تذكرة الفقهاء الجزء ٥

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-5503-45-0
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182819 / تحميل: 6071
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٥٥٠٣-٤٥-٠
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وفي رواية سماعة : « وقد تحلّ لصاحب سبعمائة ، وتحرم على صاحب خمسين درهماً » ( قلت )(١) له : كيف هذا؟ فقال : « إذا كان صاحب السبعمائة له عيال كثير ، فلو قسّمها بينهم لم تكفه ، فليعف عنها نفسه وليأخذها لعياله ، وأمّا صاحب الخمسين فإنّه تحرم عليه إذا كان وحده وهو محترف يعمل بها وهو يصيب فيها ما يكفيه إن شاء الله »(٢) .

والقول الثاني للشيخ : أنّ الضابط : من يملك نصاباً من الأثمان أو قيمته فاضلاً عن مسكنه وخادمه(٣) ، وبه قال أبو حنيفة(٤) ، لقولهعليه‌السلام لمعاذ : ( أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم )(٥) .

وللمنافاة بين جواز أخذها ووجوب دفعها.

والجواب : أنّهعليه‌السلام لم يقصد بيان مصرف الزكاة ، وما قلنا بيان له فكان أولى ، ونمنع التنافي.

وقال أحمد : إذا ملك خمسين درهما لم يجز له أن يأخذ(٦) ، لقولهعليه‌السلام : ( من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه خدوش ) قيل : يا رسول الله ما الغنى؟ قال : ( خمسون درهماً )(٧) .

____________________

(١) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق : قيل.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦١ - ٥٦٢ / ٩ ، التهذيب ٤ : ٤٨ / ١٢٧.

(٣) الخلاف ٢ : ١٤٦ ، المسألة ١٨٣.

(٤) المبسوط للسرخسي ٣ : ١٤ ، اللباب ١ : ١٥٥ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١١٥ ، المغني ٢ : ٥٢٣ و ٧ : ٣١٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ١٣٠ ، صحيح مسلم ١ : ٥٠ / ١٩ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠٤ - ١٠٥ / ١٥٨٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٢١ / ٦٢٥ ، سنن النسائي ٥ : ٣ - ٤ ، وسنن البيهقي ٤ : ٩٦ ، بتفاوت يسير في الجميع.

(٦) المغني ٢ : ٥٢٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣.

(٧) سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٤٠ ، سنن أبي داود ٢ : ١١٦ / ١٦٢٦ ، سنن النسائي ٥ : ٩٧ ، ومسند أحمد ١ : ٤٤١ بتفاوت في الجميع ، وانظر أيضاً : المغني ٢ : ٥٢٢ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٨٨.

٢٤١

وهو محمول على أنّه إذا كان تحصل به الكفاية على ما فسّره أهل البيتعليهم‌السلام .

وقال الحسن البصري وأبو عبيد : الغني : من يملك أربعين درهماً(١) ؛ لما روى أبو سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من سأل وله قيمة اُوقيَّة فقد ألحف(٢) )(٣) والاُوقيَّة : أربعون درهماً(٤) .

ولا دلالة فيه.

وفي رواية عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « لا تحلّ لمن كانت عنده أربعون درهماً يحول عليها الحول أن يأخذها ، وإن أخذها أخذها حراماً »(٥) .

ولا حجّة فيه أيضاً ؛ لأنّ حولان الحول عليها يدلّ على استغنائه عنها فيحرم عليه أخذها.

مسألة ١٦٤ : لو كان له بضاعة يتّجر بها أو ضيعة يستغلّها‌ ، فإن كفاه الغلّة له ولعياله ، أو الربح لم يجز له أن يأخذ الزكاة ، وإن لم يكفه جاز أن يأخذ من الزكاة ما يتمّ به كفايته ، ولم يكلّف الإِنفاق من البضاعة ولا من ثمن الضيعة ، لما فيه من التضرّر.

ولأنّ سماعة سأله عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال : « نعم إلّا أن تكون داره دار غلّة فيخرج له من غلّتها دراهم تكفيه وعياله ، فإن‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩ ، الأموال - لأبي عبيد - : ٥٥٠ - ٥٥١.

(٢) ألحف في المسألة : إذا ألحّ فيها ولزمها. النهاية لابن الأثير ٤ : ٢٣٧.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ١١٦ - ١١٧ / ١٦٢٨ ، سنن النسائي ٥ : ٩٨ ، سنن الدارقطني ٢ : ١١٨ / ١ ، مسند أحمد ٣ : ٧ و ٩ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٢٠ ، وانظر أيضاً : المغني ٢ : ٥٢٣ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٤) اُنظر : الصحاح ٦ : ٢٥٢٧.

(٥) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣١.

٢٤٢

لم تكن الغلّة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم من غير إسراف فقد حلّت له الزكاة ، وإن كانت غلّتها تكفيهم فلا »(١) فقد نصّ على جواز الأخذ مع عدم الاكتفاء بالغلّة مع قطع النظر عن الثمن.

ولا فرق بين الدار والبضاعة والضيعة ؛ إذ المشترك - وهو المالية - هو الضابط دون خصوصيّات الأموال.

فروع :

أ - لو لم يكن محتاجاً حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئاً ، وإن كان محتاجاً حلّت له الصدقة وإن ملك نُصباً سواء في ذلك الأثمان وغيرها ، وبه قال مالك والشافعي(٢) ، لأنّ الحاجة هي : الفقر ، وضدّها : الغنى ، فمن كان محتاجاً فهو فقير ، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرِّمة.

