تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-224-5
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119882 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٢٢٤-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلّا معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / ٤ و ٥ ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

٨١

سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على الله وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من الله سبحانه كما أمر الله نبيّه أن يجبهم بقوله:

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٦ )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه(١) .

يلاحظ عليه: أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن: ج ٨ ص ٢١٦، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

٨٢

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

٧ ـ إيمان النبي قبل البعثة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى: انّ النبي لـمّا تمّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة »: ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟

قال: نعم.

قالت حليمة السعدية: فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

٨٣

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه: « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني »(١) .

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه(٢) .

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات:

١ ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم، والعطف على المسكين، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت: إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً(٣) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

__________________

(١) المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني، ونقله المجلسي في البحار: ج ١٥، ص ٣٩٢.

(٢) لاحظ « مفاهيم القرآن »: ج ٥ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الوسائل: ج ٨، الباب٤٥ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٨٤

٢ ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول: إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة، إلّا أن يقال: إنّ سنن إبراهيمعليه‌السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها، وإنّما انقضت نبوّته، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيميّة هي الأساس للشرائع اللّاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم، أو المسيح أو النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جزء من أُمّة إبراهيمعليه‌السلام تابعاً له، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

٣ ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح، وأمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم، وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسجم مع هذا الإحتمال، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

٤ ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:

٨٥

«لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (١) .

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح:

( قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / ٣٠ ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى:

( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / ١٢ ).

ولازم ذلك، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك وقال: « اقرأ »(٢) .

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٨٧ طبعة عبده.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، باب بدء الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٤.

٨٦

إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يفاض إلّا لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى، لا يحملها إلّا من وقع تحت رعاية الله وتربيته، ولا تتحقّق تلك الغاية إلّا باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

٨٧

٨٨

(٤)

الوحي في القرآن الكريم

لقد تعرّفت على حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، وقد أقام بعد أن حباه الله بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمـّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره الله سبحانه إلى جواره، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة:

١ ـ حياته قبل البعثة.

٢ ـ حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

٣ ـ حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

٨٩

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات الله تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام، والمستفاد من كلماتهم: أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وإنْ شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين:

قال سبحانه:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ

٩٠

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / ١١ و ١٢ ).

فقوله سبحانه:( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين:

( الأوّل ): أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ): إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين، ولكن كل حسب درجته ومرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) ( الزلزلة / ١ ـ ٥ ).

٢ ـ الإدراك بالغريزة:

قال سبحانه:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / ٦٨ و ٦٩ ).

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثمّ التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأنهار، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من الله سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

٩١

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب:

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / ٧ ).

ومنها قوله:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / ١١١ ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسفعليه‌السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ، قال سبحانه:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / ١٥ ).

إلى غير ذلك من الموارد.

٤ ـ الإشارة:

قال سبحانه:( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / ١١ ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

٥ ـ الإلقاءات الشيطانيّة:

قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / ١١٢ ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

٩٢

٦ ـ كلام الله المنزّل على نبي من أنبيائه:

قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / ٣ ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإنْ أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاثة:

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده:

الطريق الأوّل ـ يستفيد منه جموع الناس غالباً ـ بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي:

١ ـ الطريق الحسّي والتجربي:

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

٢ ـ الطريق التعقّلي النظري:

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل

٩٣

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

٣ ـ طريق الإلهام:

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون ـ في منهج المادّيين وأصحاب النزعة المادّية ـ ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب الله سبحانه، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين الله سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسىعليه‌السلام كلام الله سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

٩٤

الخليلعليه‌السلام ذبح ولده إسماعيل، وقد ينزل عليه ملك من جانب الله تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة: « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) وإلى نزول الملك بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / ١٠٢ ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام الله سبحانه بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

١ ـ الوحي وليد النبوغ:

ويقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

٩٥

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم:( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٥ ).

ويجيبهم القرآن بقوله:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن الله سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات الله ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا، ومن جانب آخر: إنّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

٩٦

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية، وتحت ظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كانت على نقيض هذا الجانب، فقد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أضف إلى ذلك: انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام ١٣٣٥ ه‍ ق في رسالته إلى صاحب المنار:

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ):

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ):

دع من محمّد في صدى قرآنه

ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه

هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من

حكم روادع للهوى وعظات

٩٧

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها

ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه

ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء

بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى

وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى

من سابق أو غائب أو آت

٢ ـ الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة:

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام »، وخلاصتها:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله، والإعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة، يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده(١) .

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ٦٦.

٩٨

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حاكياً عنهم:( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن الله تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّا تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا ربِّ ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

ولو سار المسافر في الحال طالباً للشفعة ، لم تسقط شفعته بترك الإشهاد ، ولا يكون الإشهاد واجباً. وكذا لو بعث وكيله في الحال ولم يُشهد.

وللشافعي قولان(١) .

وكذا لو كان حاضراً في البلد فخرج في الحال إلى المشتري أو إلى الحاكم ولم يُشهد.

مسالة ٧٨٨ : إذا علم بالشفعة ، مضى إلى المشتري‌ ، ولا يحتاج أن يرفع ذلك إلى الحاكم ؛ لأنّ الشفعة ثبتت بالنصّ والإجماع ، فلا تفتقر إلى الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب ، وبه قال الشافعي(٢) .

