الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي28%

الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 133

  • البداية
  • السابق
  • 133 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35027 / تحميل: 13438
الحجم الحجم الحجم
الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

مؤلف:
العربية

الثائر من أجل الحسين عليه السلام

المختار الثقفي

عباس غيلان الفياض

١

بسم الله الرحمن الرحيم

٢

٣
٤

مقدّمة المركز

ليس عصيّاً على البحث التاريخي الموضوعي للفترة التي عاشتها الأُمّة الإسلامية بعد هلاك الطاغية معاوية بن أبي سفيان (سنة / ٦٠ هـ) أن يدرك أسباب التطورات السياسية والأحداث التاريخية السريعة المتلاحقة التي انتهت بمصرع خامس أصحاب الكساء الإمام الحسين السبط الشهيدعليه‌السلام ، ويرى كيف فتح دم الحسين فم الأُمّة الصامتة لتقول (لا) ، وكيف مهّد الطريق أمام البركان لينفجر ، ويسحق بعنفوانه جبروت الأوغاد ، ويحطّم هيبة دولتهم التي قامت على أساس البغي والظلم والعدوان والفساد ، إذ سرعان ما تحوّل دم السبط الشهيد إلى وقود دافق يغذي الثورات الشعبية التي انطلقت مطالبة بدمه الشريف.

وسيرى في الجانب الآخر كيف حاولت السلطة الأُموية الغاشمة توجيه حوادث التاريخ الإسلامي بما يمكِّنها من البقاء والتلاعب بمصير الأُمّة ، محاولة لجم الأفواه عن قول الحقّ ، مع تسخير جملة واسعة من ذوي الأطماع والنفوس المريضة التي عاشت على موائدها حقيرة متزلّفة ، همّها علفها ، ودينها دينارها ، حتى اتّخذها الظالمون مطية يركبونها إلى غاياتهم ، وجسراً يعبرون عليه إلى شهواتهم ، ورداء يسترون به فضائحهم على حساب الدين الذي دمروا البلاد وعاثوا في الأرض الفساد باسمه! بعدما أوجدوا من يضع لهم على لسان الشريعة ما يمجّدهم ويحرّم الخروج عليهم وإن فعلوا ما فعلوا!!

٥

وما من شك في وقوف السلطة الأُموية مؤيّدة ومساندة لتلك الحثالات ، وخلق المناخات المناسبة لها وتمكينها من إشاعة ما تفتريه على أوسع نطاق ، سواء كان ذلك على مستوى وضع الحديث ، أو تشويه حقائق التاريخ ، وصياغتها بالشكل الذي تريد.

ومن هنا أصبحت القراءة الحرفية لكتب التاريخ لا تسعف صاحبها في معرفة حقيقة الكثير من الرجال الذين صنعوا لأنفسهم تاريخاً ، بخلاف القراءة الواعية للتحوّلات السياسية والفكرية التي لازمت حياة بناة التاريخ وصانعيه ، وكيف كان تأثيرها على المجتمع في ذلك الحين.

إنّ التعامل مع كل وضع بما يناسب حجمه في إطار موضوعي ، وربط كل حادث بسببه ، وكل معلول بعلّته كما يقتضيه قانون العلّية العامة ، سيؤدّي بالنتيجة إلى فهم الكثير من الحقائق التاريخية المغطّاة بأوهام وخرافات كتب التاريخ ، وتلك هي القراءة الواعية التي لمسناها في هذا الكتاب.

حاول المؤلّف المحترم أن يحلّل أحداث التاريخ تحليلاً علمياً ، ليبيّن من خلالها دسائس السلطة في النيل من الحركات السياسية المناوئة لها وذلك من خلال قنواتها الإعلامية المسخّرة لخدمتها ، واضعاً بذلك شخصية هذا الثائر الكبير (المختار الثقفيرحمه‌الله ) في الموضع الذي يستحقّه ، بعبارة مختصرة واضحة مدعومة بالتوثيق.

آملين أن يحقّق بعض ما نصبو إليه من الثقافة التاريخية المطلوبة على أكثر من صعيد.

واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

مركز الرسالة

٦

المقدّمة

منذ سنوات صباي الأولى ، كنت امتلأت حبّا لذلك الرجل الذي جاد به عدل السماء ليقتصّ من تلك الحثالة الشيطانية التي ارتكبت واحدة من أكبر وأعظم الجرائم في التاريخ البشري عموما ، وفي التاريخ العربي الإسلامي بوجه خاص. يوم العاشر من محرم عام ٦١ هـ (٦٨٠ م) ، بعد محاكمة ميدانية شهدها جمع كبير من أهل الكوفة ، تلك الحثالة التي تيبّست ضمائرها ، وأحاسيسها ، ومشاعرها الإنسانية ، إذ لم تكتفِ بقطع الرؤوس الملائكية ، وإنّما أمعنت وتمادت في جريمتها. إذ عمدت إلى التمثيل بالأجساد الطاهرة ورضِّها بحوافر الخيل ، ومن ثم سلبت كل مالها وما عليها حتى أرديتها نزعتها عنها ، لتقوم بعدئذٍ بنهب ما كان لأهلها ، وأحرقت الخيام التي كانت تأوي إليها النساء والأطفال وروّعتهم ، ثم مكثت تنظر إليهم بتشفٍّ لا يمكن للمرء أن يتصوره ، وإن استذكره لا يملك إلاّ أن يصبَّ لعناته وبلا توقف على أولئك المتوحشين ، وعلى من كان من ورائهم من سليلي الشيطان الأموي الجاهلي ، الذي أورث أبناءه وأحفاده كل آسن وعفونة الشرِّ وسواده.

أجل ، منذ تلك السنين ، وأنا أكنُّ لذلك الرجل قدرا عظيما من الحبّ كان يتصاعد في عنفوانه كلما تراءى للمخيلة هول المأساة ، وعظم الجريمة التي سفك مرتكبوها دماءا كانت تتدفّق إيمانا ويقينا بالولاء للّه الحق الواحد الأحد.

تلك الدماء التي شاء اللّه سبحانه ، أن يجعلها من بعد دفقا نورانيا يهتدي به الناس على مرِّ الأجيال.

٧

ولم يمضِ زمان طويل على تلك الجريمة ، إلاّ وقد جاء يوم الحساب الدنيوي الذي أنزل فيه المختار الثقفي العقاب العادل بأولئك المجرمين ، أو عجّل في سوقهم إلى الجحيم.

وكنت عبر السنين أتخيل ذلك القاضي ، والمنفِّذ لعدالة السماء كيفما شاء لي الخيال. وكان بوسعي أيضا أن أستشعر عظمة الضمير عند الذين شاركوه وجاهدوا معه في إنزال القصاص.

ومن المؤكَّد أنني كنت أراه عملاقا متطاولاً ، لا يقارعه أحدٌ في قوته.

عاش فيّ ، وعاش معي الحب أعواما حتى آتاني اللّه ملكة الكتابة عن الرمز ، ومكّنني أعبّر عن تقديري لما أدّاه من عمل عظيم يستحق بجدارة أن يبحث بأكثر من كتاب.

ومن هنا جاء هذا البحث الذي يعلم اللّه كم بذلت لأجله من جهد صادق ، حتى خرج إلى النور على ما هو عليه بين يدي القارئ الكريم.

إن كتب التاريخ والسير لم تعطِ هذا الرجل حقه من الذكر ، إذ لم أجد من خلال تتبّعي لسيرته إلاّ القليل. فحاولت أن أخرج بشيء أضيفه إلى المكتبة الإسلامية التي افتقرت إلى مثله ، حيث لم أعثر رغم بحثي على أي مرجع يتناول حياة وسيرة ذلك الرجل الذي أعاد البسمة للعيون والشفاه بعد غياب طويل ، باستثناء كتاب واحد بعنوان «المختار الثقفي مرآة العصر الأموي» ، لمؤلفه الدكتور علي حسين الخربوطلي ، وهكذا أراني الآن أشعر بالسعادة والرضى ، وأنا أضع بين يدي القرّاء ، سيرة المختار وهو يخطو خلال خضم الأحداث منذ مولده حتى استشهادهرحمه‌الله وأرضاه.

وكم أتمنى أن أكون قد وفّقت في ذلك ولو قليلاً ، عسى أن أحظى بهذا القليل رضاء اللّه عزّوجلّ وشفاعة نبيه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام .

٨

اسمه ونسبه ولقبه

اسمه ونسبه :

هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف من قبيلة ثقيف ، وأُمّه دومة بنت عمرو بن وهب بن منبه من قبيلة ثقيف أيضا (١).

وثقيف هو جدّهم الأعلى الذي تفرّعت منه هذه السلالة ويحدّثنا (ياقوت الحموي) في هذا الصدد أن ثقيفا اسمه قسيّ بن منبه وقد جاء بـ (قضبان) فغرسها في واد يُقال له (وج) وقد عرف بعد ذلك بالطائف (٢) فأنبتت فسُمِّي (ثقيفا) ، وقد بقي (ثقيف) في هذا الوادي حتى كثُر وُلدُه وصاروا أُسرة كبيرة فحصّنوا الطائف وبنوا عليها طوقا ، وكان أن نشبت الحرب بينهم وبين أخوالهم بني عامر حتى انتصروا عليهم ، وكان ثقيفٌ قد تزوّج بابنتي عامر الواحدة بعد الأخرى ـ وأخيرا امتنعوا عن أداء الحق لبني عامر فضُرب المثل باستقلالهم قال أبو طالبرضي‌الله‌عنه :

منعنا أرضنا عن كل حي

كما امتنعت بطائفها ثقيفُ

أتاهم معشر كي يسلبوهم

فحالت دون ذلكمُ السيوفُ

وكان جدّه مسعود بن عمرو من أكبر رجالات ثقيف وأشهرها قبل

__________________

(١) أسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ١٢٧ / ٤٧٨٤.

(٢) معجم البلدان ٦ : ٢٤٢ (الطائف).

٩

الإسلام ، وإلى هذا تشير الآية الشريفة في حكاية قول رأس المشركين الوليد ابن المغيرة :

( لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (١) ، والقريتان : مكة والطائف ، والرجلان هما : مسعود بن عمرو ، والآخر الوليد بن المغيرة بن عمر ابن مخزوم ، وهو القائل : لو كان ما يقول محمد حقا لنزل عليّ القرآن أو على مسعود بن عمرو (٢).

ولادته ، ولقبه ، وقرابته :

فتح المختار عينيه على الدنيا في الطائف خلال أولى سنوات الهجرة ـ سنة ٦٢٢ م ـ على أرجح الروايات لأنّه كان مع جيش أبي عبيد والده في العراق لقتال الفرس في السنة الثالثة عشر للهجرة (٣) وعمره آنذاك ثلاثة عشر عاما.

وكان وراء ميلاده هذا حكاية ، مفادها أن أباه لما أراد أن يتزوّج ، ذكروا له كثيرا من نساء قومه إلاّ أنه لم يختر أيّا منهن ، حتى أتاه آتٍ في المنام فقال :

تزوّج دومة الحسناء الحومة ، فما تسمع فيها للائمٍ لومة.

فأخبر أهله ، فقالوا : قد أمرت ، فتزوّج دومة بنت وهب بن عمر بن معتب.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣١.

(٢) يقول ابن حجر في الإصابة ٣ : ٤١٢ ، عن ابن حاتم وابن مردويه عن طريق ابن عباسرضي‌الله‌عنه ؛ بأنّها نزلت في رجل من ثقيف ورجل من قريش والثقفي هو (مسعود بن عمرو).

وفي المعارف لابن قتيبة : ١٧٥ ، كان جده مسعود هو المراد من قوله تعالى :( لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) .

(٣) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٥٠.

١٠

فلما حملت بالمختار قالت : رأيت في المنام قائلاً يقول :

أبشري بالولد

أشبه شيء بالأسد

إذا الرجال في كبد

تقاتلوا على بلد

كان لـه الحـظ الأشـد (١)

ومن خلال الحكاية المتقدمة يمكننا استنتاج أُمور ثلاثة هي :

١ ـ أن والده قد تريّث كثيرا حتى اختار شريكة عمره.

٢ ـ أنّه جاء ثمرة رؤيا ، وهذا يعني أن شيئا من الروحانية كان يحتوي المختار في دنيا الغيب.

٣ ـ إذا الوليد (المختار) ، سيكون له شأن غير عادي ولو قدر لوالدته ، أن تعيش حتى أوانه لرأت إذن كيف أنزل القصاص العادل في أعداء اللّه تعالى من قتلة الحسين وأهله وصحبهعليهم‌السلام .

لقب المختار بـ (كيسان) ، لا نسبة إلى الكيسانية القائلين بإمامة محمد بن الحنفية كما توهّمه العامة وتبعهم بعض أصحابنا! لأنّ الثابت في نشأة الكيسانية انّها كانت بعد وفاة محمد بن الحنفية لا في حياته ، والمختار رضي اللّه تعالى عنه استُشهد في حياة محمد بن الحنفية بالاتفاق.

وإنّما السبب في لقبه المذكور هو ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال : «رأيت المختار على فخذ الإمام عليعليه‌السلام ، وهو يمسح رأسه ، ويقول :يا كيس يا كيس » (٢).

فثني هذا اللفظ تبرّكا فقيل «كيسان» وهو ما نبّه عليه السيد الخوئي في

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٥٠.

(٢) رجال الكشي : ١٢٧ / ٢٠١.

١١

معجمه (١).

ولم يكن للمختار سوى عمّين ، هما : عروة بن مسعود ، وسعد بن مسعود.

وليس له إخوة ، وله أُخت واحدة اسمها (صفية) ، وهي زوج عبد اللّه بن عمر بن الخطاب ، أدركت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وروى عنها نافع مولى ابن عمر وروت صفية عن عائشة وحفصة ، وكانت هذه المرأة أثيرة عند زوجها يحبّها حبّا شديدا وينزلها من نفسه المنزلة السامية ، وقد استطاعت بهذه العاطفة أن تجتذب زوجها وتحرّضه ليفكّ أخاها من سجن عبيد اللّه بن زياد ويتوسّط في إطلاق سراحه ، وعبد اللّه بن عمر كانت له الحظوة عند الأُمراء والولاة ، لأنّه بايع معاوية ويزيد وسائر الحكّام.

أما زوجات المختار فهي :

١ ـ عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري والي يزيد بن معاوية على الكوفة ، وكانت هذه الزوجة على جانب عظيم من الحبّ والموالاة لزوجها ، وعلى جانب عظيم من العقيدة والولاء لآل البيتعليهم‌السلام على خلاف أبيها النعمان الذي كان صنيعة من صنائع الأمويين ، عرض عليها مصعب بن الزبير حين قتل زوجها وسبعة آلاف من أهل القبلة على حدّ قول ابن عمر حين عاب عليه ذلك ، فآثرت القتل على شدّة عاطفة المرأة أمام الأمر الواقع ، وهي تقول : «شهادة أرزقها ثم أتركها»! كلاّ إنّها موتة ثم الجنّة ، والقدوم على اللّه وأهل بيته ـ ثم قالت ـ ، واللّه لا يكون آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب وشيعته. اللّهمّ اشهد اني متّبعة نبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته. فأمر مصعب

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٨ : ١٠٢ / ١٢١٥٦ في آخر ترجمة المختار بن عبيد الثقفي.

١٢

فأخرجت إلى ضواحي الكوفة وقُتلت صبرا (١).

٢ ـ أُم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزاري ، نائب زياد بن أبيه في البصرة في عهد معاوية بن أبي سفيان (٢).

وهذه عرضت على البراءة فآثرت الحياة ولعنت زوجها وتبرأت منه وقالت : «لو دعوتني إلى الكفر (مع السيف) لأقررت ، أشهد أن المختار كافر» (٣).

وليس بخاف كلمة (مع السيف) في هذا المقام من أنها لم تكن لتعتقد بكفر زوجها في هذه الشهادة وإنّما ابقاء على حياتها.

٣ ـ أُم زيد الصغرى بنت سعد بن عمر بن نفيل (٤).

وللمختار أربعة إخوة من أم واحدة وهم :

(جبر وأبو جبر وأبو الحكم وأبو أمية) (٥) ، وله ولدان وهما إسحاق وكنّى به وجبرائيل.

وأمّا عمّه سعد ، فهو من أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن خواص الإمام عليعليه‌السلام فيما بعد (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ (سنة ٦٧) ، الأخبار الطوال : ٤٥١ ، مروج الذهب ٣ : ٧٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٠٧.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ (سنة ٦٧) ، الأخبار الطوال : ٤٥١.

(٤) يراجع : المحبر / محمد بن حبيب الهاشمي : ٧٠.

