نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٢

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 301

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 301
المشاهدات: 131375
تحميل: 4947


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 301 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131375 / تحميل: 4947
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بمن احتج به مسلم. ولقد قال فيه بعض معاصريه: ما رأيت أحداً قط أورع منه في علمه.

حسن، وهو التحقيق، ويوافقه قول شيخ الاسلام الحافظ ابن حجر: رجاله رجال الصحيح إلّا عبد السّلام الهروي فإنه ضعيف عندهم. إنتهى. وسبقه إلى آخر كلامه الحافظ العلائي فقال: إن الهروي هذا تكلّموا فيه كثيراً. انتهى. ويعارض ذلك تصويب أبي زرعة على حديثه، ونقل الحاكم عن يحيى بن معين أنه وثّقه. فثبت أنه حسن مقارب للصحيح لما علمت من قول ابن حجر إن رواته كلهم رواة الصحيح إلّا الهروي، وإن الهروي وثّقه جماعة وضعّفه آخرون.

ضعيف، أي بناء على رأي من ضعف الهروي.

موضوع، وعليه كثيرون أئمة حفّاظ، كالقزويني وابن الجوزي وجزم ببطلان جميع طرقه، والذهبي في ميزانه وغيره. وهؤلاء وإنْ كانوا أئمة أجلّاء لكنّهم تساهلوا تساهلاً كثيراً، كما علم مما قرّرته. وكيف ساغ الحكم بالوضع مع ما تقرر أن رجاله كلّهم جال الصحيح إلّا واحد فمختلف فيه، ويجب تأويل كلام القائلين بالوضع بأن ذلك لبعض طرقه لا كلّها. وما أحسن قول بعض الحفّاظ في أبي معاوية أحد رواته المتكلّم فيهم بما لم يسمع: هو ثقة مأمون من كبار المشايخ وحفّاظهم، وقد تفرد به عن الأعمش فكان ما ذا؟ وأيّ استحالة في أنْصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول مثل هذا في حق عليّ؟».

فالعجب منه كيف يقول في ( الصواعق ): « ان الحديث مطعون »؟ فإنّ هذا الكلام - وإنْ كان لا يخلو بعض مواضعه من كلام - يدلّ على ثبوت حديث « أنا مدينة العلم » وصحة الاحتجاج به، ويبطل ما ذكره في ( الصواعق ) من وجوه عديدةٍ لا تخفى على الخبير.

٣ - تحسين ابن حجر في تطهير الجنان

وأيضاً، حكم بحسنه في كتابه الآخر ( تطهير الجنان ) حيث قال في ذكر

١٤١

مطاعن معاوية والجواب عنها: « السادس: خروجه على علي كرم الله وجهه ومحاربته له، مع أنه الامام الحق باجماع أهل الحل والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنص الحديث - الحسن لكثرة طرقه خلافاً لمن زعم وضعه، ولمن زعم صحته، ولمن أطلق حسنه -: أنا مدينة العلم وعلى بابها. قال الأئمة الحفّاظ: لم يرد لأحد من الصحابة رضي الله عنهم من الفضائل والمناقب والمزايا ما ورد لعلي كرّم الله وجهه. وسببه أنهرضي‌الله‌عنه وكرّم وجهه لما استخلف كثرت أعداؤه وساورت المتقوّلون عليه، فأظهروا له معايب ومثالب زوراً وبهتاناً وإلحاداً وعدواناً، وورث ذلك من تبعهم على ضلالتهم، فلما رأى الحفّاظ ذلك نصبوا نفوسهم لبيان الباطل من ذلك وإظهار ما يردّه مما ورد عندهم في حقه، فبادر كلّ أحدٍ إلى بثّ جميع ما عنده من فضائله ومناقبه.

والجواب: إن ذلك لا يكون قادحاً في معاوية إلّا لو فعله من غير تأويل محتمل. وقد تقرر المرّة بعد المرّة أنه لتأويل محتمل بنص كلام علي كرم الله وجهه، وأنه من أهل الإِجتهاد، وغايته أنه مجتهد مخطئ، وهو مأجور غير مأزور »(١) .

ومن هذا الكلام يظهر أنّ قوله في ( الصواعق ): « هذا الحديث مطعون » ليس إلّا عن عنادٍ وعصبيّة، وإلّا لأجاب عن الحديث بالطعن في سنده، قبل أنْ يعتذر لمعاوية بالاجتهاد في محاربته لإِمام وقته إلّا أنّ قوله: « الحسن لكثرة طرقه خلافاً لمن زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن أطلق حسنه » لا يخفى ما فيه، لما عرفت من صحة هذا الحديث وثبوته فضلاً عن إطلاق حسنه، بل إنّه حديث متواتر مقطوع صدوره، كما نصّ على ذلك الأئمة الكبار، فلتكن منك على ذكر.

وقال ابن حجر في ( تطهير الجنان ) أيضاً: « قال ابن عباس رضي الله عنهما:

وهذا - أي كون علي يخبر بالأشياء المغيّبة فيقع - لما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بالمغيبات، فيخبر بها كما أخبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن استند إخباره

____________________

(١). تطهير الجنان - هامش الصواعق: ٧٤.

