تذكرة الفقهاء الجزء ٥

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-5503-45-0
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182572 / تحميل: 6069
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٥٥٠٣-٤٥-٠
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والثاني : لا يدفع ؛ لأنّ النائرة إنّما تدفع بسبب الدم في العادة ، وما يتعلّق بالدم لا يتعلّق بإتلاف المال كالكفارة(١) . وهو ممنوع.

مسألة ١٧٤ : لسبيل الله سهم في الصدقة‌ بالنص والإِجماع ، واختلف قول الشيخ في معناه.

ففي بعض أقواله : أنه الجهاد(٢) يصرف إلى الغزاة الذين يغزون إذا نشطوا ، وهُم غير الجند المقرَّرين الذين هُم أهل الفي‌ء - وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة(٣) - لأنّ العرف في ذلك الغزاة ؛ لقوله تعالى في عدّة مواضع( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (٤) يريد الجهاد فوجب حمله عليه.

وفي البعض الآخر : أنّه أعمّ من ذلك ، وهو كلّ مصلحة وقربة إلى الله تعالى ، فتدخل فيه الغزاة ومعونة الحاج وقضاء الديون عن الحي والميت وبناء القناطر وعمارة المساجد وجميع المصالح(٥) .

وهو أولى ؛ لأنّ السبيل هو الطريق ، فإذا اُضيف إلى الله تعالى كان عبارة عن كلّ ما يتوسّل به إلى ثوابه.

ولقول العالمعليه‌السلام : « وفي سبيل الله قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما ينفقون ، وقوم مؤمنون ليس لهم ما يحجّون به ، وفي جميع سُبُل الخير »(٦) .

وقال أحمد : يجوز أن يصرف ذلك في الحج فيدفع إلى من يريد الحج‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٩ ، المجموع ٦ : ٢٠٧.

(٢) النهاية : ١٨٤ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٦.

(٣) الاُم ٢ : ٧٢ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٨٠ ، المجموع ٦ : ٢١٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦١ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١١٤ ، تفسير القرطبي ٨ : ١٨٥ ، أحكام القرآن لابن العربي ٢ : ٩٦٩ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٠.

(٤) التوبة : ١١١ ، والمزّمّل : ٢٠.

(٥) المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٢ ، الخلاف ، كتاب قسم الصدقات ، المسألة ٢١.

(٦) التهذيب ٤ : ٤٩ - ٥٠ / ١٢٩ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩.

٢٦١

- وهو محكي عن ابن عمر - لأنّ رجلاً جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت أمر الحج ، فقال لها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إركبيها فإنّ الحج من سبيل الله )(١) .

ونمنع اختصاص السبيل بالجهاد ، أو به وبالحج ، ولا يلزم من إرادة أحدهما في بعض الصُور انصرافه عند الإِطلاق إلى أحدهما.

مسألة ١٧٥ : وابن السبيل له سهم في الصدقة‌ بالنص والإِجماع ، وهو المنقطع به والضيف إذا كان سفرهما مباحاً ، ولا خلاف في أنّ المجتاز ابن سبيل.

وهل منشئ السفر داخل فيه؟ منعه الشيخ(٢) - وبه قال مالك وأبو حنيفة(٣) - لأنّه إنّما سمّي ابن سبيل بملازمته الطريق وكونه فيه ، ومن يريد إنشاء السفر فليس بابن الطريق.

ولقول العالمعليه‌السلام : «( ابْنِ السَّبِيلِ ) هو ابن الطريق يكون في السفر في طاعة الله فينقطع بهم ، ويذهب مالهم ، فعلى الإِمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات »(٤) .

وقال الشافعي : إنّه داخل(٥) ، لأنّه يريد إنشاء سفر لغير معصية فجاز أن يدفع إليه من سهم أبناء السبيل ، كمن دخل إلى بلد ونوى إقامة خمسة عشر‌

____________________

(١) المغني ٧ : ٣٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٨ ، المجموع ٦ : ٢١٢ ، أحكام القرآن للجصاص ٣ : ١٢٧ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٢٨ ، وأورد أبو داود في سُننه ٢ : ٢٠٤ / ١٩٨٩ ما بمعنى الحديث.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٢ ، الخلاف ، كتاب قسمة الصدقات ، المسألة ٢٢.

(٣) المغني ٧ : ٣٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٩ ، المجموع ٦ : ٢١٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٢.

(٤) التهذيب ٤ : ٤٩ - ٥٠ / ١٢٩ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٨٠ ، المجموع ٦ : ٢١٤ و ٢١٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٦١ ، المغني ٧ : ٣٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٩.

٢٦٢

يوماً ، ثم أراد الخروج ، فإنّه يدفع إليه من الصدقة وهو منشئ للسفر.

ونمنع كونه مُنشئاً للسفر ، ولا يلزم من كونه مُنشئاً بالنسبة إلى القصر كونه كذلك في نفس الأمر ، فإنّا نحكم عليه بالغربة ، و ( بكونه )(١) مسافراً عرفاً وإن أقام أكثر من خمسة عشر يوماً.

البحث الثاني

في الأوصاف‌

مسألة ١٧٦ : الإِسلام شرط في الأصناف المذكورة إلّا المؤلَّفة‌ بإجماع العلماء ، فلا يجوز إعطاء كافر غير مؤلَّف من الزكاة ، ولا نعلم فيه خلافاً إلّا ما حكي عن الزهري وابن شبرمة أنّهما قالا : يجوز صرفها إلى المشركين(٢) .