ب - لو ملك من العروض أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنياً وإن ملك نُصباً ، وبه قال الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق وغيرهم(٣) .

ج - لو كانت له كفاية باكتساب أو صناعة أو مال غير زكوي لم تحلّ له الصدقة ، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيد وابن المنذر(٤) ، لقولهعليه‌السلام : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب )(٥) .

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٤٨ - ٤٩ / ١٢٧ و ١٠٧ - ١٠٨ / ٣٠٨ ، الكافي ٣ : ٥٦١ / ٤ ، والفقيه ٢ : ١٧ - ١٨ / ٥٧.

(٢) المغني ٢ : ٥٢٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١١٥ ، المجموع ٦ : ١٩٧.

(٣) المغني ٢ : ٥٢٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٨.

(٤) المغني ٢ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٨ ، المجموع ٦ : ١٩٠ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٥٢.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٣ ، سنن الدارقطني ٢ : ١١٩ / ٧ ، سنن النسائي =

٢٤٣

ولأنّه يملك ما يغنيه عن الصدقة فخرج عن الحاجة فلا يتناوله اسم الفقراء.

وقال أبو يوسف : إن دفع الزكاة إليه فهو قبيح ، وأرجو أن يجزئه(١) .

وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر : يجوز دفع الزكاة إليه ؛ لأنّه ليس بغني(٢) ؛ لما مرّ من قولهعليه‌السلام : ( أعلمهم أنّ عليهم الصدقة )(٣) .

د - لو ملك نصاباً زكويّاً أو نُصباً تقصر عن مؤونته ومؤونة عياله حلّت له ، وبه قال الشافعي وأحمد(٤) ، لأنّه لم يملك ما يغنيه ، ولا يقدر على كسب ما يكفيه ، فجاز له الأخذ من الزكاة ، كما لو كان ما يملكه من غير الزكوي ، ولأنّ الفقر : الحاجة. وهي متحقّقة فيه.

وقال أصحاب الرأي : ليس له أن يأخذ ؛ لأنّه تجب عليه الزكاة فلا تجب له ؛ للخبر(٥) .

والغنى المانع من الأخذ ليس هو الغنى الموجب للدفع.

ه- لو كان له مال معدٌّ للإِنفاق ولم يكن مكتسباً ولا ذا صناعة اعتبرت الكفاية به حولاً كاملاً له ولعياله ومن يمونه ، لأنّ كلّ واحد منهم مقصود دفع حاجته ، فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد ؛ لأنّه لا يسمّى فقيراً بالعادة.

ويحتمل أن يمنع من الزكاة حتى يخرج ما معه بالإِنفاق.

والحقّ : الأول ؛ لما روي من جواز تناولها لمن ملك ثلاثمائة درهم أو‌

____________________

= ٥ : ٩٩ - ١٠٠ ، سنن البيهقي ٧ : ١٤ ، ومسند أحمد ٤ : ٢٢٤ و ٥ : ٣٦٢ ، وفي الجميع : ( لا حَظّ فيها لغني ).

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٨.

(٣) تقدّمت الإِشارة إلى مصادره في المسألة ١٦٣.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٧ ، المغني ٢ : ٥٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٥) الهداية للمرغيناني ١ : ١١٤ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٤ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧٦ ، المجموع ٦ : ١٩٧ ، المغني ٢ : ٥٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

٢٤٤

سبعمائة مع التكسب القاصر(١) ، فمع عدمه أولى.

و - لو جعلنا مناط المنع ملك النصاب وإن قصر عن الكفاية ، فلو كان له عائلة جاز أن يأخذ لعياله حتى يصير لكلّ واحد منهم ما يحرم معه الأخذ ؛ لأنّ الدفع إنّما هو إلى العيال وهذا نائب عنهم في الأخذ.

ز - لو كان للولد المعسر ، أو الزوجة الفقيرة ، أو الأب الفقير والد أو زوج أو ولد موسرون ، وكلٌّ منهم ينفق على من تجب عليه لم يجز دفع الزكاة إليهم ؛ لأنّ الكفاية حصلت لهم بما يصلهم من النفقة الواجبة ، فأشبهوا من له عقار يستغني باُجرته.

وإن لم ينفق أحد منهم وتعذّر ذلك جاز الدفع إليهم ، كما لو تعطّلت منفعة العقار.

مسألة ١٦٥ : ويعطى من ادّعى الفقر إذا لم يعلم كذبه‌ سواء كان قويّاً قادراً على التكسب أو لا ، ويقبل قوله من غير يمين سواء كان شيخاً ضعيفاً أو شاباً ضعيف البُنية أو زمناً أو كان سليماً قويّ البُنية جلداً ، وهو أحد وجهي الشافعية(٢) ؛ لأنّ رجلين أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقسّم الصدقة ، فسألاه شيئاً منها ، فصعَّد بصره فيهما وصوَّبه(٣) ، وقال لهما : ( إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغني ولا ذي قوة مكتسب )(٤) ودفع إليهما ولم يحلّفهما.

والثاني للشافعي : أنّه يحلف إن كان قويّاً في بُنيته ظاهرة الاكتساب ؛ لأنّ‌

____________________

(١) اُنظر : المعتبر : ٢٧٨ ، والكافي ٣ : ٥٦٠ / ١.

(٢) الاُم ٢ : ٧٣ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٨٧ ، المجموع ٦ : ١٩٥ ، الوجيز ١ : ٢٩٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٥١ - ١٥٢.