١٤٢

إلى إخبار الصادقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون إلّا صادقاً. وفي هذا منقبة عليّة جدّاً لعلي، لما أتحفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من العلوم المغيبة، ولذا كان باب مدينة العلم النبوي، وأمين السرّ العلوي »(١) .

ألا ترى كيف يذكر هذا الحديث جازماً به ويرسله إرسال المسلمـّات ويستشهد به لكلام ابن عباس في مدح الامامعليه‌السلام ؟ إلّا أنّه حيث يستدل الإِمامية بهذا الحديث على الأعلمية فالامامة تثور عصبيّته وتضيق الدنيا في عينه، فيبادر إلى الطعن في سنده ويقول: « هذا الحديث مطعون »، ولعمري إن أمثال هذه البدائع، وأضراب تلك الشنائع، مما يحيّر الأفهام والأفكار، ويدهش أصحاب الأحكام والأبصار!!.

٤ - تحسين ابن حجر في بعض فتاويه

وصوّب ابن حجر حسن هذا الحديث، بل صحّته في بعض فتاويه، فقد جاء في ( فتاويه ): « سئلرضي‌الله‌عنه : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها هل الحديث صحيح أم لا؟

فأجاب بقوله: الحديث رواه صاحب مسند الفردوس، وتبعه ابنه بلا إسناد، عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه مرفوعاً، وهو حديث ضعيف، كحديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها، فهو ضعيف أيضاً.

وأمّا حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فهو حديث حسن، بل قال الحاكم صحيح - وقول البخاري: ليس له وجه صحيح، والترمذي: منكر، وابن معين: كذب - معترض، وإن ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وتبعه الذهبي وغيره على ذلك ».

____________________

(١). تطهير الجنان - هامش الصواعق: ١١٢.

١٤٣

وهو يدل على ثبوت هذا الحديث، وبطلان طعن الطاعنين، وكذا قوله نفسه في ( الصواعق ): « مطعون » من وجوه عديدة لا تخفى.

ثم إنّ ما نسبه إلى البخاري والترمذي وابن معين - وإن اعترضه - غير ثابت بالنسبة إلى حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها »، لا سيّما على النهج الذي ذكره، وقد فصّلنا ذلك في الردّ على كلمات ( الدّهلوي ) فراجعه حتى تتّضح لك حقيقة الأمر، والله ولي التوفيق.

٥ - وأبو بكر محرابها؟!

ثم قال ابن حجر: « وعلى تسليم صحّته أو حسنه فأبو بكر محرابها ».

أقول: أمّا حسن الحديث بل صحّته فلا كلام، بل الحق المحقّق تواتر هذا الحديث وقطعيّة صدوره، وقد عرفت ذلك كلّه والحمد لله، فلا مجال لقوله: « وعلى تسليم ».

وأمّا « أبو بكر محرابها » فالجواب من وجوه.

أحدها: إنه على تسليم صحة هذه الزيادة أو حسنها فالاحتجاج بها في مقابلة الامامية لا وجه له، لأنّ أصل حديث: « أنا مدينة العلم » متّفق عليه بين الفريقين، وهذه الزيادة ممّا تفرّد به أهل السنّة، فكيف وثبوت صحّتها أو حسنها غير ممكن على أصول أهل السنّة؟! ومن ادّعى فعليه البيان، وليس له إلى ذلك من سبيل إلى آخر الدهر والزمان.

الحديث ضعفه ابن حجر نفسه

والثاني: إنّ هذه الزيادة نصّ ابن حجر المكي نفسه على ضعفها، حيث قال في ( المنح المكية ) بشرح البوصيري: « لم يزده كشف الغطاء » ما نصّه: « وفي حديث عند الواحدي لكنّه ضعيف: وعلي بابها وأبو بكر محرابها »!.

الثالث: إنّ هذه الزّيادة نصّ المولوي ولي الله اللكهنوي على كونها فرية

١٤٤

موضوعة، كما لا يخفى على من راجع عبارته التي نقلناها عن كتابه ( مرآة المؤمنين ) في ردّ كلام ( الدهلوي ).

الرابع: إن هذه الزيادة واضحة البطلان من حيث المفاد والمعنى أيضاً، فإنّ « المحراب » بمعناه المعروف ليس ممّا يصح إضافته إلى « المدينة »، بل لا يضاف إلّا إلى « المسجد »، نعم في ( القاموس ): « والمحراب: الغرفة، وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الامام من المسجد، والموضع يتفرّد به الملك فيتباعد عن الناس، والأجمة، وعنق الدابة ومحاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها »(١) ، فمن معانيه: « صدر البيت وأكرم مواضعه » فهو مخصوص « بالبيت »، وكذا المعنى الآخر من معانيه وهو « الموضع يتفرّد به الملك فيتباعد عن الناس »، ونسبته إلى « المدينة » غلط.