وقال أبو حنيفة : يجوز صرف صدقة الفطرة إلى أهل الذمة خاصة(٣) .

وهو مدفوع بالإِجماع.

ولقولهعليه‌السلام لمعاذ : ( أعلمهم أنّ في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم )(٤) .

احتجّ الزهري بقولهعليه‌السلام : ( أعطوا أهل الأديان من صدقاتكم )(٥) .

____________________

(١) في نسختي « ط ، ف » : يكون.

(٢) حلية العلماء ٣ : ١٧٠ ، المجموع ٦ : ٢٢٨.

(٣) المبسوط للسرخسي ٣ : ١١١ ، بدائع الصنائع ٢ : ٤٩ ، المجموع ٦ : ٢٢٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٧٠ ، المغني ٢ : ٧١٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٦٥ ، بداية المجتهد ١ : ٢٨٢.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٤٧ ، صحيح مسلم ١ : ٥٠ / ٢٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٢١ / ٦٢٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٦٨ / ١٧٨٣ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٣٦ / ٤.

(٥) مصنف ابن أبي شيبة ٣ : ١٧٧ بتفاوت.

٢٦٣

واحتجّ أبو حنيفة بأنّ صدقة الفطرة ليس للإِمام فيها حق القبض ، فجاز دفعها إلى أهل الذمة كالتطوع.

والأول محمول على التطوع.

ونمنع العلّة في القياس ، وينتقض بالأموال الباطنة.

ثم التطوع يجوز صرفها إلى الحربي(١) وهذا لا يجوز!؟

وشرط علماؤنا أيضاً الإِيمان ، فلا يعطى غير المؤمن عندنا - خلافاً للجمهور ، فإنّهم اقتصروا على الإِسلام خاصة(٢) - لأنّ مخالف الحقّ محادٌّ لله ورسوله فلا تجوز مودّته ، والزكاة معونة ومودّة فلا تصرف إليه.

ولقول الباقر والصادقعليهما‌السلام في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء كالحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ، ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ، ويحسن رأيه ، يعيد كلّ صلاة صلّاها أو صوم أو زكاة أو حج ، أو ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك؟ قال : « ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة فإنّه لا بدّ أن يؤدّيها ؛ لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها ، وإنّما موضعها أهل الولاية »(٣) وهذا الحديث حسن الطريق.

وهل هو مطلق؟ نصّ علماؤنا على أنّه في الحج إذا لم يخلّ بشي‌ء من أركانه لا تجب عليه إعادته ، أمّا الصلاة والصوم ففيهما إشكال من حيث إنّ الطهارة لم تقع على الوجه المشروع ، والإِفطار قد يقع ( منهم )(٤) في غير وقته.

____________________

(١) أشار المصنّف -رحمه‌الله - بهذه الجملة إلى مذهب الحنفية حيث ذهبوا إلى جواز صرف صدقة التطوع إلى الحربي. اُنظر : الفتاوى الهندية ١ : ١٨٨.

(٢) اُنظر : المغني ٢ : ٥١٥ ، والمجموع ٦ : ٢٢٨ ، وبداية المجتهد ١ : ٢٨٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٤٥ / ١ ، علل الشرائع : ٣٧٣ ، الباب ١٠٢ ، الحديث ١.

(٤) في « ط » : منه.

٢٦٤

ويمكن الجواب بأنّ الجهل عذر كالتقية ، فصحّت الطهارة ، والإِفطار قبل الغروب إذا كان لشبهة قد لا يستعقب القضاء ، كالظلمة الموهمة ، فكذا هنا ، وبالجملة فالمسألة مشكلة.

مسألة ١٧٧ : اختلف علماؤنا في اشتراط العدالة‌ ، فذهب الشيخ والمرتضى إليه إلّا في المؤلَّفة ؛ للاحتياط ، وحصول يقين البراءة ، ولأنّ الدفع إلى الفاسق إعانة على المعصية(١) .

والاحتياط لا يستلزم الوجوب ولا تقييد الألفاظ العامة في القرآن ، ومعارض بالأصل ، ونمنع كونه إعانةً على المعصية.

وقال بعض أصحابنا : يشترط مجانبة الكبائر(٢) ، لأنّ داود الصرمي قال : سألته عن شارب الخمر يعطى من الزكاة شيئاً؟ قال : « لا »(٣) ولا قائل بالفرق بين الخمر وغيره ، فثبوت الحكم فيه يستلزم ثبوته في غيره.

وقال بعض علمائنا : لا تشترط العدالة ، ولا مجانبة الكبائر(٤) - وهو قول الجمهور - عملاً بإطلاق الآية ، والأصل عدم اشتراط ما لم ينطق به.

ولقولهعليه‌السلام : ( أعط من وقعت في قلبك له الرحمة )(٥) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام وقد سئل اُعطى سائلاً لا أعرفه مسلماً : « أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق ، ولا تطعم من نصب‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٥١ ، الانتصار : ٨٢ ، وحكى قولهما أيضاً المحقق في المعتبر : ٢٨١.

(٢) حكاه أيضاً المحقق في المعتبر : ٢٨١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ / ١٥ ، التهذيب ٤ : ٥٢ / ١٣٨.

(٤) وهو المحقق في المعتبر : ٢٨١.

(٥) أورده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في المعتبر : ٢٨١ ، وورد نصّه عن الإِمام الصادقعليه‌السلام في الكافي ٤ : ١٤ ( باب الصدقة على من لا تعرفه ) الحديث ٢ ، والتهذيب ٤ : ١٠٧ / ٣٠٧ ، والفقيه ٢ : ٣٩ / ١٦٩.

