تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-224-5
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119885 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٢٢٤-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الرابع قد باع نصيبه أو كان واحد من الثلاثة حاضراً ، فإنّه إمّا أن يأخذ الجميع أو يترك الجميعَ ، وليس له أخذ نصيبه ؛ لما فيه من تضرّر المشتري.

فإن أخذ الجميعَ ثمّ قدم ثانٍ ، أخذ منه النصفَ ؛ لأنّه لا شفيع الآن غيرهما ، ووجدت المطالبة منهما دون الثالث ، فكانت الشفعة بينهما ، فإن قدم الثالث ، أخذ منهما الثلث ليكونوا سواء ، فإن عفا الثاني ، استقرّ على الأوّل ، وإن عفا الثالث ، استقرّ عليهما.

ولو كان للشقص غلّة حصلت في يد الأوّل ، لم يشاركه الثاني فيها ؛ لأنّه مَلَك الجميعَ بالأخذ ، وقد حصل النماء في ملكه ، فكانت كما لو انفصلت في يد المشتري قبل الأخذ بالشفعة.

وكذا إن أخذ الثاني وحصلت الغلّة في يده ، لم يشاركه الثالث فيها.

ولو خرج الشقص مستحقّاً ، قال أكثر الشافعيّة : إنّ العهدة على المشتري يرجع الثلاثة عليه ، ولا يرجع أحدهم على الآخَر ؛ لأنّ الشفعة [ ليست ](١) مستحقّة عليهم(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : يرجع الثاني على الأوّل ، والثالث يرجع عليهما ، والأوّل يرجع على المشتري ، لأنّ الثاني أخذ من الأوّل ودفع الثمن إليه(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف في الرجوع بالمغروم من اجرة ونقص قيمة الشقص ، فأمّا الثمن فكلّ يستردّ ما سلّمه ممّن سلّمه إليه‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المعنى.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٥ - ١٨٦.

٣٤١

بلا خلاف(١) . وهو المعتمد.

مسالة ٨٠٣ : لو قال الأوّل : لا آخذ الجميعَ وإنّما أنتظر مجي‌ء الشركاء ليأخذوا أو يعفوا‌ ، فالأقرب : عدم سقوط شفعته بذلك ، لأنّ له غرضاً في الترك ، وهو أن لا يأخذ ما يؤخذ منه ويحتاج إلى ثمن كثير ربما لا يقدر عليه في تلك الحال ، ومع ذلك يؤدّي حاله إلى عدم التمكّن من العمارة على ما يريده ، وربما انتزع منه فيضيع تعبه ، وهو أحد قولي الشافعيّة.

والثاني : أنّه تسقط شفعته ؛ لأنّه يمكنه الأخذ فلم يفعل فبطلت(٢) .

وليس بجيّد ؛ لعدم تمكّنه من أخذ حقٍّ لا ينازعه فيه غيره.

ولو قال الثاني : لا آخذ النصف ، بل الثلث خاصّةً لئلّا يحضر الثالث فيأخذ منّي ، فله ذلك ؛ لأنّه يأخذ دون حقّه ، بخلاف الأوّل ؛ لأنّ أخذه لبعض الشقص تبعيض للشقص على المشتري ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) .

ويُشكل بأنّه يريد أن يأخذ بعض ما يخصّه ، وليس لأحد الشفيعين أن يأخذ بعض ما يخصّه. فإن أخذ الثلث إمّا على هذا الوجه أو بالتراضي ، وهو سهمان من ستّة ، ثمّ قدم الثالث ، فله أن يأخذ من الأوّل نصف ما في يده ، فإن أخذه ، فلا كلام. وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده ، فله ذلك ؛ لأنّ حقّه ثابت في كلّ جزء.

ثمّ له أن يقول للأوّل : ضمّ ما معك إلى ما أخذته لنقسمه نصفين ؛

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٣ ، روضة الطالبين ٤ :١٨٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٦.

٣٤٢

لأنّا متساويان.

وتصحّ المسألة من ثمانية عشر ؛ لأنّا نحتاج إلى عددٍ لثُلْثه ثُلْث ، وهو تسعة ، مع الثاني - منها - ثلاثة ، ومع الأوّل ستّة ، فيأخذ الثالث من الثاني(١) واحداً ويضمّه إلى ما مع الأوّل وهو ستّة ، فلا تنقسم ، فنضرب(٢) اثنين في تسعة تبلغ ثمانية عشر ، للثاني منها اثنان في اثنين أربعة ، تبقى أربعة عشر ، للأوّل والثالث نصفين ، وهذا المنقسم من ثمانية عشر ربع الدار ، فتكون جملتها اثنين وسبعين - قال بعض الشافعيّة : لمـّا ترك الثاني سدساً للأوّل صار عافياً عن بعض حقّه ، فيبطل جميع حقّه على الأصحّ ، كما سبق ، فينبغي أن يسقط حقّ الثاني كلّه ، ويكون الشقص بين الأوّل والثالث(٣) - فكأنّ الثالث يقول للأوّل : نحن سواء في الاستحقاق ، ولم يترك واحد منّا شيئا من حقّه ، فنجمع ما معنا ونقسمه ، بخلاف الثاني ، لأنّه ترك شيئا من حقّه. ولأنّه لمـّا قدم الثالث فله أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده ، وذلك ثلثا سهم ، ولا يسقط حقّه بما تركه في يد الأوّل ، ثمّ يضمّ ما معه إلى ما في يد الأوّل ، وهو أربعة أسهم ، فيكون أربعة أسهم وثلثي سهم يقتسمانها نصفين ، لأنّه يطالب الأوّل بثلث نصيبه ، وهو سهم من ثلاثة وثلث السهم الذي تركه الثاني ، لأنّه لو أخذه لأخذ ثلثه ، ويبقى ثلثا هذا السهم تركه الثاني ، وسقط حقّه عنه ، فيقتسمانه بينهما ، فيحصل له ذلك من أربع جهات ، فإن قدم الرابع أخذ من الثاني سهما ، وهو ربع ما بيده ، وضمّه إلى ما في يد الأوّل والثالث يصير خمسة عشر يقتسمونه أثلاثا لكلّ واحد‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيأخذ الثاني من الثالث ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « نضرب ». والأنسب ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