(٥) البحار ٤٥ : ٣٥٠.

(٦) أعيان الشيعة / الأمين ١١ : ١٩٤ / ٧٢٠٩.

١٣

نشأة المختار

ابتدأت المرحلة الأولى من حياة المختار بنشأته في بيت مسلم بكنف أبيه الذي عرف بشجاعته ودوره المتميز في حروب المسلمين مع الفرس.

ومن أبرز ما أداه في حياته ، قيامه بقيادة جيش المسلمين أثناء معركة الجسر (١) بتكليف من عمر بن الخطاب ومن ذلك نستنتج ونحن مطمئنون أنّه كان ذا دراية بفنون القتال وعلى قدر عالٍ من الشجاعة ، لأنّ المراكز القيادية ما كانت تولّى إلاّ لمثل هذا النمط من الرجال.

وقد قدّر لوالده أن يُقْتَل في تلك المعركة وكان المختار حينها معه وهو ابن ثلاثة عشر عاما ، وبعد رحيل أبيه إلى دار الآخرة ، تكفّله عمه سعد بن مسعود ، وهو من أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أولياء الإمام عليعليه‌السلام .

ويبدو أن هناك علاقة ما كانت تربط بين الإمام عليعليه‌السلام ، وبين والده وعمه ، وهذا يفسر لنا ما ورد عن الأصبغ بن نباتة ـ كما تقدم ـ أنّه قال : «رأيت المختار على فخذ الإمام عليعليه‌السلام ، وهو يمسح رأسه ، ويقول : يا كيس ، يا كيس» (٢).

__________________

(١) معركة الجسر هي من المعارك الفاصلة بين جيش المسلمين وجيش الفرس وكان أبو عبيد بن مسعود الثقفي أحد قادة المسلمين فيها.

(٢) البحار ٤٥ : ٣٥١.

١٤

أن هذا يعني ولا شك أن المختار قد نشأ في أوائل طفولته وصباه على مقربة من بيت النبوة ببركات أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ومن المعروف أن سني الطفولة ، والصبا هي من أهم ما ترتكز عليه شخصية الفرد ، وتنمي سلوكه الذي يتبلور متناسبا مع نمو وعيه وإدراكه لما يحيط به من أحداث ، الأمر الذي تيسر لنا سبب حبّه لأهل البيتعليهم‌السلام واتصاله بهم وإنتقامه من أعدائهم. وفي رسالة ابن نما الحلي لم يبرح المختار ما كان عليه منذ العهد العلوي من الانقطاع إلى آل البيت والتزلّف إليهم ولما ولّى معاوية على الكوفة المغيرة بن شعبة غادر المختار العراق حتى أتى إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يجالس فيها محمد بن الحنفية ويأخذ عنه الحديث.

لقد وجد المختار من أُستاذه محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه ما دفع به قدما في مجال الحياة الفكرية ، ثم توثّقت أواصر الصلة والودّ بينهما حتى ارتفعت تلك الفروقات التي تكون ـ غالبا ـ بين الأُستاذ والتلميذ.

ثم يذهب هذا التلميذ متأثّرا بأُستاذه ومترسما خطاه ولا سيما في أخذ الحديث عنه ، ومحمد هذا أقل ما يقال عن فضله وعلو كعبه وعمق مادته.

محمد بن هارون قال : « كان محمد بن الحنفية أحد الأبطال في صدر الإسلام وكان ورعا واسع العلم » (١).

ولعلّ هذه الصلة الوثيقة بين المختار ومحمد تفسر لنا اتهامه بـ (الكيسانية) من لدن خصومه وأصدقائه على السواء.

وبعد تلك السنوات غادر المختار المدينة متوجّها إلى العراق ، حين عُيِّن

__________________

(١) تعليقه على وقعة صفين / نصر بن مزاحم : ٢٢١.

١٥

عمّه سعد واليا على المدائن ، وهو لهذا كان قد تعلم شيئا من أساليب الإدارة والحكم ، وعاش على مقربة من مركز القيادة المركزية للدولة الإسلامية ، وواكب أحداثها حتى عودة الزعامة للإمام عليعليه‌السلام ، فكان أن انضمّ إلى جنده وأصحابه ، وهو في عنفوان شبابه ، ومن المؤكد أنه شارك في معارك الإمام جميعها ، أو قسما منها على أقل تقدير. ولقد كان لسنوات الصحبة تلك أثر في نفسه دونما شك وهو يستذكر بفخر ذكريات طفولته ، ولعبه على فخذ الإمام عليعليه‌السلام ، ثم يستحضر في مخيلته ما كان يبعثه لقب «كيسان» في نفسه بملاحظة سببه ، فيرى فيه بشارة المجد واعتلاء منصة العدل على رقاب قتلة ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا شك أنّه وصلت إلى أسماعه كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام في ساعاته الأخيرة : « اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلِّط عليهم غلام ثقيف ، يسقهم كأسا مصبّرة ، ولا يدع فيهم أحدا ألاّ قتلة بقتلة وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي ، منهم وإليك أنبنا وإليك المصير » (١).

ولا شكّ بأنّه كان يعلم بأنّه هو المقصود بغلام ثقيف ، وإلاّ فقد أخبره ميثم التمّار (٢) وهما في سجون عبيد اللّه بن زياد قائلاً : « أنت تخرج ثائرا بدم الحسين بن علي ، فتقتل عبيد اللّه بن زياد ، وتطأ بقدميك على وجنته » (٣).

__________________

(١) البحار ٤٥ : ١٠.

(٢) ميثم : هو ميثم التمّار بن يحيى الأسدي ، كان عبدا لامرأة من بني أسد ، اشتراه الإمام عليعليه‌السلام وأعتقه. سكن الكوفة ، وصلبه عبيد اللّه بن زياد على جذع نخلة ، وكان ذلك قبل مقدم الحسينعليه‌السلام إلى العراق ، بعشرة أيام.

(٣) البحار ٤٥ : ٣٥٣.

١٦

وثمة سؤال قد يخطر ببال القارئ الكريم ، عن سبب وجود ميثم التمّار في سجون ابن زياد؟!

نقول : إن السياسة الإرهابية التي اتبعها عبيد اللّه بن زياد وما ارتكبه من قتل ، وتعذيب ، هي التي أوجدت ميثم في سجون عبيد اللّه (لعنه اللّه) ، فقد ذكرت كتب التاريخ والسير ، أن عبيد اللّه بن زياد عندما قدم الكوفة قام بسجن اثني عشر ألفا من محبّي آل محمدعليهم‌السلام ، حتى أنه لم يترك واحدا من زعمائهم طليقا.

إذن فقد عايش المختار أحداث التحولات التاريخية بكل ما اعتراها من اضطراب ، وتحمل شيئا من وطأتها ، وثقلها وآلامها.

شهد مصرع الإمام العظيم عليعليه‌السلام ، وخذلان الأُمّة إمام زمانها السبط الحسنعليه‌السلام ، وما تلاه من معان الزعامة التي هي في حد ذاتها تكليف وواجب شرعي ـ كما كان يراه المختار ، وسواه من شيعة الإسلام ـ إلى ملك دنيوي أو من لبس تاجه ـ معاوية (١) ـ ، معتمدا في ذلك على المكر والجريمة.

__________________

(١) معاوية بن أبي سفيان : من العجب أن يتورط بعض المؤرخين فيحكمون بصدق أيمان معاوية ، ويستدلون على ذلك بأنه كان يؤدي الفرائض ، ويتبرك بآثار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى بأظافره ، ونسي هؤلاء أنه هو ، وأبوه وأمه ، قد أسلموا كرها ، وأن قلوبهم قد ظلت على جاهليتها! وفاتهم أنه كان يخاصم رجلاً لا يمكن أن يساويه في العلم ، ولا في الفضل ، ولا في القدر ، وإذن كان لابد له ـ وهو الداهية الخداع ـ لكي يستقيم أمره ، ويستقر ملكه أن يتذرع بكل وسيله يستطيعها خفية كانت أو مفضوحة ليخدع بها العامة ويحول أنظارهم إليه ، ومن أول هذه الوسائل أن يتظاهر بموالاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويبالغ في محبته لعله يبلغ بذلك مكانة يزاحم بها

١٧

وبعد اغتيال معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام ، انطفأت آخر شمعة في ليل الأمل الساكن بديار شيعة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في الكوفة وسواها من أرض المسلمين.

