تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

تذكرة الفقهاء20%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-224-5
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119786 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٢٢٤-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

حول الكعبة، فقال: (هكذا كانوا يطوفون في الجاهليّة، إنما أُمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم ومودّتهم ويعرضوا علينا نصرتهم)، ثم قرأ هذه الآية ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم ) (1) .

وهذا برهان تاريخي وأدياني يؤكّد ضرورة الواسطة في صحّة العبادة وقبولها.

والواسطة هي الطاعة لوليّ اللَّه تعالى، بكلّ ما للطاعة من معنى وتداعيات ومعطيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة وعلى جميع مستوياتها، فكما أن بدء التوحيد متوقّف على الشهادتين كذلك بقاؤه في كلّ الأبواب الاعتقادية والعبادية متوقّف على بقاء الشهادتين إلى آخر المطاف.

____________________

(1) السيد هاشم البحراني، تفسير البرهان، ج4، ص337.

٤١

٤٢

الأدلّة التحليلية

نرمي في استعراض هذه الأدلّة تحليل بعض المفاهيم الدينية والاعتقادية، ويكون ذلك بدوره دالّاً على مشروعية التوسّل وضرورته.

1 - مفهوم العبادة:

(مفهوم العبادة ينفي الوسائط المقترحة)

يمكننا عن طريق تحديد المفهوم الاصطلاحي للعبادة وبيان العبادة الخالصة للَّه تعالى والعبادة غير الخالصة استكشاف مشروعية نظرية الوسائط، وأن المستنكَر منها هي الوسائط المقترحة فحسب؛ وذلك بالبيان التالي:

ذُكر للعبادة في اللغة معانٍ متعدّدة، أهمّها: أنها بمعنى الطاعة والخضوع.

والقرآن الكريم أيضاً استعمل مفهوم العبادة في عدّة معان، منها ما يلي:

1 - مملوكية المنفعة.

كقوله تعالى: ( عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْ‏ءٍ ) (1) .

____________________

(1) النحل: 75.

٤٣

وقوله تعالى: ( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ) (1) .

2 - سيادة الطاعة؛ وإن لم تكن أصالة للمطاع.

كقوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (2) .

3 - الطاعة والخضوع والانقياد للمعبود على وجه التعظيم والتقديس، وأنه الغني بالذات ومصدر جميع الخيرات والنعم والكمالات مبدءاً وأصالة.

كقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ ) (3) .

وقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (4) .

وكقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي ) (5) .

وقوله تعالى: ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (6) .

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المباركة، الدالّة على إرادة الانقياد إلى المعبود على وجه التعظيم، وأنه الغني بالذات من مفهوم ومعنى العبادة.

____________________

(1)البقرة: 221

(2). يس: 60.

(3) الرعد: 36.

(4)الذاريات: 56.

(5) طه: 14.

(6)هود: 123.

٤٤

وهذا هو المعنى الاصطلاحي لمفهوم العبادة.

وإذا كان هذا هو المعنى الاصطلاحي للعبادة، فكيف كان توجّه المشركين إلى الوسائط شركاً مع أنهم لا يتوجّهون إليها بما هي مصدر الخيرات أصالة، بل بما هي شفيعة ووسيطة؟ وكيف تتحقّق العبادة لغير اللَّه تعالى؟ وكيف تتحقّق العبادة للَّه عزّ وجل؟

والجواب هو ما تقدم؛ من أن الإنكار ليس إنكاراً للوسيلة بما هي وسيلة، بل بما هي مقترحة ومخترعة من قبل العبيد. وأمَّا إذا كانت الواسطة بجعل من اللَّه تعالى وإرادته وتحكيماً لسلطانه، فلا محالة يكون التوسّل والخضوع لتلك الوسيلة طاعة للباري تعالى؛ لأنه يكون انقياداً له تعالى على وجه الرغبة والخضوع وأنه مصدر الخيرات مبدءاً وأصالة. فأي فعل يكون منطلقه من أمر اللَّه عزّ وجلّ لا يكون شركاً وإن كان ذلك الفعل بالتوجّه والتوسّل بالوسائط، ومن ثمّ يكون سجود الملائكة لآدم - كما سيأتي - عبادة للَّه لا لآدم؛ لأنه خضوع للَّه تعالى وامتثالاً لأمره بما أنه مصدر الخيرات.

إذن المدار في تحقّق العبادة وعدمه ليس على ارتباط الطقوس العبادية بغير اللَّه وعدم الارتباط بغيره، بل المدار في العبادة الخالصة وقوام التوحيد في العبادة على وجود الأمر الإلهي والإرادة الإلهية، وقوام الشرك في العبادة ليس على تعلّق الفعل العبادي بغير اللَّه، بل الشرك في العبادة يتقوّم بعدم وجود الأمر والإرادة الإلهية، وإنما باقتراح من العبد نفسه.

ومن ثمّ لا يكون التوجّه بالكعبة إلى اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة شركاً، بل هو شعار التوحيد.

٤٥

فنحن في صلاتنا نتوجّه إلى الكعبة الشريفة - مع أنها حجر - ومع ذلك تكون عبادة للَّه تعالى، وفي صلاة الطواف نتوجّه إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وكذا في الطواف نتوجّه إلى الكعبة ونتبرّك بالحجر الأسود ونتمسّح به مع أن ذلك كلّه لم يجعل من الكعبة صنماً ولا من الحجر الأسود وثناً يُعبد من دون اللَّه؛ كلّ ذلك لوجود الأمر الإلهي بالصلاة والطواف حول الكعبة والتمسّح بالحجر الأسود، فيكون الامتثال تحكيماً لسلطان اللَّه تعالى على إرادة العبيد، وذلك بخلاف أصنام الوثنيين، وهذا ممّا اتفق عليه علماء الأصول؛ حيث قرّروا أن العبادة لا تتحقّق إلّا بقصد امتثال الأمر وكون العبد ماثلاً طيّعاً أمام مولاه.

فإن وُجد الأمر تحقّق التوحيد في العبادة ولو مع الواسطة، وإن فقد الأمر كان الإتيان بالفعل شركاً ولو مع نفي الواسطة.

2 - القول بالتجسيم من أسباب جحود التوسّل:

إنّ إنكار التوسّل ورفض الوسائط ناتج إمَّا من القول بالتجسيم أو القول بالنبوءة والتنبُّؤ.

وأمَّا مَن لا يدّعي النبوءة لنفسه وينكر الجسمية في الباري عزّ وجلّ، فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في كلّ العوالم والنشئآت.

وقبل البرهنة على هذا المدعى لابدّ من بيان بعض الأمور:

الأول: ليس المقصود من دعوانا (إن إنكار التوسّل ناتج من التجسيم أو دعوى النبوءة) هو أن يكون القائل بذلك قد قال بأحدهما عنواناً

وقولاً؛ بل قد يكون في

٤٦

واقعه متبنّياً لحقيقة التنبُّؤ أو التجسيم من دون أن يُسمّيه تنبؤاً أو تجسيماً؛ وذلك لأنهما لا يدوران مدار العنوان والشعار، فالحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، سواء واقعها العدمي في الأمور الباطلة أو واقعها الوجودي في الأمور الوجودية، فمَن ينفي الوسائط فهو لا محالة إما يبني على التجسيم أو يدّعي التنبُّؤ كما سيتّضح، وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في بحوث المعاملات؛ من أن الشخص ربّما يقصد ماهية معاملية معيّنة ويسمّيها باسم تلك الماهية المقصودة، ولكنها في واقعها قرض ربويّ أو بالعكس.

الثاني: أن هناك دعاءاً يؤكّد مضمون ما نريد الخوض فيه، وهو من الأدعية المأثورة لتعجيل الفرج، وهو: (اللّهمّ عرّفني نفسك، فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللّهمّ عرّفني رسولك، فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك، فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني) (1) .

ومفاد هذا الدعاء هو أن منظومة المعارف إنما تصحّ وتكون صائبة مع صوابية وحقّانية معرفة الإنسان بربّه، وأن الخلل الناشئ في معرفة الأنبياء والرسل منبعه الخلل في معرفة اللَّه تعالى الصحيحة والتامة، كما أن الخلل في معرفة الحجج والأوصياء والأئمّة منشأه الخلل في معرفة الرسول، وبالتالي يكون ناشئاً من الخلل والنقصان في المعرفة المتعلّقة باللَّه تعالى، كما تشير إلى هذه الحقيقة مجموعة من الآيات القرآنية، منها:

قوله تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ

____________________

(1) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص342.