إحداثُ المحاريب بدعة عند أهل السنة

ثم لو التجأ بعض أهل العناد إلى القول بأنّ المراد من « محراب المدينة » هو « محراب مسجد المدينة » فالجواب - مضافاً إلى أنّه تعسّف وتكلّف واضح - هو: إن إحداث المحاريب في المساجد - في رأي أهل السنّة - من جملة البدع المخترعة، فإنّ مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له محراب في زمان الخلفاء الأربعة، بل لم يحدث إلّا في أوائل القرن الثاني هذا مع نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أخبار أهل السنة وأحاديثهم، وأنّه من أشراط الساعة فكيف ينسب « وأبو بكر محرابها » إلى النبي؟ وكيف يوافق أهل السنّة على تشبيه أبي بكر بشيء ينهى النبي عن إحداثه ويذمّه؟

ونحن في هذا المقام نكتفي بإيراد نصّ الرسالة التي صنّفها الحافظ السيوطي في هذه المسألة، وإليك نسختها:

____________________

(١). القاموس المحيط ١ / ٥٣ « حرب ».

١٤٥

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا الامام العالم العلّامة حافظ العصر ومجتهد الوقت وفريد الدهر، إنسان عين الزمان حافظ العصر والأوان، الجلال السيوطي، أعاد الله تعالى علينا وعلى سائر المسلمين من بركاته وتوجّهاته وتهجداته وأوراده في الدنيا والآخرة.

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى: هذا جزء سميته إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب، لأن قوماً خفي عليهم كون المحراب في المسجد بدعة، وظنوا أنه كان في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمنه، ولم يكن في زمانه قط محراب ولا في زمان الخلفاء الأربعة فمن بعدهم إلى آخر المائة الأولى، وإنما حدث في أول المائة الثانية، مع ورود الحديث بالنهي عن اتّخاذه، وأنه من شأن الكنائس، وأن اتّخاذه في المسجد من أشراط الساعة:

قال البيهقي في السنن الكبرى باب في كيفية بناء المساجد: أخبرنا أبو نصر ابن قتادة، أنا أبو الحسن محمد بن الحسن البراج، نبأ مطين نبأ سهل بن زنجلة الرازي نبأ أبو زهير عبد الرحمن بن مغرا، عن ابن أبجر عن نعيم بن أبي هند عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إتّقوا هذه المذابح يعني المحاريب.

هذا حديث ثابت. فإنّ سالم بن أبي الجعد من رجال الصحيحين بل الأئمة الستة، ونعيم بن أبي هند من رجال مسلم، وابن أبجر اسمه عبد الملك بن سعيد من رجال مسلم أيضاً، وأبو زهير عبد الرحمن بن مغرا من رجال الأربعة قال الذهبي في الكاشف: وثّقه أبو زرعة الرازي وغيره وليّنه ابن عدي. وقال في الميزان: ما به بأس. وقال في المغني: صدوق. فالحديث على رأي أبي زرعة ومتابعيه صحيح، وعلى رأي ابن عدي حسن. والحسن إذا ورد من طريق ثانٍ ارتقى إلى درجة الصحيح، وهذا له طرق أخرى تأتي، فيصير المتن صحيحا من قسم الصحيح لغيره، وهو أحد قسمي الصحيح. ولهذا احتج به البيهقي في الباب مشيراً إلى كراهة اتّخاذ المحاريب. والبيهقي مع كونه من كبار الحفاظ فهو

١٤٦

أيضاً من كبار أئمة الشافعية الجامعين للفقه والأصول والحديث، كما ذكره النووي في شرح المهذب، فهو أهل أن يستنبط ويخرج ويحتج. وأمّا سهل بن زنجلة ومطين فإمامان حافظان ثقتان وفوق الثقة.

وقال البزار في مسنده نبأ محمد بن مرداس نبأ محبوب بن الحسن نبأ أبو حمزة عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود: إنه كره الصلاة في المحراب وقال: إنما الكنائس فلا تشبّهوا بأهل الكتاب يعني: إنه كره الصلاة في الطاق. قال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال موثوقون.

وقال ابن أبي شيبة في المصنّف: وكيع نبأ إسرائيل عن موسى الجهني قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال هذه الُأمّة أو قال أمتي بخير ما لم يتّخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى هذا مرسل صحيح الإِسناد، فإنّ وكيعاً أحد الأئمة الأعلام من رجال الأئمة الستة، وكذا شيخه، وموسى من رجال مسلم، قال في الكاشف: حجة. والموصل عند الأئمة الثلاثة صحيح مطلقاً، وعند الامام الشافعيرضي‌الله‌عنه صحيح إذا اعتضد بواحد من عدة أمور منها مرسل آخر أو مسند ضعيف أو قول صحابي أو فتوى أكثر أهل العلم بمقتضاه أو مسند صحيح. وأوردوا على هذا الأخير أنه إذا وجد المسند الصحيح استغنى عن المرسل، فإن الحجة تقوم به وحده. وأجيب: بأن وجود المسند الصحيح يصيّر المرسل حديثاً صحيحاً ويصير في المسألة حديثان صحيحان.