٢٦٥

لشي‌ء من الحق ، أو دعا إلى شي‌ء من الباطل »(١) .

وهو الأقوى ، وخبر داود ليس حجّة ، لعدم تعيين المسؤول ، فلعلّه غير الإِمام.

مسألة ١٧٨ : يشترط أن لا يكون الآخذ ممّن تجب نفقته عليه‌ ، فلا يجوز له أن يعطي أحداً من والدَيه وإن بَعُد كآباء الأبوين واُمّهاتهما ، وأبوي أب الأب واُمّه ، وأبوي أب الاُم واُمّها ، وهكذا ما عَلَوا ، مَن يرث ومَن لا يرث ، ولا واحداً من أولاده وإن نزلوا من أولاد البنين والبنات وأولاد أولادهم الوارث وغيره ؛ لأنّه من عمود النسب ، فأشبه الوارث ، ولا زوجته ، ولا مملوكه بالإِجماع ؛ لأنّه غني به ، فلا يجوز دفعها إليه ، ولأنّ دفعها إليه يستلزم عود نفعها عليه ؛ لسقوط النفقة عنه حينئذٍ.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « خمسة لا يعطون من الزكاة شيئاً : الأب ، والاُم ، والولد ، والمملوك ، والمرأة »(٢) .

أمّا من لا تجب نفقته من الأقارب فإنّه يجوز دفع الزكاة إليه ، بل هو أولى وأفضل من الأجانب ؛ إذ « لا صدقة وذو رحم محتاج »(٣) ولعدم المانع ، وكون ذلك صلةً للرحم.

ولقول الكاظمعليه‌السلام وقد سأله إسحاق بن عمار عن إعطاء القرابة من الزكاة : « هُم أفضل من غيرهم ، أعطهم »(٤) .

فروع :

أ - إنّما منعنا من الأخذ للقريب بسبب الفقر أو المسكنة ، أمّا لو كان من‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٣ ( باب الصدقة على من لا تعرفه ) الحديث ١ ، التهذيب ٤ : ١٠٧ / ٣٠٦.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٢ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٥٦ / ١٥٠ ، الاستبصار ٢ : ٣٤ / ١٠١.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٧٣ / ٨٢٨.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٥٦ / ١٤٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٣ / ١٠٠.

٢٦٦

غير هذين فإنّه يجوز له أخذها ، كما لو كان الأب أو الولد غازياً ، أو مؤلَّفاً ، أو غارماً في إصلاح ذات البين ، أو عاملاً ؛ لعدم المانع ، ولأنّ هؤلاء يأخذون مع الغنى والفقر فكان للأب(١) ذلك.

ب - لو كان القريب ممّن لا تجب نفقته جاز الدفع إليه بأيّ سبب كان ، سواء كان وارثاً أو غير وارث ، وهو قول أكثر العلماء وأحمد في رواية(٢) .

لقولهعليه‌السلام : ( الصدقة على المسكين صدقة ، وهي لذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة )(٣) فلم يشترط نافلة ولا فريضة ، ولم يفرّق بين الوارث وغيره.

ومن طريق الخاصة قول الرضاعليه‌السلام وقد سئل : رجل من مواليك له قرابة كلّهم يقول بك ، وله زكاة أيجوز أن يعطيهم جميع زكاته؟ قال : « نعم »(٤) .

وعن الكاظمعليه‌السلام وقد سأله بعض أصحابنا ، قلت له : لي قرابة اُنفق على بعضهم ، واُفضّل بعضهم على بعض ، فيأتيني إبّان(٥) الزكاة أفاُعطيهم منها؟ قال : « أمستحقّون لها؟ » قلت : نعم ، قال : « هُم أفضل من غيرهم أعطهم » قال ، قلت : فمَن الذي يلزمني من ذوي قرابتي حتى لا أحسب الزكاة عليه؟ قال : « أبوك واُمّك » قلت : أبي واُمّي؟ قال : « الوالدان والولد»(٦) .

____________________

(١) في « ف » زيادة : أو غيره.

(٢) المغني ٢ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٢ ، المجموع ٦ : ٢٢٩.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٥٩١ / ١٨٤٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٧ ذيل الحديث ٦٥٨ ، سنن النسائي ٥ : ٩٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٧٤.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥٢ / ٧ ، التهذيب ٤ : ٥٤ / ١٤٤ ، الاستبصار ٢ : ٣٥ / ١٠٤.

(٥) إبّان ، بالكسر والتشديد : الوقت. الصحاح ٥ : ٢٠٦٦ « ابن ».

(٦) الكافي ٣ : ٥٥١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٥٦ / ١٤٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٣ / ١٠٠.

٢٦٧

وعن أحمد رواية اُخرى : منع الموروث ؛ لأنّ على الوارث مؤونة الموروث ، فيغنيه بزكاته عن مؤونته ، ويعود نفع زكاته إليه ، فلم يجز له دفعها إليه كدفعها إلى والده أو قضاء دينه(١) .

ونمنع وجوب المؤونة على ما يأتي.

ج - لو كان أحدهما يرث الآخر دون العكس كالعتيق مع معتقه ، والعمة مع ابن أخيها - عندهم(٢) - جاز لكلّ منهما دفع زكاته إلى الآخر عندنا على ما تقدّم.