٤٧

شَيْ‏ءٍ ) (1) ، فإنكار الرسل وعدم الإيمان بهم ناشئ من جهلهم بقدر الباري وقدرته وعظيم حكمته وتدبيره، ومِن خلل المعرفة في أفعال اللَّه عزَّ وجل.

ومن ثَمّ هذا يؤكّد أن الذي ينفي الوسائط والوسائل والرسل والحجج، منشأ نفيه نقصان معرفته باللَّه تعالى؛ إمَّا بالقول بالتجسيم أو القول بالتنبؤ.

والغريب من أصحاب هذه المقالة قولهم بأن التجسيم باطل في النشأة الدنيوية فقط. وأمَّا في الآخرة، فنلاقيه - والعياذ باللَّه - بصورة شابّ أمرد؛ ويستدلّون على ذلك بقوله تعالى: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) (2) ، وبقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (3) ، وبقوله تعالى: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (4) ، فيصوّرون الفوقية على العرش فوقية مكانية، لا فوقية قدرة وهيمنة.

فهم يفترضون أن اللَّه عزّ وجل في الآخرة جسم، وهذا نتاج ضعفهم وقصورهم في المسائل العقلية والاعتقادية؛ إذ لم يلتفتوا إلى أن قولهم هذا يلزم منه كون اللَّه تعالى مادّياً، وكلّ أمر مادّي قابل للانقسام، فله أجزاء متولّدة من جسمه، وهو منافٍ لِمَا نصّت عليه سورة التوحيد التي نفت التولّد والانقسام والتجسيم والمادّية.

ثُم إن الجسم محدود، وهو تعالى خالق الجسم ومهيمن عليه لا يحدّه حدّ.

وأهل البيت عليهم‌السلام يثبتون الرؤية القلبية للَّه عزّ وجلّ، وهو ما أكَّدته الآيات

____________________

(1) الأنعام: 91.

(2) القلم: 42.

(3) القيامة 75: 23 - 22.

(4) طه: 5.

٤٨

القرآنية كقوله تعالى: ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (1) ، وهم عليهم‌السلام ينفون الرؤية البصرية التي يشترط فيها المحاذاة والمقابلة

الجسمانية، واللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الجسم والجسمية في جميع النشآت.

لقاء اللَّه يوم الحساب بآياته وحججه:

وحيث إن حشر الخلائق بأجسامهم، فإن ملاقاة العباد لربّهم تكون بالوسائط والوسائل والآيات، وإلّا للزم أن تكون المقابلة والملاقاة

جسمية؛ أي أن الباري - والعياذ باللَّه - يلاقي أجسام الخلائق بجسمه، وهو باطل بالضرورة.

فإياب الخلائق وحسابهم لابدّ أن يكون عبر الوسائل والوسائط والآيات، وإلّا فإن اللَّه عزّ وجلّ معنا أينما كنّا. وذلك ديدن قرآني في الإسناد، كإسناد الإماتة إلى اللَّه عزّ وجلّ وإلى ملك الموت وإلى الرسل التي يديرها ملك الموت، فإياب الخلق وحسابهم على اللَّه عزّ وجل، ولكن عبر آياته ووسائطه، قال تعالى: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (2) ، وقال تعالى: ( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (3) .

فإذا ثبت أن اللَّه عزّ وجلّ ليس بجسم، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من إدراكاتنا التي تتحقق عبر الارتباط بالأجسام، سواء في الدنيا أو البرزخ أو الآخرة، فلا يمكن الارتباط مباشرة بربّ العزّة والجلال، وحيث إن الارتباط باللَّه عزّ وجلّ في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً؛ لأن

____________________

(1) النجم: 11.

(2) الأنفال: 17.

(3) التوبة: 74.

٤٩

معناه التعطيل في قدرة الباري تعالى، وحيث ثبت بطلان التعطيل، وأنه لا تعطيل لمعرفة ذاته تعالى ولا لصفاته ولا لأفعاله ولا لعبادته ولا للقائه عزّ وجل، فلابدّ من القول إما بالوسائط أو النبوءة.

والمجسّمة قالوا بالتجسيم لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوى النبوءة، فلا محيص لهم عن القول بالتجسيم.

هذا كلّه على المستوى التحليلي لِمَا ادّعيناه أولاً.

وأمَّا الدليل القرآني على ذلك، فهو قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1) .

فقوله تعالى: ( لِبَشَرٍ ) للإشارة إلى الجسم والخصوصيات الجسمانية.

وقوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) بمثابة البرهان والاستدلال على مضمون الآية المباركة.

وقوله تعالى: ( مَا كَانَ ) لنفي الشأنية والإمكان، لا لبيان عدم الوقوع فقط، وإلّا لكان حقّ التعبير أن يقال: إن اللَّه لا يكلّم أحداً إلّا بالطرق الثلاثة المذكورة في الآية.

ومعنى الآية الكريمة أنه لا توجد أي مجابهة جسمانية بين اللَّه عزّ وجلّ وبين البشر، المحكومين بأحكام المادّة والجسمية، فتكليمه عزّ وجلّ للبشر إمَّا وحياً؛ أي عن طريق جانب الروح في البشر، أو من وراء حجاب؛ أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادّية، كما في تكليم اللَّه عزّ وجلّ

____________________

(1) الشورى: 51.

٥٠

لموسى عليه‌السلام ، أو يرسل رسولاً؛ أي إرسال الملائكة أو الأنبياء والحجج، بل وكذا التكلّم مع الملائكة، فإنه يكون عن طريق الوحي كما في قوله تعالى: ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) (1) .

إذن لا وجه للمواجهة الجسمانية مطلقاً؛ سواء في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة.

ثم قال تعالى: ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً، فإن العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو عزّ وجلّ حكيم، أي غير معطّل، فمن حكمته أن يرسل رسلاً ويقيم أئمة ويوسّط وسائط، فلا تجسيم ولا تعطيل.

وهذه الآية ليست دلالتها مقصورة على دار الدنيا فقط، بل هي بلحاظ كلّ النشآت الوجودية والتكونيية، فهو تعالى عليّ متعال على الجسمية ومقابلة الأجسام، وحكيم غير معطّل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل، فهو عزّ وجلّ يُعرِّف برسله وأدلّته وحُججه.

وبعضهم حيث أنكر التجسيم وفرّ من مغبّة التعطيل ورفض الوسائط - بدعوى أنها صنمية منافية لروح التحرّر - وقع في القول بالتنبؤ، ولجأ إلى الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده، وأنه يصيب كلّ صغيرة وكبيرة كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.

وحيث إن التنبؤ والإيحاء إلى الجميع باطل بنصّ القرآن الكريم، وثبت أن التشبيه والتجسيم وكذا التعطيل باطل، فلابدّ من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار وليّ اللَّه وحجته تجسيماً أو تعطيلاً أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنميّة للعقل، وهي النبوءة المرفوضة في الكتاب والسنّة.

____________________

(1) الأنفال: 12.

٥١

إذن الوسيلة والواسطة أمر برهاني وضروري في كلّ النشئآت، ولذا ورد في الروايات أن الذي بُعث في عالم الذرّ بين اللَّه تعالى وبين باقي الأنبياء هو النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا هو ما قلناه من أن الشهادة الأولى كما أنها مطلوبة في جميع النشئآت، كذلك الشهادة الثانية وأن محمّداً رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية في كلّ النشئآت أبديّة وأزلية، فوصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ليس خاصاً بالدنيا فقط، وإنما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول في إنزال القرآن، وآياته غير مختصّة بالدنيا، بل تحكي كلّ النشئآت وعالم الربوبية والصفات وعالم الذات، بما لم يُنبّئ به نبيّ من الأنبياء، وهذا معنى واسطته صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ العوالم والنشئآت.

والحاصل: إن لم يكن في البين تشبيه ولا تعطيل، فلابدّ من النبوءة أو قبول الوسائط والحجج، وحيث إن التنبؤ للكلّ باطل؛ فلابدّ من الإيمان والإقرار بالوسائط بين اللَّه تعالى وبين مخلوقاته في كلّ العوالم، فاللَّه عزّ وجلّ لا يُتوجّه إليه باتجاه جسماني، بل يُتوجّه إليه بالمعاني والآيات والحجج.

