تذكرة الفقهاء الجزء ٥

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-5503-45-0
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182232 / تحميل: 6068
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٥٥٠٣-٤٥-٠
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ولـمـّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم: اتنهينا، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة، بل تدرّج في تحقيق التحريم، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لـمّا نزل تحريم الخمر قال عمر: أللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال: أللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) فكان منادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اُقيمت الصّلاة ينادي ألّا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: أللّهم بيّن لنا بياناً شافياً، فنزلت:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر: اتنهينا، اتنهينا(١) .

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم: انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش، وخرج الأعشى إلى رسول الله يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها:

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما

تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

__________________

(١) سنن أبي داود: ج ٢ ص ١٢٨، مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٣، سنن النسائي: ج ٨ ص ١٨٧، مستدرك الحاكم: ج ٢ ص ٢٧٨، إلى غير ذلك من المصادر.

٤١

إلى أن قال:

فإيّاك والميتات لاتقربنها

لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها

عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا(١)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا، فقال الأعشى: والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب، فقال له يا أبا بصير:

فإنّه يحرّم الخمر، فقال الأعشى:

أمّا هذه فو الله إنّ في النفس منها لعُلالات، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم، فانصرف فمات في عامه هذا، ولم يعد إلى رسول الله(٢) .

وببالي أنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له: إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر، فعاد ليتروّى منها، ليعود بعد عام إلى المدينة، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

٨ ـ وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق، والاُخرى يتجنّون بحجّة

__________________

(١) الأرمد: الذي يشتكي عينيه من الرمد، والسليم: الملدوغ، والمسهّد: الذي منع من النوم، والمهدد ـ على وزن معلل ـ: اسم امرأة، وتأبّد: أي تعزّب وابتعد عن النساء.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٨٦.

٤٢

الاجتناب عن العار، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي:

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / ٥٨ و ٥٩ ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه(١) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له، إستنكافاً منه، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان، أم يخفيها في التراب، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول:

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / ٣١ ).

فالله سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند الله.

وقال سبحانه:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / ١٥١ )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / ٨ ).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ و ٢٢ ).

٤٣

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ: أنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك، وإليك البيان:

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل، ولـمـّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال: وما عملك ؟ فقال: إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً، فأراد أبوها أن يئدها، قال فقلت له: أتبيعها ؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال: قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام(١) .

وقد ذكر الفرزدق إحياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال:

ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيى الوئيد فلم يؤدد(٢)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / ١٣٧ ).

وكذا قوله:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / ١٤٠ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

٤٤

٩ ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية والنطيحة، وما أكل السبع، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر، بل والديدان والأصداف، وقد اتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه، وإليه يشير قوله سبحانه:

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / ٣ ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

٤٥

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

١٠ ـ التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسراً رائجاً بينهم، وكان لهذا العمل صبغة الدين، وقد اختلفوا في تفسيره على قولين:

١ ـ قالوا: المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم، وابتداء أُمورهم، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها: « أمرني ربّي »، وعلى بعضها « نهاني ربّي »، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي »، مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

٢ ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر، فقال:

إنّ الأزلام عشرة، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها، فالتي لها انصباء: الفذ، التوأم، المسبل، النافس، الحلس، الرقيب، المعلى. فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها: السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام، ويدفعونه إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

٤٦

وهو القمار، فحرّمه الله تعالى(١) .

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

١١ ـ النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن أنّ العرب لـمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني: « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي، كما هو المستفاد من قول الله تعالى:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيمعليه‌السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر، فيحرّمون الحرب في صفر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٥٨ وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب‍ « اليانصيب الوطني ».

٤٧

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، ولا يغزون فيها، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر، قال سبحانه:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٣٧ ).

روى أهل السير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة حجّة الوداع:

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان »(١) .

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو أنّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين، وحجّوا في محرّم عامين، ثمّ حجوا في صفر عامين، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القادم حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته ».

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٢٢.

٤٨

١٢ ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين، ويقولون: « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع، ولكن شتّان ما بين البيع والربا، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة، ويفسد الأمن والاستقرار، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة، وتراكمها في جانب، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له، ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / ٢٧٨ و ٢٧٩ ).

ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٥ ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع، ويقول:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

٤٩

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة ثريّة تملك كل شيء، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء، والأُولى تعاني من البطنة، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول الله » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

٥٠

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت، فقال له: ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله: « أنعم صباحاً » فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم.

فقال أسعد: إنّ عهدي بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلّا الله وإنّي رسولُ الله وأدعوكم:

١ ـ إلّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

٢ ـوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

٣ ـوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

٤ ـوَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

٥ ـوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

٦ ـوَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

٧ ـوَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .

٥١

٨ ـلا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَهَا .

٩ ـوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .

١٠ ـوَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / ١٥١ و ١٥٢ ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال: أشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وإنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أحد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم الله لنا أمرنا فيه، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له(١) .

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء، ودوائه الناجع، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك، ووأد البنات، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة، وأكل مال اليتيم، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين، وترك العدل والقسط في القول والعمل، ونقض عهود الله إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلّا إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

__________________

(١) أعلام الورى بأعلام الهدى: ص ٥٧، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

٥٢

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول الله ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول: كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه هي علومهم ومعارفهم، حروبهم وغاراتهم، عطفهم وحنانهم، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري، وإنحلال خلقي، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء الله حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد، ورفض الأصنام والأوثان، وحرمة النفوس، والأعراض والأموال، والدعوة إلى العلم، والقراءة والكتابة، والحث على العدل والقسط في القول والعمل، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء، ومعاقرة الخمر والميسر، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال، وسقوط وانهيار، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ:

٥٣

أ ـ الفوضويّة العقائديّة

١ ـ« وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (١) .

٢ ـ« بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ، حَيَارَىٰ فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إلى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (٢) .

٣ ـ« والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، وَالعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ، حَائِرُونَ، جَاهِلُونَ، مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (٣) .

٤ ـ« واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٩٥.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ٢.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.

٥٤

٥ ـ« ثُمَّ اِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا، جَعَلَهُ اللهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لأمَّتِهِ، وربِيعاً لأهْلِ زَمَانِهِ، ورفْعَةً لأعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأنْصَارِهِ » (١) .