وقال أحمد : على الوارث منهما نفقة موروثة فليس له دفع زكاته إليه ، وليس على الموروث منهما نفقة وارثه ، فلا يمنع من دفع زكاته إليه(٣) .

ولو كان أخوان لأحدهما ابن ، والآخر لا ولد له ، فعلى أبي الابن نفقة أخيه - عنده(٤) - فليس له دفع زكاته إليه ، وللّذي لا ولد له دفع زكاته إلى أخيه ، ولا يلزمه نفقته ؛ لأنّه محجوب عن ميراثه ، ونحو هذا قول الثوري(٥) .

والحقّ ما ذهبنا نحن إليه.

د - ذوو الأرحام يجوز دفع الصدقة إليهم ، وبه قال أحمد - على رواية منع الوارث في الحال التي يرثون فيها - لأنّ قرابتهم ضعيفة لا يرث بها مع عصبة ولا ذي فرض غير أحد الزوجين - عنده - فلم تمنع دفع الزكاة كقرابة سائر المسلمين ، فإنّ ماله يصير إليهم إذا لم يكن له وارث(٦) .

ه- يعطى من تجب نفقته من غير نصيب الفقراء والمساكين مطلقاً ، سواء كان عاملاً ، أو غازياً ، أو ابن سبيل ، أو غير ذلك إلّا ابن السبيل ، فإنّه‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٢.

(٢) أي عند الجمهور.

(٣) المغني ٢ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٢.

(٤) أي عند أحمد ، وانظر : الهامش التالي.

(٥ و ٦ ) المغني ٢ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٢.

٢٦٨

يعطي الزائد عن النفقة مع الحاجة إليه كالحمولة.

مسألة ١٧٩ : العيلولة من دون القرابة غير مانعة من الإِعطاء‌ عند علمائنا أجمع ، وهو قول أكثر العلماء(١) ، فلو كان في عائلته من لا يجب الإِنفاق عليه كيتيم أجنبي جاز أن يدفع زكاته إليه ؛ لأنّه داخل في الأصناف المستحقّين للزكاة ، ولم يرد في منعه نصّ ولا إجماع ولا قياس ، فلا يجوز تخصيصه من العمومات بغير دليل.

وعن أحمد رواية بالمنع ؛ لأنّه ينتفع بدفعها إليه لإِغنائه بها عن مؤونته(٢) .

ولو سلّم لم يضرّ ، فإنّه نفع لا يسقط واجباً عنه ؛ إذ العيلولة ليست واجبة.

مسألة ١٨٠ : يشترط أن لا يكون هاشميّاً ، وقد أجمع المسلمون كافة على تحريم الصدقة المفروضة على بني هاشم.

لقولهعليه‌السلام : ( إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ الناس )(٣) .

وأخذ الحسنعليه‌السلام - وهو صغير - تمرة من تمر الصدقة ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( كخ كخ ) ليطرحها ، وقال : ( أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة )(٤) .

ومن طريق الخاصة قول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الصدقة أوساخ الناس فلا تحلّ لبني عبد‌

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٥١٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٢.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٧٥٣ / ١٠٧٢ ، سنن البيهقي ٧ : ٣١ ، موطأ مالك ٢ : ١٠٠٠ ( باب ما يكره من الصدقة ) الحديث ١٣ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٧.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٥٧ ، سنن الدارمي ١ : ٣٨٧ ، سنن البيهقي ٧ : ٢٩ ، ومسند أحمد ٢ : ٤٠٩.

٢٦٩

المطلب »(١) .

مسألة ١٨١ : تحلّ صدقة بعضهم على بعض‌ عند علمائنا - وهو محكي عن أبي يوسف(٢) - لأنّ مفهوم قولهعليه‌السلام : ( الصدقة أوساخ الناس ) ترفّعهم عن غيرهم ، وامتياز الجنس عن الجنس بعدم قبول صدقته تنزيهاً له ، فلا ينقدح فيه امتياز أشخاص الجنس بعضها عن بعض لتساويهم في المنزلة ، فلا يليق ترفّع بعضهم على بعض.

ولقول الصادقعليه‌السلام وقد سأله إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن الصدقة التي حرّمت على بني هاشم ما هي؟ قال : « الزكاة » قلت : فتحلّ صدقة بعضهم على بعض؟ قال : « نعم »(٣) .

وأطبق باقي الجمهور على المنع ، للعموم.

وقد بيّنا أنّ مفهومه خروج بني هاشم منه.

مسألة ١٨٢ : الصدقة المفروضة محرَّمة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ‌ إجماعاً.

وأمّا المندوبة ، فالأقوى عندي : التحريم أيضاً ، لعلوّ منصبه ، وزيادة شرفه وترفّعه ، فلا يليق بمنصبه قبول الصدقة ، لأنّها تُسقط المحلّ من القلب.

ولأنّ سلمان الفارسي أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فحمل إليه شيئاً ، فقال : ( ما هذا؟ ) فقال : صدقة ، فردّه ، ثم أتاه به من الغد ، فقال : هديّة ؛ فقبله(٤) .

____________________

(١) الكافي ٤ : ٥٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٥٨ / ١٥٥ ، الاستبصار ٢ : ٣٥ / ١٠٦.

(٢) أحكام القرآن - للجصّاص - ٣ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) الكافي ٤ : ٥٩ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٥٨ / ١٥٦ ، الاستبصار ٢ : ٣٥ / ١٠٧.