ومن ذلك كلّه يعلم عظم مكانة الآية والحجّة الإلهية، وأن إنكارها في الحقيقة بمنزلة إنكار الباري عزّ وجل كما ورد ذلك في قوله تعالى: ( فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) (1) ، فإنكار خلافة خليفة اللَّه في الأرض ليس ينصبّ على الوسيلة بما هي هي، بل يرجع إلى الكفر باللَّه تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) (2) ؛ وذلك لأن

____________________

(1) الأنعام: 33.

(2) الأنعام: 91.

٥٢

الذات المقدّسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط، فإن معناه التعطيل، وهو بمنزلة الإنكار للَّه عزّ وجل؛ لأنه إنكار لقدرة تعالى وتدبيره. فعظمة الوسائط والحجج والآيات بعظمة ذي الآية التي أضيفت إليه، ويكون الاستخفاف بها استخفافاً باللَّه عزّ وجل، فلابدّ من تعظيمها وإجلالها.

ووظيفة الخليفة هي الواسطة والوساطة في تدبير شؤون العباد، وهذا النظر والاعتقاد الحقّ ممَّا امتاز به مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو أن العوالم بجميع نشئآتها لا تخلو عن حجّة وخليفة وواسطة.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها في المقام، هي أن التوسّل والشفاعة والتوسّط والوسيلة تحمل في داخلها عدم المحورية الذاتية للشفيع والوسيط، أي ليس للوسيط والشفيع والوسيلة؛ أي استقلالية عن اللَّه عزّ وجل، وذلك لأن الواسطة معناه أن النظرة إليها آلية وحرفية، ليس لها من ذاتها إلّا الفقر والحاجة إلى سلطان اللَّه وإرادته؛ ولذا نجد أن الوسائط التي اتخذت من دون اللَّه عزّ وجلّ أخفقت في وساطتها ووجاهتها وكانت شركاً باللَّه عزّ وجل، لأنها استقلّت عن سلطانه وإرادته وإذنه.

والغريب في هذا المجال هو أن أصحاب هذه المقالة والجاحدين للتوسل آمنوا بأن الشفاعة والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآخرة ليس شركاً، وكذا التشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حال حياته. وأمَّا التشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله حال موته، فزعموا أنه من الشرك الأكبر.

ويرد عليهم السؤال التالي: إن دائرة الشرك من أين نتجت؟ هل مِن حدّ معنى الشفاعة والواسطة، أو من حدّها التعبّدي، أو من خلال المعنى العقلي؟

٥٣

فإذا كان المعنى عقلياً، فالغيرية إذاً أوجبت الشرك، فإنها توجبه في كلّ نشأة، سواء نشأة الدنيا أو الآخرة، وإذا لم توجب الغيرية الشرك لجهة الوساطة، فما هو الفرق بين أنواع التشفّع في الدنيا والآخرة، أو حال الموت وحال الحياة؟!

لا سيما وأن الشرك الأكبر (1) معنىً عقلي يدركه العقل، ونفيه وإثباته في متناول الأحكام العقلية، وهي لا تقبل التخصيص والاستثناء، لا سيما وأنها من الأحكام التي تقرُب من البداهة.

وبعبارة أخرى: إن الوسيلة والوساطة تعني تقوّم الواسطة والوسيلة باللَّه، وكونها مظهر فعله وظهوره، وهذا عين التوحيد في الأفعال والصفات، فكيف يُجحد تحت قناع أنه الشرك الأكبر، وتسمية ذلك الجحود بأنه توحيد؟! فإن ذلك من التلبيس لأحد العنوانين مكان الآخر، خصوصاً وأنه قد مرّ أن إنكار الوسيلة والتوسّل يؤول إلى إنكار الشهادة الثانية؛ لأنه يؤول إلى إنكار ركنية ودخالة رسالة ومقام خاتم الأنبياء في التوحيد.

____________________

(1) المقصود من الشرك الأكبر أو الشرك الصريح هو الذي يوجب ردّة عن الدين. أمَّا الشرك الأصغر أو الشرك الخفي غير الصريح، فهو الذي لا يوجب ردّة، وهو قلّما ينجو منه أحد إلّا المخلَصين. والشرك الصريح إنما يوجب الردّة؛ لأنه منافٍ لمقررات الدين الإسلامي وثوابته وأولياته والإذعان والإقرار بما هو مناف صراحة لأوليات الدين الإسلامي، وهذا نوع إنشاء فسخ وخروج عن عهود ومواثيق الشهادتين؛ وذلك لأن التشهُّد بالشهادتين لحصول الإسلام أو بالشهادة الثالثة لحصول الإيمان - كما هو عند الإمامية - يلزم منه الالتزام بعدّة عهود ومواثيق، فلو أنشأ الشهادات الثلاث والتزم بما هو منافٍ لها صريحاً، فإنه يخرج عن العهد والميثاق الذي التزم به. وأمَّا عدم إيجاب الشرك الأصغر ردّة في الدين؛ فلأن المتكلم والمدّعي لأمر لا يعي تناقض ذلك الأمر مع الشهادتين، ولا يكون ظاهراً عرفاً في الفسخ للعهود والمواثيق.

٥٤

الفصل الثاني:

الأدلّة القرآنية

٥٥

1 - حقيقة التوسّل في أربع طوائف قرآنية

2 - قصة آدم مع إبليس

3 - الآيات البيّنات في المسجد الحرام

4 - التوجه إلى القبلة طاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

5 - المودة لذرية إبراهيم عليه‌السلام من شرائط الحجّ وغاياته

6 - الولاية من شرائط المغفرة

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ

8 - الأنبياء مصدر البركة

9 - البقعة المباركة

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهية

11 - بناء المساجد على قبور الأولياء

12 - حبط الأعمال وقبولها

13 - آيات القسَم بشخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

14 - الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

15 - آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام

خاتمة في:

أ - الروايات الواردة في مشروعية التوسّل.

ب - آراء أعلام السنّة في التوسّل.

٥٦

الأدلة القرآنية

1 - (حقيقية التوسّل في أربع طوائف قرآنية):

إنّ الآيات القرآنية المباركة الدالّة على أنّ الإنكار على المشركين مُنصبّ على الوسائط المقترحة دون الوسائط الإلهيّة على طوائف متعدّدة:

الطائفة الأولى: وهي ما كانت بلسان استنكار الأسماء المقترحة من قبل العبيد ومن سلطانهم وهوى أنفسهم.

1 - قوله تعالى: ( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) (1) .

وهذا الكلام يسجّله اللَّه عزّ وجلّ في قرآنه الكريم على لسان نبيّه هود عليه‌السلام ، حيث يحاجج عاداً قومه وينكر عليهم الوسائط المقترحة من عند أنفسهم والتي لم ينزل اللَّه عزّ وجلّ بها سلطاناً.

وقد تقرّر في علم أصول الفقه أن النهي أو النفي إذا ورد على طبيعة مقيّدة بقيد، فإنما يقع ذلك النفي أو النهي على القيد، لا على ذات

المقيَّد، كقولك: لا رجل طويل في الدار، فإنّ النفي في هذا المثال متوجّه إلى القيد وهو الطول،

____________________

(1) الأعراف:71.

٥٧

وليس المراد نفي أصل وجود الرجل في الدار، وبالنتيجة يكون المنفي الصنف والقيد، وهو الرجل الطويل، لا ذات الطبيعة المقيّدة، وهو عموم الرجل.

كذلك في المقام، فالآية في قوله تعالى: ( مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) تنفي صنفاً خاصّاً من الوسائط والوسائل، وهي الوسائط التي لم ينزّل بها اللَّه تعالى سلطاناً، والأسماء المقترحة والمجعولة من قبل أنفسهم وآبائهم.

فمصبّ الإنكار والتقريع والتخطئة هو كون تلك الأسماء والوسائط مقترحة من غير إذنٍ وسلطان إلهي. ولم تنفِ الآية المباركة أصل وجود الوسائط والوسائل، وإلّا فلو كان أصل الوساطة والتوسيط أمراً مستنكراً، فلا معنى لذكر القيد، بل يكون ذكره لغواً ومخلّاً بالغرض والمراد، مع أن الآية ركّزت على ذكر القيد، وأكّدت على أنّ الأسماء المستنكرة هي التي ( مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) ، لا مطلق طبيعة الأسماء والوسائط. فليس الإشكال في أصل الاسم والوساطة، بل الإشكال في كونها مقترحة منهم ومسندة إليهم، من دون أن يُسمّها اللَّه عزّ وجلّ أو يجعلها واسطة بينه وبين خلقه.