ب ـ الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

٦ ـ« اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (٢) .

ج ـ المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

٧ ـ« وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ الله يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٨٩.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٦٦.

٥٥

٨ ـ« اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً، وَلاَ وَحْياً » (١) .

د ـ سيادة الوثنية

٩ ـ« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (٢) .

١٠ ـ« بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (٣) .

ه‍ ـ العصبية الجاهليّة

١١ ـ« اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (٤) .

و ـ مأكلهم ومشربهم

١٢ ـ« اِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤ و ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٤٧.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٦.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٥١.

٥٦

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (١) .

ز ـ مكانة المرأة في الجاهلية

١٣ ـ كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين:« وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (٢) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ٢٦.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ١٤ من وصيّته لهعليه‌السلام .

٥٧
٥٨

(٣)

ميلاد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

أو

تبلّج النور في الظلام الحالك

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي:

١ ـ من ولادته إلى بعثته.

٢ ـ من بعثته إلى هجرته.

٣ ـ من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم، فنقول:

إتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل، كما يحكي عنه قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / ١ ـ ٥ ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

٥٩

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك، قال: إنّ أعربياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، واُنزل عليّ فيه(١) .

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلّا شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً:

١ ـ عاش يتيماً فآواه سبحانه.

٢ ـ كان ضالاًّ فهداه.

٣ ـ كان عائلاً فأغناه.

٤ ـ كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

٥ ـ جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

٦ ـ كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

٧ ـ كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر:

١ ـ الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة، وفضائله المرموقة، والأشعار المأثورة، على

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩، والسنن الكبرى للبيهقي: ج ٤ ص ٢٩٣، وصحيح مسلم ـ كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ج ١ ص ٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

المياه أو مراحها ، فإن تعدّدت الموارد كلّف أربابها الاجتماع في موضع واحد إذا كان يكفيها ليخفّ على الساعي من غير ضرر على أربابها ، فإذا أراد عدّها ضمّ الغنم إلى حيطان أو جدار أو جبل ، ثم يحصرها حتى لا يكون لها طريق إلّا ما تمرّ فيه شاة شاة أو شاتين شاتين.

فإذا عدّها وادّعى المالك الخطأ ، وأنّها أقلّ ، عُدّت مرة ثانية وثالثة ، وكذا لو ظن العادّ أنّه أخطأ.

ولو أخبره المالك بالعدد وكان ثقةً ، قُبل منه. وهو قول الشافعي(١) .

مسألة ٢٣١ : إذا فرّق المالك الزكاة بنفسه ، لم يخرج نصيب العامل‌ ؛ لأنّه لم يعمل فلم يستحق شيئاً. وكذا لو فرّق الإِمام بنفسه أو نائبه ، ولا نعلم فيه خلافاً. ولو فرّقها الساعي ( أو الإِمام )(٢) فلا بحث.

وإن احتاج الساعي الى بيعها لمصلحة من إزالة كُلفة في نقلها أو مرضها أو نحوه ، كان له ذلك ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في إبل الصدقة كوماء(٣) ، فسأل عنها ، فقال المصدّق : إنّي ارتجعتها بإبل ، فسكت(٤) .

والرجعة : أن يبيعها ويشتري بثمنها مثلها أو غيرها.

فإن لم تكن حاجة إلى بيعها ، احتمل جوازه ؛ لسكوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أخبره المصدّق بارتجاعها ، ولم يستفصل. وعدمه ؛ لأنّه مال الغير ، فيبطل البيع ، وعليه الضمان.

مسألة ٢٣٢ : ويستحب للعامل أن يسم نعم الصدقة‌ - وبه قال الشافعي(٥) - لما روي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسم الإِبل في‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ١٧٠.

(٢) كذا في النسخ الخطية والطبعة الحجرية. والصحيح : بإذن الإِمام‌.

(٣) كوماء : الناقة العظيمة السنام. غريب الحديث - للهروي - ٣ : ٨٤.

(٤) أورد ما بمعناه ، ابن أبي شيبة في مصنّفه ٣ : ١٢٥ و ١٢٦.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٦ ، المجموع ٦ : ١٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٣.

٣٢١

أفخاذها ، ووسم الغنم في آذانها(١) . وعليه إجماع الصحابة.

ولأنّ الحاجة تدعو إليه في تمييز إبل الصدقة من إبل الجزية وغيرها ، وربما شردت فعرفها من وجدها فردّها ، وربما رآها المالك فيكره شراءها.

وقال أبو حنيفة : يكره ؛ لأنّه مُثلة(٢) . وفعل النبيعليه‌السلام أولى.

ويستحب أن توسم في المواضع الصلبة المنكشفة كأفخاذ الإِبل وآذان الغنم ، وأن يكتب على الميسم ما تؤخذ له ، فعلى إبل الزكاة زكاة أو صدقة.

وعلى إبل الجزية جزية أو صغار. ولو كتب عليها لله ، كان أبرك وأولى.

مسألة ٢٣٣ : لا يجوز دفع الزكاة إلى وُلاة الجور‌ عند علمائنا أجمع ؛ لانتفاء ولايتهم واستحقاقهم لها ، فلا سبب يقتضي تسويغ الدفع إليهم.

ولقوله تعالى( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٣) والجائر ظالم ، ودفع الزكاة إليه ركون اليه، فيبقى في عهدة التكليف.

وقال الشافعي : يجوز الدفع الى وُلاة الجور سواء عدل فيها أو جار ، وسواء أخذها قهراً أو دفعها اليه اختياراً. وبه قال أحمد وأبو ثور(٤) .

واختلفوا ، فقال أبو علي الطبري : دفعها الى الجائر أولى(٥) ؛ لما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ستكون بعدي اُمور تنكرونها ) فقالوا : ما نصنع؟ فقال : ( أدّوا حقّهم واسألوا الله حقّكم )(٦) .

____________________

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٢٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١٦٧٤ / ١١٠ - ١١٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١١٨٠ / ٣٥٦٥ ، مسند أحمد ٣ : ١٧١ و ٢٥٤ و ٢٥٩.

(٢) المجموع ٦ : ١٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٣ ، عمدة القارئ ٩ : ١٠٧ ، فتح الباري ٣ : ٢٨٦.

(٣) هود : ١١٣.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٤ ، المغني ٢ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٣.

(٥) لم نجده في مظانّه من المصادر المتوفّرة لدينا.