قال العراقي في ألفيّته مشيراً إلى ذلك:

فإن يقل فالمسند المعتمد

فقل دليلان به يعتضد

وهذا المرسل قد عضده المسند المبتدأ بذكره، وقد تقدم أنه صحيح على رأي من وثّق راويه، وحسن على رأي من ليّنه. ولهذا اقتصر البيهقي على الإِحتجاج به، وعضده قول ابن مسعود السابق، وعضده أحاديث أخر مرفوعة وموقوفة وفتوى جماعة من الصحابة والتابعين بمقتضاه.

وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر قال: إن من أشراط الساعة أن تتّخذ

١٤٧

المذابح في المسجد هذا له حكم الرفع، فإن الإِخبار عن أشراط الساعة والأمور الآتية لا مجال للرأي فيه، وإنما يدرك بالتوقيف من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخرج ابن أبي شيبة عن عبيد بن أبي الجعد قال: كان أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتّخذ المذابح في المساجد. يعني الطاقات.

هذه بمنزلة عدّة أحاديث مرفوعة، فإن كلّ واحد من الصحابة المذكورين سمع ذلك من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبر به.

وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه : إنه كره الصلاة في الطاق.

وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه قال: إتقوا هذه المحاريب.

وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي: إنه كان يكره الصلاة في الطاق.

وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن أبي الجعد قال: لا تتّخذوا المذابح في المساجد.

وأخرج ابن أبي شيبة عن كعب: إنه كره المذابح في المسجد.

وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن كعب قال: يكون في آخر الزمان قوم يزيّنون مساجدهم ويتّخذون بها مذابح كمذابح النصارى، فإذا فعلوا ذلك صبّ عليهم البلاء.

وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك بن مزاحم قال: أوّل شركٍ كان في هذه الصلاة هذه المحاريب.

وقال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم: إنه كان يكره أن يصلّى في طاق الامام. وقال الثوري: ونحن نكره.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن: إنه صلّى واعتزل الطاق أن يصلي فيه.

١٤٨

فائدة: روى الطبراني في الأوسط عن جابر بن أسامة قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أصحابه بالسوق فقلت: أين يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: يريد أنْ يخطّ لقومك مسجداً فأتيت وقد خطّ لهم مسجداً وعن غربي قبلته خشبة فأقامها قبلة.

تم ذلك. والحمد لله وله الفضل والمنة على ذلك. من يهدي الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. علق بيده الفانية لنفسه زكريا بن محمد المحلي الشافعي، لطف الله تعالى به ورحم أبويه. وكان الفراغ من تعليق ذلك في سادس عشر رمضان سنة إحدى عشرة وتسعمائة ».

أول من أحدث المحراب عمر بن عبد العزيز

هذا، وقد ذكروا أنّ أول من أحدث المحراب هو عمر بن عبد العزيز، فقد قال السمهودي: « وليحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه: مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا محراب. فأوّل من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز »(١) .

وقال القاري: « وعن أنس قال: رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نخامة بالضم في القبلة. أيّ جدار المسجد الذي يلي القبلة، وليس المراد بها المحراب الذي يسمّيه الناس قبلة، لأن المحاريب من المحدثات بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثمّ كره جمع من السلف اتخاذها والصلاة فيها، قال القضاعي: وأوّل من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذٍ عامل للوليد بن عبد الملك على المدينة، لـمّا أسس مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدمه وزاد فيه »(٢) .

____________________

(١). خلاصة الوفا: ١٢٩.

(٢). المرقاة في شرح المشكاة ١ / ٤٧٣.

١٤٩

واقع حال أبي بكر لا يناسب تلك النسبة

الخامس: وعلى فرض تسليم نسبة « المحراب » إلى « المدينة » بأحد معانيه فلا يتم جملة « وأبوبكر محرابها » في حديث مدينة العلم، إذ يلزم على تقدير الانتساب أن يكون للمحراب حظ وافر من علوم المدينة، بل يزعم ابن حجر كون « المحراب » أعلم من « الباب »، ولكنّ النظر في حال أبي بكر ومراجعة أخباره وسيرته تكذّب هذه النّسبة، فقد كان أبو بكر جاهلا حتى بالنسبة إلى أبسط الأمور وأوضح المفاهيم، وما أكثر ما أعلن بنفسه عن جهله بالأحكام الشرعيّة وعلم القرآن، وما أكثر موارد عجزه عن حلّ المشكلات والمعضلات الواردة عليه كما ستقف على تفاصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى فلا أظن أن يصرّ أحد من المسلمين - مع هذه الحال - على صحّة هذه الزيادة الموضوعة، بل إنّ ذلك يمسّ بكرامة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشين بمقامه كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

الفروق بين « الباب » و« المحراب »

السادس: - سلَّمنا لكنَّ هذه الزيادة لا تفيد أعلميّة أبي بكر من أمير المؤمنين بوجهٍ من الوجوه فأيّ دليل وبرهان على رجحان « المحراب » على « الباب »؟ ومن ادّعى فعليه البيان.

بل الأمر على العكس من ذلك، فإنّ للباب مزايا خاصة هي غير حاصلة للمحراب، وذلك:

أوّلاً: إنه لا بدّ للمدينة من باب، بخلاف المحراب فلا يلزم وجوده فيها، من هنا قال المناوي بشرح حديث « أنا مدينة العلم »: « فإن المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها، ولا بدّ للمدينة من باب، فأخبر أن بابها هو علي كرّم الله وجهه ».