فإذا لقي المشتري ، بدأه بالسلام ؛ لأنّه سنّة. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه »(٣) فيقول : السلام عليكم ، أو : سلام عليك ، أو : سلام عليكم ، ولا تبطل بذلك شفعته.

قال الجويني : ومَنْ غلا(٤) في اشتراط قطع ما هو مشغول به من الطعام وقضاء الحاجة لم يبعد أن يشترط فيه ترك الابتداء بالسلام(٥) .

وكذا لا تبطل لو قال عقيب السلام حديثاً آخَر يتّصل بالسلام ، كقوله : بارك الله لك في صفقة يمينك.

قال الشافعي : لا تبطل الشفعة ؛ لأنّ ذلك يتّصل بالسلام ، ويكون‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٩.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ و ٥٤٠.

(٣) حلية الأولياء ٨ : ١٩٩ ، وانظر : الكافي ٢ : ٤٧١ / ٢.

(٤) في النسخ الخطيّة والحجريّة : « عذر » بدل « غلا ». وما أثبتناه من المصدر.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩١.

٣٢١

دعاءً لنفسه ؛ لأنّ الشقص يرجع إليه(١) .

وله قولٌ آخَر : البطلان(٢) .

ولو قال غير ذلك ، فقد أخّر الشفعة لغير عذر.

ولو قال عند لقائه : بكَمْ اشتريته؟ لم تبطل شفعته - وهو أحد قولي الشافعيّة(٣) - لافتقاره إلى تحقّق ما أخذ به(٤) .

وقال الباقون : تبطل ؛ لأنّه تأخير ، لأنّ من حقّه أن يظهر الطلب ثمّ يبحث(٥) .

ولو قال : اشتريت رخيصاً ، وما أشبهه ، بطلت شفعته ؛ لأنّه فضول.

مسالة ٧٨٩ : ولو لم يمض الشفيع إلى المشتري ومشى إلى الحاكم وطلب الشفعة‌ ، لم يكن مقصّراً في الطلب ، سواء ترك مطالبة المشتري مع حضوره أو غيبته.

أمّا لو اقتصر على الإشهاد بالطلب ولم يمض إلى المشتري ولا إلى القاضي مع إمكانه ، قال الشيخرحمه‌الله : لا تبطل شفعته ؛ لعدم الدليل عليه(٦) ، وبه قال أبو حنيفة(٧) .

وقال الشافعي : يكون مقصّراً ، وبطلت شفعته(٨) .

ولو جهل البطلان ، كان عذراً ، ولم يكن مقصّراً ، كما لو جهل أصل‌

____________________

(١ - ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩١.

(٤) كذا ، والظاهر : « لافتقاره إلى تحقيق ما أخذه به ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩١.

(٦) الخلاف ٣ : ٤٥٦ ، المسألة ٤٢.

(٧) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٤٥٦ ، المسألة ٤٢ ، وانظر : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٠.

(٨) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٠.

٣٢٢

الشفعة.

ولو كان المشتري غائباً ، رفع أمره إلى القاضي وأخذ ، ولم يكف الإشهاد.

ولو لم يتمكّن من الرفع إلى المشتري ولا إلى القاضي ، كفاه الإشهاد على الطلب ، فإن تمكّن بعد ذلك من المضيّ إلى المشتري أو القاضي ، فالأقرب : عدم الاكتفاء بالإشهاد السابق ، فيكون مقصّراً لو لم يمض إلى أحدهما ؛ لأنّ الالتجاء إلى الإشهاد كان لعذر وقد زال.

ولو لم يتمكّن من المضيّ إلى أحدهما ولا من الإشهاد ، فهل يؤمر أن يقول : تملّكت الشقص أو أخذته؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّ الواجب الطلبُ عند القاضي أو المشتري ، فإذا فات القيد ، لم يسقط الآخَر.

وللشافعيّة وجهان(١) .

مسالة ٧٩٠ : لا يجب الطلب في بلد المبايعة‌ ، فلو باع الشقص بمصر ثمّ وجد الشفيع المشتري بمصرٍ آخَر فأخّر الطلب فلمـّا رجعا إلى مصره طالَبه بالشفعة ، لم يكن له ذلك ، وسقطت شفعته.

فإن اعتذر الشفيع عن التأخير بأنّي إنّما تركت الطلب لآخذ في موضع الشفعة ، لم يكن ذلك عذراً ، وقلنا له : ليس تقف المطالبة على تسليم الشقص ، فكان ينبغي أن تطلبها حال علمك بها ، فبطل حقّك ؛ لاستغناء الأخذ عن الحضور عند الشقص.

مسالة ٧٩١ : لو أظهر المتبايعان أنّهما تبايعا بألف فترك الشفيع الشفعة فعفا أو توانى في الطلب ، ثمّ بان أنّهما تبايعاه بأقلّ من ذلك ، لم تسقط‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٠.

٣٢٣

الشفعة ، وكان للشفيع المطالبة بها ؛ لاحتمال أن يكون الترك لأجل كثرة الثمن ، فإذا كان أقلّ منه ، رغب فيه ، فلم تسقط بذلك الترك شفعتُه.

وكذا لو بلغه أنّه باعه بالثمن المسمّى سهاماً قليلة ثمّ ظهر أنّها كثيرة.