(٦) صحيح مسلم ٣ : ١٤٧٢ / ١٨٤٣ ، المعجم الصغير للطبراني ٢ : ٨٠ ، مسند أحمد =

٣٢٢

ولأنّ أبا صالح قال : أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت : عندي مال واُريد أن اُخرج زكاته وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني؟ فقال : ادفعها اليهم ، فأتيت ابن عمر فقلت فقال [مثل](١) ذلك ، فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك ، فأتيت أبا سعيد الخدري فقال مثل ذلك(٢) .

ولا حجة فيه ؛ لأنّه ليس إجماعاً ، ولجواز علم الإِكراه. وكذا في حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إن حمل على الزكاة.

مسألة ٢٣٤ : إذا أخذ الجائر الزكاة ، قال الشيخ : لم يجزئ عنه‌(٣) ؛ لأنّ أبا اُسامة قال للصادقعليه‌السلام : جعلت فداك هؤلاء المصدّقون يأتوننا فيأخذون منّا الصدقة نعطيهم إيّاها؟ فقال : « لا ، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم ، أو قال : ظلموكم وإنّما الصدقة لأهلها »(٤) .

وقال في التهذيب : الأفضل إعادتها(٥) . وهو يعطي الجواز ، وبه قال الشافعي وأحمد(٦) ، لقول الصادقعليه‌السلام في الزكاة : « ما أخذ منكم بنو اُمية فاحتسبوا ، ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم ، فإنّ المال لا يبقى [ على هذا ](٧) أن يزكّى مرتين »(٨) .

وقال أبو حنيفة : تجزئ فيما غلبوا عليه. وقال : إذا مرّ على الخوارج‌

____________________

= ١ : ٤٢٨ نحوه.

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) سنن البيهقي ٤ : ١١٥ ، والمغني ٢ : ٥٠٦ ، والشرح الكبير ٢ : ٦٧٢.

(٣) الخلاف ٢ : ٣٢ ، المسألة ٣٢.

(٤) التهذيب ٤ : ٤٠ / ١٠١ ، الاستبصار ٢ : ٢٧ / ٧٨.

(٥) التهذيب ٤ : ٣٩.

(٦) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٥ ، المجموع ٦ : ١٦٤ و ١٦٥ ، المغني ٢ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٣.

(٧) زيادة من المصدر.

(٨) الكافي ٣ : ٥٤٣ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٩ - ٤٠ / ٩٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٧ / ٧٦.

٣٢٣

فعشّروه لا تجزئ عن زكاته(١) .

وقال أبو عبيد : في الخوارج يأخذون الزكاة على من أخذوا منه الإِعادة ؛ لأنّهم ليسوا بأئمّة ، فأشبهوا قطّاع الطريق(٢) .

والشافعي قال : إن أخذها إمام غير عادل أجزأت عنه ؛ لأنّ إمامته لم تزل بفسقه(٣) .

وقال أكثر الفقهاء من المحقّقين وأكثر أصحاب الشافعي : إنّ إمامته تزول بفسقه(٤) .

وقال أحمد وعامة أصحاب الحديث منهم : لا تزول الإِمامة بفسقه(٥) .

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ لأنّ الإِمام عندنا يجب أن يكون معصوماً ، فالدافع إلى غيره مفرّط فيضمن.

أمّا لو أخذها الظالم منه قهراً فالوجه عندي التفصيل ، وهو : أنّه إن كان بعد عزل المالك لها وتعيينها ، لم يضمن ، وأجزأت ؛ لأنّ له ولاية العزل ، فتصير أمانةً في يده بعد العزل ، فإذا غصبت منه لم يضمن كسائر الأمانات ، وإن كان قبله لم تجزئ ، ولا تجب عليه فيما أخذ الظالم منه قهراً زكاة إجماعاً.

مسألة ٢٣٥ : إذا قبض الإِمام أو الساعي الصدقة دعا لصاحبها. وهل هو واجب أو ندب؟ للشيخ قولان :

أحدهما : الوجوب - وبه قال داود(٦) - لقوله تعالى( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) (٧) والأمر للوجوب(٨) .

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٣.

(٣ و ٤ و ٥ ) حكاها الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٢ - ٣٣ ، المسألة ٣٢.

(٦) المجموع ٦ : ١٧١ ، عمدة القارئ ٩ : ٩٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٧.

(٧) التوبة : ١٠٣.

(٨) الخلاف ٢ : ١٢٥ ، المسألة ١٥٥.

٣٢٤

والثاني : الندب(١) - وبه قال باقي الفقهاء(٢) - عملاً بأصالة البراءة ، ولأنّهعليه‌السلام لمـّا بعث معاذاً الى اليمن قال : ( أعلمهم أنّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم )(٣) ولم يأمره بالدعاء.

ولأنّ ذلك لا يجب على الفقير المدفوع إليه فالنائب أولى.

وأمّا الاستحباب : فللآية.

ولأنّ عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أبي من أصحاب الشجرة ، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : ( اللّهم صلِّ على آل فلان ) فأتاه أبي بصدقته ، فقال : ( اللّهم صلِّ على آل أبي أوفى )(٤) والصلاة هنا الدعاء والتبرك.

مسألة ٢٣٦ : يكره أن يملك الانسان ما تصدّق به اختياراً كالشراء وشبهه من عقود المعاوضات عليه ، ويجوز من غير كراهة تملّكه بميراث وشبهه ، كقبضه في دَيْن إذا دفعه الفقير ؛ لوجوبه حينئذٍ.

وليس الأول بحرام عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي(٥) - لقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمسة : رجل‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٤.

(٢) المغني ٢ : ٥٠٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٥ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٧٦ ، المجموع ٦ : ١٧١ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٧.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٤٧ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠٤ - ١٠٥ / ١٥٨٤ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٣٦ / ٤.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٥٩ و ٨ : ٩٠ و ٩٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٧٥٦ - ٧٥٧ / ١٠٧٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٢ / ١٧٩٦ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠٦ / ١٥٩٠ ، سنن النسائي ٥ : ٣١ ، مسند أحمد ٤ : ٣٥٣ ، ٣٥٥ ، ٣٨١ ، ٣٨٣ ، سنن البيهقي ٢ : ١٥٢ ، و ٤ : ١٥٧ و ٧ : ٥.

(٥) المجموع ٦ : ٢٤١ ، المغني ٢ : ٥١٣.

٣٢٥

ابتاعها بماله )(١) .