٣٤٣

خمسة.

مسالة ٨٠٤ : لو أخذ الأوّل الشقص بالشفعة ثمّ وجد به عيباً فردّه ثمّ قدم الثاني ، كان له أخذ جميع الشقص - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ الشفيع فسخ تملّكه ، ورجع إلى المشتري بالسبب الأوّل ، فكان للشفيع الآخَر أن يأخذه ، كما لو عفا.

وقال محمد بن الحسن الشيباني : إنّه لا يأخذ إلّا حصّته ؛ لأنّ الأوّل لم يعف عن الشفعة ، وإنّما ردّ ذلك لأجل العيب ، فلم يتوفّر نصيبه على الآخَر ، كما لو رجع إليه نصيب أحدهما بسببٍ آخَر(٢) .

والفرق بين صورة النزاع وبين عوده بسببٍ آخَر ثابت ؛ لأنّه عاد غير الملك الأوّل الذي تعلّقت به الشفعة.

مسالة ٨٠٥ : لو حضر اثنان وأخذا الشقص واقتسماه‌ ، كان للثالث بعد حضوره نقض القسمة ، والمطالبة بحصّته من الشفعة ، وله أن يأخذ من كلّ واحدٍ منهما ثلث ما في يده ، وتبقى القسمة بحالها إن رضي المتقاسمان بذلك ، وإلّا فلكلٍّ منهما الفسخ ؛ لأنّه إنّما رضي بأخذ الجميع ، والقسمة لم تقع فاسدةً في نفسها ، بل وقعت صحيحةً ، وتعقَّبها البطلان المتجدّد ، فإذا لم يسلم له جميع ما وصل إليه ، كان له الفسخ.

ولو قدم الثالث وأحد الشريكين كان غائباً ، فإن قضى له القاضي على الغائب ، أخذ من الحاضر الثلث ، ومن الغائب الثلث. وإن لم يقض ، أخذ من الحاضر الثلث ؛ لأنّه قدر ما يستحقّه ممّا في يده ، وهو أحد وجهي‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٢٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٦.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٦.

٣٤٤

الشافعيّة ، والثاني : النصف ؛ لأنّ أحدهما إذا كان غائباً ، صار كأنّهما الشفيعان ، فيقتسمان بينهما بالسويّة(١) .

إذا ثبت هذا ، فإن حضر الغائب وغاب هذا الحاضر ، فإن كان أخذ من الحاضر ثلث ما في يده ، أخذ من الذي كان غائباً وحضر ثلثَ ما في يده أيضاً(٢) . وإن كان قد أخذ من الحاضر النصفَ ممّا في يده ، أخذ من هذا سدس ما في يده ، فيتمّ بذلك نصيبه ، ويكون ذلك من ثمانية وأربعين ، والمبيع اثنا عشر أخذ ستّةً.

مسالة ٨٠٦ : لو كانت الدار بين ثلاثة فباع اثنان من رجل شقصاً‌ ، فقال الشفيع : أنا آخذ ما باع فلان وأترك ما باع فلان الآخر ، كان له ذلك ؛ لأنّ العقد إذا كان في أحد طرفيه عاقدان كان بمنزلة العقدين ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة(٤) ، وقد سلف(٥) .

ولو باع واحد من اثنين ، كان للشفيع أن يأخذ منهما أو من أحدهما ، دون الآخر - وبه قال الشافعي(٦) - لأنّهما مشتريان ، فجاز(٧) للشفيع أخذ نصيب أحدهما.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٢٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

(٢) كلمة « أيضاً » لم ترد في « س » والطبعة الحجريّة.

(٣) مختصر المزني : ١٢١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٨٩ ، المغني ٥ : ٥٣٠.

(٥) راجع ص ٣٧ ، المسألة ٥٦٣.

(٦) مختصر المزني : ١٢١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧ ، المغني ٥ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٨.

(٧) في الطبعة الحجريّة : « فكان » بدل « فجاز ».

