تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

تذكرة الفقهاء20%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-224-5
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119800 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٢٢٤-٥
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ولا تدخل الحجارة المدفونة ولا الآجر المدفون ؛ لأنّه مودع فيها ، إلّا أن تكون الحجارة والآجر مثبتين فيها.

مسالة ٥٧٨ : إذا كان في الدار بئر الماء ، دخلت في المبيع‌ ؛ لأنّها من أجزاء الدار ، وبه قال الشافعي(١) .

وأمّا الماء الحاصل في البئر فالأقرب دخوله.

وللشافعي وجهان :

أحدهما : أنّه مملوك لصاحب الدار ؛ لأنّه نماء ملكه ، فكان داخلاً في ملكه كلبن الشاة ، وبه قال ابن أبي هريرة.

والثاني : أنّه غير مملوك ، لأنّه يجري تحت الأرض ويجي‌ء إلى ملكه ، فهو بمنزلة الماء يجري من النهر إلى ملكه لا يملكه بذلك. ولأنّه لو كان ملكاً لصاحب الدار ، لم يجز للمستأجر إتلافه ، لأنّ الإجارة لا تستحقّ إتلاف الأعيان ، فعلى هذا لو دخل داخل فاستقى ماءً بغير إذن صاحب الدار ، ملك الماء وإن كان متعدّياً بالدخول(٢) .

وإذا باع الماء الذي في البئر ، لم يصحّ البيع على الوجهين عند الشافعي(٣) ؛ لأنّه في أحد الوجهين لا يملك الماء ، فلا يصحّ. وفي الآخر : يكون الماء مجهولاً فيها ، ولا يمكن تسليمه ؛ لأنّه إلى أن يسلّمه يختلط به غيره ، فإذا باع الدار ، لم يدخل الماء في البيع المطلق على الوجهين.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٩٨ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٦ ، و ٦ : ٢٣٩ - ٢٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢ ، و ٤ : ٣٧٣ ، المغني ٤ : ٢١٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٢٠٣.

(٣) اُنظر : العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤٢ ، وروضة الطالبين ٤ : ٣٧٥.

٦١

وأمّا عندنا فإنّه يجوز بيعه منضمّاً إلى الدار ، والجهالة لا تضرّ ؛ لأنّها تابعة ، كأساسات الحيطان.

وإن شرط دخول الماء في البيع ، صحّ عندنا وعنده على قوله : إنّ الماء مملوك(١) .

وأمّا العيون المستنبطة فإنّها مملوكة.

وهل يملك الذي فيها؟ أمّا عندنا : فنعم. وأمّا عند الشافعي :

فوجهان(٢) .

ولا يمكن بيع الماء الذي فيها منفرداً ؛ للجهالة. ويجوز بيع العين وجزء منها.

وأمّا المياه التي في الأنهار - كالفرات ودجلة وما دونها من المياه في الجبال والعيون - فليست مملوكةً ، ومَنْ أخذ منها شيئاً وحازه(٣) ملَكَه ، وجاز له بيعه.

وإذا جرى من هذه المياه شي‌ء إلى ملك إنسان ، لم يملكه بذلك ، كما لو توحّل ظبي في أرضه أو نزل ثلج إلى ساحته.

وكذا إذا حفر نهراً فجرى الماء إليه من هذه الأنهار ، لم يملكه بذلك ، فيجوز لغيره الشرب منه.

أمّا لو حفر النهر وقصد بذلك إجراء الماء وكان النهر مملوكاً له ، فالأولى أنّه يملكه ؛ لأنّه قد حازه(٤) حيث أجراه في نهره ، فكان كما لو أخذ في آنيته.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢.

(٢) انظر : العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤٠ ، وروضة الطالبين ٤ : ٣٧٣ ، والمغني ٤ : ٢١٧ ، والشرح الكبير ٤ : ٢٠٣.

(٣ و ٤ ) في الطبعة الحجريّة و « س ، ي » : « أحازه ». والصحيح ما أثبتناه.

٦٢

مسالة ٥٧٩ : لو كان في الأرض أو الدار معدن ظاهر - كالنفط والملح والغاز والكبريت - فهو كالماء هل يملكه صاحب الأرض؟ للشافعيّة وجهان(١) .

وعندنا أنّه مملوك له إذا كان في ملكه.

وإن كان باطناً كالذهب والفضّة وغيرهما من الجامدات ، فهي مملوكة تتبع الأرض في الملك وفي البيع ؛ لأنّها جزء منها - وبه قال الشافعي(٢) - إلّا أنّه لا يجوز بيع معدن الذهب بالذهب.

ولو بِيع بالفضّة ، جاز عندنا ، وعنده قولان(٣) سبقا في الجمع بين البيع والصرف.

مسالة ٥٨٠ : لو باع داراً في طريقٍ غير نافذٍ ، دخل حريمها في البيع وطريقها.

وفي دخول الأشجار فيه ما سبق. وإن كانت في طريقٍ نافذ ، لم يدخل الحريم والأشجار في البيع ، بل لا حريم لمثل هذه الدار ، قاله الشافعي(٤) .

مسالة ٥٨١ : لو باع داراً ، دخل فيها الأعلى والأسفل‌ ؛ لأنّ اسم الدار يشملهما ، إلّا أن تشهد العادة باستقلال الأعلى بالسكنى ، فلا يدخل. وكذا الخان.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٩٩ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٥ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٨٠ - ٣٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٢ - ٢٠٣.

٦٣

البحث الخامس : العبد.

مسالة ٥٨٢ : إذا باع عبده أو أمته ، لم يتناول العقد مالَ العبد إن كان له مال وقلنا : إنّه يملك بالتمليك ؛ اقتصاراً على ما يتناوله اللفظ وإبقاءً لغيره على أصله.

ولو شرط البائع المال لنفسه ، فلا بحث في أنّه له ؛ لأنّ ملك العبد ناقص ، وللمولى انتزاعه منه دائماً.

وإن باعه مع المال ، فإن قلنا : إنّه لا يملك ما ملّكه مولاه ، اعتبر فيه شرائط البيع ، فلو كان مجهولاً ، لم يصح. وكذا لو كان دَيْناً والثمن دَيْنٌ ، أو كان ذهباً والثمن منه.

ولو كان ذهباً والثمن فضّة أو بالعكس ، جاز عندنا.

وللشافعي قولان(١) .

وإن قلنا : إنّه يملك ، انتقل المال إلى المشتري مع العبد ، ولا تضرّ الجهالة عند الشافعي(٢) ؛ لأنّ المال هنا تابع وجهالة التابع محتملة كجهالة الأساسات والحمل واللبن وحقوق الدار ، بخلاف الأصل ؛ فإنّه لا يحتمل الجهالة.

وقال بعض الشافعيّة : إنّ المال ليس بمبيع لا أصلاً ولا تبعاً ولكن شرطه للمبتاع تبقية له على العبد كما كان ، فللمشتري انتزاعه ، كما كان للبائع الانتزاع ، فلو كان المال ربويّا والثمن من جنسه ، فلا بأس. وعلى الأوّل لا يجوز ذلك ، ولا يحتمل الربا في التابع كما في الأصل(٣) .

____________________

(١ - ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٣.