وتصدّق رجل على اُمّه بصدقة ثم ماتت ، فسأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( قد قبل الله صدقتك وردّها إليك الميراث )(٢) وهو في معنى الشراء.

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « فان تتبّعت نفس صاحب الغنم [ من النصف الآخر منها شاة أو شاتين أو ثلاثاً فليدفعها إليهم ثم ليأخذ صدقته ](٣) فإذا أخرجها ( فليقوّمها)(٤) فيمن يريد ، فإذا قامت على ثمن فإن أرادها صاحبها فهو أحقّ بها »(٥) .

ولأنّ ما صحّ أن يملك إرثاً صحّ أن يملك ابتياعاً كسائر الأموال.

وقال أحمد ومالك وقتادة : يحرم عليه الشراء ولا ينعقد(٦) .

وقال أصحاب مالك : إن اشتراها لم ينقض البيع(٧) ؛ لأنّ عمر قال : حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه الذي كان عنده ، وظننت أنّه بائعه برخص ، فأردت أن اشتريه ، فسألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : ( لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم ؛ فإنّ العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه )(٨) .

ولا حجة فيه ؛ لاحتمال كونه حبساً في سبيل الله فمنعه لذلك ، أو أنّه محمول على الكراهة ؛ لما في الشراء من التوصّل الى استرجاع شي‌ء منها ،

____________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٥٩٠ / ١٨٤١ ، سنن أبي داود ٢ : ١١٩ / ١٦٣٥ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢١ / ٣ ، مسند أحمد ٣ : ٥٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٥ و ٢٢.

(٢) المغني ٢ : ٥١٣ نقلاً عن سعيد بن منصور في سننه.

(٣) زيادة من المصدر.

(٤) في الكافي : فليقسمها.

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٨ - ٥٣٩ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٩٨ / ٢٧٦.

(٦و٧) المغني ٢ : ٥١٣ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ١٨٠ و ١٨١.

(٨) صحيح البخاري ٤ : ٧١ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٣٩ / ١٦٢٠ ، سنن البيهقي ٤ : ١٥١.

٣٢٦

فإنّ الفقير يستحي منه فلا يماكسه في الثمن ، وربما أرخصها له طمعاً في أخذ صدقة اُخرى منه ، وربما علم أنّه إن لم يبعه إيّاها استرجعها منه ، أو توهّم ذلك ، ومثل هذا ينبغي اجتنابه.

وقال ابن عبد البر : كلّ العلماء يقولون : إذا رجعت إليه بالميراث طابت له ، إلّا ابن عمر والحسن بن حي(١) .

تذنيب : لو دعت الحاجة إلى الشراء ، بأن يكون الفرض جزءاً من حيوان لا يمكن الفقير الانتفاع بعينه ، ولا يجد من يشتريه سوى المالك ، ولو اشتراه غيره تضرّر المالك بالمشاركة ، والفقير بقلّة الثمن ، زالت الكراهة والتحريم إجماعاً ، وكذا كلّ موضع دعت الحاجة إلى البيع.

مسألة ٢٣٧ : قد بيّنا أنّه يجوز الاحتساب من الزكاة في دَيْنٍ على الفقير‌.

ومنع منه أحمد ، قال : ولو دفع الى المديون الفقير زكاته فردَّها اليه قضاءً عمّا عليه ، جاز له أخذه إلّا أن يكون حيلة. قال : فإن استقرض المديون مالاً فقضاه ثم ردّه عليه وحسبه من الزكاة ، فإن أراد بهذا إحياء ماله ، لم يجز(٢) .

فحصل من كلامه : أنّ دفع الزكاة إلى الغريم جائز سواء دفعها ابتداءً أو استوفى حقّه ثم دفع ما استوفاه اليه ، إلّا أنّه متى قصد بالدفع إحياء ماله أو استيفاء دَيْنه لم يَجُزْ ؛ لأنّ الزكاة لحقّ الله ، فلا يجوز صرفها إلى نفعه ، ولا يجوز أن يحتسب الدَّيْن الذي له من الزكاة قبل قبضه ؛ لأنّه مأمور بأدائها ، وهذا إسقاط.

والحقّ ما قلناه من جواز ذلك كلّه.

____________________

(١) المغني ٢ : ٥١٤.

(٢) المغني ٢ : ٥١٥.

٣٢٧

الفصل الرابع

في كيفية الإِخراج‌

ومباحثه ثلاثة :

الأول

النية‌

مسألة ٢٣٨ : النية شرط في أداء الزكاة‌ ، فلا تصح من دونها عند علمائنا أجمع ، وهو قول عامة أهل العلم(١) .

ولأنّه عبادة ، فتفتقر إلى النية ؛ لقوله تعالى( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ ) (٢) .

ولقولهعليه‌السلام : ( إنّما الأعمال بالنيات )(٣) وأداؤها عمل.

ولأنّها عبادة تتنوّع إلى فرض ونفل ، فافتقرت إلى النية ، كالصلاة والصوم.

ولأنّ الدفع يحتمل الوجوب والندب ، والزكاة وغيرها ، فلا تتعيّن لأحد الوجوه إلّا بالنية.

وحكي عن الأوزاعي : أنّ النية لا تجب في الزكاة ؛ لأنّها دَيْنٌ ، فلا‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٥٠٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٣.

(٢) البيّنة : ٥.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٧ ، سنن الترمذي ٤ : ١٧٩ / ١٦٤٧ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ، مسند أحمد ١ : ٢٥ ، سنن البيهقي ٧ : ٣٤١.

٣٢٨

تجب فيها النية ، كسائر الديون ، ولهذا يُخرجها ولي اليتيم ، ويأخذها السلطان من الممتنع(١) .

والفرق ظاهر لانحصار مستحقه ، وقضاؤه ليس بعبادة ولهذا يسقط بإسقاط مستحقّه.

ووليّ الطفل والسلطان ينويان عند الحاجة.

مسألة ٢٣٩ : والنية : إرادة تفعل بالقلب مقارنة للدفع‌ ؛ لأنّها مع ( التقدم )(٢) تكون عزماً.

ويشترط فيها القصد الى الدفع ؛ لأنّه الفعل ، والى مخصّصاته من كون المدفوع زكاة مال أو فطرة ، وإلّا لم ينصرف إلى أحدهما ؛ لعدم الأولويّة.

والوجه وهو : الوجوب أو الندب. والتقرب إلى الله تعالى. وأنّها زكاته.

والوكيل والولي والحاكم والساعي ينوون زكاة من يخرجون عنه.