وفي الآية المباركة إشارة لطيفة؛ حيث لم يطلق فيها الاسم على ذات الباري عزّ وجلّ، بل أطلق على ذات الواسطة بينه تعالى وبين عبيده، أي واسطة في النداء ووسيلة في التوجّه، فالاسم الذي يُدعى به هو الوسيلة أو الواسطة التي يُتوسّل بها إليه.

2 - قوله تعالى: ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

٥٨

سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (1) .

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة بنفس ما تقدّم في الآية السابقة؛ حيث إنها تجعل مركز التخطئة والاستنكار هو التصرّف الاقتراحي من العبيد في سلطان اللَّه تعالى، وليست التخطئة لأصل مقالة الحاجة والضرورة إلى الوسائط.

الطائفة الثانية: وهي ما كانت بلسان حصول الشرك بغير اللَّه عزّ وجلّ بسبب الوسائط التي لم تكن بسلطان اللَّه وحكمه وإرادته.

1 - قوله تعالى: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) (2) .

2 - قوله تعالى: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ) (3) .

3 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (4) .

فسبب الشرك الذي وقعوا فيه هو تحكيم سلطانهم ورغبتهم وهواهم وإرادتهم على إرادة اللَّه تعالى وسلطانه، لا أن أصل الوساطة هو المرفوض في منطق القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة: وهي ما كانت بلسان العبادة من دون اللَّه تعالى، وأن التوسّل

____________________

(1) النجم: 23.

(2) آل عمران: 151.

(3) الأنعام: 81.

(4) الأعراف: 33.

٥٩

بالوسائط والشفعاء بغير سلطان وإذن من اللَّه عزّ وجلّ يوجب عبادة مَنْ هو دونه، وهي الوسائط المقترحة.

1 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) (1) .

2 - قوله تعالى: ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) (2) .

لا يقال: إذا كانت العبادة المرفوضة هي عبادة المعبود الذي لم ينزّل اللَّه به سلطاناً، فهل هذا يعني أن العبادة لغير اللَّه تعالى تكون جائزة فيما إذا نزّل به اللَّه عزّ وجلّ سلطاناً؟!

لأننا نقول: العبادة لغير اللَّه تعالى ممنوعة مطلقاً، والباري تبارك وتعالى لا يأمر بعبادة غيره، ومضمون هذه الطائفة من الآيات عين المضمون الذي تقدّم في الطوائف السابقة من الآيات؛ وهو أن العبادة من دون اللَّه تعالى تتحقّق فيما إذا كانت الوسيلة بإرادة العبيد واقتراحهم. وأما إذا لم تكن كذلك، فلا تكون عبادة من دون اللَّه، بل هي عبادة للَّه عزّ وجل كما جاء ذلك في سجود الملائكة لآدم؛ فهو سجود وطاعة للَّه تعالى وامتثالٌ لأمره، لا أن السجود لآدم بنحو الاستقلال لكي يكون عبادة وخضوعاً له من دون اللَّه عزّ وجل.

فهذه الطائفة من الآيات تبيّن أن العبادة من دون اللَّه تعالى إنما تتحقّق فيما إذا كان التوجّه إلى الوسائط المقترحة من قبل العبيد، من دون أن ينزّل بها اللَّه

____________________

(1) الحج: 71.

(2) يوسف: 40.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وكذا إذا اشترى رجل سلعة بثمن فجاء آخَر قبل لزوم العقد ، فقال للبائع : أنا أشتريها بأكثر من الثمن الذي اشتراها هذا ، فإنّه مكروه عندنا ، وحرام عند الشافعي ؛ لأنّه في معنى نهيهعليه‌السلام . ولأنّ اللفظ مشتمل عليه ؛ لأنّ اسم البائع يقع عليهما ، ولهذا يسمّيان متبايعين. ولأنّهعليه‌السلام نهى عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه(١) ، والمشتري في معنى الخاطب(٢) .

مسالة ٦٦٧ : يكره السوم على سوم المؤمن‌ ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يسوم الرجل على سوم أخيه »(٣) .

فإن وجد من البائع تصريح بالرضا بالبيع ولم يعقد أو أذن فيه لوكيله ، كره السوم.

وقال الشافعي : يحرم ، كما تحرم الخطبة(٤) .

والأصل عندنا مكروه.

وأمّا إن لم يوجد ذلك ولا ما يدلّ عليه بل سكت ولم(٥) يُجِبْ إلى البيع ، لم يحرم السوم ، وبه قال الشافعي(٦) .

وأمّا أن يكون لم يصرّح بالرضا ، بل ظهر منه ما يدلّ على الرضا بالبيع ، فهو عند الشافعي مبنيّ على القولين في الخطبة.

____________________

(١) سنن البيهقي ٧ : ١٨٠ ، سنن النسائي ٧ : ٢٥٨ ، مسند أحمد ٢ : ٢٨٧ / ٦١٠٠.

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٣٠ - ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٨١ ، المغني ٤ : ٣٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٨.

(٣) سنن الترمذي ٣ : ٥٨٧ / ١٢٩٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٤ ، شرح معاني الآثار ٣ : ٣.

(٤) الحاوي الكبير ٥ : ٣٤٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٩٨ ، الوسيط ٣ : ٦٥ - ٦٦ ، حلية العلماء ٤ : ٣٠٨ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٣٨ - ٥٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٨٠.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « فلم ».

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٩٨ ، الوسيط ٣ : ٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٨١.

١٦١

قال في القديم : تحرم الخطبة ؛ لعموم النهي.

وقال في الجديد : لا تحرم ؛ لحديث فاطمة بنت قيس ، وقوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله ] لها : « انكحي اُسامة» وقد خطبها معاوية وأبو جهم(١) ، فالبيع مثل ذلك(٢) .

هذا إذا تساوما بينهما ، فأمّا إذا كانت السلعة في النداء ، فإنّه يجوز أن يستامها واحد بعد واحد ، لأن صاحبها لم يرض بأن يبيعها أو يسومها مع واحد ، بل سامها للكلّ ولم يخصّ واحداً.

وأصله أنّ رجلاً من الأنصار شكا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الشدّةَ والجهد ، فقال له : « ما بقي لك شي‌ء؟ » فقال : بلى قدح وحلس ، قال : « فأتني بهما » فأتاه بهما ، فقال : « مَنْ يبتاعهما؟» فقال رجل : أنا أبتاعهما بدرهم ، وقال(٣) رجل آخر : عليَّ درهمين ، فقال النبيّ : « هُما لك بالدرهمين »(٤) .

ولأنّه قد يبيعهما من واحد ويقصد إرفاقه ويخصّصه(٥) ، فإذا سامها آخَر ، فسد غرضه ، وإذا نادى عليها ، فلم يقصد إلّا طلب الثمن ، فافترقا.

تذنيب : يكره السوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لدلالته على شدّة الحرص في طلب الدنيا ، لأنّه وقت طلب الرزق من الله تعالى.

ولما رواه عليّ بن أسباط رَفَعه ، قال : « نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن السوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس »(٦) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ١١١٤ / ١٤٨٠ ، سنن البيهقي ٧ : ١٧٧ - ١٧٨ ، ١٨١ ، ٤٧١ ، شرح معاني الآثار ٣ : ٥ و ٦.

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٣٠.

(٣) في « س ، ي » : « فقال ».

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٤٠ / ٢١٩٨ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٢٠ / ١٦٤١ ، مسند أحمد ٣ : ٥٥٨ - ٥٥٩ / ١١٧٢٤ بتفاوت.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « أو تخصيصه ».

(٦) الكافي ٥ : ١٥٢ / ١٢.

١٦٢

وتكره الزيادة وقت النداء ، بل إذا سكت المنادي ، زاد ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يقول : إذا نادى المنادي فليس لك أن تزيد ، وإنّما يحرّم الزيادةَ النداءُ ، ويُحلّها السكوت »(١) .

مسالة ٦٦٨ : لا يجوز للرجل أن يأخذ من ولده البالغ شيئاً إلّا بإذنه - إلّا مع خوف التلف - إن كان غنيّاً ، أو كان الولد ينفق عليه ؛ لأصالة عصمة مال الغير.

ولو كان الولد صغيراً أو مجنوناً ، فالولاية للأب ، فله الاقتراض مع العسر واليسر.

ويجوز له أن يشتري من مال ولده الصغير لنفسه بثمن المثل ، ويكون موجباً قابلاً ، وأن يقوّم جاريته عليه ، ويطأها حينئذٍ.