٦٤

والتحقيق أن نقول : إن باعه العبد وماله بحيث كان المال جزءاً من المبيع ، شرط فيه ما شرط في المبيع. وإن باعه العبد وشرط له المال ، كان المال للمشتري ، واشترط فيه شرائط البيع.

مسالة ٥٨٣ : الأقرب : عدم دخول الثياب التي للعبد في بيعه‌ ، اقتصارا على ما تناوله حقيقة اللفظ ، كالسرج لا يدخل في بيع الدابّة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. وفي الثاني : تدخل ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّ ما عليه من الثياب يدخل اعتباراً بالعرف ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

ولا بأس بهذا القول عندي ، وهو الذي اخترناه في كتاب القواعد(٢) .

والثاني : يدخل ساتر العورة دون غيره(٣) .

ولا وجه له ؛ لأنّ العرف يقضي بالثاني واللغة بالأوّل ، فهذا لا اعتبار به.

ولو جرّده من الثياب وباعه ، لم تدخل قطعاً.

وكذا البحث في عذار الدابّة ومفقودها.

ويدخل نعلها ؛ لأنّه متّصل بها ، فصار كالجزء منها.

مسالة ٥٨٤ : ولا يدخل حمل الجارية ولا الدابّة في بيعهما إلّا مع الشرط‌ ، ولا ثمرة شي‌ء من الأشجار إلّا النخل إذا لم يؤبَّر. ولو شرط خلاف ذلك ، جاز. وقد تقدّم(٤) البحث في هذا كلّه.

____________________

(١ و ٣ ) الحاوي الكبير ٥ : ١٨١ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٤٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٧ - ٣٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٣.

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ٨٥.

(٤) في ج ١٠ ص ٢٧٥ و ٣١٥ - ٣١٦ و ٣٨٤ ، المسائل ١٢٥ و ١٤٠ و ١٨٣.

٦٥

البحث السادس : الشجر.

مسالة ٥٨٥ : إذا باع شجرة ، دخل أغصانها في البيع‌ ؛ لأنّها معدودة من أجزائها.

أمّا الغصن اليابس فالأقرب : دخوله ، ولهذا يحنث لو حلف لا يمسّ جزءا منها ، فلمسه. والقطع لا يخرجه عن الجزئيّة ، والدخول في مسمّى الشجرة كالصوف على الغنم.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه لا يدخل ؛ لأنّ العادة فيه القطع ، كما في الثمار(١) .

ولو كانت الشجرة يابسةً ، دخلت أغصانها اليابسة قطعاً.

وتدخل العروق أيضاً في مسمّى الشجرة ؛ لأنّها جزء منها. وكذا الأوراق ؛ لأنّها جزء من الشجرة.

وفي أوراق التوت ، الخارجة(٢) في زمن الربيع نظر ينشأ : من أنّها كثمار سائر الأشجار ، فلا تدخل. ومن أنّها جزء من الشجرة(٣) فتدخل ، كما في غير الربيع. وهو الأقوى عندي.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

وكذا شجر النبق يدخل فيه ورقه.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٤.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « وفي ورق التوت الخارج ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « الشجر ».

(٤) راجع المصادر في الهامش ( ١).

٦٦

وللشافعيّة طريقان ، هذا(١) أحدهما ، كأوراق سائر الأشجار. والثاني : عدم الدخول ؛ لأنّها تلتقط ليغسل بها الرأس(٢) .

مسالة ٥٨٦ : لو باع شجرة يابسة نابتة‌ ، فعلى المشتري تفريغ الأرض منها. ولو(٣) شرط إبقاءها ، فإن عيّن المدّة ، صحّ. وإن أبهم ، بطل ، إذ لا حدّ لها ينتهي إليه.

وأطلق الشافعي البطلان لو شرط الإبقاء ، كما لو اشترى الثمرة بعد التأبير ، وشرط عدم القطع عند الجذاذ(٤) . والفرق ظاهر.

ولو باعها بشرط القطع أو القلع ، جاز.

وتدخل العروق في البيع عند شرط القلع ، ولا تدخل عند شرط القطع ، بل تقطع عن وجه الأرض.

وهل له الحفر إلى أن يصل إلى منبت العروق؟ إشكال.

مسالة ٥٨٧ : لو باع شجرة رطبة بشرط الإبقاء أو بشرط القلع‌ ، اتّبع الشرط ، فإن أطلق ، فالأقرب أنّه يجب الإبقاء ؛ تبعاً للعادة ، كما لو اشترى ما يستحقّ إبقاءه.

ولا يدخل المغرس في البيع عندنا ؛ لأنّ اسم الشجرة لا يتناوله ، وهو أحد قولي الشافعي. وفي الثاني : أنّه يدخل - وبه قال أبو حنيفة - لأنّه يستحقّ منفعة المغرس لا إلى غاية ، وذلك لا يكون إلّا على سبيل الملك ، ولا وجه لتملّكه إلّا دخوله في البيع(٥) .

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « وهذا ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٤.

(٣) في « س ، ي » : « فلو ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٤ ، منهاج الطالبين : ١٠٦.

٦٧

والمقدّمتان ممنوعتان ؛ لأنّ الغاية انتهاء حياة الشجرة وقد يستحقّ غير المالك المنفعة لا إلى غاية ، كما لو أعار جداره ليضع غيره الجذع عليه.

فعلى الأوّل - الذي اخترناه - لو انقلعت الشجرة أو قلعها المالك ، لم يكن له أن يغرس بدلها ، وليس له أن يبيع المغرس ، وعلى الثاني له أن يغرس بدلها ويبيع المغرس.

وكذا لو باع بستاناً واستثنى منه البائع نخلة.

ولو اشترى النخلة أو الشجرة بحقوقها ، لم يدخل المغرس ، بل الإبقاء ، وليس له الإبقاء في المغرس ميّته إلّا أن يستخلف عوضاً من فراخها المشترطة.

مسالة ٥٨٨ : لو باع شجرة أو نخلة ولها فراخ‌ ، لم تدخل الفراخ في النخلة والشجرة ؛ لأنّها خارجة عن المسمّى ، فلا يتناولها العقد إلّا مع الشرط.

ولو تجدّدت الفراخ بعد البيع ، فهي لمشتري النخلة. ولا يستحقّ المشتري إبقاءها في الأرض إلّا مع الشرط ، فإن لم يشرط ، كان له قلعها عن أرضه عند صلاحية الأخذ لا قبله ، كما في الزرع ، ويرجع في ذلك إلى العادة.

ولو اشترى النخلة بحقوقها ، لم تدخل الفراخ.

ولو استثنى شجرة أو نخلة من البستان الذي باعه ، أو اشترى نخلة أو شجرة من جملة البستان الذي للبائع ، كان له الممرّ إليها والمخرج منها ومدّ(١) جرائدها من الأرض.

____________________

(١) في « س » : « مدى » بدل « مدّ ».

٦٨

ولو انقلعت ، لم يكن له غرس اُخرى ، سواء كان مشترياً للنخلة أو بائعاً لها ، إلّا أن يستثني الأرض.