١٥٠

وثانياً: إنّه لابدّ لمن يطلب الوصول إلى المدينة من إتيان الباب على كلّ حالٍ، ولا يتيسّر لأحدٍ الوصول إليها إلّا من قبل بابها، بخلاف المحراب فإنه ليس كذلك، إذ من الممكن أنْ يصل إلى المدينة ولا يمرّ على محرابها أصلاً.

وثالثاً: إنّ من عدل عن باب المدينة لا يصل إليها ويبقى في خارجها، بخلاف المحراب إذ من الممكن أنْ يدخل إلى المدينة ويعدل عن محرابها ومن هنا ترى المناوي يقول: « فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأ أخطأ طريق الهدى ».

ورابعاً: إن الباب هو الواسطة لخروج ما في المدينة من العلوم إلى خارجها، وليس للمحراب هذه الصفة ومن هنا قال صاحب ( المعارف في شرح الصحائف ): « قولهعليه‌السلام : أنا مدينة العلم وعلي بابها معناه: إنه يصل علومي إليه ومنه إلى الخلق، كما أنّ الباب يصل إليه من يخرج من البلد ». وقال محمد بن إسماعيل الأمر اليماني في ( الروضة الندية ): « فلمّا كان الباب للمدينة من شأنه أنْ تجلب منه إليها منافعها، وتستخرج منه إلى غيرها مصالحها، كان فيه إيهام أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستمدّ من غيره بواسطة الباب الذي هوعليه‌السلام ، دفعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الإِيهام بقوله: فمن أراد العلم فليأت الباب، إخباراً بأنّ هذا باب يستخرج منه العلوم ويستمد بواسطته، ليس له من شأن الباب إلّا هذا، لا كسائر الأبواب في المدن فإنّها للجلب إليها والإِخراج عنها. فلله قدر شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه، ويحتمل وجوهاً من التخريج أخر، إلّا أنَّ هذا أنفسها».

ثم قال: « وإذا عرفت هذا عرفت أنه قد خصّ الله الوصيعليه‌السلام بهذه الفضيلة العجيبة، ونوّه شأنه، إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم، وأنّ منه يستمد ذلك من أراده، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية، ثم لأجمع خلق الله علماً وهو سيد رسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهذا هو الشرف يتضاءل عنه كل شرف، ويطأطئ رأسه تعظيماً له كل من سلف وخلف ».

١٥١

وخامساً: إنّ الباب يحفظ جميع ما في المدينة، بخلاف المحراب فلا علاقة له بهذه الجهة أصلاً وبهذا المعنى صرّح بعض أعلام السنّة، قال ابن طلحة في ( مطالب السئول ): « وفي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إشارة إلى كون عليعليه‌السلام نازلاً من العلم والحكمة منزلة الباب من المدينة، والباب من الدار، لكون الباب حافظاً لما هو داخل المدينة وداخل الدار من تطرّق الضياع، واعتداء يد الذهاب عليه، وكان معنى الحديث: إن علياًعليه‌السلام حافظ العلم والحكمة، فلا يتطرّق إليهما ضياع، ولا يخشى عليها ذهاب، فوصف علياً بأنه حافظ العلم والحكمة، ويكفي علياًعليه‌السلام علّواً في مقام العلم والفضيلة أنْ جعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حافظاً للعلم والحكمة ».

وسادساً: إنه لا بدّ للباب من الاطّلاع على جميع ما يدخل في المدينة، بخلاف المحراب إذ لا يلزم أنْ يكون كذلك، كما لا يخفى على من له حظّ من البصر والبصيرة وبهذا المعنى صرّح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه في حديث الدرنوك، الذي رواه الفقيه ابن المغازلي بقوله: « قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبريل بدرنوك من درانيك الجنة. أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد ابن موسى الكندرجاني، نا أبو الفتح هلال بن محمد الحفار، نا إسماعيل بن علي ابن رزين، نا أخي دعبل بن علي، نا شعبة بن الحجاج عن أبي التياح عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبرئيلعليه‌السلام بدرنوك من الجنة، فجلست عليه، فلما صرت بين يدي ربي كلّمني وناجاني، فما علَّمني شيئاً إلّا علمه علي، فهو باب مدينة علمي. ثم دعاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه فقال له: يا علي سلمك سلمي وحربك حربي وأنت العلم بيني وبين أمتي من بعدي »(١) .

وسابعاً: إن الباب محيط ومطلِّع بالضرورة على جميع ما يخرج من المدينة،

____________________

(١). المناقب لابن المغازلي: ٥٥.