(٣) صوّبه : خفضه. النهاية لابن الأثير ٣ : ٥٧.

(٤) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٣ ، سنن الدارقطني ٢ : ١١٩ / ٧ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ - ١٠٠ ، سنن البيهقي ٧ : ١٤ ، مسند أحمد ٤ : ٢٢٤ و ٥ : ٣٦٢ بتفاوت يسير.

٢٤٥

ظاهره يخالف ما قاله(١) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه مسلم ادّعى ممكناً ولم يظهر ما ينافي دعواه.

ولو عرف له مال وادّعى ذهابه ، قال الشيخ : يكلّف البيّنة ؛ لأنّه ادّعى خلاف الظاهر ، والأصل البقاء(٢) ، وبه قال الشافعي(٣) .

والأقرب : أنّه لا يكلّف بيّنة تعويلاً على صحة اخبار المسلم. وكذا البحث في العبد لو ادّعى العتق أو الكتابة.

ولو ادّعى حاجة عياله ، فالوجه القبول من غير يمين ، لأنّه مسلم ادّعى أمراً ممكناً ولم يظهر ما ينافي دعواه.

ويحتمل الإِحلاف ؛ لإِمكان إقامة البيّنة على دعواه. وللشافعي كالوجهين(٤) .

مسألة ١٦٦ : العاملون عليها لهم نصيب من الزكاة‌ وهم السُّعاة في جباية الصدقات عند علمائنا أجمع ، وبه قال الشافعي(٥) ؛ لقوله تعالى( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ) (٦) .

ولقول الصادقعليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ) أكلّ هؤلاء يعطى؟ : « إنّ الإِمام يعطي هؤلاء جميعاً »(٧) .

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٨ ، المجموع ٦ : ١٩٥ ، الوجيز ١ : ٢٩٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٥١ - ١٥٢.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٧.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٨ ، المجموع ٦ : ١٩٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٢.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٢.

(٥) الاُم ٢ : ٧١ - ٧٢ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٧٨ ، المجموع ٦ : ١٨٨ ، الوجيز ١ : ٢٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٩ ، تفسير الرازي ١٦ : ١١٠.

(٦) التوبة : ٦٠.

(٧) الكافي ٣ : ٤٩٦ / ١ ، التهذيب ٤ : ٤٩ / ١٢٨ ، الفقيه ٢ : ٢ - ٣ / ٤.

٢٤٦

وقال أبو حنيفة : يعطي عوضاً واُجرة لا زكاةً ، لأنّه لا يعطي إلّا مع العمل ، ولو فرّقها الإِمام أو المالك لم يكن له شي‌ء ، والزكاة تدفع استحقاقاً لا عوضاً ، ولأنّه يأخذها مع الغنى والصدقة لا تحلّ لغني(١) .

ولا يلزم من توقّف الإِعطاء على العمل سقوط الاستحقاق ، والمدفوع ليس عوضاً ، بل استحقاقاً مشروطاً بالعمل.

ونمنع عدم الدفع إلى الغني مطلقاً ؛ لأنّ العامل لا يأخذ باعتبار الفقر ، وابن السبيل يأخذ وإن كان غنيّاً في بلده فكذا هنا.

مسألة ١٦٧ : يجب على الإِمام أن يبعث ساعياً في كلّ عام لتحصيل الصدقات من أربابها‌ ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعثهم في كلّ عام ؛ فيجب اتّباعه ، ولأنّ تحصيل الزكاة غالباً إنّما يتمّ به ، وتحصيل الزكاة واجب فيجب ما لا يتمّ إلّا به.

إذا ثبت هذا فينبغي للإِمام أن يوصيه كما وصّى أمير المؤمنينعليه‌السلام عامله.

قال الصادقعليه‌السلام : « بعث أمير المؤمنينعليه‌السلام مصدّقاً من الكوفة إلى باديتها ، فقال له : يا عبد الله انطلق وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تؤثرنّ دنياك على آخرتك ، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه راعياً لحقّ الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان ، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم فسلِّم عليهم ، وقُل : يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟ فإن قال لك قائل : لا ، فلا تراجعه ، فإن أنعم لك منعم منهم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلّا خيراً.

فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلّا بإذنه ، فإنّ أكثره له ، فقُل له : يا عبد الله‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٢ : ٤٤ ، تحفة الفقهاء ١ : ٢٩٩.

٢٤٧

أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن لك فلا تدخل دخول متسلّط عليه ولا عنف به ، فاصدع المال صَدْعين ، ثم خيِّره أيّ الصدعين شاء ، فأيّهما اختار فلا تعرّض له ، ثم اصدع الباقي صدعين ، ثم خيّره فأيّهما اختار فلا تعرّض له فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ الله عزّ وجلّ في ماله ، فإذا بقي ذلك فاقبض حقّ الله منه ، فإن استقالك فأقله ، ثم اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أوّلاً حتى تأخذ حقّ الله في ماله ، فاذا قبضته فلا توكل به إلّا ناصحاً شفيقاً أميناً حفيظاً غير معنف بشي‌ء منها ، ثم احدر ما اجتمع عندك من كلّ ناد إلينا نصيّره حيث أمر الله عزّ وجل.

فإذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يفرّق بينهما ، ولا يصرّنّ(١) لبنها فيضرّ ذلك بفصيلها ، ولا يجهد بها ركوباً ، وليعدل بينهن في ذلك ، وليوردهن كلّ ماء يمرّ به ، ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جوادِّ الطرق في الساعة التي فيها تريح(٢) وتغبق(٣) وليرفق بهنّ جهده حتى تأتينا بإذن الله سحاحاً(٤) سماناً غير متعبات ولا مجهدات ، فنقسمهنّ بإذن الله على كتاب الله وسُنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أولياء الله فإنّ ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك ، ينظر الله إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما ينظر الله عزّ وجلّ إلى وليّ له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة لإِمامه إلّا كان معنا في الرفيق الأعلى ».

____________________

(١) الصرار - وزان كتاب - خرقة تشدّ على أطباء الناقة لئلّا يرتضعها فصيلها. وأطباء جمع طبي.

وهي لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة. المصباح المنير : ٣٣٨ و ٣٦٩.

(٢) الإِراحة : ردّ الإِبل والغنم من العشي الى مُراحها حيث تأوي اليه ليلاً. لسان العرب ٢ : ٤٦٤ « روح ».

(٣) الغبوق : الشرب بالعشي. الصحاح ٤ : ١٥٣٥ « غبق ».

(٤) سحت الشاة : اسمنت. وغنم سحاح : أي سمان. الصحاح ١ : ٣٧٣ « سحح ».

٢٤٨

ثم بكى الصادقعليه‌السلام ، وقال لبريد بن معاوية : « يا بريد والله ما بقيت لله حرمة إلّا انتهكت، ولا عمل بكتاب الله ولا سنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا العالم ، ولا اُقيم في هذا الخلق حدّ منذ قبض الله أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولا عمل بشي‌ء من الحقّ إلى يوم الناس هذا ».

ثم قال : « أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي الله الموتى ، ويميت الأحياء ، ويردّ الحق إلى أهله ، ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأبشروا ثم أبشروا ، والله ما الحقّ إلّا في أيديكم »(١) .

مسألة ١٦٨ : إذا تولّى الرجل إخراج الزكاة بنفسه سقط حق العامل منها‌ ؛ لأنّه إنّما يأخذ بالعمل.

وكذا لو تولّى الإِمام أو الوالي من قبله قسمتها لم يستحق شيئاً ، لأنّه يأخذ رزقه من بيت المال ؛ لأنّه يتولّى اُمور المسلمين ، وهذا من جملة المصالح.

أمّا الساعي فإن رأى الإِمام أن يجعل له اُجرةً من بيت المال لم يستحق شيئاً من الصدقة ، وإن لم يجعل له شيئاً كان له نصيب من الزكاة.

ويتخيّر الإِمام بين أن يستأجره لمدّة معلومة باُجرة معلومة ، أو يعقد له جعالة ، فإذا عمل ما شرط عليه ، فإن كان أجر مثله أقلّ كان الفاضل من الثمن من الصدقة مردوداً على أهل السُّهمان ، وإن كان السهم أقلّ من اُجرته جاز للإِمام أن يعطيه الباقي من بيت المال ؛ لأنّه من المصالح ، وهو أحد قولي الشافعي(٢) .

ويجوز أن يعطيه من باقي الصدقة ويقسّم الفاضل عن اُجرته بين باقي المستحقين ؛ لأنّ الفاضل لمـّا ردّ عليهم كان الناقص عليهم ، وهو القول الثاني للشافعي(٣) .

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٦ - ٥٣٨ / ١ ، التهذيب ٤ : ٩٦ - ٩٧ / ٢٧٤.

(٢ و ٣ ) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٨ ، المجموع ٦ : ١٨٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٩.

٢٤٩

وله ثالث : تخيير الإِمام بينهما(١) كما قلناه.

وله رابع : أنّه يأخذ من سهم المصالح إذا لم يفضل عن أهل السُّهمان فضل ، وإن فضل أخذ من الصدقة(٢) .

والوجه : أنّه لا يشترط تقدير الاُجرة أو السهم ؛ لأنّ له نصيباً بفرضه تعالى ، فلا يشترط في استعماله غيره.

ولقول الصادقعليه‌السلام وقد سأله الحلبي ما يعطى المصدّق؟ قال : « ما يرى الإِمام ، ولا يقدَّر له شي‌ء »(٣) .

مسألة ١٦٩ : والمؤلَّفة قلوبهم لهم نصيب من الزكاة‌ بالنص والإِجماع ، وهم الذين يستمالون إلى الجهاد بالإِسهام وإن كانوا كفّاراً ، وحكمهم باقٍ عند علمائنا - وبه قال الحسن البصري والزهري وأحمد ، ونقله الجمهور عن الباقرعليه‌السلام (٤) - للآية(٥) ، فإنّه تعالى سمّى المؤلَّفة في الأصناف الذين سمّى الصدقة لهم.

وروى زياد بن الحارث الصدائي ، قال : أتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبايعته ، قال : فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزَّأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك )(٦) .

ومن طريق الخاصة : رواية سماعة ، قال : سألته عن الزكاة لمن يصلح‌

____________________

(١ و٢ ) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٨ ، المجموع ٦ : ١٨٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٩.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ / ١٣ ، التهذيب ٤ : ١٠٨ / ٣١١.

(٤) المغني ٢ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٣.

(٥) التوبة : ٦٠.

(٦) سنن أبي داود ٢ : ١١٧ / ١٦٣٠ ، سنن البيهقي ٤ : ١٧٤ و ٧ : ٦.

٢٥٠

أن يأخذها؟ قال : هي محلَّلة للّذين وصف الله في كتابه( لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) (١) الحديث(٢) .

وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي : انقطع سهم المؤلّفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ الله تعالى أعزّ الإِسلام ، وأغناه عن أن يتألّف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألّفاً بحال. وروي هذا عن عمر(٣) .

وهو مدفوع بالآية(٤) ، وبعمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن مات ، ولا يجوز ترك الكتاب والسنّة إلّا بنسخ ، والنسخ لا يثبت بعد موتهعليه‌السلام ، فلا يجوز ترك الكتاب والسنّة بمجرّد الآراء والتحكّم ، ولا بقول صحابي.

على أنّهم لا يعملون بقول الصحابي إذا عارض القياس فكيف إذا عارض الكتاب والسنّة!

قال الزهري : لا أعلم شيئاً نسخ حكم المؤلَّفة(٥) .

على أنّ ما ذكروه لا يعارض حكم الكتاب والسنّة ، فإنّ الاستغناء عنهم لا يوجب رفع حكمهم ، وإنّما يمنع عطيّتهم حال الغنى عنهم ، فإذا دعت الحاجة إلى إعطائهم اُعطوا ، كما أنّ باقي الأصناف إذا عدم منهم صنف في زمان سقط حكمه في ذلك الزمان ، فإذا وجد عاد حكمه.

قال الشيخ : يجوز للإِمام القائم مقام النبيعليه‌السلام أن يتألّف‌

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦٠ / ٩ ، التهذيب ٤ : ٤٨ / ١٢٧.

(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ١١٤ ، التفريع ١ : ٢٩٨ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٥٣ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٧٩ ، المجموع ٦ : ١٩٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٥ ، المغني ٢ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٣ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ٩ ، بدائع الصنائع ٢ : ٤٥.

(٤) التوبة : ٦٠.

(٥) المغني ٢ : ٥٢٦.

٢٥١

الكفّار ، ويعطيهم سهمهم الذي سمّاه الله تعالى ، ولا يجوز لغير الإِمام القائم مقامهعليه‌السلام ذلك ، وسهم المؤلَّفة مع سهم العامل ساقط اليوم(١) .

مسألة ١٧٠ : قال الشيخ : المؤلَّفة عندنا هم : الكفّار الذين يستمالون بشي‌ء من الصدقات إلى الإِسلام‌ يتألَّفون ليستعان بهم على قتال المشركين ، ولا يعرف أصحابنا مؤلَّفة أهل الإِسلام(٢) .

وقال المفيدرحمه‌الله : المؤلَّفة ضربان : مسلمون ومشركون(٣) ، وبه قال الشافعي(٤) .

وهو الأقوى عندي ، لوجود المقتضي وهو المصلحة الناشئة من الاجتماع والكثرة على القتال.

وقسَّم الشافعي المؤلَّفة قسمين : مشركون ومسلمون(٥) ، فالمشركون ضربان : أحدهما : من له نيّة حسنة في الإِسلام والمسلمين فيعطى من غير الصدقة ، بل من سهم المصالح لتقوى نيّتهم في الإِسلام فيميلون إليه فيسلمون.

لما روي أنّ صفوان بن اُميّة لَمـّا أعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكة خرج معه إلى هوازن ، واستعار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منه ثلاثين درعاً ، وكانت أوّل الحرب على المسلمين ، فقال قائل : غلبت هوازن وقُتل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال صفوان : بفيك الحجر ، لَربٌّ من قريش أحب إلينا‌

____________________

(١ و ٢ ) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٩.

(٣) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٢٧٩.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٩ ، المجموع ٦ : ١٩٨ ، الوجيز ١ : ٢٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٤.

(٥) رفعهما بناءً على تقدير مبتدأ محذوف.

٢٥٢

من ربّ من هوازن(١) .

ولَمـّا أعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله العطايا ، قال صفوان : ما لي ؛ فأومأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وادٍ فيه إبل محمَّلة ، فقال : ( هذا لك ) فقال صفوان : هذا عطاء من لا يخشى الفقر(٢) .

الثاني : مشركون لم يظهر منهم ميل إلى الإِسلام ، ولا نيّة حسنة في المسلمين لكن يخاف منهم ، فإن أعطاهم كفّوا شرّهم وكفّ غيرهم معهم.

روى ابن عباس أنّ قوماً كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن أعطاهم مدحوا الإِسلام وقالوا : هذا دين حسن ، وإن منعهم ذمّوا وعابوا(٣) .

فهذان الضربان هل يعطون بعد موت النبيعليه‌السلام ؟ قولان :

أحدهما : يعطون ، لأنّهعليه‌السلام أعطاهم ، ومعنى العطاء موجود.

والثاني : لا يعطون ؛ لأنّ مشركاً جاء إلى عمر يلتمس المال فلم يعطه ، وقال : من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر(٤) ، ولأنّه تعالى أظهر الإِسلام وقمع المشركين ، فلا حاجة بنا إلى ذلك.

فإن قلنا : يعطون ، فإنّهم يعطون من سهم المصالح لا من الزكاة ؛ لأنّها لا تصرف إلى المشركين.

وهو ممنوع ؛ للآية(٥) .

وأما المؤلَّفة من المسلمين فعلى أربعة أضرب :

ضرب أشراف مطاعون ، علم صدقهم في الإِسلام ، وحسن نيّتهم فيه ، إلّا أنّ لهم نظراء من المشركين إذا اُعطوا رغب نظراؤهم في الإِسلام‌

____________________

(١) سنن البيهقي ٧ : ١٨ - ١٩ نحوه.