مسالة ٥٨٩ : لو باع النخل وعليه ثمرة ظاهرة‌ ، فإن كانت مؤبّرةً ، فهي للبائع إجماعاً ، إلّا أن يشترطها المشتري ، فتكون له ؛ عملاً بمفهوم قولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(١) .

وإن لم تكن مؤبّرةً ، فهي للمشتري ، إلّا أن يشترطها البائع ، فتكون له.

ومع الإطلاق للمشتري عندنا - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل(٢) - لما رواه العامّة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ باع نخلاً بعد أن تؤبّر فثمرتها للبائع إلّا أن يشترط المبتاع »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « مَنْ باع نخلاً قد لقح فالثمرة للبائع إلّا أن يشترطها(٤) المبتاع ، قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك »(٥) .

وعن الصادقعليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : مَنْ باع نخلاً قد أبّره فثمره للذي باع إلّا أن يشترط المبتاع » ثمّ قال : « إنّ عليّاًعليه‌السلام قال :

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٢) الوسيط ٣ : ١٧٧ ، حلية العلماء ٤ : ٢٠١ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٥ ، المنتقى - للباجي - ٤ : ٢١٥ ، التفريع ٢ : ١٤٦ ، الذخيرة ٥ : ١٥٧ ، مختصر اختلاف العلماء ٣ : ٩٥ / ١١٧٣ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٢٠٦.

(٣) سنن البيهقي ٥ : ٢٩٧ ، معرفة السنن والآثار ٨ : ٦٨ / ١١١٤٧.

(٤) في المصدر : « يشترط ».

(٥) الكافي ٥ : ١٧٧ / ١٢ ، التهذيب ٧ : ٨٧ / ٣٦٩.

٦٩

قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك »(١) .

وهو يدلّ على أنّ النخل إذا لم تؤبّر ، تكون الثمرة للمشتري ؛ لأنّهعليه‌السلام جعل الإبار حدّاً لملك البائع ، وهو يدلّ على أنّه جعل ما قبله حدّاً لملك المشتري. ولأنّها قبل التأبير كالجزء من النخلة لا يعلم حالها من صحّة الثمرة وفسادها.

وقال ابن أبي ليلى : إنّها للمشتري بكلّ حال ؛ لأنّها متّصلة بالأصل اتّصال الخلقة ، فكانت تابعةً له ، كالأغصان(٢) .

ونمنع المساواة ؛ فإنّ الغصن يطلب بقاؤه ، بخلاف الثمرة ، وهو جزء من النخلة داخل في اسمها ، بخلاف الثمرة. ولأنّه نماء كامنٌ لظهوره غاية ، فلم يتبع أصله بعد ظهوره ، كالحمل.

وقال أبو حنيفة : تكون للبائع أبّرت أولا ؛ لأنّه نماء جذاذ انتهى إليه الحدّ ، فلم يتبع أصله ، كالزرع(٣) .

ويبطل بأنّه نماء كامن لظهوره غاية ، فكان تابعاً لأصله قبل ظهوره ، كالحمل عنده(٤) ، والزرع ليس من نماء الأرض ولا متّصلاً بها ، بل هو مودع فيها.

مسالة ٥٩٠ : النخل إمّا فحول أو إناث‌ ، وأكثر المقصود من طلع‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٨٧ / ٣٧٠.

(٢) مختصر اختلاف العلماء ٣ : ٩٥ / ١١٧٣ ، حلية العلماء ٤ : ٢٠١ ، شرح السنّة - للبغوي - ٥ : ٧٧ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٢٠٦.

(٣) مختصر اختلاف العلماء ٣ : ٩٥ - ٩٦ / ١١٧٣ ، الوسيط ٣ : ١٧٨ ، حلية العلماء ٤ : ٢٠١ ، شرح السنّة - للبغوي - ٥ : ٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٠ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٢٠٦.

(٤) الاستذكار ١٩ : ١٤ / ٢٧٩١١ و ٢٧٩١٢.

٧٠

الفحول استصلاح ثمرة الإناث به.

والذي يبدأ(١) أوّلاً منها أكمة صغيرة ثمّ تكبر وتطول حتى تصير كآذان الحمار ، فإذا كبرت تشقّقت فتظهر العناقيد في أوساطها فيذرّ فيها طلع الفحول ليكون الحاصل من رطبها أجود ، فالتشقيق وذرّ طلع الفحول فيها هو التأبير والتلقيح.

ولا فرق بين أن يؤبّرها الملقّح أو يؤبّرها اللواقح ، فإذا كانت الفحول في ناحية الصبا فهبّ الصبا وقت التأبير فأبّرت الإناث برائحة طلع الفحول وكذا إذا تأبّرت من نفسها ، الحكم في الجميع واحد ؛ لظهور المقصود.

إذا ثبت هذا ، فالتأبير إنّما يعتبر في إناث النخل لا فحولها ، فلو باع فحولاً بعد تشقيق طلعها ، لم يندرج في البيع إجماعاً. وكذا إن لم يتشقّق عندنا - وهو أضعف وجهي الشافعيّة(٢) - عملاً بالأصل ، وعدم تناول اسم النخلة له ، السالم عن معارضة نصّ التأبير ، لأنّا قد بيّنّا أنّ جزءه ذرّ طلع الفحل فيه ، وإنّما يتحقّق ذلك في الإناث. ولأنّ طلع الفحل يؤكل على هيئته ، ويُطلب لتلقيح الإناث به ، وليس له غاية منتظرة بعد ذلك ، فكان ظهوره كظهور ثمرة لا قشر لها ، بخلاف طلع الإناث.

والثاني : الاندراج ، كما في طلع الإناث(٣) . وليس معتمدا.

مسالة ٥٩١ : لو أبّر بعض النخلة ، كان جميع طلعها للبائع‌ ، ولا يشترط لبقاء الثمرة على ملكه تأبير جميع طلعها ؛ لما فيه من العسر ، وعدم‌

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « يبدو » بدل « يبدأ ».

(٢ و ٣ ) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٦ ، حلية العلماء ٤ : ٢٠٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٥.

٧١

الضبط ، ولأنّه يصدق عليه أنّه قد باع نخلاً قد اُبّر ، فيدخل تحت نصّ أنّه للبائع ، وكان غير المؤبَّر تابعاً للمؤبَّر ، وهو أولى من العكس ، كما أنّ باطن الصبرة تبع لظاهرها في الرؤية. ولأنّ الباطن صائر إلى الظهور ، بخلاف العكس.

ولو باع نخلاتٍ اُبّر بعض نخلها وبعضه غير مؤبَّر ، فالوجه عندي : أنّ النخلة المؤبَّرة ثمرتها للبائع ، وغير المؤبَّرة للمشتري ، سواء كانت النخلات من نوعٍ واحد أو من أنواع مختلفة ، وسواء كانت في بستان واحد أو بساتين.

وقال الشافعي : إن كانت في بستان واحد واتّحد النوع وباعها صفقةً واحدة ، فالحكم كما في النخلة الواحدة إذا اُبّر بعض ثمرها دون بعض.

وإن أفرد ما لم يؤبّر طلعة ، فوجهان :

أحدهما : أنّه يبقى للبائع أيضاً ؛ لدخول وقت التأبير ، والاكتفاء به عن نفس التأبير.