ولو كان الأب معسراً ، جاز أن يتناول من مال ولده الموسر قدر مؤونة نفسه خاصّةً إذا مَنَعه الولد.

روى محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يحتاج إلى مال ابنه ، قال : « يأكل منه ما شاء من غير سرف » وقال : « وفي كتاب عليّعليه‌السلام أنّ الولد لا يأخذ من مال والده شيئاً إلّا بإذنه ، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء ، وله أن يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها ، وذكر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لرجل : أنت ومالك لأبيك »(٢) .

وعن الباقرعليه‌السلام قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل : أنت ومالك لأبيك » ثمّ قال الباقرعليه‌السلام : « لا نحبّ أن يأخذ من مال ابنه إلّا ما احتاج إليه‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣٠٥ - ٣٠٦ / ٨ ، وبتفاوت يسير في التهذيب ٧ : ٢٢٧ - ٢٢٨ / ٩٩٤.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٦١ ، وفي الاستبصار ٣ : ٤٨ / ١٥٧ عن الإمام الباقرعليه‌السلام .

١٦٣

ممّا لا بُدّ منه ، إنّ الله عزّ وجلّ لا يحبّ الفساد »(١) .

وعن عليّ بن جعفر عن أخيه الكاظمعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يأكل من مال ولده ، قال : « لا ، إلّا أن يضطرّ إليه ، فليأكل منه بالمعروف ، ولا يصلح للولد أن يأخذ من مال والده شيئا إلّا بإذن والده »(٢) .

مسالة ٦٦٩ : والولد يحرم عليه مال والده‌ ، فلا يحلّ له أن يأخذ منه شيئاً إلّا بإذنه ، فلو اضطرّ الولد المعسر إلى النفقة ومَنَعه الأب ، كان للولد أن يأخذ قدر مؤونته ؛ لأنّه كالدَّيْن على الأب.

ويحرم على الاُمّ أن تأخذ من مال ولدها شيئاً إلّا إذا مَنَعها النفقة الواجبة عليه.

وكذا يحرم على الولد أخذ مال الاُمّ إلّا إذا وجب نفقته عليها ومَنَعْته.

وليس لها أن تقترض من مال ولدها الصغير كما سوّغنا ذلك للأب ؛ لأنّ الولاية له دونها ؛ لما رواه - في الحسن - محمّد بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الأب إليه ، قال : « يأكل منه ، فأمّا الاُمّ فلا تأكل منه إلّا قرضاً على نفسها »(٣) .

ويجوز للأب أن يقترض من مال ابنه الصغير ويحجّ عنه ؛ للولاية.

ولما رواه سعيد بن يسار قال : قلت للصادقعليه‌السلام : أيحجّ الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال : « نعم » قلت : أيحجّ حجّة الإسلام وينفق منه؟ قال : « نعم بالمعروف » ثمّ قال : « نعم ، يحجّ منه وينفق منه ، إنّ مال الولد‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٣٥ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٦٢ ، الاستبصار ٣ : ٤٨ / ١٥٨.

(٢) الكافي ٥ : ١٣٥ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٤٤ / ٩٦٣ ، الاستبصار ٣ : ٤٨ - ٤٩ / ١٥٩ ، وفيها : « فيأكل» بدل « فليأكل ».

(٣) الكافي ٥ : ١٣٥ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٤٤ / ٩٦٤ ، الاستبصار ٣ : ٤٩ / ١٦٠.

١٦٤

للوالد ، وليس للولد أن ينفق من مال والده إلّا بإذنه »(١) .

وسأل ابنُ سنان - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام : ما ذا يحلّ للوالد من مال ولده؟ قال : « أمّا إذا أنفق عليه ولده بأحسن النفقة فليس له أن يأخذ من ماله شيئاً ، فإن كان لوالده جارية للولد فيها نصيب فليس له أن يطأها إلّا أن يقوّمها قيمة تصير لولده قيمتها عليه » قال : « ويعلن ذلك فإن كان للرجل ولد صغار لهم جارية ، فأحبّ أن يفتضّها فليقوّمها على نفسه قيمة ثمّ يصنع بها ما شاء ، إن شاء وطئ ، وإن شاء باع »(٢) .

وعلى هذا تُحمل الأحاديث المطلقة.

مسالة ٦٧٠ : لا يحلّ لكلٍّ من الزوجين أن يأخذ من مال الآخَر شيئاً‌ ؛ لأصالة عصمة مال الغير ، إلّا بإذنه ، فإن سوّغت له ذلك ، حلّ.

ولو دَفَعتْ إليه مالاً وقالت له : اصنع به ما شئت ، كره له أن يشتري به جاريةً ويطأها ؛ لأنّ ذلك يرجع بالغمّ عليها.

روى هشام عن الصادقعليه‌السلام في الرجل تدفع إليه امرأته المال فتقول : اعمل به واصنع به ما شئت ، أله أن يشتري الجارية ثمّ(٣) يطأها؟ قال : « ليس له ذلك »(٤) ومقصود الإمامعليه‌السلام الكراهة ؛ لأصالة الإباحة.

روى الحسين بن المنذر قال : قلت للصادقعليه‌السلام : دَفَعَتْ إليَّ امرأتي مالاً أعمل به ، فأشتري من مالها الجارية أطأها؟ قال : فقال : « أرادت أن تقرّ‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٤٥ / ٩٦٧ ، الاستبصار ٣ : ٥٠ / ١٦٥.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٥ / ٩٦٨ ، الاستبصار ٣ : ٥٠ / ١٦٣.

(٣) كلمة « ثمّ » لم ترد في المصدر.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٦ - ٣٤٧ / ٩٧٥.

١٦٥

عينك وتسخن عينها »(١) .

وقد وردت رخصة في أنّ المرأة لها أن تتصدّق بالمأدوم إذا لم تجحف به ، إلّا أن يمنعها فيحرم.

قال ابن بكير : سألت الصادقَعليه‌السلام عمّا يحلّ للمرأة أن تتصدّق به من مال زوجها بغير إذنه؟ قال : « المأدوم »(٢) .

وسأل عليّ بن جعفر أخاه ( موسى بن جعفرعليهما‌السلام )(٣) : عن المرأة لها أن تعطي من بيت زوجها بغير إذنه؟ قال : « لا ، إلّا أن يحلّلها »(٤) .

مسالة ٦٧١ : في الاحتكار قولان لعلمائنا :

التحريم ، وهو أصحّ قولي الشافعي(٥) ؛ لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا يحتكر إلّا خاطئ »(٦) أي آثم.

وقالعليه‌السلام : « الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون »(٧) .

وقالعليه‌السلام : « من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد بري‌ء من الله وبري‌ء الله منه »(٨) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٤٧ / ٩٧٦.

(٢) الكافي ٥ : ١٣٧ ( باب الرجل يأخذ من مال امرأته ) الحديث ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٤٦ / ٩٧٣.

(٣) بدل ما بين القوسين في « س ، ي » : « الكاظمعليه‌السلام ».

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٦ / ٩٧٤.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٩٩ ، حلية العلماء ٤ : ٣١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٨.

(٦) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٨ / ١٣٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٢٨ / ٢١٥٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٧١ / ٣٤٤٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٧ / ١٢٦٧ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٤٨.

(٧) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٢٨ / ٢١٥٣ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٤٩.

(٨) المستدرك - للحاكم - ٢ : ١١ - ١٢ ، مسند أحمد ٢ : ١١٦ ، ٤٨٦٥.

١٦٦

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يحتكر الطعام إلّا خاطئ»(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون »(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « الحكرة في الخصب أربعون يوماً ، وفي الشدّة والبلاء ثلاثة أيّام ، فما زاد على الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون ، وما زاد في العسرة على ثلاثة أيّام فصاحبه ملعون »(٣) .

وروي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « من احتكر على المسلمين لم يمت حتى يضربه الله بالجذام والإفلاس »(٤) .

والكراهة ؛ للأصل.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « وإن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنّه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام »(٥) .

مسالة ٦٧٢ : الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح بشرطين : الاستبقاء للزيادة ، وتعذّر غيره ، فلو استبقاها لحاجته أو وُجد غيره ، لم يمنع.

وقيل : أن يستبقيها في الغلاء ثلاثة أيّام ، وفي الرخص أربعين‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٥٩ / ٧٠١ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ / ٤٠٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٥ / ٧ ، الفقيه ٣ : ١٦٩ / ٧٥١ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ / ٧٠٢ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ / ٤٠٤.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٥ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ / ٧٠٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ / ٤٠٥.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٢٩ / ٢١٥٥ ، الترغيب والترهيب ٢ : ٥٨٣ / ٤ بتفاوت.