ولا يجب أن يذكر عن مال بعينه ، ولا تعيين الجنس المخرج عنه ، والتلفّظ بالنية.

وقال الشافعي : كيفية النية أن ينوي أنّها زكاة ماله ، وإن نوى أنّها واجبة أجزأه(٣) .

فإن قصد الاقتصار على هذا لا غير ، فليس بجيّد ، وإن قصد مع انضمام ما شرطناه فهو مسلَّم.

ولو نوى الزكاة ولم يتعرض بفرض لم تجزئ عندنا ، وهو أحد وجهي الشافعية(٤) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٥٠٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٣ ، المجموع ٦ : ١٨٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٥.

(٢) في « ط » : التقديم.

(٣) المجموع ٦ : ١٨١ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٣.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٧ ، المجموع ٦ : ١٨١ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

٣٢٩

واختلف أصحابه في تقديم النية ، فجوَّز بعضهم ؛ لأنّها عبادة تجوز فيها النيابة بغير عذر ، ويجوز تقديمها على وجوبها ، فجاز تقديم النية عليها - وهو اختيار أصحاب أبي حنيفة(١) - لأنّ ذلك يؤدّي الى إيقاف أجزائه على نية وكيله ، وفي ذلك تغرير بماله مع إجازة النيابة والحاجة إليها.

وقال آخرون : لا يجوز(٢) ؛ كما قلناه ؛ لأنّها عبادة تدخل فيها بفعله ، فلا يجوز تقديم النية عليها كالصلاة ، ودخول النيابة لا يقتضي جواز تقديم النية عليها كالحج.

ونمنع جواز تقديمها ، وقد مضى ، سلّمنا ، لكن لا يصلح للعلّية ، ونوجب نية الوكيل أو نيته عند دفعه.

مسألة ٢٤٠ : الزكاة إن فرّقها المالك تولّى النية حالة الدفع‌.

وإن دفعها إلى وكيله ليفرّقها ، فإن نوى الموكِّل حالة الدفع الى الوكيل ، ونوى الوكيل حالة دفعه الى الفقراء ، أجزأ إجماعاً.

وإن لم يَنْويا معاً ، بأن يَنْويا الصدقة دون الزكاة لم يجزئه.

وإن نوى المزكِّي حال دفعه إلى الوكيل ولم يَنْو الوكيل حالة الدفع إلى الفقراء ، لم يجزئه عندنا ، وهو أحد قولي الشافعية بناءً على الوجهين في جواز تقديم النية(٣) .

ومنهم من قال : يجزئه هنا وجهاً واحداً ؛ لأنّه لـمّا اُجيزت له النيابة جازت النية عند الاستنابة(٤) .

وينتقض بالحج ، ولأنّ نية الموكِّل لم تقارن الدفع ، فوقع الفعل بغير‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٧ ، المجموع ٦ : ١٨٢ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٥ ، بدائع الصنائع ٢ : ٤١.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٧ ، المجموع ٦ : ١٨١ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٥.

(٣و٤) المجموع ٦ : ١٨٣ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

٣٣٠

نية ، فلا يعدّ عملاً.

ولو نوى الوكيل حال الدفع إلى الفقراء ولم يَنْو الموكِّل حال الدفع الى الوكيل لم يجزئه - وبه قال الشافعي وأحمد(١) - لأنّ الفرض يتعلّق بالمالك ، والإِجزاء يقع عنه.

ويحتمل الإِجزاء لو نوى الوكيل ؛ لأنّه نائب عن المالك ، والفعل ممّا تدخله النيابة ، فصحّت نية الوكيل كالحج.

أمّا لو لم يَنْو المالك حالة الدفع إلى الوكيل ، ونوى حالة دفع الوكيل إلى الفقراء ولم ينو الوكيل ، أجزأ ؛ لأنّ النائب لا اعتبار به مع فعل المنوب ما وقعت فيه النيابة.

مسألة ٢٤١ : لو دفع المالك الزكاة إلى الإِمام أو الى الساعي ونوى حالة الدفع إليهما أجزأ‌ وإن لم يَنْو أحدهما حالة الدفع الى الفقراء - وبه قال أحمد(٢) - لأنّ الإِمام وكيل للفقراء.

ولا فرق بين أن يطول زمان دفع الإِمام إلى الفقراء وبين أن يقصر.

والساعي كالإِمام ؛ لأنّه نائب عنه ، وهو نائب عن الفقراء.

ولو لم ينو المالك حالة الدفع الى الإمام أو الى الساعي ونوى أحدهما حالة الدفع الى الفقراء ، قال الشيخ : إن أخذها الإمام أو الساعي منه طوعا لم يجزئه ، وإن أخذها أحدهما منه كرها أجزأ(٣) . وهو قول بعض الشافعية(٤) ، لأنّ تعذّر النية في حقّه أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون ، ومع الاختيار يكون الدفع إلى نائب الفقراء بغير نية فلا يجزئ ، كما لو دفع الى الفقراء.

____________________

(١) المجموع ٦ : ١٨٣ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٦ ، المغني ٢ : ٥٠٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٥.

(٢) المغني ٢ : ٥٠٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٧٥.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ٢٣٣.

(٤) المجموع ٦ : ١٨٤ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٥.

٣٣١

قال الشيخ : إنّه حالة التطوع وإن لم تجزئه لكن ليس للإِمام مطالبته بها ثانيةً(١) .

وقال الشافعي : تجزئه سواء أخذها الإِمام طوعاً أو كرهاً. وفرَّق بين دفعها الى الفقراء وبين دفعها الى الإِمام ؛ لأنّ أخْذ الإِمام بمنزلة القسم من الشركاء ، فلا يحتاج إلى نية.

ولأنّ الإِمام إنّما يأخذ الزكوات الواجبة ، لأنّه لا نظر له إلّا في ذلك ، ولا يحتاج إلى نية.

ولأنّ للإمام ولاية الأخذ ، ولهذا يأخذها من الممتنع اتّفاقاً ، ولو لم تجزئه لما أخذها ، أو لَأخَذَها ثانياً وثالثاً ؛ لأنّ أخْذَها إن كان لإِجزائها فلا يحصل الإِجزاء بدون النية ، وإن كان لوجوبها فالوجوب باقٍ بعد أخذها(٢) .

وقال بعض الشافعية : لا تجزئ فيما بينه وبين الله تعالى(٣) ؛ سواء أخذها طوعاً أو كرهاً ؛ لأنّ الإِمام إمّا نائب للفقراء فلا يجزئ الدفع اليه بغير نية ، كما لو دفع الى الفقراء(٤) ، وإمّا نائب عن المالك ، فيكون كالوكيل لا يجزئ عنه إلّا مع نيته.