(٤) مسند أحمد ٥ : ٣٥٤ ، المعجم الكبير ٦ : ٢٣٢ - ٢٣٣ / ٦٠٧٦ و ٢٤٤ - ٢٤٥ / ٦١١٧ و ٢٤٩ / ٦١٢١ و ٢٥٩ / ٦١٥٥ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ١٦ ، وشرح معاني الآثار ٢ : ١٠.

٢٧٠

ولعموم قولهعليه‌السلام : ( إنّا أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة )(١) .

وهو أحد قولي الشافعي. والثاني : أنّها تحلّ ، كما تحلّ لآله(٢) .

والفرق : فضيلته عليهم ، وتميّزه عنهم.

والوجه عندي : أنّ حكم الأئمةعليهم‌السلام حكمه في ذلك.

وأمّا باقي آله فتحرم عليهم الصدقة المفروضة ، على ما تقدّم(٣) .

وهل تحلّ المندوبة؟ المشهور ذلك ، وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٤) ، لأنّ عليّا وفاطمةعليهما‌السلام وقفا على بني هاشم(٥) ، والوقف صدقة.

وروى الجمهور عن الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام أنّه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة ، فقلت له : تشرب من الصدقة؟

فقال : « إنّما حُرِّمت علينا الصدقة المفروضة »(٦) .

ويجوز أن يأخذوا من الوصايا للفقراء ، ومن النذور.

وعن أحمد رواية بالمنع ؛ لعموم قولهعليه‌السلام : ( إنّا لا تحلّ لنا الصدقة )(٧) .

____________________

(١) شرح معاني الآثار ٢ : ١٠ ، وصحيح مسلم ٢ : ٧٥١ ذيل الحديث ١٠٦٩ ، وكنز العمال ٦ : ٤٥٧ / ١٦٥٢٧ نقلاً عن الطبراني في المعجم الكبير.

(٢) المجموع ٦ : ٢٣٩ - ٢٤٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٩ ، أحكام القرآن - للجصاص - ٣ : ١٣٢.

(٣) تقدم في المسألة ١٨٠.

(٤) المجموع ٦ : ٢٣٩ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٩ ، المغني ٢ : ٥٢٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٠.

(٥) الكافي ٧ : ٤٨ / ٢ و ٤.

(٦) المغني ٢ : ٥٢٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٠ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٨٣ ، مختصر المزني : ١٥٩.

(٧) المغني ٢ : ٥٢٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٠ ، وانظر : صحيح مسلم ٢ : ٧٥١ ذيل الحديث ١٠٦٩ ، وسنن أبي داود ٢ : ١٢٣ / ١٦٥٠ ، ومسند أحمد ٢ : ٤٤٤.

٢٧١

والجواب : الحمل على المفروضة ؛ جمعاً بين الأدلّة.

أمّا الكفّارة فيحتمل التحريم ؛ لأنّها واجبة ، فأشبهت الزكاة.

والأقوى : الجواز ؛ للأصل وانتفاء المانع ؛ فإنّها ليست زكاة ، ولا هي أوساخ الناس.

مسألة ١٨٣ : وتحلّ الصدقة الواجبة والمندوبة لموالي بني هاشم‌ - وهُم من أعتقهم هاشمي - عند علمائنا أجمع - وهو قول أكثر العلماء ، والشافعي في أحد القولين(١) - لوجود المقتضي وهو : العموم ، وأصالة الإِباحة ، وثبوت الفقر ، وانتفاء المانع وهي القرابة ، فلم يمنعوا كسائر الناس ، ولأنّهم لم يعوّضوا عنها بالخمس ، فإنّهم لا يعطون منه ، فلا يجوز أن يحرموها كسائر الناس.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « تحلّ لمواليهم »(٢) .

وقال أحمد بالتحريم ؛ وهو الثاني للشافعي ؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة ، فقال لأبي رافع : اصحبني كيما تصيب منها ؛ فقال : لا ، حتى آتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسأله ، فانطلق إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسأله ، فقال : ( إنّا لا تحلّ لنا الصدقة ، وأنّ موالي القوم منهم )(٣) .

ولأنّهم ممّن يرثهم بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الصدقة إليهم كبني هاشم(٤) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٥١٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٧٠٩ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٨١ ، المجموع ٦ : ٢٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٩.

(٢) التهذيب ٤ : ٦٠ / ١٦٠ ، الاستبصار ٢ : ٣٧ / ١١٤.

(٣) سنن الترمذي ٣ : ٤٦ / ٦٥٧ ، سنن النسائي ٥ : ١٠٧ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٣ / ١٦٥٠ ، وسنن البيهقي ٧ : ٣٢.

(٤) المغني ٢ : ٥١٧ - ٥١٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٧٠٩ - ٧١٠ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٨١ ، المجموع ٦ : ٢٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٩.

٢٧٢

وجاز اختصاص أبي رافع بالمنع ؛ لكونه مولى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيتميّز عن غيره. ونمنع العلّة في الثاني.

مسألة ١٨٤ : وقد أجمع العلماء على تحريم الصدقة على بني عبد المطلب‌ وهم الآن أولاد أبي طالب والعباس والحارث وأبي لهب ؛ لقولهعليه‌السلام : ( يا بني عبد المطّلب [ إنّ الصدقة ](١) لا تحلّ لي ولا لكم )(٢) .

وقالعليه‌السلام : ( إنّ الصدقة لا تحلّ لبني عبد المطلب )(٣) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « إنّ الصدقة لا تحلّ لولد العباس ولا لنظرائهم من بني هاشم »(٤) .