وما كان لأهل بيت النبوة سوى العودة إلى ديارهم في المدينة في حين مكث المختار في الكوفة ، وهو ثابت الولاء ـ بحكم نشأته ـ لورثة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أما ما ورد من روايات أريد بها إثارة الغبار على موقفه ، والتشكك في سلامته ، واستقامته ، ومنه ما جاء من كونه كان قد أشار على عمه (سعد بن مسعود) ، الذي كان يومها واليا على المدائن بأن يتخلّى عن الإمام الحسنعليه‌السلام ، وأن يسلِّمه إلى معاوية ، فأمره مردود للأسباب التالية :

١ ـ أن المختار كان يعرفه الإمام عليعليه‌السلام بل يحبّه ، بدليل أنهعليه‌السلام كان يمسح رأسه ، ويداعبه قائلاً : «يا كيس ، يا كيس».

ويعلِّق المقرم الموسوي على ذلك قائلاً : أن هذه الكلمة دليل على ما

__________________

الإمام علياعليه‌السلام ولكن أنّى له ذلك وعلي في السماء منه وإنّه كان أقرب الناس وأحبهم إلى قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى جعله كهارون من موسى! ومن كان مواليا للنبي حقا فعليه أن يوالي عليا ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، على أن الايمان ومقره القلب ولا يعلمه إلاّ اللّه ليس أمره سهلاً جاء به أمرا ونهيا ليس في ترخص ، ولا انحراف ، ومثل معاوية بما اقترفه في حكمه من الموبقات لا يصح في عقل عاقل ، أن يعده من المؤمنين الصادقين.

وروى أبو الفدا عن الشافعي ، أنه اسر إلي الربيع ، أن لا تقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم ، معاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة وزياد بن أبيه. وللمزيد راجع كتاب شيخ المضيرة ، أبو هريرة لمؤلفه محمود أبو رية : ١٦٦ ، لمعرفة الكثير الكثير عما ارتكبه معاوية ضد الإسلام والمسلمين من جرائم تقشعر لها الأبدان ولا يحصى عددها إلاّ اللّه.

١٨

يظهر على يد المختار من مظاهر السداد ، وأن هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنينعليه‌السلام ، من مخبآت المستقبل ، وأنها ألمحت إلى الحوادث التي يقوم بها ، وكان المختار يحسب لهذه البشارة حسابا ، ويحدث نفسه.

٢ ـ لا يمكن للمختار ، أن يعرض مثل ذلك على عمه سعد بن مسعود ، لولاء عمّه لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وبقاء ولائه لسيد شباب أهل الجنّة الحسن ابن عليعليهما‌السلام ، فلا يمكن أن ينقلب هذا الولاء والمحبة الأكيدة إلى عداوة قاسية بين عشية وضحاها ، دون أن يرى من الإمام الحسنعليه‌السلام ـ وحاشاه من ذلك ـ شرا ، أو وعيدا أو تهديدا.

٣ ـ إن المختار شيعي العقيدة ، فقد كان يعطف على العلويين ، ويميل إليهم وإلى محبّتهم ، بدليل أنه رفض طلب زياد بن أبيه ، حين أراد منه أن يوقع الشكوى ضد حجر بن عدي ، شيخ الشيعة في العراق ، حتى يتخذ من هذه العريضة ذريعة لأقدامه على قتل حجر ، كما أن المختار جعل داره مقرا لسفير الإمام الحسينعليه‌السلام ، مسلم بن عقيلعليه‌السلام .

٤ ـ أن المختار ظلّ مواليا ، بل أنه ضحّى بدمه من أجل آل محمد (عليهم الصلاة والسلام) فكيف يصدر منه مثل ذلك الفعل المشين. وقد لاحظنا من خلال متابعتنا لما ذكر عن سيرة المختار ، أن هناك الكثير من الروايات التي تشكِّك في سلامة عقيدته ، واستقامته في كل ما كان يصدر عنه من فعل ، وقول ، وواضح أن أكثر كتبة التاريخ ورواته قد حرصوا على تشويه الصورة الرائعة ، لمريدي ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، من الصحابة والتابعين ، بسبب ولائهم لبني ـ أمية ـ وغيرهم من أعداء الإسلام ، وكراهيتهم لأهل البيت على وجه الخصوص.

١٩

وأن تلك الرواية تنتمي إلى جنس ما وضعه أهل الأقلام المأجورة ، الذين دأبوا على النيل من رموز الشيعة وقادتها استجابة للسواد المقيم في نفوسهم المريضة الحاقدة والممتلأة غيظا على الذين انتصروا للرسالة المحمدية ممثلة بأهل بيته الأطهارعليهم‌السلام .

وثمة روايات أخرى مماثلة للرواية التي تقدم ذكرها ، سنفرد لتناولها مكانا خاصا ، نقف فيه على قيمتها وحقيقتها.

وزيادة على ما تقدم ، فإنّ المختار كان على قدر كبير من الفضل في الدين والورع ، ويكفي ولاؤه لأهل البيتعليهم‌السلام ، دليلاً على سلامة دينه.

كما كان ذا منزلة وفضل توارثه عن أبيه وعمه ، ثم زاد فيه بما أوتي هو شخصيا من خلق ، مع علوِّ الهمّة ، وطموحه في القضاء على دولة الباطل والإطاحة بكل رموزها ، ومحاولة إعادة الحق المغتصب إلى أهله ، ولو كلّفه ذلك حياته.

ومن ذلك الولاء صعد نداء ثورته على الظالمين ، ورفضه للواقع الأموي ممثلاً بيزيد بن معاوية ثاني ملوك الشجرة الملعونة في القرآن الكريم.

ومن هنا نجد ، أن مسلم بن عقيل (١) ، رسول الحسينعليه‌السلام حين وصل

__________________

(١) أرسل الإمام الحسينعليه‌السلام ، ابن عمه مسلم بن عقيل الذي كان من الأبطال والعلماء وأصحاب الرأي إلى الكوفة ليأخذ البيعة من الناس للإمامعليه‌السلام وتمكن مسلم أن يأخذ من أهل الكوفة (١٨٠٠٠) بيعة للإمام الحسينعليه‌السلام وكتب له رسالة يدعوه للتحرك نحو الكوفة. ومع دخول عبيد اللّه بن زياد إلى الكوفة وتعيينه من قبل يزيد حاكما لها تفرّق الناس عن مسلم وتركوه وحيدا واستغل

٢٠

الكوفة كان قد آوى إلى بيت المختار ، واتّخذ منه مقرا لسفارته الحسينية. ومن المقر الجديد باشر مسلمعليه‌السلام ، بأداء مهمته بأخذ البيعة للإمام الحسينعليه‌السلام أداءً للعهد الذي قطعوه للإمام الحسينعليه‌السلام ، في كتبهم ورسائلهم إليه.

وهكذا تحوّل بيت المختار إلى مقر للمعارضة ، وكان ذلك من أبرز الأسباب التي ساعدت على نجاح الشهيد البطل مسلم بن عقيل في مهمته أول الأمر ، إذ أن الارتباط العائلي للمختار بوالي الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري ، باعتباره والد زوجته (1) ، قد يكون من بين أسباب عدم قيام الوالي بأي فعل ردعي لمسلم بن عقيل مادام في بيت المختار ، الأمر الذي حدا بيزيد ابن معاوية إلى عزله ، ومن ثم تولية عبيد اللّه بن زياد (2) ، وعلى أثر ذلك غادر مسلمعليه‌السلام بيت المختار ولجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي (3) ، لما علم بإلقاء القبض عليه من قبل شرطة ابن زياد وللأسباب التالية :

1 ـ لم يكن المختار قد كوّن حزبه السياسي.

2 ـ لم يكن له جيش قوي في الكوفة يكفي لحماية مسلم بن عقيلعليه‌السلام من شرطة ابن زياد.

__________________

عبيد اللّه بن زياد الظرف الحاصل ودعى الناس إلى عدم مبايعة الإمام الحسينعليه‌السلام وقتل مسلما.

وقد استُشهد مسلم بن عقيلعليه‌السلام في التاسع من ذي الحجة عام 60 للهجرة (680 م).

(1) تاريخ الطبري 6 : 112 في حوادث (سنة 67 هـ).

(2) الفتوح / ابن أعثم 5 : 36.

(3) الفتوح / ابن أعثم 5 : 40.