(٢) أورده ابنا قدامة في المغني ٧ : ٣٢٠ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٩٣.

(٣) عنه في الدرّ المنثور - للسيوطي - ٣ : ٢٥١ ، والمغني ٧ : ٣٢٠ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٩٣.

(٤) ذكره ابنا قدامة في المغني ٧ : ٣١٩ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٩٣.

(٥) التوبة : ٦٠. وقوله : ( وهو ممنوع ) جواب من المصنف عن الشافعي.

٢٥٣

فهؤلاء يعطون ؛ لأنّ النبيعليه‌السلام أعطى عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر(١) مع ثباتهم وحسن نيّتهم.

وضرب أشراف مطاعون في قومهم نيّاتهم ضعيفة في الإِسلام إذا اُعطوا رجي حسن نيّاتهم وثباتهم فإنّهم يعطون ؛ لأنّهعليه‌السلام أعطى أبا سفيان بن حرب مائة من الإِبل ، وأعطى صفوان بن اُمية مائة ، وأعطى الأقرع بن حابس مائة ، وأعطى عُيَيْنَة مائة ، وأعطى العباس بن مرداس أقلّ من مائة ، فاستعتب فتمّم المائة(٢) .

وهل يعطون بعد النبيعليه‌السلام ؟ قولان :

أحدهما : المنع - وبه قال أبو حنيفة(٣) - لظهور الإِسلام ، ولأنّ أحداً من الخلفاء لم يعط شيئاً من ذلك.

والثاني : يعطون ؛ لأنّ النبيعليه‌السلام أعطى ، وأعطى أبو بكر عدي ابن حاتم - وقد قدم عليه بثلاثمائة جمل من إبل الصدقة - ثلاثين بعيراً(٤) .

وحينئذٍ هل يعطون من الصدقات من سهم المؤلَّفة ، للآية ، أو من سهم المصالح ، لأنّه منها؟ قولان.

الضرب الثالث : قوم من المسلمين أعراب أو عجم في طرف من أطراف المسلمين لهم قوة وطاقة بمن يليهم من المشركين ، فإذا جهّز الإمام إليهم جيشا لزمه مؤونة ثقيلة ، وإذا أعطى من يقربهم من أصحاب القوّة والطاقة أعانوهم ودفعوا المشركين.

____________________

(١) نقله أبو إسحاق الشيرازي في المهذب ١ : ١٧٩.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٧٣٧ / ١٠٦٠ ، سنن البيهقي ٧ : ١٧ ، أسد الغابة ٣ : ١١٢ - ١١٣.

(٣) المبسوط للسرخسي ٣ : ٩ ، اللباب ١ : ١٥٣ ، الميزان للشعراني ٢ : ١٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٥.

(٤) سنن البيهقي ٧ : ١٩ - ٢٠ ، وذكره أيضاً ابنا قدامة في المغني ٧ : ٣٢٠ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٩٣.

٢٥٤

والضرب الرابع : مسلمون من الأعراب أو غيرهم في طرف من أطراف الإِسلام بإزائهم قوم من أهل الصدقات لا يؤدّون الزكاة إلّا خوفاً من هؤلاء الأعراب ، فإن أعطاهم الإِمام جبوها وحملوها إليه ، وإن لم يعطهم لم يفعلوا ذلك ، واحتاج الإِمام إلى مؤونة ثقيلة في إنفاذ من يحصّلها ، فإنّه يعطيهم.

ومن أين يعطيهم؟ أربعة أقوال :

الأول : من سهم المؤلّفة من الصدقة ؛ لأنّهم يتألّفون على ذلك.

الثاني : من سهم الغزاة ؛ لأنّهم غزاة أو في معناهم.

الثالث : من سهم المصالح ؛ لأنّ هذا في مصالح المسلمين.

الرابع : من سهم المؤلّفة ، وسهم الغزاة من الصدقة.

واختلف أصحابه في هذا القول ، فقال بعضهم : إنّما أعطاهم من السهمين بناءً على جواز أخذ من اجتمع فيه سببان بهما ، وعلى المنع لا يعطون منهما.

وقال آخرون : يعطون من السهمين ، لأنّ معناهما واحد وهو أنّه يعطى منهما ، لحاجتنا إليهم وهم المؤلَّفة والغزاة ، بخلاف أن يكون فقيراً وغازياً ؛ لاختلاف السببين.

وقال آخرون : إنّه اراد أنّ بعضهم يعطى من سهم الغزاة وهم الذين يغزون منهم ، وبعضهم من سهم المؤلَّفة وهُم الذين اُلّفوا على استيفاء الزكاة(١) .

قال الشيخ : وهذا التفصيل لم يذكره أصحابنا ، غير أنّه لا يمتنع أن نقول : إنّ للإِمام أن يتألّف هؤلاء القوم ويعطيهم إن شاء من سهم المؤلَّفة ، وإن شاء من سهم المصالح ؛ لأنّ هذا من فرائض الإِمام ، وفعله حجّة ، وليس يتعلق علينا في ذلك حكم اليوم ، وفرضنا تجويز ذلك والشك فيه وعدم القطع‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٩ ، المجموع ٦ : ١٩٨ - ١٩٩ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٤ - ١٥٦.

٢٥٥

بأحد الأمرين(١) .

مسألة ١٧١ : والرقاب من جملة الأصناف المعدودة في القرآن‌ ، وأجمع المسلمون عليه ، واختلفوا في المراد.