(٥) الكافي ٥ : ١٦٥ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٠ / ٧٠٨ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ - ١١٦ / ٤١١.

١٦٧

يوماً(١) .

وفسّر الشافعيّةُ الاحتكارَ : أن يشتري ذو الثروة من الطعام ما لا يحتاج إليه في حال ضيقه وغلاة على الناس فحبسه عنهم(٢) .

فأمّا إذا اشترى في حال سعته ، وحَبَسه ليزيد نفعه(٣) ، أو كان له طعام في زرعه فحبسه ، جاز ما لم يكن بالناس ضرورة ، فأمّا إذا كان بهم ضرورة ، وجب عليه بذله لهم لأحيائهم ، وبه قال الشافعي(٤) أيضاً.

ولا بأس أن يشتري في وقت الغلاء لنفقة نفسه وعياله ثمّ يفضل شي‌ء فيبيعه في وقت الغلاء.

ولا بأس أن يشتري في وقت الرخص ليربح في وقت الغلاء.

ولا بأس أن يمسك غلّة ضيعته ليبيع في وقت الغلاء ، ولكنّ الأولى أن يبيع ما فضل عن كفايته.

وهل يكره إمساكه؟ للشافعيّة وجهان(٥) .

وتحريم الاحتكار مختصّ بالأقوات ، ومنها : التمر والزبيب ، ولا يعمّ جميع الأطعمة ، قاله الشافعي(٦) .

وقال الصادق ٧ : « الحكرة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن »(٧) .

____________________

(١) القائل بذلك من أصحابنا الإماميّة هو الشيخ الطوسي في النهاية : ٣٧٤ - ٣٧٥.

(٢و٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٨.

(٣) في « س » و الطبعة الحجريّة : « ليريد منعه » و في « ي » : « ليزيد منعه » والظاهر ما أثبتناه

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٨ - ٧٩.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩.

(٧) الكافي ٥ : ١٦٤ / ١ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ / ٧٠٤ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ / ٤٠٦.

١٦٨

وسأل الحلبي الصادقَعليه‌السلام : عن الزيت ، فقال : « إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه»(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « الحكرة أن يشتري طعاماً ليس في المصر غيره فيحتكره ، فإن كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس أن يلتمس بسلعته الفضل »(٢) .

مسالة ٦٧٣ : يجبر الإمام أو نائبه المحتكر على البيع.

وهل يسعّر عليه؟ قولان لعلمائنا ، المشهور : العدم ؛ لما رواه العامّة أنّ السعر غلا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا رسول الله سعِّر لنا ، فقال : « إنّ الله هو المسعِّر القابض الباسط ، وإنّي لأرجو أن ألقى ربّي وليس أحد(٣) منكم يطلبني بمظلمةٍ بدمٍ ولا مالٍ »(٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فقد الطعام على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأتى المسلمون فقالوا : يا رسول الله فقد الطعام ولم يبق منه شي‌ء إلاّ عند فلان ، فمره يبع ، قال : فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا فلان إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد فُقد إلّا شيئاً عندك ، فأخرجه وبِعْه كيف شئت ولا تحبسه »(٥) ففوّض السعر إليه.

وعن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام قال : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر‌

____________________

(١و٢) الكافي ٥ : ١٦٤ - ١٦٥ / ٣ ، التهذيب ٧ : ١٦٠ / ٧٠٦ ، الاستبصار ٣ : ١١٥ / ٤٠٩.

(٣) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « لأحد ». وما أثبتناه من المصادر.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٤١ / ٢٢٠٠ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٧٢ / ٣٤٥١ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٤٩ ، مسند أحمد ٣ : ٦٢٩ / ١٢١٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٧.

(٥) الكافي ٥ : ١٦٤ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٥٩ / ٧٠٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ / ٤٠٧.

١٦٩

الأبصار إليها ، فقيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو قوّمت عليهم ، فغضبعليه‌السلام حتى عرف الغضب من وجهه ، فقال : أنا اُقوّم عليهم!؟ إنّما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ، ويخفضه إذا شاء »(١) .

إذا ثبت هذا ، فإنّه لا يجوز أن يسعّر حالة الرخص عندنا وعند الشافعي(٢) .

وأمّا حالة الغلاء فكذلك عندنا.

وللشافعي وجهان :

أحدهما : يجوز له أن يسعّر - وبه قال مالك - رفقاً بالضعفاء.

وأصحّهما : أنّه لا يجوز تمكيناً للناس من التصرّف في أموالهم. ولأنّهم قد يمتنعون بسبب ذلك عن البيع ، فيشتدّ الأمر(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : إن كان الطعام يجلب إلى البلدة ، فالتسعير حرام. وإن كان يزرع بها ويكون عند التناه(٤) فيها ، فلا يحرم(٥) .

وحيث جوّزنا التسعير فإنّما هو في الأطعمة خاصّة دون سائر الأقمشة والعقارات.

ويلحق بها علف الدوابّ ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٦) .

وإذا قلنا بالتسعير فسعَّر الإمام فخالف واحدٌ ، عُزّر ، وصحّ البيع.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦١ - ١٦٢ / ٧١٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٤ - ١١٥ / ٤٠٨.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩.

(٤) في « العزيز شرح الوجيز » : « الغلاء » بدل « التناه ». وفي « ي » : « التناء ». والظاهر أنّ كلمة « التناه » مأخوذة من ناه الشي‌ء ينوه : ارتفع وعلا. اُنظر : لسان العرب ١٣ :٥٥٠ « نوه ».

(٥و٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩.

١٧٠

وللشافعي في صحّته قولان(١) .

مسالة ٦٧٤ : تلقّي الركبان منهيّ عنه إجماعاً.

وهل هو حرام أو مكروه؟ الأقرب : الثاني ؛ لأنّ العامّة روت أنّ النبيّعليه‌السلام قال : « لا تتلقّوا الركبان للبيع »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام قال : « قال رسول اللهعليه‌السلام :

لا يتلقّى أحدكم تجارة خارجاً من المصر ، ولا يبيع حاضر لباد ، والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض »(٣) .

وصورته أن ترد طائفة إلى بلد بقماش ليبيعوا فيه ، فيخرج الإنسان يتلقّاهم فيشتريه منهم قبل قدوم البلد ومعرفة سعره. فإن اشترى منهم من غير معرفة منهم بسعر البلد ، صحّ البيع ؛ لأنّ النهي لا يعود إلى معنى في البيع ، وإنّما يعود إلى ضرب من الخديعة والإضرار ، لأنّ في الحديث « فإن تلقّاه متلقّ فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا قدم السوق »(٤) فأثبت البيع مع ذلك.

إذا ثبت هذا ، فإنّه لا خيار لهم قبل أن يقدموا البلد ويعرفوا السعر ، وبعده يثبت لهم الخيار مع الغبن ، سواء أخبر كاذباً أو لم يخبر. ولو انتفى الغبن ، فلا خيار.

وقال الشافعي : إذا كان الشراء بسعر البلد أو زائداً ، ففي ثبوت الخيار(٥) وجهان :

أحدهما : يثبت ؛ لظاهر الخبر.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩.

(٢) سنن البيهقي ٥ : ٣٤٨ ، مسند أحمد ٣ : ٢٩٤ / ١٠١٣٨.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٨ ( باب التلقّي ) الحديث ١ ، التهذيب ٧ : ١٥٨ / ٦٩٧.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٧ / ١٧ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٨.

(٥) في « س » : « ثبوته » بدل « ثبوت الخيار ».

١٧١

وأصحّهما : العدم ؛ لأنّه لم يوجد تغرير وخيانة(١) .

ولا فرق بين أن يكون مشترياً منهم أو بائعاً عليهم.

ولو ابتدأ الباعة والتمسوا منه الشراء مع علمٍ منهم بسعر البلد أو غير علم ، فالأقرب : ثبوت الخيار مع الغبن كما قلنا.

وللشافعي(٢) القولان السابقان.

ولو خرج اتّفاقاً لا بقصد التلقّي ، بل خرج لشغلٍ(٣) آخر من اصطياد وغيره فرآهم مقبلين فاشترى منهم شيئاً ، لم يكن قد فَعَل مكروهاً.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يعصي ؛ لشمول المعنى.

والثاني : لا يعصي ؛ لأنّه لم يتلقّ.

والأظهر عندهم : الأوّل(٤) .