وهل تحرم على أولاد المطّلب؟ أكثر علمائنا على المنع من التحريم(٥) ، وبه قال أبو حنيفة(٦) ، للعموم والأصل.

ولأنّ بني المطلب وبني نوفل و [ بني ](٧) عبد شمس قرابتهم واحدة ، وإذا لم يمنع بنو نوفل وبنو عبد شمس فكذا بنو المطّلب.

وقال الشافعي بالتحريم عليهم(٨) . وهو قول شاذ للمفيد(٩) منّا ؛ لقولهعليه‌السلام : ( نحن وبنو المطّلب هكذا - وشبّك بين أصابعه - لم نفترق في جاهلية ولا إسلام )(١٠) .

____________________

(١) زيادة من المصدر.

(٢) المعتبر : ٢٨٢ ، والتهذيب ٤ : ٥٨ / ١٥٤.

(٣) المعتبر : ٢٨٢ ، والتهذيب ٤ : ٥٨ / ١٥٥.

(٤) التهذيب ٤ : ٥٩ / ١٥٨ ، الاستبصار ٢ : ٣٥ - ٣٦ / ١٠٩.

(٥) كما في المعتبر : ٢٨٢.

(٦) المغني ٢ : ٥١٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٩.

(٧) زيادة تقتضيها العبارة.

(٨) المهذب للشيرازي ١ : ١٨١ ، المجموع ٦ : ٢٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٨.

(٩) حكى قوله عن الرسالة العزّية ، المحقق في المعتبر : ٢٨٢.

(١٠) سنن أبي داود ٣ : ١٤٦ / ٢٩٨٠.

٢٧٣

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « لو كان عدل ما احتاج هاشمي ولا مطّلبي إلى صدقة ، إنّ الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم ، ولا تحلّ لأحد منهم إلّا أن لا يجد شيئاً ، ويكون ممّن تحلّ له الميتة »(١) .

ويحمل الأول على الاتّحاد في الشرف أو المودّة أو الصحبة أو النصرة لا على صورة النزاع.

والثاني خبر واحد ترك العمل به أكثر الأصحاب ، فلا يخصّ به العموم المقطوع.

مسألة ١٨٥ : ولا تحرم على زوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ‌ عند علمائنا ، وهو قول أكثر العلماء ؛ للعموم والأصل.

وعن أحمد رواية بالتحريم ؛ لأنّ عائشة ردّت سفرة من الصدقة وقالت : إنّا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة(٢) .

وهو نادر لم يعمل به أكثر العلماء ، فلا يخصّ به عموم القرآن.

مسألة ١٨٦ : ولو لم يحصل للهاشمي من الخمس بقدر كفايته جاز أن يأخذ الزكاة المفروضة‌ عند علمائنا ، وبه قال أبو سعيد الاصطخري(٣) ؛ لأنّ المنع إنّما كان لاستغنائهم بالخُمس ، وحرمت عليهم الصدقة ، وجعل لهم الخُمس في مقابلة ذلك ، فإذا لم يحصل لهم الخمس حلّت لهم الصدقة ، ولهذا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للفضل بن العباس : ( أليس في خُمس الخُمس ما يكفيكم عن أوساخ الناس؟ )(٤) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « أعطوا من الزكاة بني هاشم مَن أرادها فإنّها تحلّ لهم ، وإنّما تحرم على النبي وعلى الإِمام الذي‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٥٩ / ١٥٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٦ / ١١١.

(٢) المغني ٢ : ٥١٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٧١٠ ، وانظر : مصنف ابن أبي شيبة ٣ : ٢١٤.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٨١ ، المجموع ٦ : ٢٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٩.

(٤) أورده ابن قدامة في المغني ٢ : ٥١٨.

٢٧٤

يكون بعده وعلى الأئمة »(١) .

وليس المراد بذلك حالة الاستغناء بالخُمس ؛ لتحريمها عليهم إجماعاً ، فتعيّن أن يكون حال الضرورة. وفارقوا النبي والأئمةعليهم‌السلام ، لعُلُوّ منصبهم وزيادة شرفهم ، فلا تحلّ لهم حال الضرورة.

وقال الباقون بالتحريم(٢) ؛ لأنّ الصدقة حرمت في مقابلة استحقاق خُمس الخُمس ، والاستحقاق باقٍ وإن لم يكن ما يستحقّ أو لم يصل إليهم وهو ممنوع ، بل التحريم في مقابلة الاستغناء ؛ لمفهوم الحديث(٣) .

البحث الثالث

في الأحكام‌

مسألة ١٨٧ : لو اجتمع لواحد سببان‌ يستحقّ بكلّ منهما سهماً من الصدقات أو أكثر من سببين جاز أن يأخذ بهما وبالزائد عند علمائنا - وهو أحد قولي الشافعي(٤) - لأنّ سبب الاستحقاق موجود في كلّ واحد من النصيبين ، فاستحقّ الأخذ ، كما أنّ الغانمين إذا كان فيهم مسكين من ذوي القربى استحقّ سهم الحضور وذي القربى.

وقال في الآخر : لا يجوز الأخذ بهما ، بل تخيَّر في الأخذ بأيّهما شاء(٥) ، لأنّ قوله تعالى( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) (٦) يقتضي‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٥٩ / ٦ ، الفقيه ٢ : ١٩ / ٦٥ ، التهذيب ٤ : ٦٠ / ١٦١.