١٥٢

وليس المحراب كذلك

وثامناً: إن الباب هو الواسطة للوصول إلى المدينة لمن هو في خارجها، بخلاف المحراب حيث لا وساطة له من هذه الناحية بنحوٍ من الأنحاء

فتحصّل: أنا لو سلّمنا أنْ يكون للمدينة محراب، وأن أبا بكر محراب مدينة العلم، فإنّ كلّ واحد من هذه الفروق التي ذكرناها بين « الباب » و« المحراب » يكفي في الرد على الاستدلال بهذه الزيادة المزعومة على أعلميّة أبي بكر. بل الأمر بالعكس، فإنّ كل واحد منها دليل مستقل على أعلميّة أمير المؤمنينعليه‌السلام من جميع الصحابة، بل من جميع الأنبياء والمرسلين، ما عدا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والسابع: من الوجوه المبطلة لهذه الزيادة ودلالتها على زعم ابن حجر هو: أنّه لو كان لأبي بكر حظ من العلم لما رجع إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام في شيء من الحوادث الواقعة، بداهة أنّ الأعلم لا يرجع إلى غيره، لكن القضايا التي رجع فيها إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام كثيرة جدّاً، وقد حوى كتاب ( تشييد المطاعن ) طرفاً منها، كما سيأتي في كتابنا نبذة من تلك القضايا، فانتظر.

٦ - قوله: « فمن أراد العلم » لا يقتضي الأعلمية

وأمّا قول ابن حجر: « ورواية: فمن أراد العلم فليأت الباب، لا تقتضي الأعلمية، فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإِيضاح والبيان والتفرّغ للناس، بخلاف الأعلم » فمن غرائب المكابرات، ونحن نوضّح ذلك في وجوه:

قوله: « أنا مدينة العلم وعلي بابها » بوحده يقتضي الأعلمية

أحدها: إن مجرّد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » يقتضي الأعلميّة ويدلّ عليها بوجوه عديدة سديدة كما تقدم سابقاً، وقد

١٥٣

اعترف بذلك كثيرون من كبار علماء أهل السنّة كما دريت هناك، بل قد عرفت أن ابن حجر نفسه من المعترفين بذلك في ( المنح المكية ) وفي ( تطهير الجنان ). فالمناقشة بعد هذا في دلالة جملة: « فمن أراد العلم » على الأعلمية لا مورد لها.

هل يجوز الارجاع إلى غير الأعلم؟

الثاني: إن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن أراد العلم فليأت الباب » يقتضي أعلمية الامامعليه‌السلام ، وإلّا لزم إرجاعه الناس إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم، وهذا غير صحيح شرعاً وعقلاً ويخالف سيرة العقلاء والعلماء

وأيضا: هو ينافي مقتضى نصح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته، مع أنّه أنصح الخلائق لها

وأيضا: هو ظلم بالنسبة إلى الأعلم.

وأيضاً: هو ترجيح للمرجوح، وذلك لا يكون من أدنى المتشرّعين فضلاً عن شارع دين الإسلام عليه وآله الصلاة والسّلام.

وأيضاً: في قوله: « فمن أراد العلم فليأت الباب » دلالة ظاهرة على حصر المرجعيّة بالباب، وذلك يقتضي الأعلميّة، وإلّا فإنّ الإِرجاع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم قبيح كما تقدّم، فكيف بحصر المرجعيّة فيه؟.

ابطال توجيه ابن حجر

الثالث: قول ابن حجر في توجيه الإِرجاع إلى غير الأعلم: « فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإِيضاح والبيان والتفرغ للناس » فيه: أنّ باب مدينة العلم، والحائز لجميع علوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو حق الباب، والمقدَّم على غيره من حيث الإِيضاح والبيان هو الأعلم من غيره بالضرورة لا غيره، ودعوى انفكاك « الأعلمية » عن هكذا شخص مكابرة واضحة

١٥٤

فظهر أنّ ما ذكره ابن حجر في توجيه دعواه هو في الحقيقة دليل على بطلان مدّعاه، وهذا من جلائل آثار علوّ الحق والصواب.

على أنّه لا يخفى ما في كلامه من دعوى وجود الإِيضاح والبيان عند أبي بكر، لكن للإِمامعليه‌السلام زيادة عليه!!

وأمّا « التفرغ للناس » فما الدليل على أنّ تفرّغ الامامعليه‌السلام للناس على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أكثر من تفرّغ أبي بكر؟ ومن ادّعى فعليه البيان بل إذا نظرت في تاريخ الرجلين وسيرتهما رأيت الامامعليه‌السلام خائضاً في الحروب والمغازي والبعوث والسّرايا بخلاف أبي بكر فقد كان في معزلٍ عن تحمّل هذه المكاره لخوره وجبنه، فأيهما كان المتفرّغ؟!

إذن، ليس الإِرجاع في العلوم بسبب التفرّغ للناس، بل الملاك هو الأعلميّة كما هو مقتضى السيرة العقلائيّة هذا بالنسبة إلى زمن الحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمّا بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان أبو بكر خليفةً والامامعليه‌السلام جليس بيته، أليس من أهمّ وأجلّ وظائف الخليفة وأعماله تعليم الُأمة ونشر العلوم الدينيّة بين الناس؟ فهل يعقل أنْ يسند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الخلافة عنه إلى شخصٍ ثمّ يرجع الناس في أهمّ واجباته ووظائفه - مع كونه أعلم الناس - إلى غيره؟!