٣٤٥

وقال أبو حنيفة : يجوز بعد القبض ، ولا يجوز قبله في إحدى الروايتين ، لأنّه قبل القبض يكون تبعيضاً للصفقة على البائع(١) ؛ بناءً على أصله في أنّه يأخذ المبيع منه.

وهو ممنوع ، على أنّ الباقي يأخذه المشتري والآخَر ، وليس تبعيضاً.

وكذا لو باع اثنان من واحد ، فإنّ للشفيع أن يأخذ الحصّتين أو حصّة أحدهما دون الآخَر ؛ لما تقدّم ، خلافاً لأبي حنيفة ولمالك(٢) .

ولو باع الشريكان من اثنين ، كان ذلك بمنزلة أربعة عقود ، وللشفيع أخذ الكلّ أو ما شاء منهما إمّا ثلاثة أرباعه ، وهو نصيب أحد المشتريين ونصف نصيب الآخَر ، أو يأخذ نصف الجملة إمّا بأن يأخذ نصيب أحدهما أو نصف نصيب كلّ واحد ، أو يأخذ ربع الجملة ، وهو نصف نصيب أحدهما.

مسالة ٨٠٧ : لو باع أحد الشريكين بعض(٣) نصيبه من رجل ثمّ باع منه الباقي ثمّ علم شريكه ، كان له أن يأخذ المبيع أوّلاً خاصّةً ، أو ثانياً خاصّةً ، أو هُما معاً بالشفعة ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ من العقدين حكمَ نفسه ، فإن عفا عن الأوّل وأراد أخذ الثاني ، لم يشاركه المشتري بنصيبه الأوّل ؛ لأنّ ملكه على الأوّل لم يستقرّ ؛ لأنّ للشفيع أخذه ، فلا يستحقّ به شفعته ، كما لو ارتهن بعضه واشترى الباقي ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال أبو حنيفة : ليس له أن يأخذ النصيبين معاً ، وإنّما له أن يأخذ‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « نصف » بدل « بعض ».

(٤) اُنظر : المغني ٥ : ٥٣٣.

٣٤٦

الأوّل ونصف الثاني - وبه قال بعض الشافعيّة - لأنّ ملكه ثبت له على الأوّل ، فإذا اشترى الثاني ، كان شريكاً له بالنصف(١) .

مسالة ٨٠٨ : إذا باع أحد الشريكين نصيبه من ثلاثة أنفس صفقةً واحدة‌ ، فإن عفا [ الشريك ](٢) عن أحدهم ، صحّ عفوه ، ولم يجز للمعفوّ عنه مشاركته في الشفعة على الآخَرَيْن ؛ لأنّ ملك المعفوّ عنه لم يسبق ملكهما ، وإنّما ملك الثلاثة دفعة واحدة ، وإنّما يستحقّ الشفعة بملكٍ سابق لملك المشتري.

فإن باع أحد الشريكين نصيبه من ثلاثة في ثلاثة عقود على الترتيب فعفا الشريك عن المشتري الأوّل ، وطلب من الآخرين ، كان للمشتري الأوّل مشاركته في شفعة الآخرَيْن ؛ لأنّ ملكه سابق لشرائهما.

وكذا إن عفا عن الأوّل والثاني ، شاركاه في حقّ الشفعة على الثالث.

ولو عفا عن الثاني خاصّةً ، كان له مشاركته في شفعة الثالث ، دون الأوّل.

ولو عفا عن الثالث خاصّة ، لم يكن له مشاركته في شفعة الأوّلين.

ولو عفا عن الثاني والثالث ، لم يشاركاه في شفعة الأوّل ، لأنّهما حين وجوب الشفعة لم يكن لهما ملك.

مسالة ٨٠٩ : لو وكّل أحد الشركاء الثلاثة ثانيَهم‌ ، فباع الوكيل نصيبه ونصيب مُوكِّله صفقةً واحدة ، كان للثالث الشفعةُ ، وليس للوكيل ولا للموكّل شفعة على الآخَر ؛ لعدم الأولويّة. ولأنّهما بائعان.

وهل للثالث أن يأخذ أحد النصيبين دون الآخَر؟ الأقوى ذلك ؛ لأنّ‌

____________________

(١) اُنظر : المغني ٥ : ٥٣٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٣٤٧

المالك اثنان ، فهو كما لو تولّيا العقد ، وهو أحد قولي الشافعيّة. والثاني : ليس له ؛ لأنّ العاقد واحد في الطرفين اعتباراً بالوكيل(١) .

ولو كانت الدار لاثنين فوكّل أحدهما الآخَر ببيع نصف نصيبه ، وجوّز له أن يبيع نصيب نفسه إن شاء صفقةً واحدة ، فباع كذلك ، وأراد الموكّل أخذ نصيب الوكيل بالشفعة بحقّ النصف الباقي ، فله ذلك ؛ لأنّ الصفقة اشتملت على ما لا شفعة للموكّل فيه - وهو ملكه - وعلى ما فيه شفعة - وهو ملك الوكيل - فأشبه مَنْ باع شقصين من دارين صفقةً واحدة.