فعلى الثاني لا خيار لهم وإن كانوا مغبونين ، عند الشافعي(٥) .

وعندنا يثبت الخيار للمغبون مطلقاً.

وقال بعض الشافعيّة : إن أخبر بالسعر كاذباً ، ثبت(٦) الخيار.

وحيث ثبت الخيار فهو على الفور ، كخيار العيب.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما ، وهو أصحّهما. والثاني : أنّه يمتدّ ثلاثة أيّام ، كخيار التصرية(٧) .

ولو تلقّى الركبان وباع منهم ما يقصدون شراءه في البلد ، فهو‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٨٠.

(٣) في « س » والطبعة الحجريّة : « بشغل ».

(٤و٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٨٠.

(٦) في الطبعة الحجريّة : « يثبت ».

(٧) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٨٠.

١٧٢

كالتلقّي.

وللشافعي وجهان :

أحدهما : لا يثبت فيه حكمه ؛ لأنّ النهي ورد عن الشراء.

والثاني : نعم ؛ لما فيه من الاستبداد بالرفق الحاصل منهم(١) .

وقال مالك : البيع باطل(٢) .

وحدّ التلقّي عندنا أربعة فراسخ ، فإن زاد على ذلك ، لم يكره ولم يكن تلقّياً ، بل كان تجارةً وجلباً ؛ لما رواه منهال عن الصادقعليه‌السلام قال : قال : « لا تلقّ فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن التلقّي » قلت : وما حدّ التلقّي؟ قال : « ما دون غدوة أو روحة » قلت : وكم الغدوة والروحة؟ قال : « أربعة فراسخ » قال ابن أبي عمير : وما فوق ذلك فليس بتلقّ(٣) .

مسالة ٦٧٥ : يكره أن يبيع حاضر لباد فيكون الحاضر وكيلا للبادي.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يبيع حاضر لباد »(٤) .

وصورته أن يجلب أهل البادية متاعا إلى بلد أو قرية فيجي‌ء إليه الحاضر في البلد فيقول : لا تبعه فأنا أبيعه لك بعد أيّام بأكثر من ثمنه الآن.

وليس محرّما ، للأصل.

وقال الشافعي : إنّه محرّم ، للنهي(٥) .

ويحصل له الإثم بشروط أربعة :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٨٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٩.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٩ / ٤ ، التهذيب ٧ : ١٥٨ / ٦٩٩.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ / ١١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٤ / ٢١٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٢٥ / ١٢٢٢ ، سنن النسائي ٧ : ٢٥٦ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٦.

(٥) الحاوي الكبير ٥ : ٣٤٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩.

١٧٣

أ - أن يكون البدوي يريد البيع.

ب - أن يريد بيعه في الحال.

ج - أن يكون بالناس حاجة إلى المتاع وهُمْ في ضيق.

د - أن يكون الحاضر استدعى منه ذلك.

روى ابن عباس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يبيع حاضر لباد » قال طاوُس : وكيف لا يبيع؟ فقال : لا يكون له سمساراً(١) .

والأصل في المنع أنّ فيه إدخال الضرر على أهل الحضر وتضييقاً عليهم ، فلهذا نهي عنه.

فإن لم توجد هذه الشرائط أو شرط منها ، جاز ذلك ؛ لأنّه إذا لم يكن بأهل البلد حاجة ، فلا ضرر في تأخير بيع ذلك.

وكذا إذا لم يرد صاحبه بيعه أو لم يرد بيعه في الحال ، فإنّه يجوز للحضري أن يتولّى له البيع.

ولو وُجدت الشرائط وخالف الحاضر وباع ، صحّ البيع ؛ لأنّ النهي لا لمعنى يعود إلى البيع.

وشرط بعض الشافعيّة أن يكون الحاضر عالماً بورود النهي فيه ، وهذا شرط يعمّ جميع المناهي. وأن يظهر من ذلك المتاع سعة في البلد ، فإن لم تظهر إمّا لكبر البلد وقلّة ذلك الطعام أو لعموم وجوده ورخص السعر ، ففيه عندهم وجهان ، أوفقهما لمطلق الخبر : أنّه يحرم. والثاني : لا ، لأنّ المعنى المحرّم تفويت الرزق ، والربح على الناس ، وهذا المعنى لم يوجد هنا. وأن يكون المتاع المجلوب إليه ممّا تعمّ الحاجة إليه ، كالصوف والأقِط‌

____________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٩٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٥٧ / ١٥٢١ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٦٩ / ٣٤٣٩ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٦.

١٧٤

وسائر أطعمة القرى ، وأمّا ما لا يحتاج إليه إلّا نادراً فلا يدخل تحت النهي(١) .

ولو استشار البدوي بالحضري فيما فيه حظّه ، قال بعض الشافعيّة : إذا كان الرشد في الادّخار والبيع على التدريج ، وجب عليه إرشاده إليه بذْلاً للنصيحة(٢) .

وقال بعضهم : لا يرشده إليه توسّعاً على الناس(٣) .

مسالة ٦٧٦ : روى العامّة أنّه قد نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع العربان(٤) . ويقال : عربون ، وأربان وأربون. والعامّة يقولون : ربون.

وهو أن يشتري السلعة فيدفع درهما أو دينارا على أنّه إن أخذ السلعة ، كان المدفوع من الثمن. وإن لم يدفع الثمن وردّ السلعة ، لم يسترجع ذلك المدفوع - وبه قال الشافعي(٥) - للنهي الذي رواه العامّة.

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق ٧ : « كان أمير المؤمنين ٧ يقول : لا يجوز بيع العربون إلاّ أن يكون نقدا من الثمن »(٦) .

وقال أحمد : لا بأس به ؛ لما روي أنّ نافع بن عبد الحارث اشترى لعمر دار السجن من صفوان، فإن رضي عمر ، وإلّا له كذا وكذا. وضعّف‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ٣٤٧ - ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٩ - ٨٠.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٨ / ٢١٩٢ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٣ / ٣٥٠٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٢.

(٥) حلية العلماء ٤ : ٣١٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٣٤ ، المغني ٤ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٦٦.

(٦) الكافي ٥ : ٢٣٣ ( باب العربون ) الحديث ١ ، التهذيب ٧ : ٢٣٤ / ١٠٢١.

١٧٥

حديث النهي(١) .

قالت الشافعيّة : إنّه ليس بصحيح ؛ لأنّه شرط أن يكون للبائع شي‌ء بغير عوض ، فهو كما لو شرط للأجنبيّ(٢) .

ويفسّر العربون أيضاً بأن يدفع دراهم إلى صانع ليعمل له شيئاً من خاتم يصوغه أو خفّ يخرزه أو ثوب ينسجه على أنّه إن رضيه بالمدفوع في الثمن ، وإلّا لم يستردّه منه. وهُما(٣) متقاربان.

مسالة ٦٧٧ : بيع التلجئة باطل عندنا‌ ، وهو أن يتّفقا على أن يُظهرا العقد خوفاً من ظالم من غير بيع ، ويتواطآ على الاعتراف بالبيع ، أو لغير ذلك - وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمّد(٤) - لأنّ الأصل بقاء الملك على صاحبه ، ولم يوجد ما يخرجه عن أصالته. ولأنّهما لم يقصدا البيع ، فلا يصحّ منهما ، كالهازلَيْن.

وقال أبو حنيفة والشافعي : هو صحيح ؛ لأنّ البيع تمّ بأركانه وشروطه خاليةً عن مقارنة مُفسدٍ ، فصحّ ، كما لو اتّفقا على شرطٍ فاسد ثمّ عقدا البيع بغير شرط(٥) .

ونمنع تماميّة البيع.

ولو تبايعا بعد ذلك بعقدٍ صحيح ، صحّ البيع إن لم يوقعاه قاصدين لما تقدّم من المواطأة ؛ لأصالة الصحّة ، وعدم صلاحية سبق المواطاة للمانعيّة.

وكذا لو اتّفقا على أن يتبايعا بألف ويُظهرا ألفين فتبايعا بألفين ، فإنّ‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٦٦ ، حلية العلماء ٤ : ٣١٣ ، المجموع ٩ : ٣٣٥.

(٢) المغني ٤ : ٣١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٦٦.

(٣) أي : هذا التفسير والتفسير المتقدّم في صدر المسألة.

(٤ و ٥ ) المغني ٤ : ٣٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٧٦ ، المجموع ٩ : ٣٣٤.