وكذا إذا كانا قد أظهرا أنّهما تبايعا ذلك بالدنانير ، فترك ثمّ بان أنّهما تبايعا ذلك بالدراهم ، تثبت الشفعة ، سواء كانت بقيمة الدراهم أو أكثر أو أقلّ - وبه قال الشافعي وزفر(١) - لأنّه قد يكون له غرض في ذلك بأن يكون مالكاً لأحد النقدين دون الذي وقع التبايع به.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد : إذا كانت قيمتهما سواءً ، سقطت شفعته - وبه قال بعض الشافعيّة - لأنّهما يجريان مجرى الجنس الواحد(٢) .

وكذا إن أظهرا له أنّ زيداً اشتراها ، فترك الشفعة فبانَ أنّ المشتري عمرو وأنّ زيداً كان وكيلاً لعمرو ، لم تبطل الشفعة ، وكان له المطالبة بها ؛ لاحتمال أن يكون يرضى بشركة زيد ولا يرضى بشركة عمرو.

ولو ظهر كذب نوع الثمن ، فقال : اشتريته بدراهم راضيّة ، فترك الشفعة فظهر أنّه اشترى بدراهم رضويّة ، لم تبطل شفعته ، وكان له الطلب.

وكذا لو اُخبر بأنّ المشتري اشترى النصف بمائة ، فترك الشفيع ثمّ‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٥٣ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٨ - ٢٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤١ - ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٠ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٥٤٢ ، المغني ٥ : ٤٨١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧٩.

(٢) بدائع الصنائع ٥ : ١٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٧٣ - ٧٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٠ - ١٩١ ، المغني ٥ : ٤٨١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧٩.

٣٢٤

بانَ(١) أنّه اشترى الربع بخمسين أو بالعكس ، تثبت الشفعة ؛ لأنّه قد يكون له غرض في القليل ، وقد يكون له أيضاً غرض في الكثير.

وكذا لو قيل له : باع كلّ نصيبه ، فترك ثمّ ظهر بعضه أو بالعكس ، أو أنّه باعه بثمنٍ حالّ ، فترك ثمّ ظهر أنّه مؤجّل ، أو أنّه باعه إلى شهر ، فترك فظهر أنّه إلى شهرين أو بالعكس ، أو أنّه باع رجلين فبانَ رجلاً أو بالعكس ، فترك الشفعة قبل ظهور الحال ، لم تبطل الشفعة ؛ لاختلاف الغرض بذلك.

ولو ظهر بأنّ الثمن عشرة ، فترك الشفعة ثمّ ظهر أنّ الثمن عشرون(٢) ، أو اُخبر بأنّ الثمن مؤجّل(٣) ، فترك فبانَ حالّا ، أو أنّ المبيع الجميعُ بألف فبانَ أنّ البعض بألف ، بطل حقّه من الشفعة قطعاً.

ولو أخبر(٤) أنّه اشترى النصف بمائة ، فترك الشفعة ثمّ ظهر أنّه اشترى الربع بخمسين أو بالعكس ، تثبت الشفعة ؛ لأنّه قد يكون له غرض في القليل أو الكثير.

ولو بلغه(٥) أنّ المشتري واحد ، فترك الشفعة ثمّ ظهر أنّه ذلك الواحد وآخر ، فله الشفعة من كلّ منهما ومن أحدهما إن قلنا بثبوت الشفعة مع الكثرة ، لأنّه ترك الذي ترك له على أنّه اشترى الجميع ، فإذا كان اشترى البعض ، تثبت له ، وأمّا الآخَر فلم يتركه له.

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « ظهر » بدل « بان ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عشرين ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مؤجّلاً » بالنصب.

(٤) تقدّم هذا الفرع آنفا بعد قوله : « ولو ظهر كذب كان له طلب ».

(٥) تقدّم هذا الفرع آنفاً عند قوله : « أو أنّه باع أو بالعكس ».

٣٢٥

مسالة ٧٩٢ : لو أخّر الطلب واعتذر بحصول مرض أو حبس أو غيبة ، وأنكر المشتري‌ ، قُدّم قول الشفيع إن عُلم حصول العارض - الذي ادّعاه - له ، وإن لم يُعلم له هذه الحال ، قُدّم قول المشتري ؛ لأصالة العدم ، وأصالة عدم الشفعة.

ولو قال : لم أعلم ثبوت حقّ الشفعة ، أو قال : أخّرت لأنّي لم أعلم أنّ الشفعة على الفور(١) ، فإن كان قريبَ العهد بالإسلام ، أو نشأ في برّيّة لا يعرفون الأحكام ، قُبل قوله ، وله الأخذ بالشفعة ، وإلّا فلا.

مسالة ٧٩٣ : لو ضمن الشفيع العهدة للمشتري أو ضمن الدرك للبائع عن المشتري‌ ، قال الشيخرحمه‌الله : لا تسقط شفعته ، وبه قال الشافعي ، وكذا إذا شرطا الخيار للشفيع إذا قلنا بصحّة اشتراط الخيار للأجنبيّ ؛ لأنّ هذا سبب سبق وجوب الشفعة ، فلا تسقط به ، كما إذا أذن له في البيع أو عفا عن الشفعة قبل تمام البيع(٢) .

وقال أهل العراق : إنّه تسقط الشفعة ؛ لأنّ العقد تمّ به ، فأشبه البائع إذا باع بعض نصيبه ، لا شفعة له(٣) .

قالت الشافعيّة : هذا ليس بصحيح ، لأنّ البيع لا يقف على الضمان ، ويبطل بما(٤) إذا كان المشتري شريكاً ، فإنّه تثبت له الشفعة بقدر نصيبه(٥) .