فإن كان الشفيع في إحداهما غير الشفيع في الاُخرى ، فلكلٍّ أن يأخذ ما هو شريك فيه ، سواء وافقه الآخَر في الأخذ أو لا. وإن كان شفيعهما واحداً ، جاز له أخذ الجميع ، وأخذ أيّتهما شاء ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٢) .

مسالة ٨١٠ : لو كانت الدار لثلاثة نصفها لواحدٍ ولكلّ واحد من الآخَرَيْن الربع‌ ، فقارض أحد هذين الرجلين الآخَرَ على ألف ، فاشترى العامل منهما نصف نصيب صاحب النصف ، فلا شفعة هنا ؛ لأنّ البائع لا شفعة له فيما باع ، والشريك الآخَر ربّ المال ، والثالث هو العامل ، وربّ المال والعامل بمنزلة الشريكين في المبتاع ، فلا يستحقّ أحدهما على الآخَر شفعة فيما ابتاعه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) .

فإن باع الذي كان صاحب النصف الربعَ الذي بقي له من أجنبيّ ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٨.

(٣) اُنظر : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ ، وروضة الطالبين ٤ : ١٩٢ ، والمغني ٥ : ٤٩٩ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٤٧.

٣٤٨

فالشقص للشفعة أثلاثاً ، الثلث بالربع الذي لربّ المال ، والثلث بالربع الذي للعامل ، والثلث لمال المضاربة وكان مال القراض بمنزلة شريكٍ آخَر ؛ لأنّ حكمه متميّز عن مال كلّ واحد منهما.

مسالة ٨١١ : لو اشترى بعيراً وشقصاً بعبد وجارية‌ ، وقيمة البعير والشقص مائتان كلّ واحد بمائة ، وكذا قيمة العبد مائة ، وقيمة الجارية مائة ، تثبت الشفعة في الشقص بنصف قيمة العبد والجارية.

فإن تلف البعير قبل القبض ، بطل فيه العقد ، ولا يبطل في الشقص ، وهو أحد قولي الشافعيّة(١) في طريق تفريق الصفقة ، فإن قلنا : يبطل ، بطل الكلّ وسقطت الشفعة. وإن قلنا : يصحّ في الشقص ، صحّ فيه بنصف العبد والجارية ، وأخذه الشفيع بقيمة ذلك.

وإن تلف العبد ، بطل العقد في نصف البعير ونصف الشقص ، وأخذ الشفيع نصف الشقص بنصف قيمة الجارية.

مسالة ٨١٢ : لو كانت الدار بين أربعة بالسويّة فاشترى اثنان منهم من واحد نصيبه وهو الربع ، استحقّ الذي لم يشتر عليهما الشفعة ، واستحقّ كلّ واحد من المشتريين ؛ لأنّه شريك ، فلا يسقط حقّه من الشفعة ، وتبسط الدار ثمانية وأربعين سهماً ، فالربع اثنا عشر ، وفيه أربع صُور :

أ - أن يطالب كلّ واحد بشفعة ، فيقتسمون المبيع أثلاثاً ، فيحصل لكلّ واحد أربعة.

ب - أن يعفو كلّ واحد من الشريكين عن صاحبه ، ويطالب الذي لم يشتر ، فإنّه يأخذ من كلّ واحد منهما نصف ما في يده ؛ لأنّه ممّا اشتراه‌

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٤٩

كلّ واحد شريكه في الشفعة ؛ إذ لا شفعة فيه إلّا لهما ، فيحصل للّذي لم يشتر نصفُ السهم ستّة ، ولكلّ واحد من المشتريين ثلاثة أسهم.

ج - أن يعفو الذي لم يشتر خاصّة ، فكلّ واحد من المشتريين يأخذ من صاحبه ما في يده ، فيكون ذلك قدر ما اشتراه لكلّ واحد ستّة.

د - أن يعفو الذي لم يشتر عن أحدهما دون الآخَر ، فإنّه يأخذ ممّن لم يعف عنه سهمين ، وتبقى معه أربعة أسهم يأخذ منها المعفوّ عنه سهمين ، ويأخذ الذي لم يعف عنه من المعفوّ عنه ثلاثة أسهم نصف ما في يده ؛ لأنّه لا شفيع في هذا السهم سواهما ، فيحصل مع كلّ واحد منهما خمسة ، ومع العافي سهمان.

البحث الثامن : في الحِيَل المسقطة للشفعة.

مسالة ٨١٣ : يجوز استعمال الحِيَل بالمباح مطلقاً عندنا وعند جماعة من العامّة ، خلافاً لأحمد بن حنبل(١) .

فإذا أراد أن يشتري الشقص ولا تلزمه شفعة ، أمكنه أن يشتريه بثمن مشاهد لا يعلمان قدره ولا قيمته إذا لم يكن من المكيلات والموزونات ، ثمّ يخرجه عن ملكه بتلفٍ أو غيره بحيث لا يتمكّن من العلم به وقت المطالبة بالشفعة ، فإذا طُولب بالشفعة وتعذّر عليه معرفة الثمن ، سقطت الشفعة ، فإن ادّعى الشفيع أنّ الثمن كان معلوماً وذكر قدره فأنكر المشتري ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

ولو كان الثمن مكيلاً أو موزوناً ، فقال المشتري : إنّه كان جزافاً أو كان‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٥١١.