ولأنّها عبادة فلا تجزئ مع عدم نية مَنْ وجبت عليه إذا كان من أهل النية كالصلاة.

وإنّما اُخذت منه مع عدم الإِجزاء حراسةً للعلم الظاهر ، كالصلاة يجبر عليها ليأتي بصورتها ، ولو صلّى بغير نية لم تجزئه عند الله تعالى.

وهو وجه عندي ، ومعنى الإِجزاء : عدم المطالبة بها ثانياً.

ويمكن الفرق : بأنّ الصلاة لا تدخلها النيابة ، فلا بدّ من نية فاعلها.

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٣٣.

(٢) الاُم ٢ : ٢٣ ، المجموع ٦ : ١٨٤ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٥.

(٣) المجموع ٦ : ١٨٤ - ١٨٥ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٥ و ٥٢٦.

(٤) أي : بغير نية.

٣٣٢

وقوله : الإِمام إمّا وكيل للمالك أو للفقراء.

قلنا : بل هو والٍ على المالك ، ولا يصح إلحاق الزكاة بالقسمة ؛ لأنّها ليست عبادةً ، ولا تعتبر لها نية ، بخلاف الزكاة.

إذا عرفت هذا ، ففي كلّ موضع قلنا بالإِجزاء مع عدم نية المالك لو لم يَنْو الساعي أو الإِمام أيضاً حالة الدفع الى الفقراء ، توجَّه الإِجزاء ؛ لأنّ المأخوذ زكاة وقد تعيّنت بالأخذ.

ويحتمل عدمه ؛ لخلوّ الفعل حينئذٍ عن نية.

مسألة ٢٤٢ : قد بيّنا أنّه لا يشترط تعيين الجنس الـمُخرج عنه في النية‌ ، فلو كان له مالان ونوى عن أحدهما ولم يعيّنه ، أجزأ ، سواء كان المدفوع من جنس أحدهما أو من غير جنس شي‌ء منهما ، وله صرفه الى أيّ الصنفين شاء سواء خالف أو لا.

ومع اختلاف القيمة وقت الإِخراج والاحتساب واتّحاد المـُخرج مع أحد الجنسين إشكال : ينشأ من حصول الضرر للفقراء مع العدول عنه ، ومن تسويغه لو لم تختلف ، فكذا معه.

وعلى قول المانعين من إخراج القيمة - كالشافعي ومن وافقه(١) - يتخرّج الانصراف الى الجنس خاصة.

مسألة ٢٤٣ : يشترط في النية الجزم ، وعدم التشريك بين وجهي الفعل‌ ، فينوي الفرض إن كان واجباً ، والنفل إن كان تطوّعاً ، فلو نوى النفل عن الفرض لم يجزئ ؛ لأنّه لم يوقع العبادة على وجهها.

أمّا لو نوى الفرض عن النفل ، فالوجه : الإِجزاء ؛ لأنّ نية الأقوى تستلزم نية الأضعف.

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ و ٤٣١ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

٣٣٣

ولو نوى بجميع ما أخرجه الفرض والنفل معاً لم يجزئه عن الزكاة وكانت تطوّعاً - وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن(١) - لأنّه شرَّك بين الفرض والنفل في نيّته فلم يجزئ عن الفرض كالصلاة ، ولأنّ الفعل الواحد لا يقع على جهتين ، ولم ينو الفرض ، فلم يقع عنه.

وقال أبو يوسف : يجزئه عن الزكاة(٢) ؛ لأنّ النفل لا يفتقر الى تعيين النية ، فصار كأنّه نوى الزكاة والصدقة.

وليس بصحيح ، لما تقدّم.

مسألة ٢٤٤ : لو كان له مال غائب ، فأخرج الزكاة‌ ، وقال : إن كان مالي سالماً فهذه عنه ، أو تطوّع ، لم يجزئ عنه إن كان سالماً - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّه شرَّك بين الفرض والنفل ، فلم تتخلّص نية الفرض.

وقال الشيخ في المبسوط : يجزئه(٤) وليس بمعتمد.

ولو قال : إن كان سالماً فهذه عنه ، وإن كان تالفاً فهي تطوع ، فكان سالماً ، أجزأ عنه ؛ لعدم التشريك في النية بين الفرض والنفل ، وإنّما رتّب فيها النفل عن الفرض ، ونوى كلّ واحد منهما على تقدير لو لم يفعله لوقع لذلك ، فإنّه لو نوى أنّها عن ماله ، كان ذلك حكمها إن كان تالفاً فهي تطوع ، فإذا خرج بذلك أجزأه.

ولو أخرج وقال : هذه عن مالي الغائب إن كان سالماً ، وإن لم يكن سالماً فعن مالي الحاضر ، أجزأه.

وكذا لو قال : عن مالي الغائب أو الحاضر ، فإنّه يجزئه عن السالم منهما ؛ لأنّه لا يجب عليه تعيين الزكاة بمال بعينه ، ولهذا لو كان له أربعمائة ، فأخرج‌

____________________

(١و٢) حلية العلماء ٣ : ١٤٦ - ١٤٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ٤٠.

(٣) الاُم ٢ : ٢٢ ، مختصر المزني : ٤٥ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٧٧ ، المجموع ٦ : ١٨٢ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٤.

(٤) المبسوط للطوسي ١ : ٢٣٢.

٣٣٤

خمسة دراهم ينوي بها الزكاة أجزأه وإن لم يعيّنها عن إحدى المائتين.

ولو أخرج خمسة دراهم وقال : إن كان قد مات مُورّثي فهذه زكاة عمّا ورثته منه ، فكان قد ورث عنه ، لم يجزئه ؛ لأنّه أخرجها عن غير أصل يبنى عليه النية ، بخلاف ما إذا باع مال مُورّثه ثم بان أنّه قد ورثه ، فإنّه يصح البيع ؛ لأنّه لا يفتقر إلى النية ، والزكاة تفتقر إليها.

وقال الشيخ : يجزئه إن قلنا بوجوب الزكاة في الغائب ، ولو لم يكن قد مات ثم مات بعد ذلك ، لم يجزئ ؛ لفوات وقت النية(١) .

مسألة ٢٤٥ : لو أخرج وقال : هذه عن مالي الغائب إن كان سالماً‌ ؛ ولم يقل غير ذلك ، فبان سالماً ، أجزأه.

