم البيوت ، وقتل من الفريقين جمع قتل نعيم بن هبيرة ، وجاء إبراهيم ، فلقي راشد بن إياس ، ومعه أربعة آلاف فارس ، فقال إبراهيم لأصحابه ، لا يهولنكم كثرتهم ، فلرب فئة قليلة غلبت فئة كبيرة ، واللّه مع الصابرين.

فاشتد قتالهم ، وبصر خزيمة بن العبسي براشد وحمل عليه فطعنه فقتله ،

__________________

(1) الطبري 6 : 23 ، البحار 45 : 368.

٥٨

ثم نادى خزيمة ، قتلت راشدا ، ورب الكعبة ، فانهزم القوم ، وانكسروا ، وجفلوا ، إجفال النعام ، وأطلوا عليهم كقطع الغمام واستبشر أصحاب المختار وحملوا على أهل الكوفة ، وواصلوا سوقهم ، حتى أوصلوهم إلى السكك ، وادخلوهم الجامع ، وحاصروا الأمير ابن مطيع ثلاثا في القصر ، ونزل المختار بعد هذه الواقعة جانب السوق ، وولي حصار القصر إبراهيم بن الأشتر.

فلما ضاق الحصار عليه وعلى أصحابه وعلموا أنه لا تعويل لهم على مكر ، ولا سبيل للمفرّ ، أشاروا عليه أن يخرج ليلاً في زي امرأة ، ويستتر في بعض دور الكوفة ، ففعل ، وخرج حتى صار إلى دار الحقود أبي موسى الأشعري ، فآواه.

وأما جماعته فإنهم طلبوا الأمان ، فآمنهم ، وخرجوا ، وبايعوه ، وصار يُمنّيهم ، ويحسن السيرة فيهم (1).

قد يفسر البعض ، أن تصرّف المختار هذا ، مع أعدائه على أنه نوع من أنواع الخدعة ، أو المجاملة ، فهو يريد من خلال ذلك كسب ودّ أعدائه بهذه الطريقة الغريبة نوعا ما ، لكن هذه هي حقيقة أخلاق المختار ، رجل رحوم حتى مع ألدّ أعدائه ، وإن لم يكن في كسب ودّ الأعداء ، وتحييدهم ضير ، بل هو بحدّ ذاته هدف يسعى إليه كل صاحب دعوة على مرّ التاريخ ، وقد مارس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذلك بقدر ما حينما جعل لأبي سفيان منزلة عند دخولهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة منتصرا ، كما جعل اللّه سبحانه وتعالى للمؤلّفة قلوبهم حصّة من الصدقات ، حيث قال تعالى :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ

__________________

(1) البحار 45 : 369.

٥٩

عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّه وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّه وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

وبسبب طيبته ، وحلمه قام المختاررضي‌الله‌عنه ، بمدّ يد العون إلى ابن مطيع الوالي السابق على الكوفة ، وهو عدو له وعفى عنه ، ومنحه مبلغا قدره مائة ألف درهم وطلب ، منه أن يترك الكوفة ، كما أنه طلب من أتباعه أن لا يقتلوا أحدا من أصحابه (2).

نقف ومن خلال تحليلنا لموقف المختار على أنه كان متمسكا بهدف مركزي هو تنبيه الغافلين بمنكر الأمويين ، وفحشاء (يزيد) ، والأخذ بثار الإمام الحسينعليه‌السلام ، ليس إلاّ.

يتحدّث البلاذري عن المختار فيقول : «وكان المختار قد وجد في بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف درهم ـ أي تسعة ملايين درهم ـ فأعطى أصحابه ، ومن بايعه ، وأحسن المختار مجاورة أهل الكوفة ، والسير فيهم وأكرم الأشراف».

كان المختار على جانب كبير بعلم النفس ، والإلمام بوسائل الدعاية ، والإعلام ، فقد كان يخاطب عواطف الناس ، كما كان يخاطب عقولهم ، وكان لا يكتفي بوسائل الدعاية المعروفة حينذاك كالخطابة ، والشعر ، بل لجأ إلى وسائل كثيرة للدعاية ، ومنها التمثيل ـ التشابيه ـ ، والمظاهرات والإشاعات.

كما لجأ إلى ما نسميه الآن بالانقلاب العسكري ، حينما انتزع الكوفة من

__________________

(1) سورة التوبة : 9 / 60.

(2) تاريخ الطبري 6 : 33 (سنة 66) ، البحار 45 : 370.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133