٣٥٠

معلوماً وقد نسيته ، لم يُسمع منه في الجزاف عندنا ، وطُولب بجوابٍ صحيح ، فإن أجاب وإلّا جُعل ناكلاً.

ومَنْ قال : إنّه يجوز البيع به هل يكون الجواب به أو بالنسيان صحيحاً؟ الأقرب عندي ذلك - وهو قول أكثر الشافعيّة(١) - لأنّ نسيان المشتري ممكن ، وقد يكون الثمن جزافاً عند مجوّزيه ، فإذا أمكن ، حلف عليه.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه لا يكون جواباً صحيحاً ، فيقال له : إمّا أن تجيب بجوابٍ صحيح ، وإلّا جعلناك ناكلاً ، ويحلف الشفيع ، كما لو ادّعى رجل على آخَر ألف درهم دَيْناً ، فقال : لا أعلم قدر دَيْنك ، لم يكن جواباً(٢) .

والفرق : أنّ المدّعي يدّعي عليه قدراً معيّناً ، وهو لا يجيب عنه لا بإقرارٍ ولا بإنكارٍ ، فلهذا جعلناه ناكلاً ، وفي مسألتنا قوله : « إنّ الثمن كان جزافاً ، أو : لا أذكره » إنكار للشفعة ؛ لأنّه إذا كان كذلك ، لا تجب الشفعة.

نعم ، لو قال : لا أدري لك شفعة أم لا ، كان كمسألة الدَّيْن.

ولأنّ الدَّيْن إن لم يعلمه مَنْ هو عليه يجوز أن يعلمه من هو له ، فيجعل القول قوله مع يمينه ، وهنا هذا هو العاقد ، وإذا كان جزافاً أو لا يعلم ، فلا طريق للشفيع إلى معرفته.

مسالة ٨١٤ : لو أتلف المشتري الثمن المعيّن قبل القبض وكان قد قبض الشقص وباعه ، سقطت الشفعة ، وصحّ تصرّف المشتري ، وكان عليه قيمة الشقص للبائع.

____________________

(١و٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٥١

ولو أراد المتبايعان التوصّل إلى رغبة الشفيع عن الشفعة ، اشتراه بألف إذا كان يساوي مائةً ثمّ يبيعه بالألف سلعة تساوي مائةً ، فإذا أراد الشفيع أن يأخذه ، وجب عليه دفع الألف. وكذا إذا باعه سلعة تساوي مائةً بألفٍ ثمّ اشترى الشقص المساوي مائةً بألف ، فإذا أراد الشفيع أن يأخذه ، أخذه بالألف.

وهذا يصحّ عندنا مطلقاً.

وعند الشافعي إنّما يصحّ إذا لم يشترط مشتري الشقص على بائعه أخذ السلعة بالثمن في العقد ، فإنّه متى شرط ذلك ، بطل العقد عنده ، ويحصل على المشتري بشراء ما يساوي مائة بألفٍ غررٌ(١) .

مسالة ٨١٥ : لو نُقل الشقص بهبةٍ أو صلح أو بجَعْله مالَ إجارة أو غيرها من العقود المغايرة للبيع ، فلا شفعة عندنا.

ووافقنا الشافعي(٢) في كلّ عقد لا يشتمل على المعاوضة ، وعلى أنّهما إذا اتّفقا على أن يهب أحدهما الشقص للآخَر ويهب الآخَر الثمن ، ويكون هذا الاتّفاق قبل عقد الهبة ويعقدانها مطلقةً ، فلا تجب الشفعة.

ولو اتّفقا على بيع الشقص بألف وهو يساوي مائةً ثمّ يُبرئه من تسعمائة بعد انبرام البيع فتعاقدا على ذلك ، رغب الشفيع عن أخذه ؛ لأنّه لو طلبه لزمه الألف.

مسالة ٨١٦ : ومن الحِيَل أن يبيعه جزءاً من الشقص بثمنه كلّه‌ ، ويهب له الباقي أو يهبه بعض الشقص ، أو يملّكه إيّاه بوجهٍ آخَر غير البيع ، ثمّ‌

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٣.

٣٥٢

يبيعه الباقي ، فإنّه لا شفعة عند مَنْ يُبطلها مع الكثرة ، أو يبيعه بثمن حاضر مجهول القدر عند مَنْ يُجّوزه ، ويقبضه البائع ولا يزنه ، بل ينفقه أو يمزجه بمالٍ له مجهول ، فتندفع الشفعة على أصحّ قولي الشافعيّة(١) .

ولو باع بعض الشقص ثمّ باع الباقي ، لم يكن للشفيع أخذ جميع المبيع ثانياً على أحد الوجهين(٢) .

ولو وكّل البائع شريكه بالبيع فباع ، لم يكن له الشفعة على أحد الوجهين(٣) .