____________________

(١) ورد في النسخ الخطّيّة والحجريّة قوله : « أو قال على الفور » بعد قوله : « فإن كان قريب العهد بالإسلام ». وهو سهو من النُّسّاخ.

(٢) الخلاف ٣ : ٤٤٧ ، المسألة ٢٥ ، وانظر : حلية العلماء ٥ : ٣١٢ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٦ ، والمغني ٥ : ٥٤٣ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٨٣.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٣١٢ ، المغني ٥ : ٥٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٨٣ ، الخلاف - للطوسي - ٣ : ٤٤٧ ، المسألة ٢٥.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « به » بدل « بما ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) اُنظر : المغني ٥ : ٥٤٣ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٨٤.

٣٢٦

والقول ببطلان الشفعة لا بأس به عندي ؛ لدلالة ذلك على الرضا بالبيع.

قال الشيخرحمه‌الله : ولو كان الشفيع وكيلاً في البيع(١) ، لم تسقط شفعته ، سواء كان وكيلاً للبائع في البيع أو للمشتري في الشراء - وبه قال الشافعي - لعدم الدليل على سقوط الشفعة بالوكالة(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : إن كان وكيلا للبائع ، فلا شفعة له ، وإن كان وكيلا للمشتري ، ثبتت له الشفعة ، والفرق : أنّه إذا كان وكيلاً في البيع ، لحقته التهمة ، وفي الشراء لا تهمة(٣) .

وقال أهل العراق : إذا كان وكيلاً للمشتري ، سقطت شفعته ، بناءً على أصلهم أنّ الوكيل يملك ، ولا يستحقّ على نفسه الشفعة(٤) .

ويحتمل عندي قويّاً بطلان الشفعة ؛ لأنّ التوكيل يدلّ على الرضا بالبيع.

مسالة ٧٩٤ : لو أذن الشفيع في البيع ، فقال : بعْ نصيبك وقد عفوت عن الشفعة‌ ، أو أبرأه(٥) من الشفعة قبل تمام البيع أو أسقط حقّه أو عفا قبل العقد ، لم تسقط شفعته ، وبه قال الشافعي(٦) .

____________________

(١) أي : بيع الشقص الذي يستحقّ به الشفعة.

(٢) الخلاف ٣ : ٤٤٨ ، المسألة ٢٧ ، وراجع : المغني ٥ : ٥٤٢ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٨٣ - ٤٨٤.

(٣) المغني ٥ : ٥٤٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٨٣.

(٤) حكاه عنهم الشيخ الطسوسي في الخلاف ٣ : ٤٤٨ ، المسألة ٢٧ ، وابنا قدامة في المغني ٥ : ٥٤٢ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٨٣.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أبرأ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٣٠٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٠ / ١٩٤٨ ، المغني ٥ : ٥٤١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٨٤.

٣٢٧

وحكي عن عثمان البتّي أنّه قال : تسقط الشفعة(١) ؛ لرواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الشفعة في كلّ شرك في أرض(٢) أو رَبْع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع »(٣) فأجاز تركه.

والمراد العرض على الشريك ليبتاع ذلك إن أراد ، فيخفّ بذلك المؤونة عليه في أخذ المشتري الشقص ؛ لأنّ قولهعليه‌السلام : « فيأخذ » ليس بالشفعة ، لأنّ العرض متقدّم على البيع ، والأخذ متعقّب للعرض ، فقوله : « أو يدع » أي : يدع الشراء ، لا أنّه يسقط حقّه بتسليمه. والأصل فيه أنّ ذلك إسقاط حقٍّ قبل وجوبه ، فلا يصحّ ، كما لو أبرأه ممّا يدينه إيّاه.

وكذا لو قال للمشتري : اشتر فلا أطالبك بالشفعة وقد عفوت عنها ، لم يسقط حقّه بذلك.

فروع :

أ - إذا شهد الشفيع على البيع ، لم تبطل شفعته بذلك ؛ لأنّه قد يريد البيع ليأخذه بالشفعة ، وكذا في الإذن بالبيع على ما تقدّم(٤) .

ب - لو بارك للبائع فيما باع أو للمشتري فيما اشترى ، لم تسقط شفعته ، وقد سلف(٥) .

ج - لو قال الشفيع للمشتري : بِعْني أو قاسمني ، بطلت شفعته ؛ لأنّه يتضمّن الرضا بالبيع وإجازته له.

____________________

(١) مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٠ / ١٩٤٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٠٩.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « شرك بأرض ». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٩ / ١٣٥.

(٤) في صدر المسألة ٧٩٤.

(٥) في ص ٣٢٠ ضمن المسألة ٧٨٨.

٣٢٨

د - لو شرط الخيار للشفيع فاختار الإمضاء ، سقطت شفعته إن ترتّبت على اللزوم.

مسالة ٧٩٥ : لو باع أحد الشريكين نصيبه ولم يعلم شريكه حتى باع نصيبه ثمّ علم بيع شريكه ، فالأقرب : عدم الشفعة ؛ لأنّها إنّما ثبتت لزوال الضرر بها عن نصيبه ، فإذا باع نصيبه فلا معنى لإثباتها ، كما لو وجد بالمبيع عيباً ثمّ زال قبل علم المشتري ، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني : أنّه تثبت له الشفعة في النصيب الأوّل ؛ لأنّه استحقّ فيه الشفعة بوجود ملكه حين التبايع ، فلم يؤثّر زوال ملكه بعد ذلك(١) .