٢١

3 ـ كما أن والد زوجته ، النعمان بن بشير ، والي الكوفة كان قد عُزل من قبل يزيد بن معاوية ، وبذلك فقد المختار جانبا مهما من المساندة والنفوذ السياسي ، وجدير بنا أن ننوِّه ، بأن المختار لم يطلب من مسلمعليه‌السلام أن يغادر داره إلى بيت هاني بن عروة ، بل خرج مسلمعليه‌السلام من تلقاء نفسه ، ولو طال بقاء مسلمعليه‌السلام عنده لكان مصيره مثل مصير المختار وبذلك نهاية حياته ، ومن ثم الحيلولة دون قيامه بالفعل التاريخي العظيم.

ولما علمت أُخت المختار وهي زوجة عبد اللّه بن عمر بن الخطاب بسجن أخيها ، طلبت من زوجها أن يعمل على الإفراج عنه ، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع في المختار.

واستجاب يزيد لطلبه ، وكتب إلى ابن زياد يأمره بالإفراج عن المختار ، واضطر ابن زياد إلى طاعة أمر يزيد ، فأطلق سراح المختار ، ولكنه قرر نفيه خارج العراق وأمهله أن يغادره خلال ثلاثة أيام ، وإلاّ ضرب عنقه بعدها ، وخرج المختار من العراق إلى الحجاز وهو يقول : «واللّه لأقطعن أنامل عبيد اللّه بن زياد ولأقتلن بالحسين بن علي عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا» (1).

وبرّ المختار بقسمه ، فقد لقى ابن زياد مصرعه على يد المختار ، كما نجح المختار فيما بعد بقتل كل من اشترك في قتل الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام في كربلاء.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 571 ـ 572 (سنة 64 هـ)

٢٢

موقف المختار من التحوّلات السياسية

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله

من الثابت تاريخيا تشيّع المختار وموالاته لأهل بيت نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن المعروف أنّ أقطاب التشيع والمحدثة في ذلك الحين لم ينهضوا بأعباء تغيير الواقع التاريخي الذي ساد بعد غياب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأمور كثيرة ، أوضحها لدينا الاقتداء بأمير المؤمنينعليه‌السلام الذي صرح في بعض خطبه بالسكوت والصبر بعد أن لم يجد ناصرا ولا معينا ، ومن هنا اتخذ شيعته موقف المسالمة حفظا على بيضة الإسلام الذي كانت تحيطه الأخطار من كل حدب وصوب ، ولم يكن هذا الموقف ثابتا في تاريخ التشيّع ، إذ تغير بعد بروز نجم الأمويين بعد أن تمهّدت السبل إليهم ، وهنا يبرز المختار كشخصية شيعية معارضة فنراه قد فتح أبواب بيته لمبعوث الحسين بن عليعليهما‌السلام ، إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وهذا يساعدنا على اعتبار أن ثورتهرحمه‌الله كانت أمرا طبيعيا ومنتظرا من رجل شجاع ومخلص مثل المختاررضي‌الله‌عنه (1).

وحيث انتهى مصير الإمام الحسين إلى ما انتهى إليه من ثورة عملاقة على طغاة العصر وفراعينه كتبها الدهر بأحرف من نور ، وحيث لم تسنح الفرصة

__________________

(1) الأخبار الطوال : 341 ، الكامل في التاريخ 3 : 386 (سنة60) ، بحار الأنوار 45 : 353.

٢٣

للمختار بالاشتراك في تلك الثورة ، إذ كان في سجن ابن زياد كما تقدم. وما ان أفرج عنه إلاّ وقد صمّم الانتقام من الشجرة الملعونة وأتباعها من اشترك في قتل ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسبطه الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٤

علاقة المختار بمسلم بن عقيل

لقد بلغ يزيد بن معاوية الطاغية المستبد لعنه اللّه الذروة في الشراسة والعنف ، فزرع الأحقاد والضغائن في كل مكان ، ومثل المجازر الدموية على مسرح الشهوات ، وأصبح الإسلام على حافة الهاوية والدمار ، يستعمله أداة لتحقيق أطماعه الجشعة. فقد وضع مصلحته الخاصة فوق كل الاعتبارات المقدسة ، وأطلق أيدي الأذناب والخونة والمرتزقة لتعبث بأموال الناس ، وتعبث في الأرض فسادا ، وتطعن الأمة الإسلامية في أقدس قضاياها.

وكان لاستهتار ذلك الوغد اللعين بمقدرات الأُمّة ، والأوزار الثقيلة التي نجمت عن تصرفاته الطائشة قد فجرت في نفس الإمام الحسينعليه‌السلام ، آلاما لا حدّ لها ، نتيجة لإحساسه بالمساوئ التي كان يعجّ بها المجتمع الإسلامي ، فاتّقدت الحمية في قلبه الشريف واستعر نارها ، تلك النار المحرقة لكل ظالم مستبد ، وجهر بإعلانه على التصميم والمضي قدما على طريق الكفاح ، التصميم الكامل على خوض المعركة الضارية مع المنحرفين ، وأشعل البركان الذي لا ينطفئ ، منغمرا في زحمة النضال ، مهما يتطلّب هذا النضال من تضحيات ، ما دام الإسلام في خطر عظيم ، وهوعليه‌السلام يعلم بأن كل ما يبذله في تصحيح المسار من ثمن ضد الذين لا يضمرون للإسلام إلاّ الحقد الأسود ، والعداء السافر ، هو بعين اللّه محسوب.

٢٥

وقد زاده ألما وملأه حسرة ، من أن يكون (يزيد) الماجن الخليع حاكما على المسلمين ، فيعمل على الانسلاخ من المبادئ السامية ، والطباع العربية الأصيلة ، فيرتمي في أحضان الخيانة ، ويخضع لأحقاده الموروثة على آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !

فما كان من الإمام الحسينعليه‌السلام وقد بلغته من الكتب ما يقرب من إثني عشر ألف كتاب ، فقرر عند ذلك السفر إلى العراق ولكنه بعث ابن عمه مسلم بن عقيل ليستوثق من البيعة ، وعلى أثر ذلك التفويض خرج مسلم ابن عقيلعليه‌السلام من مكة للنصف من شهر رمضان سنة ستين للهجرة (1) ، وبعد معاناة وصل مسلم الكوفة ، فنزل بدار المختار بن عبيد الثقفي (2) ، وكان شريفا في قومه ، كريما عالي الهمة ، مقداما مجربا قوي النفس شديد على أعداء أهل البيتعليهم‌السلام .

وليس نزول مسلمعليه‌السلام في بيت المختار بالشيء اليسير إذا نظرناه من وجهة الظروف الراهنة آنذاك ، ومن وجهة دعوة جديدة يُراد بها قلب نظام جماعي يدين بالولاء لبني أمية ، فهو على أية حال يعطينا صورة واضحة عن عقيدة هذا الرجل الذي جعل من بيته ندوة ينشر منها دعوة الحسينعليه‌السلام ، بالرغم من كثرة أزلام السلطة الأموية في الكوفة التي كانت تراقب كل شيء.

ومن بيت المختار راح مسلمعليه‌السلام ينشر دعوته ، ويجمع الأنصار من حوله ، وجدَّ في ذلك حتى بلغ عدد من بايعوه ثمانية عشر ألفا (3) ، وقيل

__________________

(1) مروج الذهب 2 : 86 ، الإرشاد / المفيد : 228.

(2) الطبري 6 : 199.

(3) المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : 31 ، نقلاً عن الطبري 6 : 211.

٢٦

خمسة وعشرين ألفا (1) ، حيث اكتظّت شوارع الكوفة بجماهير الهاتفين بتحيات الاستقبال ، وامتلأت الدار على سعتها بالمزدحمين من مختلف الطبقات على الترحيب به ، حاملين وسام حفلة الحفاوة بقدومه ، رافعين شعار التهاني والابتهاج بتشريفه.

وكان من جملة من بايعه ودعا الناس إليه هو المختار ، وكان أمير الكوفة يومئذٍ هو النعمان بن بشير ، ولكن جماعة من بني أمية لم يسكتوا عن تحركات مسلمعليه‌السلام فكتبوا إلى يزيد بجلية الحال. فقد كتب عبد اللّه بن مسلم الباهلي (2) كتابا إلى يزيد يخبره فيه بنشاط مسلم بن عقيلعليه‌السلام وما كان من يزيد إلاّ أن يبعث (عبيداللّه بن زياد) ، واليه على البصرة ويضمّ إليه الكوفة. ثم تدور الدائرة وإذا بعبيداللّه بن زياد أميرا على الكوفة (وسيفه وسوطه على من ترك أمره وخالف نهيه) ، وإذا بأهل الكوفة الذين بايعوا مسلما بالأمس القريب يتخاذلون عنه ، فهم بين متخاذل وخائف مرتاب.