فالمشهور عند علمائنا : أنّ المراد به صنفان : المكاتبون يعطون من الصدقة ؛ ليدفعوه في كتابتهم. والعبيد تحت الشدّة يشترون ويعتقون ؛ لقوله تعالى( وَفِي الرِّقابِ ) (٢) وهو شامل لهما ، فإنّ المراد إزالة رقّيته.

وشرطنا في الثاني الضُرّ والشدّة ؛ لما روي عن الصادقعليه‌السلام في الرجل يجتمع عنده الزكاة يشتري بها نسمة ويعتقها ، فقال : « إذن يظلم قوماً آخرين حقوقهم - ثم قال - إلّا أن يكون عبداً مسلماً في ضرورة فيشتريه ويعتقه »(٣) .

والجمهور رووا المكاتبين عن عليعليه‌السلام (٤) ، والعبد يشترى ابتداءً عن ابن عباس(٥) .

وروى علماؤنا ثالثاً وهو : أنّ من وجب عليه كفّارة في عتق في ظهار وشبهه ولم يجد ما يعتق جاز أن يعطى من الزكاة ما يشتري به رقبة ويعتقها في كفارته.

لرواية علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره عن العالمعليه‌السلام : «( وَفِي الرِّقابِ ) قوم لزمتهم كفّارات في قتل الخطأ أو الظهار أو الأيمان وليس عندهم ما يكفِّرون جعل الله لهم سهماً في الصدقات ليكفِّر عنهم »(٦) .

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٠.

(٢) التوبة ٦٠ :.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٧ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٠ / ٢٨٢.

(٤) المجموع ٦ : ٢٠٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٨ ، أحكام القرآن لابن العربي ٢ : ٩٦٧.

(٥) المغني ٧ : ٣٢٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٥ ، المجموع ٦ : ٢٠٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٨ ، والدرّ المنثور للسيوطي ٣ : ٢٥٢.

(٦) التهذيب ٤ : ٤٩ - ٥٠ / ١٢٩ ، وتفسير القمي ١ : ٢٩٩.

٢٥٦

قال الشيخ : والأحوط عندي أن يعطى ثمن الرقبة لكونه فقيراً فيشتري هو ويعتق عن نفسه(١) . وهو جيد.

ولو لم يوجد مستحق جاز شراء العبد من الزكاة وعتقه وإن لم يكن في ضُرّ وشدّة ، وعليه فقهاؤنا.

لقول الصادقعليه‌السلام وقد سئل عن رجل أخرج زكاة ماله فلم يجد لها موضعاً يدفعها إليه فنظر مملوكاً يباع فاشتراه بها فأعتقه فهل يجوز ذلك؟

قال : « نعم »(٢) .

وقال الشافعي : المراد بقوله تعالى :( وَفِي الرِّقابِ ) المكاتبون خاصة يعطيهم من الصدقة ليدفعوه في كتابتهم(٣) - ورووه عن عليعليه‌السلام ، وهو مذهب سعيد بن جبير والنخعي والليث بن سعد والثوري وأصحاب الرأي - لأنّ مقتضى الآية الدفع إليهم بدليل قوله( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) يريد الدفع إلى المجاهدين ، فكذا هنا(٤) .

وهو لا يمنع ما قلناه.

وقال مالك : المراد به أن يشتري العبيد من الصدقة ويبتدئ عتقهم - ورووه عن ابن عباس والحسن البصري ، وبه قال أحمد وإسحاق ، ولم يشرطوا الشدة - لقوله تعالى( وَفِي الرِّقابِ ) والرقبة إذا اُطلقت انصرفت إلى القنّ كقوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (٥) (٦) .

ونمنع الحصر.

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٠.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٧ / ٣ ، التهذيب ٤ : ١٠٠ / ٢٨١.

(٣) في النُسخ الخطية المعتمدة في التحقيق : ( كتابته ) وما أثبتناه من الطبعة الحجرية.

(٤) الاُم ٢ : ٧٢ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٧٩ ، المجموع ٦ : ٢٠٠ - ٢٠١ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٨ ، المغني ٧ : ٣٢٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٥ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ٩.

(٥) النساء : ٩٢.

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة : ١١٤ ، أحكام القرآن لابن العربي ٢ : ٩٦٧ ، تفسير القرطبي =

٢٥٧

وأجاب الشافعيّة : بأنّ الزكاة يعود نفعها حينئذٍ إلى المعطي ويثبت له الولاء.

ونمنع اختصاص النفع بالمعطي وثبوت الولاء للمعتق على ما يأتي.

مسألة ١٧٢ : والغارمون لهم سهم من الصدقات‌ بالنص والإِجماع ، وهُم : المدينون في غير معصية ، ولا خلاف في صرف الصدقة إلى من هذا سبيله.

ولو استدان للمعصية لم يقض عند علمائنا أجمع - وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من الشافعية(١) - لأنّه دين استدانه للمعصية فلا يدفع إليه ، كما لو لم يثبت ، ولما فيه من الإِغراء بالمعصية ؛ إذ الفاسق إذا عرف أنّه يقضى عنه ما استدانه في معصية أصرَّ على ذلك ، فيمنع حسماً لمادّة الفساد.

ولقول الرضاعليه‌السلام : « يقضى ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزّ وجلّ ، وإن كان أنفقه في معصية الله فلا شي‌ء له على الإِمام »(٢) .