١٧٦

البيع لازم ، والاتّفاق السابق لا يؤثّر ، قاله الشافعي ، ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة(١) .

وروى محمّد عن أبي حنيفة أنّه لا يصحّ البيع إلّا على أن يتّفقا على أنّ الثمن ألف درهم ويتبايعاه بمائة دينار ، فيكون الثمن مائة دينار استحساناً - وإليه ذهب أبو يوسف ومحمّد - لأنّه إذا تقدّم الاتّفاق ، صارا كالهازلَيْن بالعقد ، فلم يصحّ العقد(٢) .

قالت الشافعيّة : الشرط السابق لحالة العقد لا يؤثّر فيه ، كما لو اتّفقا على شرطٍ فاسد ثمّ عقدا العقد ، فإنّه لا يثبت فيه(٣) .

مسالة ٦٧٨ : قد ذكرنا أنّ التجارة مستحبّة.

قال الصادقعليه‌السلام : « ترك التجارة ينقص العقل »(٤) .

وقال الصادقعليه‌السلام لمعاذ في حديثٍ : « اسع على عيالك ، وإيّاك أن يكونوا هُم السعاة عليك »(٥) .

إذا ثبت هذا ، فينبغي لمن أراد التجارة أن يبدأ أوّلاً فيتفقّه.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « مَن اتّجر بغير علمٍ ارتطم في الربا ثمّ ارتطم »(٦) .

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول على المنبر : « يا معشر التجّار الفقه ثمّ المتجر ، الفقه ثمّ المتجر، والله للربا في هذه الاُمّة أخفى من دبيب النملة على الصفا ، شوبوا أيمانكم بالصدقة(٧) ، التاجر فاجر ، والفاجر في النار إلّا‌

____________________

(١ - ٣ ) المجموع ٩ : ٣٣٤.

(٤) الكافي ٥ : ١٤٨ / ١ ، التهذيب ٧ : ٢ / ١.

(٥) الكافي ٥ : ١٤٨ - ١٤٩ / ٦ ، التهذيب ٧ : ٢ - ٣ / ٣.

(٦) الكافي ٥ : ١٥٤ / ٢٣ ، الفقيه ٣ : ١٢٠ / ٥١٣ ، التهذيب ٧ : ٥ / ١٤.

(٧) في الكافي « بالصدق ».

١٧٧

مَنْ أخذ الحقّ وأعطى الحقّ »(١) .

« وكان عليّعليه‌السلام بالكوفة يغتدي كلّ يوم بكرةً من القصر يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرّة على عاتقه فيقف على أهل كلّ سوق فينادي : يا معشر التجّار اتّقوا الله عزّ وجلّ ، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما في أيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم وسمعوا بآذانهم ، فيقول : قدّموا الاستخارة ، وتبرّكوا بالسهولة ، واقتربوا من المتبايعين ، وتزيّنوا بالحلم ، وتناهوا عن اليمين ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فيطوف في جميع الأسواق بالكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس »(٢) .

مسالة ٦٧٩ : يكره الحلف على البيع‌ ، وكتمان العيب ، ومدح البائع ، وذمّ المشتري ، والمبادرة إلى السوق أوّلاً ؛ لما فيه من شدّة الحرص في الدنيا.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ باع واشترى فليحفظ خمس خصال ، وإلّا فلا يشتر ولا يبع : الربا ، والحلف ، وكتمان العيب ، والحمد إذا باع ، والذمّ إذا اشترى »(٣) .

وقال الكاظمعليه‌السلام : « ثلاثة لا ينظر الله اليهم ، أحدهم : رجل اتّخذ الله عزّ وجلّ بضاعة لا يشتري إلّا بيمين ولا يبيع إلّا بيمين »(٤) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٠ / ١ ، الفقيه ٣ : ١٢١ / ٥١٩ ، التهذيب ٧ : ٦ / ١٦.

(٢) الكافي ٥ : ١٥١ / ٣ ، بتفاوت يسير في بعض الألفاظ ، التهذيب ٧ : ٦ / ١٧.

(٣) التهذيب ٧ : ٦ / ١٨ ، وفي الكافي ٥ : ١٥٠ - ١٥١ / ٢ ، والفقيه ٣ : ١٢٠ - ١٢١ / ٥١٥ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

(٤) الكافي ٥ : ١٦٢ / ٣ ، التهذيب ٧ : ١٣ / ٥٦.

١٧٨

وقال الصادقعليه‌السلام : « إيّاكم والحلف ، فإنّه يمحق البركة ، وينفق السلعة »(١) .

وتكره معاملة ذوي العاهات.

قال الصادقعليه‌السلام : « لا تعامل ذا عاهة فإنّهم أظلم شي‌ء »(٢) .

وكذا تكره مخالطة السفلة والمحارفين والأكراد ، ولا يعامل إلّا مَنْ نشأ في خير.

قال الصادقعليه‌السلام : « إيّاكم ومخالطة السفلة فإنّ السفلة لا يؤول إلى خير »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « لا تشتر من محارف ، فإنّ حرفته لا بركة فيها »(٤) .

وسأل أبو الربيع الشامي الصادقَعليه‌السلام ، فقلت : إنّ عندنا قوماً من الأكراد وإنّهم لا يزالون يجيئون بالبيع فنخالطهم ونبايعهم ، فقال : « يا أبا الربيع لا تخالطوهم ، فإنّ الأكراد حيّ من أحياء الجنّ كشف الله عنهم الغطاء ، فلا تخالطوهم »(٥) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « لا تخالطوا ولا تعاملوا إلّا مَنْ نشأ في الخير »(٦) .

واستقرض قهرمان لأبي عبد اللهعليه‌السلام من رجل طعاماً للصادقعليه‌السلام ، فألحّ في التقاضي ، فقال له الصادقعليه‌السلام : « ألم أنهك أن تستقرض ممّن‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٣ / ٥٧.

(٢) الكافي ٥ : ١٥٨ / ٣ ، التهذيب ٧ : ١١ / ٤٠.

(٣) الكافي ٥ : ١٥٨ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٠ / ٣٨.

(٤) التهذيب ٧ : ١١ / ٤١.

(٥) الكافي ٥ : ١٥٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١١ / ٤٢.

(٦) الكافي ٥ : ١٥٨ / ٥ ، الفقيه ٣ : ١٠٠ / ٣٨٨ ، التهذيب ٧ : ١٠ / ٣٦.

١٧٩

لم يكن له فكان »(١) .

مسالة ٦٨٠ : يستحبّ إنظار المعسر ، وإقالة النادم‌ ؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارة حتى ضمن له إقالة النادم وإنظار المعسر وأخذ الحقّ وافياً أو غير وافٍ(٢) .

وعن الصادقعليه‌السلام قال : « لا يكون الوفاء حتى يرجّح »(٣) .

وقال : « لا يكون الوفاء حتى يميل الميزان »(٤) .

ولا ينبغي أن يتعرّض للكيل أو الوزن(٥) إلّا من يعرفهما حذراً من أخذ مال الغير.

مسالة ٦٨١ : لا يبيع المبيع في المواضع المظلمة التي لا يظهر فيها المبيع ظهوراً بيّناً ، حذراً من الغشّ.

قال هشام بن الحكم : كنت أبيع السابري في الظلال ، فمرّ بي الكاظمعليه‌السلام فقال : « يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحلّ »(٦) .

ويحرم أن يزيّن المتاع بأن يُظهر جيّده ويكتم رديئه.

قال الباقرعليه‌السلام : « مرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في سوق المدينة بطعام ، فقال لصاحبه : ما أرى طعامك إلّا طيباً ، وسأل عن سعره ، فأوحى الله تعالى [ إليه ](٧) أن يدير يده في الطعام ، ففَعَل فأخرج طعاماً رديئاً ، فقال لصاحبه :

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٨ / ٤ ، التهذيب ٧ : ١٠ / ٣٩.

(٢) الكافي ٥ : ١٥١ / ٤ ، التهذيب ٧ : ٥ / ١٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٠ ( باب الوفاء والبخس ) الحديث ٥ ، التهذيب ٧ : ١١ / ٤٣.

(٤) الكافي ٥ : ١٥٩ / ١ ، التهذيب ٧ : ١١ / ٤٤.

(٥) في « ي » : « للكيل والوزن ». وفي الطبعة الحجريّة : « الكيل والوزن ».

(٦) الكافي ٥ : ١٦٠ - ١٦١ / ٦ ، التهذيب ٧ : ١٣ / ٥٤.

(٧) ما بين المعقوفين من المصدر.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381