إنّ مجيء ابن زياد إلى الكوفة واليا عليها من قبل يزيد الفاسق الملعون كان سببا في خنق حركة مسلم بن عقيل ، حيث ان أول عمل قام به هو القضاء عليها ، وذلك بتثبيط عزائم قادتها ، وهناك ظفر بهم فسجنهم في بيوتهم ، وجعل عليهم رقابة شديدة ، ومنهم من ألقي في غياهب السجون.

أما المختار فلم يك يعلم بما حدث ، ولم يدر بخلده أن يتخاذل الناس عن مسلم ثم يسلّمونه للسيوف وهم يتفرّجون ، لأنّه يُروى أنه كان في قرية خارج الكوفة تسمى (القفا) وحين علم بذلك أقبل بمواليه وطائفة من قبيلته

__________________

(1) ابن شهرآشوب 2 : 31.

(2) وقيل عبد اللّه بن مسلم الحضرمي ، حليف بني أمية.

٢٧

لتلافي الموقف ومعه (عبد اللّه بن الحرث) ، وهو يحمل رايته الخضراء حتى انتهى به المطاف إلى (باب الفيل).

ولكن رأى فور وصوله ما لم يكن يقدر أن يراه ، رأى الكوفة وهي تموج بحركة قوية عنيفة وعلى رأسها السفاح (عبيد اللّه بن زياد) يصفعها بالسيف والسوط ، فماذا يكون موقفه ضد ذلك التيار الجارف؟ أتراه يقاتل بتلك الجماعة الضئيلة؟ كلاّ ، ولكنه الاستسلام والخضوع للأمر الواقع وليدخر ما عنده من قوى إلى فرصة أخرى ، فلبث وهو لا يدري ما يصنع حتى أُشير عليه أن يجلس تحت راية (عمرو بن حريث) ـ راية الأمان ـ ليأمن على حياته من هذا الطاغية ، فقبل مشورة ذلك الرجل الذي أشار عليه بالدخول تحت الطاعة والخضوع ، ولكنه قال ما يدل على تأثره وانزعاجه (أصبح رأيي مرتجيا لعظم خطيئتكم) ، وأكد عمرو هو الآخر أن يشهد له بالبراءة أن بلغ الأمير عنه ما يريب.

ولكنه سرعان ما مثل بين يدي اللعين ابن زياد :

ابن زياد : أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل وتتولّى أبا تراب وولده.

المختار : أما علي وأولاده فإنّي أحبّهم لمحبّة رسول اللّه. وأما نصرتي لمسلم فلم أفعل.

فانبرى عمرو عند ذلك وشهد له بالبراءة ، ولكن ابن زياد أبى أن يستجيب لهذه الشهادة والعمل على إخلاء سبيله ، بل عمد إلى سوط واستعرض به وجهه ضربا حتى أدماه ، كما أصاب عينه فشترها ، وهذا المشهد العدواني لاشك قد أثر في نفسه تأثيرا قويا وأومى إليه بالقسوة والانتقام وبخاصة من (ابن زياد) ، الذي حاول أن ينفذ فيه القتل ولكن شهادة عمرو

٢٨

خفّفت من حدّة الموقف فأمر به فغُيِّب (1).

في غيابة السجن :

أدخل المختار إلى السجن ، ولم يداخله اليأس من العودة إلى الحياة الحرة لمواصلة ثورته ، لأنّ البطل الذي يقوم بما قام به المختار من أعمال جبارة لايمكن أن يتسرب إليه اليأس والنكوص ، فإذا عرفنا بأنّه لم يكن رجلاً عاديا ولا من سائر الناس ، أدركنا بأنه رجل ملئ بالثقة والاطمئنان شأنه في ذلك شأن بقية الأبطال الثائرين ، فمن المؤكد بأنه لا يدري بوثوق بأن الحركات السياسية معرضة للفشل كما أنها معرضة للانتصار ، وهو يدري بأنه هو وأمثاله ينبغي لهم أن يعيدوا الكرة مرة أخرى إذا هم فشلوا في حركاتهم ومن شأنهم أنهم يحاولون مرة بعد أخرى حتى ينتصروا ، أما اليأس والتراجع فهما من صفات الجبناء المغفلين لامن صفات الأبطال الناهضين ، لذلك تملكه الأمل والرجاء في المستقبل.

فبقى صامدا ينتظر الساعة التي يخرج من السجن ويعمل في الحياة السياسية الثورية ، آملاً أن يحقق ذلك بعد أن يعمد إلى الخلاص من السجن حين تنتهي هذه الظروف أو تأتي فرصة تسمح له بالخروج ، فهو واثق من تحطيم أغلال السجن ويعيد العمل في الأمر الذي نذر نفسه من أجله وهو الطلب بثأر الحسينعليه‌السلام .

وظل بهذه الخواطر ونحوها وهو في محبسه بـ (قصر الإمارة) ، حتى انبثقت في ذهنه فكرة كانت بمثابة الخلاص من السجن ، وهي أن يكتب إلى عبد اللّه بن عمر ليتولّى مسألة إطلاق سراحه ، يقول المؤرخون أن شقيقته

__________________

(1) المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : 34.

٢٩

ـ صفية ـ قامت بدورها في هذا المضمار بنصرته فحرّضت زوجها (عبد اللّه بن عمر) أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بهذا الكتاب :

« أما بعد فإنّ عبيد اللّه قد حبس المختار وهو صهري ، وأنا أحب أن يعفى ويصلح من حاله فإن رأيت ـ رحمنا اللّه وإياك ـ أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته والسلام».

وكتب يزيد إلى واليه (عبيد اللّه) بهذا الكتاب :

« أما بعد فخلِّ سبيل المختار حين تنظر في كتابي هذا. ».

وحالما وصل الكتاب إلى واليه ابن زياد ، أمر باحضار المختار وأطلق سراحه ولكنّه قال له : « قد أجّلتك ثلاثا فإن أدركتك بالكوفة فقد برئت منك الذمّة ». وهكذا أخرج المختار من محبس عبيد اللّه بن زياد ليتوجّه إلى الحجاز ولكنه يصادف في الطريق بمكان يدعى (واقصة) رجلاً يسمى (ابن عرق) ـ وهو مولى لثقيف ، فقال هذا الرجل : مالي أرى عينك على هذا الحال؟ قال فعل بي ذلك (ابن الزانية) ويعني به (ابن زياد) قتلني اللّه إن لم أقطع أنامله وأعضاءه إربا ، ولأقتلن بالحسين عدد الذين قتلوا بيحيى بن زكريا ، وهم سبعون ألفا (1).

مع ابن الزبير :

كان ابن الزبير ممن يطلب الخلافة لنفسه بعد هلاك معاوية ، وحينما جاء المختار إلى مكة بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، علم ابن الزبير بمقدمه ثم حضر عنده وسأله بدوره عن نفسيات أهل الكوفة وما هم عليه فأجابه المختار : « هم في السرّ أعداء ، وفي العلانية أولياء ».

فقال ابن الزبير : « هذه واللّه صفة عبيد السوء ، إذا حضر مواليهم خدموهم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 7 : 59.

٣٠

وإذا غابوا عنهم شتموهم ».

ذرني من هذا وابسط يدك لأبايعك واعطني ما أرضى به لأكون لك من الدعاة في الحجاز ، فسكت ابن الزبير وكأنه لم يصادف هوى من نفسه بهذا الشرط الأخير ، فتركه المختار ومضى إلى الطائف بعد أن رأى ما لا يعجبه فقال : «وإني لما رأيت استغنى عني ، أحببت أن أريه أني مستغنٍ عنه».

بقي المختار في الطائف عاما كاملاً ثم عاد ثانية إلى مكة وحضر عند ابن الزبير وبايعه. وهنا قد يخطر في البال ، لماذا بايع المختار ابن الزبير ، وقد رفض بيعته أول الأمر؟ وجوابه :

أولاً : إنّه كان يعلم عداء ابن الزبير للأمويين وسعيه للوصول إلى السلطة فانضم إليه بهدف الاطاحة بالحكم الأموي لا إيمانا بقضية ابن الزبير ولا حبا وإخلاصا له.