بل الحق أنّ إرجاع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الُأمة إلى الامامعليه‌السلام في أخذ العلم منه دليل واضح على إمامته، وبرهان لائح على خلافته، وإنّ ما كان منهعليه‌السلام من نشر علم الدين على عهد النبي وبعده على عهد حكومة الخلفاء من أقوى الأدلة على ذلك، وإن تغلّب القوم على الخلافة فالخليفة الحقيقي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفظ دينه ونشر علومه، وحلّ المشكلات والمعضلات

١٥٥

٧ - حديث: أبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها

ثم إن ابن حجر عارض حديث: « أنا مدينة العلم وعلي بابها » بحديث مختلق موضوع فقال: « على أن تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. فهذه صريحة في أن أبا بكر أعلمهم » لكنّها معارضة باطلة سنداً ودلالةً، أما سنداً فمن وجوه:

هو من وضع إسماعيل الاسترآبادي

أحدها: إنّ هذا الحديث من وضع « إسماعيل الأسترآبادي » كما سبق بيانه في ردّ كلام الأعور بالتفصيل، وقد كان الأحرى بابن حجر أن لا يفضح نفسه بالتفوّه بهذا الإِفك المبين.

السخاوي وهذا الحديث

والثاني: لقد ضعّف الحافظ السخاوي هذا الحديث وأمثاله من الموضوعات المختلقة المختلفة في مدح الثلاثة أو الأربعة، فقد قال: « وأورده صاحب الفردوس، وتبعه ابنه المذكور بلا إسناد، عن ابن مسعود رفعه: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها وعن أنس مرفوعاً: أنا مدينة العلم ومعاوية حلقتها. وبالجملة فكلّها ضعيفة، وألفاظ أكثرها ركيكة»(١) .

ولا يخفى أنّ ذكر ابنه هذا الحديث بلا اسنادٍ - مع أنّ موضوع كتابه ( مسند الفردوس ) ذكر أسانيد كتاب والده الفردوس - من أقوى الشواهد على كون الحديث موضوعاً، فلو وجد الابن سنداً لهذا الحديث ولو ضعيفاً لأورده مثل كثير من الأسانيد الضعيفة الواردة في مسند الفردوس وأنى للديلمي ذلك وأين!!

____________________

(١). المقاصد الحسنة: ٤٧.

١٥٦

وقد عرفت سابقاً عن ابن عساكر في تاريخه أن هذا الحديث وضعه إسماعيل الأسترآبادي، ولما سئل عن سنده عجز حتى عن اختلاق سندٍ له

وكيف كان، فما ذكرناه عن السخاوي في شأن هذا الحديث كافٍ لإِبطال احتجاج ابن حجر به في هذا المقام ومن الغريب أنّ الشيخ عبد الحق الدهلوي نقل في ( اللّمعات في شرح المشكاة ) عبارة السخاوي هذه مبتورةً منقوصةً فلاحظ.

ابن حجر نفسه وهذا الحديث

والثالث: ان ابن حجر نفسه يضعّف هذا الحديث، فقد جاء في كتاب ( الفتاوي الحديثية ): « وسئلرضي‌الله‌عنه : ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. هل الحديث صحيح أم لا؟ فأجاب: الحديث رواه صاحب مسند الفردوس، وتبعه ابنه بلا إسناد عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه مرفوعاً، وهو حديث ضعيف كحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها، فهو ضعيف أيضاً ».

ألا يظنّ ابن حجر أنّه مؤاخذ بهذا التناقض والتهافت؟

البدخشاني وهذا الحديث

والرابع: إنه قد أنصف العلامة البدخشاني، حيث صرّح بكونه موضوعاً، ونصّ على الغرض الواقعي من وضعه، فقال: « أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها لا تقولوا في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلّا خيراً. فرب لا إسنادٍ عن ابن مسعود. وهو منكر جدّاً وأظنه موضوعاً، وإنما وضعه من وضعه ليقابل به حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها وسيأتي »(١) .

____________________

(١). تحفة المحبين بمناقب الخلفاء الراشدين - مخطوط.

١٥٧

اللكهنوي وهذا الحديث

والخامس: إنّ ولي الله اللكهنوي نصّ في ( مرآة المؤمنين ) بعد ذكر حديث مدينة العلم على: « إن ما ألحق بهذا الحديث في بعض ألفاظه في حق الأصحاب موضوع ومفترى على ما في الصواعق ».

فالحمد لله المتفضّل بإفاضة الحقائق، حيث ظهر بنص هذا الفاضل أن ما أتى به ابن حجر المائق في ( الصواعق ) هو من الموضوعات والمفتريات التي ألحقها الوضّاعون في هذا الحديث الرائق

هذا كلّه بالنسبة إلى سند هذا الحديث

.... أبو بكر أساسها ...!!