مسالة ٨١٧ : لا يكره دفع الشفعة بالحيلة‌ ؛ إذ ليس فيها دفع حقٍّ عن الغير ، فإنّ الشفعة إنّما تثبت بعد البيع مع عدم المعارض ، فإذا لم يوجد بيع أو وُجد مع معارض الشفعة ، فلا شفعة ؛ لعدم الثبوت ، وبه قال أبو يوسف(٤) .

وقال محمد بن الحسن : يكره(٥) .

وللشافعيّة وجهان ، أصحّهما عندهم : الثاني(٦) ، ولا يكره عندهم دفع شفعة الجار بالحيلة قطعاً(٧) .

ولو اشترى عُشْر الدار بتسعة أعشار الثمن ، فلا يرغب الشفيع ؛ لكثرة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

(٢و٣) الوجهان للشافعيّة أيضاً ، اُنظر : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٤ ، وروضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

(٤و٥) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٦.

(٧) روضة الطالبين ٤ : ١٩٦.

٣٥٣

الثمن ، ثمّ يشتري تسعة أعشاره بعُشْر الثمن ، فلا يتمكّن الجار من الشفعة ؛ لأنّ المشتري حالة الشراء شريك في الدار ، والشريك مقدّم على الجار ، أو يخطّ البائع على طرف ملكه خطّاً ممّا يلي دار جاره ، ويبيع ما وراء الخطّ ؛ لأنّ ما بين ملكه وبين المبيع فاصلاً ، ثمّ يهبه الفاصل.

البحث التاسع : في اللواحق.

مسالة ٨١٨ : لو مات المديون وله شقص يستوعبه الدَّيْن فبِيع شقصٌ في شركته‌ ، كان للورثة الشفعةُ ؛ لأنّ الدَّيْن لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة على ما يأتي ، وبه قال الشافعي(١) ، خلافاً لأبي حنيفة(٢) وبعض الشافعيّة(٣) .

ولو كان للمديون دار فبِيع بعضها في الدّين ، لم يكن للورثة الشفعة ، لأنّ البيع يقع لهم ، فلا يستحقّون الشفعة على أنفسهم.

ولو كان الوارث شريك الموروث فبيع نصيب الموروث في دينه ، تثبت الشفعة للوارث بنصيبه الذي كان يملكه ؛ لأنّ البيع على الميّت إنّما كان بسبب دينه الذي ثبت عليه في حال الحياة ، فصار البيع كأنّه قد وقع في حال الحياة ، والوارث كان شريكه في حال الحياة ، فتثبت له الشفعة ، ولا يلزم إذا كانت الدار للموروث فبيع بعضها في دَيْنه ؛ لأنّا إذا جعلنا البيع كأنّه وقع في حال الحياة ، لم يكن الوارث شريكه في تلك الحال ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٤ ، المغني ٥ : ٥٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٧.

(٢) المغني ٥ : ٥٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

٣٥٤

وقال أكثرهم : لا شفعة ؛ لأنّ الدَّيْن لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث ، فإذا بِيع فقد بِيع ملك الوارث عليه ، فلا يستحقّ الشفعة ، كما لو كان له على رجل دَيْنٌ وهو غائب فباع بعض داره ثمّ قدم ، لم تثبت له الشفعة ، كذا هنا(١) .

وما ذكره أوّلاً بعضهم فليس بشي‌ء ؛ لأنّه إنّما يلحق بحال الحياة إذا وجد سببه في حال الحياة وما لا يمكن(٢) ابتداؤه بعد الوفاة ، ولو كان كذلك ، لم يكن للوارث أن يقضي الدَّيْن من عنده ، ويمنع(٣) من البيع.

وهذا عندي هو المعتمد.

لا يقال : هذا الدَّيْن وجب على الميّت ، فلا يجوز أن يباع غيره فيه ، وإنّما يُجعل كأنّه بِيع عليه.

لأنّا نقول : مَنْ يقول : إنّ الملك ينتقل إلى الوارث قد لزمه ما اُلزم ؛ لأنّه يبطل ملك الوارث لأجل دَيْن الميّت ، على(٤) أنّ ذلك لا يمنع(٥) ؛ لأنّ هذا الدَّيْن يتعلّق(٦) بهذه العين ؛ لأنّها مُلكت من جهة السبب ، ألا ترى أنّ العبد إذا جنى ، تعلّقت الجناية برقبته ، وهي ملك لمولاه ، ويُباع فيها وإن لم يكن الدَّيْن على مولاه.

مسالة ٨١٩ : لو كان لأحد الثلاثة نصف الدار ولكلٍّ من الآخَرَيْن ربع‌ ، فاشترى صاحب النصف من أحد شريكيه ربعه ، والآخَر غائب ، ثمّ باع‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

(٢) كذا ، والظاهر : « وما لم يكن ».

(٣) في الطبعة الحجريّة : « ويمتنع ».

(٤) في « ي » والطبعة الحجريّة : « وعلى ».

(٥) في « س ، ي » : « لا يمتنع ».

(٦) في « ي » : « تعلّق ».

٣٥٥

صاحب ثلاثة الأرباع ربعاً منها لرجل ، ثمّ قدم الشريك الغائب ، كان له أخذ ما يخصّه من المبيع الأوّل بالشفعة ، وهو ثُمْنٌ ، ويأخذ المبيع الثاني بأجمعه ؛ إذ لا شفيع غيره.