وكذا البحث لو وهب نصيبه قبل علمه بالبيع ثمّ علم ، وكذا لو تقايلا في هذا بالبيع(٢) الثاني.

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا : لا شفعة له ، فللمشتري منه الأخذ بالشفعة ؛ لوجود المقتضي ، وهو الشركة.

وإن قلنا : له الشفعة ، فالأقرب : عدم استحقاق المشتري منه للشفعة إن قلنا بانتفاء الشفعة مع الكثرة ، وإلّا فإشكال أقربه ذلك أيضاً ؛ لأنّ الشفعة استحقّها البائع الجاهل ؛ لسبق عقد الشفعة على عقده ، فلا يستحقّها الآخَر ؛ لامتناع استحقاق المستحقّين شيئاً واحداً.

ولو كان الجاهل قد باع نصف نصيبه وقلنا بالشفعة مع الكثرة ، فوجهان :

أحدهما : أنّه تسقط الشفعة - وهو أحد قولي الشافعي(٣) - كما إذا عفا‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩١.

(٢) كذا.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩١ - ١٩٢.

٣٢٩

عن بعض الشفعة.

والثاني : لا تسقط ؛ لأنّه قد بقي من نصيبه ما يستحقّ به الشفعة في جميع المبيع لو انفرد كذا إذا بقي. ولأنّه معذور بجهله ، وقد بقيت الحاجة - الموجبة للشفعة - للمشاركة(١) .

ولو باع الشفيع نصيبه عالماً أو وهبه عالماً بثبوت الشفعة ، بطلت شفعته ، سواء قلنا : إنّ الشفعة على الفور أو على التراخي ؛ لزوال ضرر المشاركة.

ولو باع بعض نصيبه عالماً ، فإن قلنا ببطلان الشفعة مع الكثرة ، فكذلك ؛ لتكثّر الشركاء. وإن قلنا بثبوتها معها ، فالأقرب : البطلان أيضاً ؛ لثبوت التضرّر بالشركة ، فلا أثر للشفعة في زوالها.

ويحتمل عدم البطلان ؛ لأنّ تضرّر الشركة قد يحصل مع شخص دون آخَر ، ولهذا قلنا : إنّه إذا بلغه أنّ المشتري زيدٌ فترك الشفعة ثمّ بان أنّه عمرو ، لم تبطل شفعته ، كذا هنا.

أمّا لو طالب بالشفعة فامتنع عليه المشتري من الدفع بعد أن بذل المال ، لم تسقط شفعته.

فإن باع نصيبه حالة المنع منها ثمّ تمكّن من الطلب ، ففي ثبوته إشكال ينشأ : من استحقاقه للطلب أوّلاً وقد طلب ، فلا تبطل شفعته بالبيع ، والبيع معذور فيه ، لإمكان حاجته ، ومن بطلان العلّة الموجبة للشفعة ، وهي الشركة. وهو أقرب.

ولو تملّك بالشفعة فقال : تملّكت بالشفعة ، حالة منع المشتري منها ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩١ - ١٩٢.

٣٣٠

فالأقرب : أنّه يملك الشقص بذلك ، فإذا باع نصيبه بعد ذلك ، لم تسقط شفعته على هذا التقدير قطعاً. وكذا له النماء من المشتري والاُجرة.

مسالة ٧٩٦ : إذا وجبت الشفعة واصطلح الشفيع والمشتري على تركها بعوض‌ ، صحّ عندنا ، وسقطت الشفعة - وبه قال مالك(١) - لعموم جواز الصلح. ولأنّه عوض على إزالة ملك في ملك ، فجاز ، كأخذ العوض على تمليك امرأته أمرها في الخلع.

وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تصحّ المعاوضة ؛ لأنّه خيار لا يسقط إلى مال ، فلا يجوز أخذ العوض عنه ، كخيار المجلس(٢) .

وهل تبطل الشفعة؟ للشافعي وجهان :

أحدهما : البطلان ؛ لأنه تركها بعوض لا يسلم له ، فكان كما لو تركها.

والثاني : لا تسقط ؛ لأنّه لم يرض بإسقاطها مجّاناً ، وإنّما رضي بالمعاوضة عنها ، فإذا لم تثبت له المعاوضة ، كانت الشفعة باقيةً(٣) .

وهذان الوجهان جاريان في الردّ بالعيب إذا عاوض عنه وقلنا : لا تصحّ المعاوضة.

وعندنا أنّه تصحّ المعاوضة أيضاً.

مسالة ٧٩٧ : إذا وجبت الشفعة في شقص فقال صاحب الشفعة : أخذت نصف الشقص ، لم يكن له ذلك.

____________________

(١) المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٨٢.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٥٣ ، المغني ٥ : ٤٨٢ - ٤٨٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٨١ - ٤٨٢.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٢٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٥٣ - ٣٥٤.

٣٣١

وهل تسقط شفعته؟ قال محمّد بن الحسن وبعض الشافعيّة : نعم ؛ لأنّه إذا طلب بعضها ، فقد أخّر بعضها ، فقد ترك شفعته في بعضها ، وإذا ترك بعضها ، سقطت كلّها ؛ لأنّها لا تتبعّض(١) .

وقال أبو يوسف : لا تسقط ؛ لأنّ اختياره لبعضها طلب للشفعة ، فلا يجوز أن يكون هو بعينه تركاً لها ؛ لعدم دلالة الشي‌ء على نقيضه. ولأنّه لمـّا لم يجز له أن يأخذ بعضها دون بعض كان طلب بعضها كطلب جميعها(٢) .