وأصحّهما عندهم : أنّه يكون للمشتري ؛ لأنّه ليس في المبيع شي‌ء مؤبَّر حتى يجعل غير المؤبَّر تبعاً له ، فيبقى تبعاً للأصل.

وإن اختلف النوع ، فوجهان :

أحدهما - وبه قال ابن خيران - : أنّ غير المؤبَّر يكون للمشتري ، والمؤبَّر للبائع ؛ لأنّ لاختلاف النوع تأثيراً بيّناً في اختلاف [ الأيدي ](١) وقت التأبير.

وأصحّهما : أنّ الكلّ يبقى للبائع كما لو اتّحد النوع ، دفعاً لضرر‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من « العزيز شرح الوجيز ».

٧٢

اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.

وإن كانت في بساتين ، فحيث قلنا في البستان الواحد : إنّ كلّ واحد من المؤبَّر وغير المؤبَّر يفرد بحكمه ، فهنا أولى. وحيث قلنا بأنّ غير المؤبَّر يتبع المؤبَّر ، فهنا وجهان ، أصحّهما : أنّ كلّ بستان يفرد بحكمه.

والفرق أنّ لاختلاف البقاع تأثيراً في وقت التأبير ، وأيضاً فإنّه يلزم في البستان الواحد ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة. ولأنّ للخطّة الواحدة من التأثير في الجميع(١) ما ليس في الخطّتين ، فإنّ خطّة المسجد تجمع بين المأموم والإمام وإن اختلف البناء وتباعدت المسافة بينهما.

ولا فرق بين أن يكون البستانان متلاصقين أو متباعدين(٢) .

فروع :

أ - لو باع نخلة وبقيت الثمرة له ثمّ خرج طلع آخر من تلك النخلة أو من نخلة اُخرى حيث يقتضي الحال اشتراكهما في الحكم - كما هو عند الشافعي - احتمل أن يكون الطلع الجديد للبائع أيضاً ؛ لأنّه من ثمرة العام ، ولأنّه يصدق على تلك النخلة أنّها مؤبَّرة. وأن يكون للمشتري ؛ لأنّه نماء ملكه بعد البيع.

وللشافعيّة وجهان(٣) كهذين.

ب - لو جمع في صفقة واحدة بين فحول النخل وإناثها ، كان كما لو جمع بين نوعين من الإناث ، عند الشافعيّة(٤) .

والوجه : أنّ طلع الفحول للبائع ، وطلع الإناث للمشتري إن لم يكن‌

____________________

(١) في العزيز شرح الوجيز : « الجمع ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٢ - ٣٤٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٧.

(٣ و ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٨.

٧٣

مؤبّراً.

ج - لو تشقّق الطلع من قِبَل نفسه ، فقد بيّنّا أنّه كما لو أبّره.

وللشافعيّة قولان ، هذا أحدهما.

وقال بعضهم : لا يندرج تحت البيع وإن لم يؤبَّر(١) .

مسالة ٥٩٢ : غير النخل من الأشجار لا تدخل ثمارها في البيع - للأصل - إذا كانت قد خرجت ، سواء بدا صلاحها أو لا ، وسواء كانت بارزةً أو مستترةً في كمام ، وسواء تشقّق الكمام عنها أو لا. وكذا وَرْد ما يقصد وَرْدُه ، سواء تفتّح أو لا ، عند علمائنا. وكذا القطن وغيره. وبالجملة ، كلّ ما عدا النخل فإنّ ثمرته باقية على ملك البائع إذا كانت قد وجدت عند العقد ؛ عملاً بالأصل السالم عن معارضة النصّ ؛ لتخصيصه بالنخل.

وقالت الشافعيّة : ما عدا النخل أقسام :

أوّلها : ما يقصد منه الورق ، كشجر التوت. وقد سبق حكمه.

وشجر الحِنّاء ونحوه يجوز أن يلحق بالتوت. ويجوز أن يقال : إذا ظهر [ ورقه ، فهي ](٢) للبائع بلا خلاف ؛ لأنّه لا ثمر له سوى الورق ، وللتوت ثمرة مأكولة.

وثانيها : ما يقصد منها الوَرْد ، وهو ضربان :

أحدهما : ما يخرج في كمام ثمّ يتفتّح كالورد الأحمر ، فإذا بِيع أصله بعد خروجه وتفتّحه ، فهو للبائع ، كطلع النخل المؤبَّر. فإن بِيع بعد خروجه وقبل تفتّحه ، فهو للمشتري ، كالطلع قبل التأبير.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٣.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

٧٤

وقال بعضهم : إنّه يكون للبائع أيضاً.

والثاني : ما يخرج وَرْده ظاهراً ، كالياسمين ، فإن خرج وَرْدُه ، فهو للبائع ، وإلّا فللمشتري.

وثالثها : ما يقصد منه الثمرة ، وهو ضربان :

أحدهما : ما تخرج ثمرته بارزة بلا قشر ولا كمام ، كالتين ، فهو كالياسمين ، واُلحق العنب بالتين وإن كان لكلّ حبّة منه قشر لطيف ويتشقّق ويخرج منها نَوْرٌ لطيف ؛ لأنّ مثل ذلك موجود في ثمرة النخل بعد التأبير ، ولا عبرة به.

والثاني : ما [ لا ](١) يكون كذلك ، وهو ضربان :

أحدهما : ما تخرج ثمرته في نَوْر ثمّ يتناثر النَّوْر فتبرز الثمرة بغير حائل ، كالتفّاح والمشمش والكُمّثرى وأشباهها ، فإن باع الأصل قبل انعقاد الثمرة ، فإنها تنعقد على ملك المشتري وإن كان النَّوْر قد خرج. وإن باعه بعد الانعقاد وتناثر النّور ، فهي للبائع.

وإن باع بعد الانعقاد وقبل تناثر النّوْر ، فوجهان :

أحدهما : أنّها للمشتري تنزيلا للاستتار بالنّور منزلة استتار ثمر الشجر بالكمام.

والثاني : أنّها للبائع ؛ تنزيلاً لها منزلة استتارها بعد التأبير بالقشر الأبيض. وهو أرجح عند الكرخي.

والثاني : ما يبقى له حائل على الثمرة المقصودة ، وهو قسمان :

أحدهما : ما له قشرٌ واحد ، كالرمّان ، فإذا بيع أصله وقد ظهر الرمّان‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من « العزيز شرح الوجيز ».

٧٥

بقشره ، فهو للبائع ، ولا اعتبار بقشره ؛ لأنّ إبقاءه من مصلحته ، والذي لم يظهر يكون للمشتري.

والثاني ما له قشران ، كالجوز واللوز والفستق والرانج(١) ، فإن باعها قبل خروجها ، فإنّها تخرج على ملك المشتري. وإن باعها بعد الخروج ، تبقى على ملك البائع ، ولا يعتبر في ذلك تشقّق القشر الأعلى على أصحّ الوجهين. والثاني : يعتبر.

واعلم أنّ أشجار الضربين الأخيرين منها : ما تخرج ثمرته في قشره من غير نَوْر ، كالجوز والفستق. ومنها : ما تخرج في نَوْر ثمّ يتناثر النَّوْر عنه ، كالرمّان واللوز ، وما ذكرنا من الحكم فيما إذا بِيع الأصل بعد تناثر النّور عنه ، فإن بيع قبله ، عاد الكلام السابق(٢) .