وإن بان تالفاً ، قال الشيخ : لم يكن له النقل الى غيره(٢) - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّه عيّنها لذلك المال ، فأشبه ما لو كان عليه كفّارة ، فأعتق عبداً عن اُخرى عيَّنها فلم يقع عنها ، لم يجزئه عمّا عليه ، كما لو كان عليه كفّارة ظهار ويُجرح رجلاً ويقدِّم العتق عن كفّارة القتل ، فيبرأ المجروح ، فإنّه لا يجزئه صرفها إلى الظهار وإن كان في الابتداء لا يلزمه تعيين الكفّارة بسببها ، كذا الزكاة.

والوجه عندي : الإِجزاء ؛ لأنّه نوى ما ليس ثابتاً في ذمته ، ولم ينو مطلق التطوع ، فلم يزل ملكه عنه ، فيجوز له العدول الى غيره.

مسألة ٢٤٦ : يجوز الإِخراج عن المال الغائب مع الشك في سلامته‌ ، والتمكّن منه ؛ لأنّ الأصل بقاؤه ، وتكون نية الإِخراج صحيحةً إجماعاً ، فلو دفعها الى الساعي أو الى الإِمام باختياره وقال : هذه عن مالي الغائب ، فبان تالفاً قبل الوجوب ، فإن كان المدفوع اليه قد فرَّقها ، لم يرجع عليه ، وله أن يرجع على الفقراء مع بقاء العين ؛ لفساد الدفع ، وإن كانت في يده رجع بها ،

____________________

(١و٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٣٢.

(٣) فتح العزيز ٥ : ٥٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٠.

٣٣٥

وكان له أن يجعلها عن غيره - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه دفعها الى الوالي ابتداءً من غير سؤال ليفرّقها ، فيكون نائباً عنه ، ولا يضمن بالدفع الى الفقير ؛ لأنّه دفعها إليه بسؤاله.

مسألة ٢٤٧ : لو تصدّق بجميع ماله ولم يَنْو بشي‌ء منه الزكاة لم يُجزئه‌ - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّه لم يَنْو الفرض ، فأشبه ما لو صلّى ألف ركعة بنية التطوّع ، فإنّه لا يجزئه عن الفرض.

وقال أصحاب أبي حنيفة : يجزئه استحساناً ؛ لأنّه تصرّف فيه تصرّفاً لم يتعدّ به ، فلم يضمن الزكاة(٣) .

وهو ممنوع ؛ لأنّه مُتعدّ بتصرّفه بقدر الزكاة بنية التطوّع.

ولو تصدّق ببعضه ، قال محمد : أجزأه عن زكاة ذلك البعض(٤) ؛ لأنّه لو تصدّق بجميعه أجزأه عن جميعه ، فأجزأه إذا تصدّق بالبعض عن البعض.

وقال أبو يوسف : لا يجزئه(٥) ؛ لأنّا أسقطنا عنه الزكاة لو تصدّق بجميعه ؛ لزوال ملكه عن المال على وجه القربة ، وهنا لم يزل عن جميعه.

____________________

(١) الاُم ٢ : ٢٣ ، مختصر المزني : ٤٥ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٤.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٧ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٥.

(٣) بدائع الصنائع ٢ : ٤٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ٣٤ ، فتح العزيز ٥ : ٥٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٥.

(٤) بدائع الصنائع ٢ : ٤٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ٣٤ - ٣٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٥ - ١٤٦.

(٥) بدائع الصنائع ٢ : ٤٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ٣٤ - ٣٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

٣٣٦

البحث الثاني

في كيفية التقسيط‌

مسألة ٢٤٨ : يجوز تخصيص بعض الأصناف بجميع الزكاة‌ ، بل يجوز دفعها إلى واحد وإن كثرت ، ولا يجب بسطها على الجميع عند علمائنا أجمع - وبه قال الحسن البصري والثوري وأبو حنيفة وأحمد ، وهو أيضاً قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير والنخعي وعطاء والثوري وأبو عبيد(١) - لقولهعليه‌السلام : ( أعلمهم أنّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم )(٢) أخبر بأنّه مأمور بردّ جملتها في الفقراء وهم صنف واحد ، ولم يذكر سواهم.

ثم أتاه بعد ذلك مال ، فجعله في صنف ثان سوى الفقراء ، وهم المؤلّفة قلوبهم : الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين وعلقمة بن علاثة وزيد الخيل ، قسَّم فيهم ما بعثه عليعليه‌السلام من اليمن(٣) .

ثم أتاه مال آخر فجعله في صنف آخر ؛ لقوله لقبيصة بن المخارق حين تحمّل حمالةً ، وأتاه فسأله ، فقال لهعليه‌السلام : ( أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )(٤) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٧٠٥ ، المجموع ٦ : ١٨٦ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٠ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١١٣ ، شرح فتح القدير ٢ : ٢٠٥.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٥٨ - ١٥٩ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠٤ - ١٠٥ / ١٥٨٤ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٣٦ / ٤ و ٥ ، سنن الدارمي ١ : ٣٧٩.

(٣) صحيح البخاري ٩ : ١٥٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٧٤١ / ١٤٣ و ١٤٤ ، سنن أبي داود ٤ : ٢٤٣ / ٤٧٦٤ ، سنن النسائي ٥ : ٨٧ ، مسند أحمد ٣ : ٤ ، ٣١ ، ٦٨ ، ٧٢ ، ٧٣.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٩ ، سنن النسائي ٥ : ٨٩ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠.

٣٣٧

وفي حديث سلمة بن صخر البياضي : أنّه أمر له بصدقة قومه(١) . ولو وجب صرفها إلى الثمانية لم يجز دفعها الى واحد.

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقسّم صدقة أهل البوادي فيهم ، وصدقة أهل الحضر في الحضر ، ولا يقسّمها بينهم بالسوية ، إنّما يقسّمها على قدر من يحضره منهم » قال : « وليس في ذلك شي‌ء موقت »(٢) .

ولأنّها لا يجب صرفها الى جميع الأصناف إذا أخذها الساعي ، فلم يجب دفعها إليهم إذا فرّقها المالك ، كما لو لم يجد إلّا صنفاً واحداً.

ولأنّ القصد سدّ الخلّة ودفع الحاجة ، وذلك يحصل بالدفع إلى بعضهم ، فأجزأ ، كالكفّارات.