واعتُرض : بأنّ طلب البعض لا يكون طلباً للجميع ، ولا معنى لطلب الجميع بطلب البعض ، ولا غرض ، فتسقط(٣) .

البحث السابع : في تفاريع القول بالشفعة مع الكثرة.

مسالة ٧٩٨ : اختلف القائلون بثبوت الشفعة مع الكثرة - من أصحابنا ومن العامّة - هل هي على عدد الرؤوس أو على قدر الأنصباء؟

فذهب بعض علمائنا إلى أنّها تثبت على عدد الرجال(٤) ، فلو كان لأحد الشركاء النصفُ وللباقين النصفُ الآخَر بالسويّة فباع صاحب الربع نصيبَه ، كانت الشفعة بين صاحب النصف وصاحب الربع بالسويّة - وبه قال‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٢٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٢ ، المغني ٥ : ٤٨٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٨٩ - ٤٩٠.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٣ ، المغني ٥ : ٤٨٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٠.

(٣) المغني ٥ : ٤٨٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٠.

(٤) كما في المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٣ ، ونسبه الفاضل الآبي في كشف الرموز ٢ : ٣٩٣ إلى ابن الجنيد.

٣٣٢

الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وابن شُبْرمة وأبو حنيفة وأصحابه والمزني والشافعي في أحد القولين ، وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « الشفعة على عدد الرجال »(٢) .

ولأنّ كلّ واحد منهم لو انفرد ، كان له أخذ الكلّ ، فإذا اجتمعوا اشتركوا ، كالبنين في الميراث، وكما لو كان لواحد من الثلاثة نصف عبد وللثاني ثلثه وللثالث سدسه فأعتق صاحب الثلث والسدس حصّتهما معاً دفعةً وهُما موسران ، فإنّ النصف يقوَّم عليهما بالسويّة وإن اختلف استحقاقهما.

وقال بعض علمائنا : إنّها تثبت على قدر النُّصّب(٣) - وبه قال عطاء ومالك وإسحاق وأحمد في الرواية الاُخرى والشافعي في القول الآخَر ، وهو مذهب سوار القاضي وعبيد الله بن الحسن العنبري(٤) - لأنّه حقّ يستفاد بسبب الملك ، فكان على قدر الأملاك كالغلّة.

____________________

(١) المغني ٥ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٢٥ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٨ / ١٩٦٥ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٥٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٢ ، الوسيط ٤ : ٩٤ ، الوجيز ١ : ٢١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٧ و ٥٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٢ ، المحلّى ٩ : ٩٨ - ٩٩ ، الاستذكار ٢١ : ٢٨١ / ٥ - ٣١٣٧٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٦ ، التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٦ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ - ١١٧ / ٤١٦.

(٣) كما في المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٣ ، والمهذّب - لابن البرّاج - ١ : ٤٥٣.

(٤) المغني ٥ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٦٠ ، الاستذكار ٢١ : ٢٨٠ / ٣١٣٧٠ ، و ٢٨١ / ٣ - ٣١٣٧٢ ، المعونة ٢ : ١٢٦٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٥٩ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩١ - ٢٩٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٢ ، الوسيط ٤ : ٩٤ ، الوجيز ١ : ٢١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٧ و ٥٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٢ ، المحلّى ٩ : ٩٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٨ ، ١٩٦٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٢٥.

٣٣٣

ثمّ نقضوا الأوّل(١) بالفرسان والرجّالة في الغنيمة ، مَن انفرد منهم استحقّ الكلّ ، وإذا اجتمعوا تفاضلوا ، وكذا أصحاب الديون إذا كان مَنْ عليه الدَّيْن ماله مثل أقلّ الديون ، والمعتقان استويا ؛ لأنّ العتق إتلاف النصيب الباقي ، وسبب الإتلاف يستوي فيه القليل والكثير ، كالنجاسة تقع في المائع ، وهنا يستحقّ بسبب الملك ، فافترقا(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ الفرس كالفارس ، فلا تفاضل في الحقيقة ، والدَّيْن كالكسب الحاصل لأرباب الديون ، فكانوا فيه على قدر رؤوس أموالهم.

إذا ثبت هذا ، فإن قلنا : الشفعة على عدد الرءوس ، فلا بحث.

وإن قلنا : على قدر الأنصباء ، فلو كان لأحدهما النصفُ وللآخَر الربعُ والمبيع الربعُ ، استحقّ صاحب النصف ثلثي المبيع ، وصاحب الربع ثلثه ، فتقسّم الجملة من اثني عشر ، لصاحب النصف ثمانية ، ولصاحب الربع أربعة ، فقد صار لأحدهما الثلثان وللآخَر الثلث.

مسالة ٧٩٩ : إذا تزاحم الشركاء ، فالأقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يتّفقوا على الطلب ، فإن كانوا حاضرين بأجمعهم حالة البيع ، فتثبت بينهم الشفعة على عدد الأنصباء أو على عدد الرؤوس ، فلو كانت الدار بين أربعة بالسويّة باع أحدهم نصيبه ، كان للثلاثة الباقية أخذها بالشفعة ، فتصير الدار أثلاثاً بعد أن كانت أرباعاً.

الثاني : أن لا يكونوا بأجمعهم حاضرين فإمّا أن يكونوا بأجمعهم غُيّاباً أو بعضهم ، وعلى كلا التقديرين لا تسقط شفعة الغائب بغيبته مع التأخّر ؛ لمكان العذر. فإن قدموا بأجمعهم ، فحكمهم حكم الحاضرين.