مسالة ٥٩٣ : القطن ضربان :

أحدهما : له ساق يبقى سنين ، ويثمر كلّ سنة ، وهو قطن الحجاز والشام والبصرة.

والثاني : ما لا يبقى أكثر من سنة واحدة.

[ وفي كليهما ](٣) لا يدخل الجوزق(٤) الظاهر في بيع الأصل ، سواء‌

____________________

(١) الرانج : النارجيل ، وهو جوز الهند. لسان العرب ٢ : ٢٨٤ « رنج ».

وفي « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « النارنج ». وهو غلط. والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر أيضاً.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٠ - ٣٤٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٥ - ٢٠٧.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « وكلاهما ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « الجوز » وكذا في المواضع الآتية في هذه المسألة ، ولم نعثر في اللغة على كلمة « الجوز » بهذا المعنى. والصحيح ما أثبتناه.

٧٦

تفتّح أو لا.

وقال الشافعي : القسم الأوّل كالنخل إن بِيع الأصل قبل خروج الجوزق أو بعده قبل تشقّقه ، فالحاصل للمشتري. وإن بِيع بعد التشقّق ، فهو للبائع. والثاني كالزرع ، فإن باعه قبل خروج الجوزق أو بعده قبل تكامل القطن ، فلا بدّ من شرط القطع. ثمّ إن لم يتّفق القطع حتى خرج الجوزق ، فهو للمشتري ، لحدوثه من عين ملكه(١) .

وقال بعضهم : إن باعه بعد تكامل القطن ، فإن تشقّق الجوزق ، صحّ البيع مطلقاً ، ودخل القطن في البيع ، بخلاف الثمرة المؤبَّرة ، لا تدخل في بيع الشجرة ، لأنّ الشجرة مقصودة لثمار سائر الأعوام ، ولا مقصود هنا سوى الثمرة الموجودة. وإن لم يتشقّق ، لم يجز البيع في أصحّ الوجهين ؛ لأنّ المقصود مستور بما ليس من صلاحه ، بخلاف الجوز واللوز في القشر الأسفل(٢) .

مسالة ٥٩٤ : إذا باع الثمرة ولم يشترط القطع‌ ، استحقّ المشتري الإبقاء إلى القطاف بمجرى العادة ، فإن جرى عرف قوم بقطع الثمار ، فالأقرب :

إلحاق العرف الخاصّ بالعامّ ، وذلك كما يوجد في البلاد الشديدة البرد كروم لا تنتهي ثمارها إلى الحلاوة واعتاد أهلها قطع الحِصْرم.

إذا عرفت هذا ، فالثمار يختلف زمان أخذها ، فما يؤخذ في العادة بُسْراً يؤخذ إذا تناهت حلاوته ، وما يؤخذ رطباً إذا تناهى ترطيبه ، وليس له إلزامه بقطعه منصّفاً ، وما يؤخذ تمراً إذا انتهى نشافه.

وكذا يرجع إلى العادة في ثمرة غير النخل من سائر الأشجار.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٤٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٠٧.

٧٧

تذنيب : لو خِيف على الأصل الضررُ لو بقيت الثمرة ، لم يجب القطع وإن كان الضرر كثيراً على إشكال.

مسالة ٥٩٥ : لو انتقل النخل بغير عقد البيع ، لم يثبت هذا الحكم فيه‌ ، بل الثمرة الظاهرة للناقل إذا وجدت قبل النقل ، سواء كانت مؤبّرة أو غير مؤبَّرة ، عند علمائنا.

ولا فرق بين أن يكون العقد الناقل عقد معاوضة ، كالنكاح والإجارة والصلح ، أو غير عقد معاوضة ، كما لو أصدقها نخلاً فأثمر ثمّ طلّقها وقد ظهر طلع غير مؤبّر ، فإنّه يرجع بنصف النخل دون الثمرة ؛ للأصل المانع من نقل الملك عن صاحبه إلّا بسبب شرعيّ ، السالم عن معارضة البيع.

وقال الشافعي : إنّ عقود المعاوضات تتبع البيع ، فلو أصدقها نخلاً بعد الطلع وقبل التأبير أو جَعَله مال إجارة أو عوض صلح ، دخلت الثمرة في العقد أيضاً ، قياساً على البيع(١) .

وليس بشي‌ء ؛ لأنّا نعارضه بقياس ما قبل التأبير على ما بعده.

ولو ملكها بغير عقد معاوضة ، كما إذا أصدقها نخلاً ثمّ طلّقها بعد الطلع وقبل التأبير ، فإنّه يرجع بنصف النخل خاصّة دون الثمرة ؛ لأنّ الزيادة المتّصلة لا تتبع في الطلاق فالثمرة أولى.

ولو باع نخلاً فأثمر عند المشتري ثمّ أفلس بالثمن ، رجع البائع بالنخل ، ولم تتبعه الثمرة عندنا ، لانتفاء موجبه ، وهو عقد البيع.

وللشافعي قولان :

أحدهما : أنّها تتبع ؛ لأنّ ملكه زال عن الأصل ، فوجب أن تتبعه‌

____________________

(١) نقله السبكي أيضاً في تكملة المجموع ١١ : ٣٤٥.

٧٨

الثمرة ، كما لو زال بالبيع.

والثاني : لا تتبعه ؛ لأنّه رجع إليه بغير عقد معاوضة ، فلم يتبعه الطلع ، كما لو طلّق امرأته(١) (٢) .

وكذا لو وهب نخلة فيها طلع غير مؤبَّر ، لم يتبع الطلع الأصلَ ، وكان باقياً على ملك الواهب، سواء كان بمعاوضة أو لا.

وللشافعي القولان(٣) السابقان.

ولو رجع في الهبة بعد الطلع قبل التأبير ، لم يدخل الطلع في الرجوع.

وللشافعي القولان(٤) .

ولو رهن نخلاً قد أطلع قبل أن يؤبَّر ، لم يدخل في الرهن ؛ اقتصاراً على ما يتناوله اللفظ. ولأنّ الرهن لا يزيل الملك ، فلا يستتبع الثمرة.

وهو جديد الشافعي. وقال في القديم : يدخل(٥) .

مسالة ٥٩٦ : لو كانت الثمرة مؤبَّرةً ، فهي للبائع‌ ، فإن تجدّدت اُخرى في تلك النخلة ، فهي له أيضاً ، وإن كان في غيرها ، فللمشتري ، فإن لم تتميّزا ، فهُما شريكان ، فإن لم يعلما قدر ما لكلٍّ منهما ، اصطلحا ، ولا فسخ ؛ لإمكان التسليم.

وكذا لو اشترى طعاماً فامتزج بطعام البائع قبل القبض ، وله الفسخ.

ولو باع أرضاً وفيها زرع أو بذر ، فهو للبائع ، فإن شرطه المشتري‌

____________________

(١) نقله السبكي أيضاً في تكملة المجموع ١١ : ٣٤٥.