وأما بالنظر إلى متن هذا الحديث ومعناه نقول: بأنّه باطل من وجوه كذلك:

أحدها: جعل من وضع هذا الحديث أبا بكر « أساس المدينة »، وجعله واضع الحديث السابق « محرابها »، وهذا التناكر الشنيع بين الحديثين دليل قطعي على أنّ كليهما موضوع، ولا غرابة في وقوع هذا التنافر بين الموضوعات، فأحد الوضّاعين يضع لفظاً من غير اطّلاع منه على ما وضعه الآخر، لكنّ الغرابة في مناقضة ابن حجر لنفسه في كلامٍ واحد، لأنّ أبا بكر إذا كان « محراب المدينة » فليس هو « أساسها »، وإذا كان « أساسها » فليس « محرابها » لكنّ هذا من آثار خذلان ابن حجر فالله حسيبه وحسيب أمثاله، وهو المؤاخذ إيّاه على سوء فعاله.

والثاني: إن الواقع والحقيقة يكذِّب وينفي أنْ يكون أبو بكر أساس مدينة العلم، وذلك لجهل أبي بكر بالأحكام الشرعية والمعارف الدينيّة، والأمثلة والشواهد على جهله كثيرة جداً، ومشهورة بين الفريقين، وسيأتي ذكر طرفٍ منها.

وأيضاً: رجوعه إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام في المعضلات والمشكلات

١٥٨

مشهور كذلك، بل لقد أدّى جهله وضلاله إلى أنْ يقول على رؤوس الأشهاد: « إنَّ لي شيطاناً يعتريني فإذا استقمت فأعينوني وإذا زغت فقوّموني ».

والثالث: إنّ كون أبي بكر « أساسها » يستلزم معنىً باطلاً لا يلتزم به مسلم، وذلك لأنّ أساس المدينة مقدَّم على نفس المدينة، فيكون أبو بكر مقدّماً على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا كفر صريح، لا يطيق أهل السنة إظهاره وإنْ اعتقدوا به في قلوبهم

هذا بالنسبة إلى فقرة « وأبو بكر أساسها ».

.... وعمر حيطانها ...!!

وأمّا بالنسبة إلى فقرة « وعمر حيطانها » فنقول: هو باطل من وجوه:

أحدها: إنَّ جعل « الحيطان » للمدينة غلط ومن هنا كان اللفظ في الحديث الموضوع الآخر: « سورها »، لكن واضعها جعل ثلاثتهم « سورها » فلفظه: « أنا مدينة العلم وأبو بكر وعمر وعثمان سورها وعلي بابها »! ! وأمثال هذه الاختلافات في أشباه تلك الاختلاقات مما يهتك أستارها، ويكشف أسرارها، ويبدي عوارها، ويعلن عارها.

والثاني: كيف يكون « عمر حيطانها » وقد كان كلّ الناس أعلم منه حتى ربّات حجالها؟!

أليس قال عمر نفسه: « كلّ أحدٍ أفقه من عمر »؟ وقال: « كلّ الناس أفقه من عمر »؟ وقال: « كلّ الناس أفقه من عمر حتى المخدّرات في الحجال »؟ وقال: « كلّ الناس أفقه من عمر حتى النساء »؟ وقال: « كلّ الناس أعلم من عمر حتى العجائز »؟

بل إنّ جعل هكذا شخص من مدينة العلم « حيطانها » يوجب انخرام المدينة، وذلك ممّا يهدم أساس الدين، ولا يلتزم به أحد من المميّزين فضلاً عن الراشدين.

١٥٩

والثالث: انه ما أكثر القضايا التي رجع فيها عمر إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل إلى جماعة من تلامذته، مثل ابن عباس، وابن مسعود. بل لقد اتّفق رجوعه إلى بعض الأصحاب القاصرين مثل: معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف؟

فكيف يجوز جعل هكذا شخصٍ سوراً لمدينة العلم؟ إنْ هذا إلّا جرأة عظيمة من الوضّاعين الكذّابين، الذين لا يتورّعون عن الخدشة في مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبيل مدح أئمتهم

هذا بالنسبة إلى: « وعمر حيطانها ».

.... وعثمان سقفها ...!!

وأمّا بالنسبة إلى فقرة: « وعثمان سقفها » فنقول هو باطل من وجوه أيضاً:

أحدها: إنّ المدينة لا يكون لها سقف كما هو واضح، فهل يعقل صدور هذا الكلام من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟، فذكر الديلمي الحديث في ( الفردوس ) واحتجاج ابن حجرٍ به في ( الصواعق ) في غاية الغرابة.

والثاني: إنّه مع الغضّ عن ذلك، فليس عثمان قابلاً لأن يكون جزءً من أجزاء مدينة العلم، لفرط جهله بالمعارف الدينية والأحكام الشرعيّة، وستطّلع على جانبٍ من ذلك فيما بعد إن شاء الله بالتّفصيل فلا مناسبة بين عثمان وبين مدينة العلم على أي نهج كان، فضلاً عن التعبير عنه بكونه سقفاً لها، فإنّه من التعبيرات الباطلة السخيفة.

والثالث: ما اشتهر عن عثمان من الاعتراف بالجهل. وأيضاً: رجوعه إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في القضايا والحوادث الواقعة كما ستقف على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، مبطل لهذا الحديث.

ولنا على بطلان هذا الحديث الموضوع وجوه أخرى كثيرة ذكرناها في جواب كلمات ( الدهلوي ) والعاصمي والطيّبيّ وابن تيميّة والأعور وكلّ ذلك يكون

١٦٠