(٢) كالفيروزآبادي في المهذب ١ : ١٨١ ، والقفّال الشاشي في حلية العلماء ٣ : ١٦٨ - ١٦٩ وأكثر الشافعية كما في المجموع ٦ : ٢٢٧.

(٣) وهو قولهعليه‌السلام : ( أليس في خمس الخمس ما يكفيكم؟ ) الى آخره. ومرّ الحديث آنفاً.

(٤ و ٥ ) المهذب للشيرازي ١ : ١٨٠ ، المجموع ٦ : ٢١٩ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٣.

(٦) التوبة : ٦٠.

٢٧٥

تغايرهما ، وأنّ كلّ صنف غير الصنف الآخر.

ولا حجّة فيه ؛ لعدم دلالة الآية على تضادّهما ، ولأنّ التقدير اجتماعهما وكلٌّ منهما علّة ، فيقتضي معلوله ، وهو الاستحقاق.

تذنيب : للإِمام أن يعطيه بأحد الوجهين وبهما معاً ، فإن أعطاه بواحد ، فإن كان بالفقر كان أخذاً مستقراً ، وإن كان بالغرم كان مراعىً بقضاء الدَّين ، ولو كان بالدفع بأحد السببين يخرج من الاندراج تحت السبب الآخر ، منع مع الدفع ، كالعامل الفقير إذا دفع اليه سهم العمالة فاستغنى به.

مسألة ١٨٨ : يجوز دفع الزكاة إلى صاحب دار السكنى وعبد الخدمة وفرس الركوب وثياب التجمّل‌ ، ولا نعلم فيه خلافاً ، لإِمساس الحاجة إلى هذه الأشياء ، وعدم الخروج بها عن حدّ الفقر إلى الغني.

ولأنّ سماعة سأل الصادقعليه‌السلام عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال : « نعم إلّا أن تكون داره دارَ غلّة فيخرج من غلّتها دراهم تكفيه وعياله ، فإن لم تكن الغلّة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم في غير إسراف فقد حلّت له الزكاة ، وإن كانت غلّتها تكفيهم فلا »(١) .

فروع :

أ - لو كانت دار السكنى تزيد عنه وفي بعضها كفاية له ففي منعه بسبب الزيادة إذا كانت قيمتها تكفيه حولاً إشكال.

ب - لو كانت حاجته تندفع بأقلّ منها قيمة لم يكلَّف بيعها وشراء الأدون ، وكذا في العبد والفرس.

ج - الوجه اختصاص ذلك بمن يعتاد استخدام العبد وركوب الفرس‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٠ - ٥٦١ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٤٨ - ٤٩ / ١٢٧ و ١٠٧ / ٣٠٨ ، والفقيه ٢ : ١٧ - ١٨ / ٥٧.

٢٧٦

وثياب التجمّل دون غيره.

د - لو احتاج إلى أكثر من واحد فكالواحد.

مسألة ١٨٩ : لو قصر التكسّب عن ( مؤونته )(١) ومؤونة عياله جاز أن يأخذ الزكاة‌ إجماعاً ، واختلف علماؤنا ، فقال بعضهم : يأخذ قدر التتمة لا أزيد(٢) ، لأنّه حينئذٍ يصير غنيّاً فتحرم عليه الزيادة.

وقال آخرون يجوز أن يأخذ أزيد(٣) . وهو الأقوى ، كما يجوز دفع ما يزيد على الغنى إلى الفقير دفعةً ، والغنى إنّما يحصل بالدفع.

ونحن نمنع من الدفع ثانياً بعد دفع ما يعوزه من المؤونة.

مسألة ١٩٠ : لو كان القريب الذي تحرم الصدقة عليه يحتاج إلى ما يزيد عن نفقته جاز دفع ذلك إليه‌ كنفقة زوجته وخادمه والتوسعة عليه وقضاء دينه ؛ لثبوت المقتضي وهو الاحتياج.

ولأنّ عبد الرحمن بن الحجاج سأل الكاظمعليه‌السلام عن الرجل يكون أبوه أو عمّه أو أخوه تكفيه مؤونته أيأخذ من الزكاة فيتوسّع به إن كانوا لا يوسّعون عليه في كلّ ما يحتاج اليه؟ فقال : « لا بأس »(٤) .

مسألة ١٩١ : يشترط في العامل : البلوغ والعقل‌ إجماعاً ؛ لأنّ ذلك نوع ولاية ، والصغير والمجنون ليسا أهلاً لها.

وشرط الشيخ الحُرّية(٥) . وبه قال الشافعي(٦) ، لأنّ الرقّ ينافي الولاية.

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في « ط » و « ن » : كفايته.

(٢) حكاه المحقق في شرائع الإِسلام ١ : ١٥٩ - ١٦٠.

(٣) ممّن قال بذلك : المحقق في شرائع الإِسلام ١ : ١٥٩ و ١٦٠.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦١ / ٥ ، التهذيب ٤ : ١٠٨ / ٣١٠.

(٥) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٨.

(٦) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤١ - ١٤٢ ، المغني ٧ : ٣١٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩١.

٢٧٧

ولو قيل بالجواز كان وجهاً ، لأنّه نوع استئجار ، مع أنّ قول الشيخ لا يخلو من قوة ؛ لأنّه تعالى أضاف إليه بلام التمليك.

ويشترط فيه الإِسلام إجماعاً - إلّا رواية عن أحمد أنّه يجوز أن يكون كافراً(١) - لقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) (٢) يعني من دون المسلمين.