(٢) وردت العبارة في « س ، ي » والطبعة الحجريّة هكذا : « ولو باع نخلاً فأثمرت ولم تتبعها الثمرة أنّه يتبع فوجب أن تتبعها الثمرة والثاني : لا تتبعها » والصحيح ما أثبتناه.

(٣ - ٥ ) كما في تكملة المجموع ١١ : ٣٤٥.

٧٩

لنفسه ، صحّ ، ولا تضرّ الجهالة ؛ لأنّه بائع.

وللبائع التبقية إلى حين الحصاد مجّاناً. فإن قلعه ليزرع غيره ، لم يكن له ذلك ، سواء قصرت مدّة الثاني عن الأوّل أو لا.

ولو كان للزرع أصل ثابت يجزّ مرّة بعد اُخرى ، فعلى البائع تفريغ الأرض منه بعد الجزّة الاُولى. ويحتمل الصبر حتى يستقلع.

ولا تدخل المعادن في البيع إلّا مع الشرط.

ولو(١) لم يعلم بها البائع وقلنا بالدخول مع الإطلاق ، تخيّر بين الفسخ والإمضاء في الجميع.

ويدخل في الأرض البئر والعين وماؤهما على ما قلناه.

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « فلو ».

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

قال الطبري في تاريخه : زعموا أن الحسن البصري لما بلغه قتل حجر وأصحابه ، قال: صلّوا عليهم وكفنّوهم واستقبلوا بهم القبلة؟. قالوا : نعم. قال : حجّوهم وربّ الكعبة.

وذكر كثير من أهل الأخبار أن معاوية لما حضرته الوفاة ، جعل يغرغر بالموت ، ويقول : إن يومي منك يا حجر بن عدي لطويل.

(أقول) : ولكن هيهات ينفع الندم.

ترجمة حجر بن عدي

(الدرجات الرفيعة للسيد علي خان ، ص ٤٢٣)

هو حجر بن عديّ بن معاوية بن جبلة بن الأدبر الكندي. يكنى أبا عبد الرحمن ، ويسمى حجر الخير.

قال ابن عبد البرّ في (الإستيعاب) : كان حجر من فضلاء الصحابة ، شجاعا من المقدمين.

وقال غيره : كان من الأبدال ، وكان صاحب راية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو بعد من الرؤساء والزهاد. وشهد القادسية ، وهو الّذي فتح مرج عذراء. ومحبته وإخلاصه لأمير المؤمنينعليه‌السلام أشهر من أن تذكر. وكان على كندة يوم صفين ، وعلى الميسرة يوم النهروان.

وفي (أعلام الزركلي) : وسكن الكوفة إلى أن قدم زياد ابن أبيه واليا عليها ، فدعا به زياد فجاءه ، فحذّره من الخروج على بني أمية. فما لبث أن عرفت عنه الدعوة إلى مناوأتهم والاشتغال في السرّ بالقيام عليهم. فجيء به إلى دمشق ، فأمر معاوية بقتله بعد أن أعطاه الأمان ، فقتل في مرج عذراء (من قرى دمشق) مع أصحاب له.

٣٩٣ ـ إثارة مروان بن الحكم الفتنة بين معاوية والحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٤ ص ٥١ ط إيران)

روى الكلبي أن مروان بن الحكم قال يوما للحسينعليه‌السلام : لو لا فخركم بفاطمة

٣٦١

بم كنتم تفخرون علينا؟. فوثب الحسين (وكان شديد القبضة) فقبض على حلقه فعصره ، ولوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه ، ثم تركه.

وأقبل الحسينعليه‌السلام على جماعة من قريش ، فقال : أنشدتكم الله إلا صدّقتموني إن صدقت. أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن أخي؟. أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي؟. قالوا : الله م لا.قال : وإني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه ، طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والله ما بين جابرسا وجابلقا [مدينتان إحداهما بباب المشرق والأخرى بباب المغرب] رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذ كان ، وعلامة قولي فيك أنك إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك!.

قال : فو الله ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب ، فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه.

٣٩٤ ـ دعايات مفتعلة :

شعر معاوية أن الأمة بكافة فصائلها تقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام ، باعتباره الحاكم الّذي يلي الخلافة بعد هلاك معاوية وبدون منافس. وذلك لشياع ذكره في الأمصار وعلى كل لسان. فهم كانوا لا يشكّون بأن الخلافة سوف تؤول إليه بعد هلاك معاوية. لذلك بدأ معاوية يختلق القصص المنقولة عن بعض الوشّائين والنمّامين ، بأن الحسينعليه‌السلام يفكر في الخروج عليه. لذلك كتب معاوية للحسينعليه‌السلام كتابا يذكّره فيه بعهده وصلحه.

٣٩٥ ـ كتاب معاوية للحسينعليه‌السلام يتهمه فيه بالفتنة وشقّ عصا الطاعة ، ويتوعده بالبطش به :

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ١٣١)

قال السيد علي جلال الحسيني في كتابه (الحسين) ج ١ ص ١٦٤ :

روى ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ج ١ ص ٢٨٤ وما بعدها ، وأبو عمرو محمّد بن عمر الكشي في (معرفة أخبار الرجال) ، وأبو جعفر الطوسي في (اختيار الرجال) طبع بومبي ص ٣٢ وما بعدها ؛ أن معاوية كتب إلى الحسينعليه‌السلام :

أما بعد ، فقد انتهت إليّ أمور عنك ، إن كانت حقا فقد أظنك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله إنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإن أحقّ الناس بالوفاء لمن

٣٦٢

أعطى بيعته ، من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها. وإن كان الّذي بلغني باطلا ، فإنك أنت أعدل الناس لذلك ، وحظّ نفسك فاذكر ، وبعهد الله أوف!. فإنك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك. فاتّق شقّ عصا هذه الأمة ، وأن يردّهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت الناس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يستخفّنك السفهاء والذين لا يعلمون.

٣٩٦ ـ ردّ الحسينعليه‌السلام على كتاب معاوية ، وبيان بعض أعماله ونقضه للعهد:

(المصدر السابق ، ص ١٣٢)

فلما وصل الكتاب إلى الحسين رضي الله عنه ، كتب إليه :

أما بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى. وأما ما ذكرت أنه رقى إليك عني ، فإنه إنما رقاه إليك الملّاقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. واعلم بأني ما أردت لك حربا ولا عليك خلافا ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك ، وإلى أوليائك القاسطين (الجائرين) الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشيطان.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة ، وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلما وعدوانا ، من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظّة والمواثيق المؤكدة ، جرأة على الله واستخفافا بعهده.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، العبد الصالح الّذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفر لونه؟. فقتلته بعد ما أمنّته وأعطيته من العهود ما لو فهمته (الوعول) لنزلت من رؤوس الجبال.