ثانيا : قد تكون بيعة المختار لابن الزبير وسيلة لا غاية ، يهدف من خلالها إلى تحقيق أهدافه وآماله الثورية والسياسية التي وضعها على نفسه في أخذ ثار الحسينعليه‌السلام ، وحين علم أن ابن الزبير لا يحقق ما كان يصبو إليه ولا ينفذ طلباته ولا يفي له بالشروط التي اشترطها عليه انسحب عنه.

وبمعنى آخر : كانت هذه البيعة السبب المباشر للقضاء على الذين اشتركوا في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ، وإلاّ لتمتّع هؤلاء القتلة المجرمون بالعيش الهانئ والقصور الفارهة التي أقرّها لهم النظام الأموي.

ثالثا : ربما أن البيعة تمّت بطلب من عبد اللّه بن الزبير ، بدليل أن المختار فرض عدّة شروط من أجل أن يبايع ابن الزبير ، كما ذكر الطبري (1) ، والشروط

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 : 445.

٣١

كما يلي :

1 ـ أُبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني.

2 ـ أكون أول من تأذن له ، وآخر من يخرج من عندك.

3 ـ إذا ظهرت ، استعنت بي على أفضل عملك.

على أية حال ، فكل ذلك يدلّنا بجلاء ووضوح من أن المختار لم يبايع ابن الزبير لا لكونه خارجا عن طاعة بني أمية فحسب ، بل يضاف إلى ذلك أن المختار لم يكن بالرجل العادي الذي يعترف لابن الزبير بالخلافة حتى يمد إليه يده صاغرا ، وهو يعرفه جيدا بأنّه الرجل الممالئ المنحرف في عقيدته ومذهبه ، وأنّه قد شبّ على عداء آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ظهر العداء فيه واضحا حين ترك الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء خطبه حتى نقده الناس ولاموه ، فقال كلماته النكراء التي توضّح مدى عقيدته :

«إن له ـ أي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أهل بيت إذا ذكرته اشرأبت نفوسهم إليه وفرحوا فلا أحب أن أقرأ ذلك في عينهم».

وبعد كل ذلك ، وبعد أن تيقّن للمختار عدم صدق عبد اللّه بن الزبير معه قرر السفر إلى الكوفة على أن يجد ما يصبو إليه من الثورة والأخذ بالثأر من قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام .

٣٢

المختار قائدا

لا نشك ، في أن موقف المختار من تولّي معاوية للخلافة كان من موقف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإنّما دعاه إلى موقفه السلبي هو الظروف السائدة حينها ، إذ باتت بوادر ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ، من خلال رفضه لمبايعة يزيد ، وإرساله مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ممثِّلاً عنه إلى أهل الكوفة.

برز دور المختار واضحا في مساندته للإمام الحسينعليه‌السلام ، من خلال تحويل بيته إلى مقرّ للسفارة الحسينية ، وملتقى للمعارضة الشيعية ، غير أن استشهاد مسلمعليه‌السلام ، بأساليب ابن زياد التي نوّهنا عنها سابقا ، وما أعقبها من إلقاء القبض على المختار ، وزجِّه في السجن ، وشتر إحدى عينيه ، الأمر الذي حال بينه وبين الاشتراك في القتال إلى جانب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان غيابه الذي أكره عليه قد أثّر في نفسه أثرا شديدا ، ومن هنا نذر نفسه على الانتقام ، والثأر من قتله الإمام الحسينعليه‌السلام ، وما كان له ـ والوضع في الكوفة يدعوا للخيبة واليأس ـ إلاّ أن يباشر حركته تلك ، خصوصا وأن ابن زياد كان قد أمره بمغادرة الكوفة بعد أن أخرجه من السجن بواسطة عبد اللّه بن عمر ، فكان أن توجه إلى بلاد الحجاز ، وهناك التقى بعبد اللّه بن الزبير الذي لم يجرؤ على أن يدعو لنفسه والإمام الحسينعليه‌السلام على قيد الحياة. وإذ لقى الحسين ربه ، أظهر ابن الزبير دعوته على الملأ ، وبيّن للناس حقّه في الخلافة ،

٣٣

ووقف يخطب بالناس ، فهاجم أهل الكوفة لغدرهم بالحسينعليه‌السلام (1) ، وكان لكلماته رنّة السحر في نفوس العلويين وأهل الحجاز خاصة ، والساخطين على الحكم الأموي عامة ، فالتفّوا حوله ، وناصروه ورأوا فيه الزعيم الذي يأخذ بثار شهيدهم الحسينعليه‌السلام ، ويقضي على الحكم الأموي ، ولما طلبوا منه أن يبايع لنفسه ، لم يجبهم إلى طلبهم كأنّما يريد أن يظهر للناس زهده في الخلافة (2).

وقد ذكر خروج المختار من الكوفة إلى الحجاز ولقائه بابن الزبير ومبايعته له على شروط قبلها المختار للأسباب التالية :

أ ـ خوف ابن الزبير على السلطة التي لم يكن يحلم أن تؤول إليه بهذه السهولة.

ب ـ تخوّف ابن الزبير من المختار الذي أصبحت له منزلة عظيمة بين أشراف المسلمين ، وفي قلوب الشيعة بشكل خاص.

ج ـ أو ربما لاسترضاء عبد اللّه بن عمر بن الخطاب صهر المختار والذي كان ابن الزبير بأمسِّ الحاجة إلى كسب ودِّه.

ولمّا تبيّن لدى المختار ، أن ابن الزبير ليس بالرجل المؤتمَن الذي يتولّى تحقيق وتلبية مطالب الشيعة وطموحاتهم بالقضاء على الحكم الأموي والأخذ بثار الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن ثم إقامة حكومة تلبّي مطالب عامة الناس من الفقراء ، والمعوزين ، وكان من بينهم الموالي الذين عانوا من الاضطهاد الأموي الكثير الكثير. لذلك فقد حزم المختار أمره وجاء إلى الكوفة

__________________

(1) انظر الخطبة في تاريخ الطبري 4 : 364.

(2) المختار الثقفي / الخربوطلي 4 : 364 ، نقلاً عن الطبري.

٣٤

ليتولّى بنفسه قيادة الجموع وذلك في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان عام 64 هـ (السادس من مايس عام 674م) (1). بعد هلاك يزيد بن معاوية لعنهما اللّه بنحو سنة وبضعة أشهر إذ هلك يزيد لعنه اللّه في يوم الخميس لأربع عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول (سنة / 63 هـ).

وكان يصحب المختار رجل واحد هو عبد اللّه بن كامل الهمداني ، وقد لقيا بـ (العذيب) ، هاني بن أبي حبة الوداعي (2) ، فسأله المختار عن أخبار الكوفة ، فقال : تركت الناس كالسفينة تجول بلا ملاح عليها. فقال المختار : أنا ملاحها الذي يقيمها (3).

ثم سار المختار حتى انتهى إلى نهر الحيرة ، فنزل واغتسل ولبس ثيابه ، وتقلّد سيفه ، وركب فرسه ، ودخل الكوفة نهارا ، والناس يتهيئون للصلاة ، فجعل لا يمر بملأ إلاّ وقف وسلّم ، وقال : «ابشروا بالفرج ، فقد جئتكم بما تحبّون ، وأنا المسلّط على الفاسقين ، والطالب بدم أهل بيت نبي رب العالمين». ثم دخل الجامع وصلّى فيه ، فرأى الناس ينظرون إليه ، ويقول بعضهم لبعض : هذا المختار ما قدم إلاّ لأمر ونرجو به الفرج.

وخرج من الجامع ، ونزل داره ، ثم بعث إلى وجوه الشيعة وعرفهم أنه جاء من محمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين السجّادعليه‌السلام ، للطلب بدماء أهل البيتعليهم‌السلام . فقالوا : « أنت موضع ذلك وأهل ».

__________________

(1) الطبري ج8 ، طبقات ابن سعد 5 : 71.

(2) المصادر نفسها.

(3) كذا.

٣٥

وخلال ذلك هرب ابن زياد من الكوفة إلى الشام (1) ، وبعد أُسبوع من وصول المختار ، أرسل عبد اللّه بن الزبير واليا من قبله على الكوفة هو ، عبد اللّه ابن يزيد الخطمي ، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه عاملاً على الخراج (2).