فإن أراد العفو عن الثاني والأخذ من الأوّل ، أخذ من المشتري الثاني سهماً من ستّة ، ومن الأوّل سهمين من ستّة ؛ لأنّا نفرض الدار أربعة وعشرين سهماً ؛ إذ لا تخرج صحيحةً من أقلّ.

وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّ صاحب النصف اشترى الربع ، فكان بينه وبين الغائب نصفين إن قلنا : إنّ للمشتري شفعةً وإنّ الشفعة على عدد الرؤوس فإذا باع الربع ممّا في يده وفي يده ثلاثة أرباع ، فقد باع ثلث ما في يده ، وهو ستّة ، وبقي في يده اثنا عشر ، وللغائب شفعة ثلاثة أسهم ، فإذا قدم ، أخذ من المشتري ثلث ما استحقّه ، وهو سهم واحد ، لأنّه حصل له ثلث ما كان في يد بائعه ، وأخذ من الأوّل سهمين.

وإن جعلنا الشفعة على قدر النصيب ، فالذي يستحقّ الغائب سهمان من الستّة ، لأنّ ملكه مثل نصف ملك المشتري حصل له في المبيع ثلثا سهم ، ويأخذ من المشتري الأوّل سهماً وثُلثاً ومن الثاني ثلثي سهم.

هذا إذا عفا عن الثاني ، وإن عفا عن الأوّل وأخذ من الثاني ، أخذ من المشتري ما اشتراه ، وهو ستّة أسهم ، لأنّ شريكه بائع ، فلا شفعة له.

وإن أراد أن يأخذ الشفعة بالعقدين ، أخذ ما في يد الثاني ، وأخذ من الأوّل سهمين إن جعلنا الشفعة على عدد الرؤوس ، وإن قلنا : على قدر النصيب ، يأخذ سهماً وثُلثاً.

مسالة ٨٢٠ : لو بِيع شقص وله شفيعان فعفا أحدهما ومات الآخَر وكان وارثه هو العافي‌ ، كان له أن يأخذ الشقص بما ورثه من الشفعة ،

٣٥٦

ولا يبطلها العفو السابق ؛ لأنّ العفو وقع عمّا يملكه بالأصالة لا بالميراث.

وكذا لو قذف رجل أباهما وهو ميّت فعفا أحدهما ، كان للآخَر استيفاء الحدّ كملاً ، فإن مات وكان العافي وارثَه ، كان له استيفاؤه بالنيابة عن مورّثه.

مسالة ٨٢١ : قد سلف(١) أنّ الإقالة لا توجب الشفعة ، خلافاً لأبي حنيفة(٢) . وكذا الردّ بالعيب وإن كان على سبيل التراضي ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : تثبت الشفعة إن وقع الردّ بالتراضي ، لأنّه نقل الملك بالتراضي ، فأشبه البيع(٤) .

وهو خطأ ، لأنّه فسخ ، وليس بمعاوضة ، ولهذا يعتبر فيه العوض الأوّل ، فلم تثبت فيه الشفعة ، كالفسخ بالخيار.

ولو لم يقايله(٥) ، بل باعه المشتري من البائع بذلك الثمن أو غيره ، كان للشفيع الشفعة ، لأنّه عفا عمّا استحقّه بالعقد الأوّل ، وهذا عقد يستحقّ به الشفعة ، فوجبت له.

تذنيب : إذا كان الثمن معيّناً فتلف قبل القبض ، بطل البيع والشفعة ؛ لأنّه تعذّر التسليم ، فتعذّر إمضاء العقد ، بخلاف الإقالة والردّ بالعيب.

____________________

(١) في ص ٢٣٠ ، المسألة ٧٢٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٨ ، المغني ٥ : ٤٧٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٥.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٢٩٥ ، الوسيط ٤ : ٧٤ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٣.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٨.

(٥) في « ي » : « ولم يقابل ». وفي الطبعة الحجريّة : « ولم يقابله » بالباء. وفي « س » : « ولم يقايله » بالياء. والصحيح ما أثبتناه.

٣٥٧

ولو ظهر الثمن المعيّن مستحقّاً ، بطل البيع أيضاً والشفعة.

ولو كان المشتري قد باع الشقص قبل التلف ، صحّ بيعه ، وللشفيع أخذه بالشفعة ، وبطل البيع الأوّل.

أمّا لو باعه ثمّ ظهر استحقاق الثمن المعيّن ، بطل الثاني أيضاً ، ولا شفعة ؛ لأنّ المقتضي لبطلان البيع الاستحقاقُ لا ظهورُه.

آخَر : لو وجبت الشفعة وقضى له القاضي بها والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري فقال البائع للشفيع : أقلني ، فأقاله ، لم تصحّ الإقالة ؛ لأنّها إنّما تصحّ بين المتبايعين ، وليس للشفيع ملكٌ من جهة البائع ، فإن باعه منه ، كان حكمه حكم بيع ما لم يقبض.