وقال عكرمة والشافعي : إن دفعها الى الإِمام فقد برئت ذمته ، والإِمام يفرّقها على الأصناف السبعة سوى العاملين ؛ لسقوط حقّه(٣) بانتفاء عمله(٤) ، فإن كان السبعة موجودين ، وإلّا دفعها الى الموجودين من الأصناف يقسّمها بينهم ، لكلّ صنفٍ نصيبه ، سواء قلّوا أو كثروا على السواء.

وإن دفعها الى الساعي عزل الساعي حقّه ؛ لأنّه عامل ، وفرّق الباقي على الأصناف السبعة ، وإن فرَّقها بنفسه سقط نصيب العامل أيضاً ، وفرّقها على باقي الأصناف ، ولا يجزئه أن يقتصر على البعض ، ثم حصة كلّ صنف منهم لا تصرف إلى أقلّ من ثلاثة إن وجد منهم ثلاثة - وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وعثمان البتي وعبد الله بن الحسن العنبري - لقوله تعالى :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) (٥) الآية ، فجعلها لهم بلام التمليك ، وعطف‌

____________________

(١) سنن البيهقي ٧ : ٣٩٠ - ٣٩١ ، مسند أحمد ٤ : ٣٧.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٤ / ٨ ، الفقيه ٢ : ١٦ / ٤٨ ، التهذيب ٤ : ١٠٣ / ٢٩٢.

(٣و٤) إفراد الضمير في ( حقّه ) و ( عمله ) باعتبار الصنف.

(٥) التوبة : ٦٠.

٣٣٨

بعضهم على بعض بواو التشريك ، وذلك يوجب الاشتراك ، ونمنع الاختصاص كأهل الخمس ، والآية وردت لبيان المصرف(١) .

وحكي عن النخعي : أنّ المال إن كثر بحيث يحتمل الأصناف بسط عليهم ، وإن كان قليلاً جاز وضعه في واحد(٢) .

وقال مالك : يتحرّى موضع الحاجة منهم ، ويقدّم الأولى فالأولى(٣) .

مسألة ٢٤٩ : ويستحب بسطها على جميع الأصناف‌ - وهو قول كلّ من جوَّز التخصيص - أو الى من يمكن منهم ؛ للخلاص من الخلاف وتحصيل الإِجزاء يقيناً. ولتعميم الإِعطاء ، فيحصل شمول النفع.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقسّم صدقة أهل البوادي فيهم ، وصدقة أهل الحضر في الحضر »(٤) .

إذا عرفت هذا ، فإنّه يستحب ترجيح الأشدّ حاجةً في العطية ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « ولا يقسّمها بينهم بالسوية ، إنّما يقسّمها على قدر من يحضره منهم » قال : « وليس في ذلك شي‌ء موقّت »(٥) .

ولأنّ المقتضي إذا كان في بعض الموارد أشدّ كان المعلول كذلك ، والمقتضي هو : الحاجة.

وكذا يستحب تخصيص أهل الفضل بزيادة النصيب ؛ لأفضليته ، ولقول الباقرعليه‌السلام : « أعطهم على الهجرة في الدين والفقه والعقل »(٦) .

وكذا يستحب تخصيص غير السائل على السائل بالزيادة ؛ لحرمانه في‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٧٨ و ١٨٠ ، المجموع ٦ : ١٨٦ و ١٨٨ ، المغني ٢ : ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٧٠٥ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧٥.

(٢) المغني ٢ : ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٧٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٨.

(٣) المدونة الكبرى ١ : ٢٩٥ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧٥ ، المغني ٢ : ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٧٠٥ ، المجموع ٦ : ١٨٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٩.

(٤ و ٥ ) الكافي ٣ : ٥٥٤ / ٨ ، الفقيه ٢ : ١٦ / ٤٨ ، التهذيب ٤ : ١٠٣ / ٢٩٢.

(٦) الكافي ٣ : ٥٤٩ / ١ ، الفقيه ٢ : ١٨ / ٥٩ ، التهذيب ٤ : ١٠١ / ٢٨٥.

٣٣٩

أكثر الأوقات ، فكانت حاجته أمسّ غالباً.

ولقول الكاظمعليه‌السلام : « يفضّل الذي لا يسأل على الذي يسأل »(١) .

مسألة ٢٥٠ : ويستحب صرف صدقة المواشي إلى المتجمّلين ومن لا عادة له بالسؤال‌ ، وصرف صدقة غيرها الى الفقراء المدقعين(٢) المعتادين بالسؤال ؛ لأنّ عادة العرب صرف المواشي على سبيل المنحة الأشهر والشهرين ، فربما لا يحصل للمدفوع إليه ذلّة في نفسه ، جرياً على عادة العرب.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إنّ صدقة الخُفّ والظُلْف تدفع الى المتجمّلين من المسلمين ، فأمّا صدقة الذهب والفضة وما كِيْل بالقفيز وما أخرجت الأرض فللفقراء المدقعين » قال ابن سنان : قلت : وكيف صار هذا هكذا؟ فقال : « لأنّ هؤلاء متجمّلون يستحيون من الناس ، فيدفع إليهم أجمل الأمرين عند الناس ، وكلٌّ صدقة »(٣) .

مسألة ٢٥١ : ولا حدّ للإِعطاء‌ ، إلّا أنّه يستحب أن لا يعطى الفقير أقلّ ما يجب في النصاب الأول ، وهو : خمسة دراهم ، أو عشرة قراريط ، قاله الشيخان(٤) وابنا بابويه(٥) وأكثر علمائنا(٦) ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « لا يعطى أحد من الزكاة أقلّ من خمسة دراهم »(٧) .

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠١ / ٢٨٤.

(٢) الدَّقْعاء : التراب. يقال : دَقِع الرجل. أي : لصق بالتراب ذُلّاً. الصحاح ٣ : ١٢٠٨.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٠ / ٣ ، علل الشرائع : ٣٧١ ، الباب ٩٦ ، الحديث ١ ، التهذيب ٤ : ١٠١ / ٢٨٦.

(٤) المقنعة : ٤٠ ، النهاية : ١٨٩ ، الاقتصاد : ٢٨٣ ، الجُمل والعقود ( الرسائل العشر ): ٢٠٧.

(٥) المقنع : ٥٠ ، وحكاه عنهما المحقق في المعتبر : ٢٨٤.

(٦) منهم : السيد المرتضى في الانتصار : ٨٢.

(٧) الكافي ٣ : ٥٤٨ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٢ / ١٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٨ / ١١٦.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460