__________________

(1) لم يحدد لنا كتبة التاريخ والسير ، تاريخ هروب ابن زياد من الكوفة. لكننا حصرنا ذلك بعام 64 هـ ، لأنّ ابن زياد حين علم بوفاة يزيد سنة 64 هـ ، وطرد واليه على البصرة ، ثم هروب أكثر الولاة الأمويين من الولايات التابعة للمملكة الأموية ، التحق هو مع من هرب إلى عاصمة الأمويين ـ الشام ـ ، حيث جرى تسليم الحكم في الكوفة إلى رجل اتفق عليه بالإجماع من قبل زعماء الكوفة وأشرافها ، وهو عامر بن مسعود ، الذي ما لبث أن دان بالولاء لعبد اللّه بن الزبير ، الذي تمكن من توحيد مركزه في العراق. راجع : الطبري 7 : 21 ، الخوارج والشيعة / فلهوزن : 190.

(2) الطبري 5 : 560.

٣٦

التوّابون

كان لاستشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام بهذه الصورة المأساوية نتائج خطيرة في تاريخ العراق والدولة الأموية عامة. فقد عاشت الشيعة بشكل خاص ، والمسلمين بشكل عام عقدة الذنب مثقلاً بمرارة الموقف الانهزامي الذي وقفته إزاء كربلاء.

وتحرّج النظام الأموي الذي لم يقدر فظاعة المأساة ، وكان عليه أن يجابه نتائجها السريعة والمستقبلية التي أخذت تنعكس منذ ذلك الحين على بنية هذا النظام.

وليس ثمة شك في أن ـ يزيد ـ كان المسؤول الأوّل والأخير عن مجزرة كربلاء ، وكان مسوقا إلى ارتكابها بدافع ما كان يمتلئ به صدره من حقد ، وغيظ وحسد ، للإمام الحسينعليه‌السلام ، وللهاشميين عموما باعتباره امتدادا لذلك الأسن الأموي الجاهلي مما غيّب عنه الرؤيا الصحيحة للواقع السياسي كما كان ذلك علامة وسببا لفشله في تبوّء مركز السلطة ، ذلك المركز الذي بذل في سبيله أبوه الطليق الباغي معاوية كل إمكانياته ، وصرف كل جهوده من أجل الحفاظ عليه (1).

__________________

(1) سليمان بن صرد الخزاعي / د. إبراهيم بيضون : 79.

٣٧

كانت مأساة كربلاء لا تزال ماثلة في أذهان أهل الكوفة بالذات ، وكان كثير منهم يشعرون بالندم ، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن دم الإمام الحسينعليه‌السلام وآل بيته وأنصاره ، وباتوا يتطلّعون إلى الأخذ بثاره ، فأخذوا يبحثون عن زعيم يقودهم لتحقيق هذا الغرض.

فأدرك المختار هذه الحقيقة ، ورأى أن يكون هو ذلك الزعيم المنشود ، فقد ذكر المسعودي : « أنه بعد استقرار المختار في الكوفة ، راح يبكي على الطالبيين ، وشيعتهم ، ويحثّ على أخذ الثار لهم ، والمطالبة بدمائهم ، فمالت الشيعة إليه ، وصاروا من جملته لاحقا » (1).

إلاّ أنه لاحظ أن عدد الذين التفّوا حوله ، لا يمكنه بهم أن يحقِّق أهدافه مع انضمام الكثير إلى حركة التوابين التي قادها سليمان بن صرد الخزاعي (2) ، وأربعة من كبار زعماء الكوفة ، وهم : المسيب بن نجبة (3) الفزاري ، وعبد اللّه ابن سعد بن نفل الأزدي ، وعبد اللّه بن وائل التميمي ، ورفاعة بن شدّاد البجلي ، الذين هيَّأوا مستلزمات الثورة من جمع الأسلحة واستمالة الناس ، كما واتفقوا على أن يعقدوا لقاءات دورية لتقويم النشاطات التي قاموا بها ،

__________________

(1) مروج الذهب 3 : 21.

(2) وكان اسمه في الجاهلية (يسار). سماه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سليمان وكان خيرا فاضلاً ، له دين وعبادة ، وشرف وقدر في قومه. شهد صفين مع الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكان ممن كتب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، يسأله القدوم إلى الكوفة ، فلما قدمها ترك القتال معه ضد المعتدين ، ثم ندم على ذلك ، وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الإمام عليعليه‌السلام .

انظر الاستيعاب بهامش الاصابة 2 : 63 ، والاصابة / ابن حجر 2 : 76.

(3) ورد في البداية والنهاية / ابن نجية 8 : 247. أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهد القادسية وفتح العراق. فيما ذكر ابن سعد ، أنه كان مع الإمام عليعليه‌السلام ، في مشاهده.

٣٨

والانجازات التي حققوها ، ومن ثم لتحديد موعد للخروج وإعلان الثورة ، واستقرّ رأيهم على أن يكون التجمع في النخيلة (1) ، في نهاية ربيع الآخر من سنة 65 للهجرة (2) ومن هنا فإنّنا نعتقد أن سبب اجتماع هذه النخبة يعود إلى :

1 ـ الشعور بهول المأساة ، وفداحة الإثم.

2 ـ الإسراع باتخاذ موقف انتقامي من المسؤولين عن مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، سواء الأمويين ، أم المتواطئين معهم.

3 ـ الإلحاح في طلب التوبة عن طريق التضحية بالنفس.

4 ـ إنقاذ الأمة الإسلامية من جور وطغيان الأمويين اللامتناهي.

5 ـ فضح بني أمية وإظهارهم على حقيقتهم الظالمة وكما هو حالهم حيث تمسّكهم بالحكم والكرسي ، وهذا معناه أنهم لا يعترفون بدين ، ولا بشريعة ، وأنهم على استعداد تام أن يفعلوا أي منكر وقبيح ما داموا لا يعترفون بجنّة ولا بنار.

6 ـ تحريك عواطف المسلمين من أجل تكوين حركات كفاحية أُخرى ضد جبروت المملكة الأموية ، لأنّ التصميم على الكفاح ينتج عنه ضرورة التغيير.

ومهما كان شكل هذا الاجتماع المحفوف بالخطر ، فإنّه أفضل من الانتظار الجامد.

كانت سنة خمس وستين للهجرة (684م) ، قد حلّت وفي هذه السنة انتقلت ثورة التوابين من محتواها التخطيطي ، وإطارها التبشيري إلى مرحلة

__________________

(1) النخيلة : مكان بالقرب من الكوفة.

(2) ابن الأثير 8 : 247.

٣٩

التنفيذ الحاسم. وكان من شعارات التوابين التي كثر ترديدها حينئذٍ :

« من أراد الجنّة فليلتحق بسليمان في النخيلة ».

« من أراد التوبة فليلتحق بسليمان » (1).

إلى غير ذلك من الشعارات التي لم تخرج عن إطار الغفران والتكفير عن الذنب.

وبعد تشاورٍ ، رأى زعماء الحركة ، أن قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، موزعون في أنحاء الأرض ، وليس سهلاً أن تطالهم سيوف التوابين كما يتصور البعض ، لذلك ارتأوا أخيرا أن تكون الشام ـ قاعدة الطغيان ـ والمسؤولة قبل أي أحد عن مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وفي رأيهم أن النظام هو الذي ينبغي أن يحاسب وليس الأشخاص (2) لأنّ أولئك القتلة كانوا فقط الأداة التي نفّذت الأوامر ، وقامت بما طلب منها بأبشع ما يكون.

وبعد هذا كله غادر التوابون الكوفة ليلة الجمعة في الخامس من ربيع الثاني سنة 65 هـ التاسع عشر من تشرين الثاني سنة 684م ، ووجهتهم (النخيلة) ، المكان الذي ستلتقي فيه وفود المتطوعين الذي تعاهدوا على الالتحاق بإخوانهم في الموعد المحدد.

وبعد إقامة سليمان ورفاقه أياما ثلاثة (3) ، في المعسكر لم تكن الاستجابة بالمستوى المقدَّر لها ، وانخفض العدد الذي التزم بالخروج مع زعيم الحركة إلى الربع تقريبا ، حيث قدر أن آخر ما وصل إليه تجمع التوابين في

__________________

(1) قيل إن عدد المتطوعين ارتفع إلى نحو عشرين ألفا. انظر ابن كثير 8 : 251.

(2) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 2 : 58.

(3) الطبري 7 : 67 ، ابن الأثير 2 : 252.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133