ودفع أبو موسى الأشعري إلى عمر حساباً فاستحسنه فقال : من كتب هذا؟

فقال : كاتبي. فقال : وأين هو؟ قال : على باب المسجد. قال أجنب هو؟ قال : لا ولكن هو نصراني. فقال : لا تأتمنوهم وقد خوّنهم الله ولا تقرّبوهم وقد ( أبعدهم )(٣) الله(٤) .

ولأنّ في ذلك ولايةً على المسلمين وقد قال الله تعالى( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٥) والعموم مخصوص بهذه الأدلّة.

ويشترط فيه : الإِيمان والعدالة ؛ لأنّ غير المؤمن فاسق والفاسق ليس أهلاً للأمانة ، فلا بدّ وأن يكون أميناً ؛ لأنّه يلي مال غيره.

ويجب أن يكون فقيهاً في الزكاة ليكون عارفاً بقدر الواجب وصفته ومصرفه ، وبه قال الشافعي(٦) .

ويجب أن لا يكون من ذوي القربى - وهو أحد وجهي الشافعية ، وبه قال الشافعي(٧) - لأنّ الفضل بن العباس والمطّلب بن ربيعة سألا النبي عليه‌

____________________

(١) المغني ٧ : ٣١٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩٠.

(٢) آل عمران : ١١٨.

(٣) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق : ( بعَّدَهم ) وما أثبتناه من الطبعة الحجرية.

(٤) راجع : المغني ٧ : ٣١٨ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٩٠ - ٦٩١.

(٥) النساء : ١٤١.

(٦) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٢.

(٧) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٢ ، المغني ٧ : ٣١٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩١.

٢٧٨

السلام أن يولّيهما العمالة ، فقال لهما : ( إنّما الصدقات أوساخ أيدي الناس وأنّها لا تحلّ لمحمد وآل محمد ، أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس؟ )(١) .

وقال بعض الشافعية : يجوز ؛ لأنّ ما يأخذه أجرة ، فلا يمنع القرابة منه ، كاُجرة النقّال والحافظ(٢) .

ويفارق النقّال والحافظ ؛ لأنّه يأخذ سهماً من الصدقة.

فروع :

أ - يجوز أن يكون مولى ذوي القربى عاملاً ؛ لأنّه يستحق الزكاة بالفقر عندنا ، فكذا بغيره من الأسباب. وللشافعي وجهان(٣) .

ب - يجوز أن يكون العامل من ذوي القربى ، ولا يأخذ أجره من الصدقة ، بل يتبرّع بالعمل ، أو يدفع إليه الإِمام شيئاً من بيت المال - وبه قال الشافعي(٤) - لأنّ المقتضي للمنع الأخذ من الزكاة وهو منتفٍ هنا.

ج - لو كان فقيراً لا يصل إليه من الخُمس شي‌ء جاز أن يكون عاملاً عندنا ، ويأخذ النصيب.

مسألة ١٩٢ : الساعي أمين إذا تلفت الزكاة في يده بغير ( تفريط )(٥) لم يضمن‌ إجماعاً ؛ لأنّ قبضه قبض أمانة ، وكان له الاُجرة من سهم المصالح إن كان الإِمام قد جعل اُجرته من بيت المال ، وإن لم يجعل له ذلك ففي سقوط‌

____________________

(١) راجع صحيح مسلم ٢ : ٧٥٢ - ٧٥٤ / ١٦٧ و ١٦٨ ، والمهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، والمغني ٢ : ٥١٨.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٢ ، المغني ٧ : ٣١٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٩١.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٨ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٢.

(٤) المجموع ٦ : ١٦٨.

(٥) في « ن » و « ف » : تفريطه.

٢٧٩

الاُجرة هنا إشكال ينشأ من أنّه عامل لما يستحق به عوضاً فلا تسقط اُجرته بتلف ما تعلّقت الاُجرة عليه ، ومن كون الاُجرة قد فات محلّها فلا ينتقل إلى محلّ آخر.

والأقرب : الأول.

مسألة ١٩٣ : تعطى الزكاة أطفال المؤمنين عند حاجتهم ، ولا يشترط عدالة الأب‌ ؛ لعموم الآية(١) .

ولقول الصادقعليه‌السلام وقد سأله أبو بصير : الرجل يموت ويترك العيال أيعطون من الزكاة؟ : « نعم فإذا بلغوا وعدلوا إلى غيركم فلا تعطوهم »(٢) .

إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكون قد أكل الطعام أو لا عند علمائنا - وهو إحدى الروايتين عن أحمد(٣) - لأنّه فقير فجاز الدفع إليه كالذي طعم.

ولأنّه يحتاج إلى الزكاة لأجر رضاعه وكسوته وسائر مؤونته ، فيدخل في عموم النص.

وعنه رواية اُخرى : أنّه لا يجوز دفعها إلّا إلى من أكل الطعام(٤) . وهذا ليس بشي‌ء.

فروع :

أ - لا يجوز الدفع إلى الصغير وإن كان مميّزاً ، لأنّه ليس محلّ الاستيفاء لماله من الغرماء فكذا هنا.

وعن أحمد رواية : جواز دفعها إلى اليتيم المميّز ، لأنّ أبا جحيفة قال : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ساعياً ، فأخذ الصدقة من أغنيائنا فردَّها في‌

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) الكافي ٣ : ٥٤٨ - ٥٤٩ / ١ ، التهذيب ٤ : ١٠٢ / ٢٨٧.

(٣ و ٤ ) المغني ٢ : ٥٠٨.

٢٨٠

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460