مسالة ٨٢٢ : لو كان أحد الشريكين في الدار غائباً وله وكيل فيها‌ ، فقال الوكيل : قد اشتريته منه ، لم يكن للحاضر أخذه بالشفعة ؛ لأنّ إقرار الوكيل لا يقبل في حقّ موكّله. ولأنّه لو ثبتت الشفعة للحاضر بمجرّد دعوى الوكيل ، لثبت للوكيل جميع توابع الملك ، فكان لو مات(١) الموكّل ، لم يفتقر الوكيل في دعوى الشراء منه إلى بيّنة ، بل يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الموكّل ، ويسأله عن ذلك ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ الحاضر يأخذه بالشفعة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه - لأنّه أقرّ بحقٍّ له فيما في يده(٢) .

ويذكر الحاكم ذلك في السجلّ ، فإن قدم الغائب وصدّقه ، فلا كلام.

وإن أنكر البيع فإن أقام مدّعيه البيّنةَ ، بطل إنكاره ، وإن لم يُقم بيّنةً ، حلف المنكر ، ثمّ يردّ النصف عليه واُجرة مثله وأرش نقصه إن كان ، وله أن‌

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « فكان كما لو مات ».

(٢) المغني ٥ : ٥١٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٠ - ٥٣١.

٣٥٨

يرجع بذلك على مَنْ شاء ، فإن رجع على الوكيل ، رجع به على الشفيع ، وإن رجع على الشفيع ، لم يرجع به على الوكيل ؛ لأنّ التلف حصل في يده.

وفي وجهٍ للشافعيّة : أنّه يرجع عليه ؛ لأنّه غرَّه(١) .

مسالة ٨٢٣ : لو حكم حاكمُ شرعٍ باعتقاده أنّ الشفعة تثبت مع الكثرة‌ ، لم يعترض عليه مَنْ لا يعتقد ذلك من الحُكّام.

وكذا عند الشافعي إذا قضى الحنفي بشفعة الجوار ، لم يعترض عليه في الظاهر ، وفي الحكم باطناً عندهم خلاف(٢) .

أمّا نحن فإن كان الآخذ مقلّداً وقلّد مَنْ يجب تقليده ، كان مباحاً له في الباطن. وإن كان مجتهداً ، لم يجز له أن يأخذ على خلاف مذهبه.

مسالة ٨٢٤ : لو اشترى الشقص بكفٍّ من الدراهم لا يعلم(٣) وزنها‌ ، أو بصُبرة حنطة لا يعلم كيلها ، فعندنا يبطل البيع.

وعند مَنْ جوَّزه تُكال أو تُوزن ليأخذ الشفيع بذلك القدر(٤) .

فإن كان غائباً فتبرّع البائع بإحضاره أو أخبر عنه واعتُمد قوله ، فذاك ، وإلّا فليس للشفيع أن يكلّفه الإحضار والإخبار عنه.

ولو هلك وتعذّر الوقوف عليه ، تعذّر الأخذ بالشفعة.

وهذا يتأتّى مثله عندنا ، وهو أن يبيع بما لا مِثْل له ثمّ يتلف قبل العلم بقيمته.

ولو أنكر الشفيع الجهالة ، فإن عيّن قدراً وقال للمشتري : قد اشتريتَه‌

____________________

(١و٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « لم يعلم ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

٣٥٩

بكذا ، وقال المشتري : لم يكن قدره معلوماً ، فأصحّ القولين عند الشافعيّة : أنّه يقنع منه بذلك ، ويحلف عليه(١) ، وهو المعتمد عندي في عدم العلم بالقيمة.

وقال ابن سريج : لا يُقبل منه ذلك ، ولا يحلف ، بل إن أصرّ على ذلك ، جُعل ناكلاً ، ورُدّت اليمين على الشفيع(٢) .

وكذا الخلاف لو قال : نسيت(٣) (٤) .

وإن لم يعيّن الشفيع قدراً لكن ادّعى على المشتري أنّه يعلمه وطالَبه بالبيان ، فللشافعيّة وجهان أصحّهما عندهم : لا تُسمع دعواه حتى يعيّن قدراً ، فيحلف المشتري حينئذٍ أنّه لا يعرف. والثاني : تُسمع ، ويحلف المشتري على ما يقوله ، فإن نكل ، حلف الشفيع على علم المشتري ، وحُبس المشتري حتى يُبيّن قدره.

فعلى الأوّل طريق الشفيع أن يعيّن قدراً ، فإن وافقه المشتري ، فذاك ، وإلّا حلّفه على نفيه ، فإن نكل ، استدلّ الشفيع بنكوله ، وحلف على ما عيّنه ، وإن حلف المشتري ، زاد وادّعى ثانياً ، وهكذا يفعل إلى أن ينكل المشتري ، فيستدلّ الشفيع بنكوله ويحلف ، وهذا(٥) لأنّ اليمين عندهم قد تستند إلى التخمين.

قالوا : ولهذا له أن يحلف على خطّ أبيه إذا سكنت نفسه إليه(٦) .

وهذا باطل ، وأنّ اليمين لا تصحّ إلّا مع العلم والقطع دون الظنّ‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « انسيت ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وهكذا » بدل « وهذا ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ - ٥١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381