وقال أبو إسحاق من الشافعية : يدفع إليه(٣) ؛ لأنّه لو كان قد أتلف ماله في المعاصي وافتقر دفع إليه من سهم الفقراء ، وكذلك إذا خرج في سفر معصية ، ثم أراد أن يرجع دفع إليه من سهم ابن السبيل.

والفرق : أنّ مُتلف ماله يعطى للحاجة في الحال ، وهنا يراعى الاستدانة في الدين وكان للمعصية ، فافترقا.

____________________

= ٨ : ١٨٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٨ ، المغني ٧ : ٣٢١ و ٣٢٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٤ و ٦٩٥.

(١) قال النووي في المجموع ٦ : ٢٠٨ : فإن تاب فهل يعطى؟ أصحّهما : لا يعطى ، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٥٥ / ٥٢٠.

(٣) المجموع ٦ : ٢٠٨ ، وفيه بعد عنوان التوبة.

٢٥٨

فروع :

أ - لو لم يعلم فيما ذا أنفقه ، قال الشيخ : يمنع(١) ، لأنّ رجلاً من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمد سأل الرضاعليه‌السلام ، قلت : فهو لا يعلم فيما ذا أنفقه في طاعة أو معصية؟ قال : « يسعى في ماله فيردّه عليه وهو صاغر »(٢) .

ولأنّ الشرط - وهو الإِنفاق في الطاعة - غير معلوم.

وقال أكثر علمائنا : يعطى ؛ بناءً على أنّ ظاهر تصرفات المسلم إنّما هو على الوجه المشروع دون المحرَّم. ولأنّ تتبّع مصارف الأموال عسر فلا يقف دفع الزكاة على اعتباره. وفي سند الرواية ضعف(٣) .

ب - لو أنفقه في معصية وتاب احتمل جواز الدفع وعدمه.

وقال الشيخ : يدفع إليه من سهم الفقراء إن كان منهم لا من سهم الغارمين(٤) . وهو حسن.

ج - لو كان المدفوع كلّ الدين جاز للإِمام أن يدفعه إلى الغرماء ؛ لأنّه قد استحقّ عليه الدفع فناب عنه ، ولو كان لا يفي وأراد أن يتّجر به دفع إليه ؛ لما فيه من المصلحة.

مسألة ١٧٣ : الغارمون صنفان : أحدهما : من استدان في مصلحته ونفقته في غير معصية ، وعجز عن أدائه ، وكان فقيراً ، فإنّه يأخذ من سهم الغارمين إجماعاً ليؤدّي ذلك.

وإن كان غنيّاً لم يجز أن يعطى عندنا ، وهو أحد قولي الشافعي ، و(٥) لأنّه‌

____________________

(١) النهاية : ٣٠٦ ، وفيه : لم يجب عليه القضاء عنه. وحكى المحقق في المعتبر : ٢٨٠ عنه هكذا : لا يقضى عنه.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٥٥ / ٥٢٠.

(٣) منهم : ابن إدريس في السرائر : ١٦٢ ، والمحقّق في المعتبر : ٢٨٠ ، والفاضل الآبي في كشف الرموز ١ : ٢٥٤.

(٤) المبسوط للطوسي ١ : ٢٥١.

(٥) كذا في جميع النسخ الخطية والطبعة الحجرية ، والظاهر زيادة حرف الواو.

٢٥٩

يأخذ لا لحاجتنا إليه ، فاعتبر فقره كالمكاتب وابن السبيل.

والثاني : يأخذ لعموم الآية(١) (٢) .

الثاني : من تحمّل حمالة لإِطفاء الفتنة ، وسكون ( نائرة )(٣) الحرب بين المتقاتلين وإصلاح ذات البين ، وهو قسمان :

أحدهما : أن يكون قد وقع بين طائفتين فتنة لقتل وجد بينهما فيتحمّل رجل ديته لإِصلاح ذات البين ، فهذا يدفع إليه من الصدقة ليؤدّي ذلك ، لقوله تعالى( وَالْغارِمِينَ ) (٤) .

ولا فرق بين أن يكون غنيّاً أو فقيراً ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمس : غازٍ في سبيل الله ، أو عاملٍ عليها ، أو غارم )(٥) .

ولأنّه إنّما يقبل ضمانه وتحمّله إذا كان غنيّاً فيه حاجة إلى ذلك مع الغنى ، فإن أدّى ذلك من ماله لم يكن له أن يأخذ ؛ لأنّه قد سقط عنه الغرم.

وإن كان قد استدان وأدّاها جاز أن يعطى من الصدقة ، ويؤدّي الدين لبقاء الغرم والمطالبة.

الثاني : أن يكون سبب الفتنة إتلاف مال ولا يعلم مَن أتلفه ، وخشي من الفتنة ، فتحمّل ذلك المال حتى سكنت النائرة ، فإنّه يدفع إليه من سهم الغارمين ؛ لصدق اسم الغرم عليه ، وللحاجة إلى إصلاح ذات البين ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) الْأُم ٢ : ٧٢ ، المهذّب للشيرازي ١ : ١٧٩ ، المجموع ٦ : ٢٠٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٩ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٠٨.

(٣) في « ن » : ثائرة بدل نائرة.

(٤) التوبة : ٦٠.

(٥) مصنّف عبد الرزاق ٤ : ١٠٩ / ١٧٥١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٩٠ / ١٨٤١ ، سنن أبي داود ٢ : ١١٩ / ١٦٣٥ ، موطّأ مالك ١ : ٢٦٨ / ٢٩ ، ومسند أحمد ٣ : ٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460