أولست بمدّع (زياد بن سمية) المولود على فراش (عبيد) عبد ثقيف؟. فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعمدا ، واتبعت هواك بغير هدى من الله. ثم سلطّته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل عيونهم ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

٣٦٣

أولست قاتل الحضرمي الّذي كتب إليك فيه زياد بن سمية أنه على دين علي كرم الله وجهه ، فكتبت إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليعليه‌السلام ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك؟!.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتق شقّ عصا هذه الأمة ، وأن تردّهم إلى فتنة. وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله ، وإن تركته فإني أستغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : إني إن أنكرك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ، فإني أرجو أن لا يضرني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، لأنك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيت بشرط. ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا ، فقتلتهم مخافة أمر ، لعلك لولم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب. واعلم أن لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على التّهمة ، ونفيك لهم أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب. وما أراك إلا قد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيتك ، وأخربت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقي ، والسلام.

فقال معاوية : إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسدا.

استخلاف معاوية ليزيد

٣٩٧ ـ عزم معاوية على البيعة ليزيد بعد وفاة الحسنعليه‌السلام :

(الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ١ ص ٣٧٦)

وكان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسنعليه‌السلام وعرّض بها ، بعد أن

٣٦٤

نكث بشروط صلحه مع الحسنعليه‌السلام ، ولكنه لم يكشفها ولا عزم عليها إلا بعد وفاة الحسنعليه‌السلام .

٣٩٨ ـ اعتماد معاوية على داهيتين :

(خطط الشام لمحمد كرد علي ، ج ١ ص ١٣٦)

ولما مات الحسنعليه‌السلام بعد أربعة أشهر من استيلائه على العراق ، صفا الجو لمعاوية وبايع له الناس. فملك العراق والحجاز ومصر ، وأجمعت القلوب على مبايعته طوعا أو كرها. وكان ممن مالأ معاوية على تحقيق رغائبه عمرو بن العاص ، قريبه وعامله على مصر ، والمغيرة بن شعبة عامله على الكوفة. وهما الداهيتان اللتان يقول فيهما الحسن البصري : إنهما أفسدا هذه الأمة ، لاحتيال الأول برفع المصاحف يوم صفين وتقرير التحكيم ، ولأن الثاني كان من الداعين لأخذ البيعة ليزيد.

٣٩٩ ـ المغيرة بن شعبة يشير على معاوية باستخلاف يزيد :

(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٥)

قال الحسن البصري : أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص ، يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت ، ونال من القراء ، فحكمّ الخوارج ، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.

والمغيرة بن شعبة ، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة ، فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولا ، فأبطأ عنه. فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك؟. قال :أمر كنت أوطّئه وأهيّئه!. قال : وما هو؟. قال : البيعة ليزيد من بعدك. قال : أوقد فعلت؟. قال : نعم. قال : ارجع إلى عملك!.

فلما خرج قال له أصحابه : ما وراءك؟. قال : وضعت رجل معاوية في غرز غيّ ، لا يزال فيه إلى يوم القيامة.

قال الحسن البصري : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم ، ولو لا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.

٤٠٠ ـ البيعة ليزيد :(العقد الفريد لابن عبد ربه ، ج ٤ ص ٣٠٢)

روى أبو الحسن المدائني قال : لما مات زياد بن أبيه سنة ٥٣ ه‍ ، أظهر معاوية عهدا مفتعلا ، فقرأه على الناس ، فيه عقد الولاية ليزيد بعده فلم يزل يروّض الناس لبيعته سبع سنين

٣٦٥

فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه.فوفد عليه من كل مصر قوم. وكان فيمن وفد عليه من البصرة الأحنف بن قيس. ثم جلس معاوية في أصحابه ، وأذن للوفود فدخلوا عليه. وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد. فأول من تكلم الضحاك بن قيس الخ.

٤٠١ ـ كلام الأحنف بن قيس في يزيد وبيعته :

(المصدر السابق)

ثم تكلم الأحنف بن قيس ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم بيزيد ، في ليله ونهاره ، وسرّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه. فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.

٤٠٢ ـ خطبة مروان في مسجد المدينة يدعو إلى يزيد :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٧١)

أخبرنا سيد الحفّاظ أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي حدثنا من أدرك مروان بن الحكم ، أنه خطب الناس على المنبر ليدعو إلى يزيد بن معاوية [وكان والي معاوية على المدينة]. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق ، فجلس على قوائم المنبر ، فقال : لا ، ولا نعمة عين لك ، أدين الهرقليّة [نسبة إلى هرقل ملك الروم] ، كلما ذهب واحد جاء آخر؟. هلك أبو بكر فترك ولدا هم أطيب وأكثر من ولد معاوية ، ثم نحّاها عنهم وجعلها في رجل من بني عديّ بن كعب. ثم هلك عمر ابن الخطاب فترك ولدا هم أطيب وأكثر من ولد معاوية ، فنحّاها عنهم وجعلها شورى بين الناس.

(قال) : وقالت عائشة : يا مروان ، أما والله إنكم للشجرة الملعونة التي ذكر الله في القرآن.

رواية أخرى للخطبة : (الفتوح لابن أعثم ، ج ٥ ص ١٧١)

وذكر هذه القصة أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه أطول من هذه.

قال : كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره أن يدعو الناس إلى بيعة يزيد ، ويخبره في كتابه أن أهل مصر والشام والعراق قد بايعوا.

٣٦٦

فأرسل مروان إلى وجوه أهل المدينة ، فجمعهم في المسجد الأعظم. ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الطاعة وحضّ عليها ، وذكر الفتنة وحذّر منها.

ثم قال في بعض كلامه : أيها الناس إن أمير المؤمنين قد كبر سنّه ، ودقّ عظمه ، ورقّ جلده ، وخشي الفتنة من بعده. وقد أراه الله رأيا حسنا ، وقد أراد أن يختار لكم وليّ عهد ، يكون لكم من بعده مفزعا ، يجمع الله به الألفة ويحقن به الدماء ، وأراد أن يكون ذلك عن مشورة منكم وتراض ، فماذا تقولون؟.

(قال) فقال الناس من كل جانب : إنا مانكره ذلك إذا كان رضا. فقال مروان :فإنه قد اختار لكم الرضا الّذي يسير بسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وهو ابنه (يزيد). قال : فسكت الناس.

وتكلم عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : كذبت والله ، وكذب من أمّرك بهذا.والله ما (يزيد) بمختار ولا رضا ، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية في يزيد الخمور ، يزيد القرود ، يزيد الفهود.

فقال مروان : إن هذا المتكلم هو الّذي أنزل الله فيه :( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) [الأحقاف : ١٧].

(قال) فغضب عبد الرحمن ، وقال : يابن الزرقاء! أفينا تتأوّل القرآن ، وأنت الطريد ابن الطريد!. ثم بادر إليه فأخذ برجليه ، وقال : انزل يا عدوّ الله عن منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس مثلك من يتكلم [بهذا] على أعواده.

قال : فضجّت بنو أمية في المسجد. وبلغ ذلك عائشة فخرجت من منزلها متلفّعة بملاءة لها ، ومعها نسوة من قريش ، حتّى دخلت المسجد. فلما نظر إليها مروان كأنه فزع من ذلك ، فقال : سألتك بالله يا أم المؤمنين إن قلت إلا حقا. فقالت عائشة : لا أقول إلا حقا. أشهد لقد لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباك ولعنك ، فأنت فضض من لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت الطريد ابن الطريد. أتكلّم أخي عبد الرحمن بما تكلمه!.فسكت مروان ولم يردّ عليها شيئا ، [ورجعت عائشة إلى منزلها] وتفرّق الناس.