____________________

(١) أي القول الأوّل.

(٢) راجع المغني ٥ : ٥٢٣ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٩١.

٣٣٤

وإن حضر بعضهم ، فحكمه حكم ما إذا غاب البعض خاصّةً.

إذا ثبت هذا ، فإن كان الحاضر واحداً أو قدم بعد غيبة الجميع ، فليس له أخذ حصّته فقط ؛ لما فيه من التبعيض ، والشفعة وُضعت لإزالته ، فلا تكون سبباً فيه. ولما فيه من تضرّر المشتري ، ولا يكلّف الصبر إلى حضور الغُيّاب ؛ لأنّه إضرار به وبالمشتري ، بل يأخذ الجميع ؛ لأنّ الحاضر هو المستحقّ للجميع بطلبه ، والغُيّاب لم يوجد منهم مطالبة بالشفعة ، فحينئذٍ إمّا أن يأخذ الحاضر الجميعَ أو يترك.

ولو كان الحاضر اثنين أو قدم اثنان ، تساويا في أخذ الجميع أو الترك.

الثالث : أن يطلب بعض الشركاء ويعفو بعضهم ، فالطالبون بالخيار بين أخذ الكلّ أو تركه ولو كان الباقي واحداً ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت بسوء المشاركة ومئونة القسمة ، فإذا أراد أن يأخذ من المشتري بعض الشقص ، لم يزل الضرر الذي لأجله تثبت الشفعة. ولأنّ الشفعة إنّما تثبت لإزالة الضرر عنه ، وفي تبعيض الشقص إضرار بالمشتري ، فلا يزال الضرر بإلحاق ضررٍ.

مسالة ٨٠٠ : ليس للشفيع تشقيص الشفعة‌ ، بل إمّا أن يأخذ بالجميع(١) أو يترك الجميع ، لما في التشقيص من الإضرار بالمشتري.

إذا ثبت هذا ، فلو عفا عن بعض الشفعة ، سقطت شفعته ، كالقصاص ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : لا يسقط شي‌ء ، كعفوه عن بعض حدّ القذف.

____________________

(١) في « س ، ي » : « الجميع ».

٣٣٥

والثالث : يسقط ما عفا عنه ، ويبقى الباقي(١) .

قال الصيدلاني منهم : موضع هذا الوجه ما إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة ، فإن أبى وقال : خُذ الكلّ أو دَعْه ، فله ذلك(٢) .

وقال الجويني : هذه الأوجُه إذا لم نحكم بأنّ الشفعة على الفور ، فإن حكمنا به ، فطريقان : منهم مَنْ قطع بأنّ العفو عن البعض تأخير لطلب الباقي ، ومنهم مَنْ احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي ، وطرّد الأوجُه(٣) (٤) .

إذا تقرّر هذا ، فنقول : إذا استحقّ اثنان شفعةً فعفا أحدهما عن حقّه ، سقط نصيب العافي ، ويثبت جميع الشفعة للآخَر ، فإن شاء أخذ الجميع ، وإن شاء تركه ، وليس له الاقتصار على قدر حصّته ؛ لئلّا تتبعّض الصفقة على المشتري ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : أنّه يسقط حقّهما - وهو اختيار ابن سريج - كالقصاص.

والثالث : لا يسقط حقّ واحد منهما تغليباً للثبوت.

والرابع : يسقط حقّ العافي ، وليس لصاحبه أن يأخذ إلّا قسطه ، وليس للمشتري إلزامه بأخذ الجميع(٥) .

هذا إذا ثبتت الشفعة لعددٍ ابتداءً ، ولو ثبتت لواحدٍ فمات عن اثنين فعفا أحدهما ، فهل له كما لو ثبتت لواحدٍ فعفا عن بعضها ، أم كثبوتها‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٤.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الوجه » بدل « الأوجه ». وما أثبتناه من « روضة الطالبين ». وبدلها في « العزيز شرح الوجيز » : « الوجوه ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨١.

٣٣٦

لاثنين عفا أحدهما؟ للشافعيّة وجهان(١) .

تذنيب : لو كان للشقص شفيعان فمات كلٌّ عن اثنين فعفا أحدهم عن حقّه ، فللشافعيّة وجوه :

أ - أنّه يسقط جميع الشفعة.

ب - يبقى جميع الشفعة للأربعة ؛ لبطلان العفو.

ج - يسقط حقّ العافي وأخيه خاصّةً ؛ لاتّحادهما في سبب الملك ، ويأخذه الآخَران.

د - ينتقل حقّ العافي إلى الثلاثة ، فيأخذون الشقص أثلاثاً.

ه- يستقرّ حقّ العافي للمشتري ، ويأخذ الثلاثة ثلاثةَ أرباع الشقص.

و - نتقل حقّ العافي إلى أخيه فقط(٢) .

وعلى ما اخترناه نحن قبل ذلك فالوجه المعتمد هو الخامس من هذه الوجوه.

مسالة ٨٠١ : لو مات عن اثنين وله دار ، فهي بينهما بالسويّة‌ ، فلو مات أحدهما وورثه ابنان له فباع أحدهما نصيبه فإنّ الشفعة تثبت لأخيه وعمّه - وبه قال الشافعي في الإملاء ، قال : وهو القياس ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد والمزني(٣) - لأنّهما شريكان حال ثبوت الشفعة ، فكانت الشفعة بينهما ، كما لو ملك الثلاثة بسببٍ واحد.

وقال في القديم : أنّ أخاه أحقّ بالشفعة - وبه قال مالك - لأنّ الأخ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٤ - ١٨٥.

(٣) المغني ٥ : ٥٢٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٢ ، الوسيط ٤ : ٩٤ - ٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٣.

٣٣٧

أخصّ بشركته من العمّ ؛ لاشتراكهما في سبب الملك ، ولهذا لو قُسّمت الدار ، كانا حزباً والعمّ حزباً آخَر(١) .

ولا معنى(٢) للاختصاص ؛ لأنّ الاعتبار بالشركة لا بسببها. وأمّا القسمة فإنّ القاسم يجعل الدار أربعة أجزاء : اثنان للعمّ ، ولكلّ واحد جزء ، كما يفعل ذلك في الفرائض.

فروع :

أ - لو قلنا : تختصّ بالأخ - كما هو أحد قولي الشافعي - لو عفا عن الشفعة ، ففي ثبوتها للعمّ عند الشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّها لا تثبت ؛ لأنّه لو كان مستحقّاً ، لما تقدّم عليه غيره.

والثاني : تثبت له ؛ لأنّه شريك ، وإنّما يُقدّم الأخ لزيادة قُرْبه ، كما أنّ المرتهن يقدَّم في المرهون على باقي الغرماء ، فلو أسقط حقّه ، أمسكه الباقون(٣) .

ب - هذا الحكم لا يختصّ بالأخ والعمّ ، بل في كلّ صورة مَلَكَ شريكان عقاراً بسببٍ واحد ، وغيرهما من الشركاء بسببٍ آخَر ، فلو اشترى نصف دار واشترى آخَران النَصف الآخَر ثمّ باع أحد الآخَرين نصيبه ، فهل‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٥٦ ، حلية العلماء ٥ : ٣٠٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٣ ، الوسيط ٤ : ٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٣ ، المغني ٥ : ٥٢٤.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فلا معنى ». والظاهر ما أثبتناه حيث إنّه ردٌّ على الشافعي في قوله القديم.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٥٦ ، حلية العلماء ٥ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٨ - ٥٢٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٣.

٣٣٨

الشفعة للآخَر الذي يشاركه في الشراء خاصّةً ، أو لَه وللأوّل صاحب النصف؟ للشافعي قولان ؛ لاختلاف سبب الملك(١) .

وكذا لو ورث ثلاثة داراً فباع أحدهم نصيبه من اثنين وعفا الآخَر ثمّ باع أحد المشتريين نصيبه ، فهل تثبت الشفعة للمشتري الآخَر أم [ للكلّ ](٢) ؟ على القولين(٣) .

ج - لو مات صاحب عقار وخلّف ابنتين واُختين ، فالمال بأجمعه - عندنا - للبنتين.

وعند العامّة للبنتين الثلثان ، وللأختين الثلث.

فلو باعت إحدى الاُختين نصيبها ، فهل تثبت الشفعة لاُختها أو لها وللبنتين؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّ ذلك مبنيّ على القولين اللّذين ذكرناهما ؛ لاختلاف سبب الملك.

والثاني : [ أنّهنّ يشتركن ](٤) في الشفعة قولاً واحداً ؛ لأنّ السبب واحد - وهو الميراث - وإن اختلف قدر الاستحقاق(٥) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٣.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « للكلّ » : « لذلك ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٨ - ٣٨٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٠٠.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أنّهم يشتركون ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، حلية العلماء ٥ : ٣٠١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٣.

٣٣٩

د - لو مات الرجل عن ثلاثة(١) بنين وخلّف داراً ثمّ مات أحدهم وخلّف ابنين فباع أحد العمّين نصيبه ، فهل يكون العمّ الآخَر أحقَّ بالشفعة ، أو يشترك هو وابنا(٢) أخيه؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّ ذلك على القولين.

والثاني : أنّهم يشتركون(٣) .

والفصل بين هذه وما تقدّم من مسألة الأخ والعمّ : أنّ هنا يقوم أبناء الميّت منهم مقام أبيهم ويخلفونه في الملك ، ولو كان أبوهم باقياً ، شارَك أخاه في الشفعة ، فلهذا شاركوه ، وفي مسألة الأخ والعمّ البائعُ ابن أخيهم ، وهُمْ لا يقومون مقام أخيهم ، وإنّما يقومون مقام أبيهم.

ه- إذا قلنا : إنّ الشفعة للجماعة ، قسّم بينهم إمّا على قدر النصيب أو على عدد الرؤوس.

فإن قلنا : إنّ الشفعة لشريكه في النصيب دون غيره ، فلو عفا عن الشفعة ، فهل تثبت للشريك الآخر؟ للشافعيّة وجهان ، أحدهما : أنّها(٤) تثبت(٥) ؛ لأنّه شريكه ، وإنّما يقدَّم عليه مَنْ كان أخصّ بالبائع ، فإذا عفا ، ثبتت للشريك الآخَر ، كما لو قتل واحد جماعةً واحداً بعد واحد ، ثبت القصاص للأوّل ، فإذا عفا الأوّل ، ثبت القصاص للثاني ، كذا هنا(٦) .

مسالة ٨٠٢ : قد ذكرنا أنّه إذا قدم واحد من الأربعة وتخلّف اثنان وكان‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ثلاث » وما أثبتناه هو الصحيح.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ابني ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٤) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « أنّه ». وما أثبتناه لأجل السياق.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا تثبت » بزيادة « لا ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381