٤٠٣ ـ عزل مروان بن الحكم عن المدينة :

ذكر الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص ١٧٥ : أن معاوية بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام وتولية يزيد ، بعث إلى مروان وكان عامله على المدينة ، يطلب منه أخذ البيعة ليزيد من أهل المدينة ، فحاول مروان ذلك فلم يستطع. فبعث إلى معاوية

٣٦٧

بعدم تجاوب أهل المدينة معه. فعزله ، وعيّن مكانه سعيد بن العاص ، وهو جلف قاس ، فأظهر الغلظة ، وأخذهم بالعزم والشدة. ثم قدم معاوية بنفسه إلى المدينة.

ترجمة مروان بن الحكم

[وأبيه الحكم بن أبي العاص]

هو أبو الحكم ، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.

قال الذهبي في (العبر في خبر من غبر) ج ١ ص ٧١ :

وكان مروان كاتب السرّ لابن عمه عثمان ، وبسببه جرى على عثمان ما جرى. وكان قصيرا ، كبير الرأس واللحية ، دقيق الرقبة ، أوقص ، أحمر الوجه. يلقّب : خيط باطل ، لدقّة عنقه. عاش ثلاثا وستين سنة.

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) ج ٥ ص ١٢٥ طبعة أنيقة : وكان والده الحكم مغموصا عليه في إسلامه ، وكان إظهاره الإسلام في يوم فتح مكة ، فكان يمرّ خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخلج بأنفه ويغمز بعينيه ، فبقي على ذلك التخليج وأصابته خبلة.

وكان الحكم يفشي أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعنه وسيّره إلى الطائف مع بنيه ، وقال : لا يساكنّي. فلم يزالوا طرداء حتّى ردّهم عثمان ، فكان ذلك مما نقم فيه عليه.

عن أبي هريرة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت في النوم بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة «فأصبح كالمتغيّظ. فما رؤي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتّى مات (راجع مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٧٣).

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) : حدثنا روح بن عبد المؤمن المقري عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : استأذن الحكم بن أبي العاص على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ائذنوا له لعنة الله عليه ، وعلى من يخرج من صلبه ، إلا المؤمنين وقليل ما هم ، يشرفون في الدنيا ، ويتّضعون في الآخرة».

٣٦٨

وكانت أم مروان صفية ، ويقال الصعبة بنت أبي طلحة ، وأمها مارية بنت موهب كندية ، وهي الزرقاء التي يعيّرون بها ، فيقال : بنو الزرقاء. وكان موهب قينا (أي عبدا).

وفي (أخبار الدول) للقرماني ، ص ١٣٢ :

روى الحاكم في كتاب (الفتن والملاحم) من المستدرك عن عبد الرحمن بن عوف ، أنه قال : كان لا يولد لأحد ولد إلا أتي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدعو له. فأدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : «هذا الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون».

ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرف صوته ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ائذنوا له لعنة الله عليه ذو مكر وخديعة. يعطون في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق».

٤٠٤ ـ جملة من أعمال مروان المشينة :

(شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي ، ص ٦٩)

ذكر الذهبي وابن عبد البر وغيرهما شيئا من مخازي مروان ، منها : أنه أول من شقّ عصا المسلمين بلا شبهة. وقتل النعمان بن بشير ، أول مولود من الأنصار في الإسلام. وخرج على ابن الزبير بعد أن بايعه على الطاعة. وقتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل (غيلة من خلفه).

٤٠٥ ـ الغدر صفة متأصلة في مروان :

(نهج البلاغة ، خطبة رقم ٧١)

ومما يثبت أن صفة الغدر متأصلة في مروان ، أنه لما أخذ أسيرا يوم الجمل ، استشفع الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام في أن يطلق سراحه ، فخلّى سبيله. فقالا لأبيهما : أتحبّ أن يبايعك يا أمير المؤمنين؟. فقالعليه‌السلام : أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنها كفّ يهودية ، لو بايعني بكفّه

٣٦٩

لغدر بسبته (أي إسته). أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه. وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر [يقصد بالأكبش الأربعة أولاد عبد الملك بن مروان وهم : الوليد وسليمان ويزيد وهشام].

٤٠٦ ـ هلاك مروان بن الحكم :

روى الواقدي كما في (تاريخ الطبري) ج ٢ ص ٥٧٦ قال :

تزوج مروان أرملة يزيد وهي (فاختة). وكان زواجه منها أشبه بأخذ الميراث ، منه بأن يكون زواجا ومصاهرة. وقد آلم ذلك نفس خالد بن يزيد ، الّذي أصبح في حجره. وكان مروان لا يألو جهدا في إسقاط خالد من أعين الناس ، وأخيرا حرمه مما كان قد وعده به في (الجابية) من أن تكون له الخلافة بعده.

فما كان من فاختة إلا أن انتقمت لابنها خالد من غدر مروان ، فغطّته بالوسادة وهو في سريره ، حتّى قتلته.

وقال الذهبي في (دول الإسلام) :

فلم يلبث أن وثبت عليه زوجته لكونه شتمها ، فوضعت على وجهه مخدّة كبيرة وهو نائم ، وقعدت هي وجواريها فوقها ، حتّى مات.

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) ص ١٥٩ طبع ليدن :

غدر مروان بخالد بن يزيد بن معاوية فيما وعده من ولاية العهد ، وأمه فاختة.ودخل عليه خالد على مرحلة من دمشق ، فقال له مروان : ما أدخلك عليّ في هذا الوقت يابن الرطبة؟!. فقال خالد : أمين مختبر ، أبعدها الله وأسحقها. وأتى أمه فأخبرها بما قال مروان. فقالت له : لن تسمع منه مثلها أبدا. ودخل مروان على أم خالد فتركته حتّى نام ، ثم عمدت إلى مرفقة محشوة ريشا فجعلتها على وجهه ، وجلست وجواريها عليها حتّى مات غمّا. ثم صرخت وجواريها وولولن وقلن :مات أمير المؤمنين بالفجأة.

وقال المسعودي في (مروج الذهب) ج ٣ ص ٩٨ :

فمنهم من رأى أنها وضعت على نفسه وسادة وقعدت فوقها مع جواريها حتّى مات. ومنهم من رأى أنها أعدت له لبنا مسموما ، فلما دخل عليها ناولته إياه فشرب. فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه. فحضره عبد الملك وغيره من ولده ، فجعل مروان يشير إلى أم خالد ، يخبرهم أنها قتلته ، وأم خالد

٣٧٠

تقول : بأبي وأمي أنت ، حتّى عند النزع لم تشتغل عني ؛ إنه يوصيكم بي حتّى هلك.

٤٠٧ ـ معاوية ينقض عهوده ويحاول تولية يزيد :

(مختصر تاريخ العرب لسيد أمير علي ، ص ٧٢)

ولكي يضمن معاوية الخلافة لابنه يزيد ، لم يتردد قط في نكث العهود مع الحسين ابن عليعليهما‌السلام .

وقد كان الصلح المعقود بين الحسنعليه‌السلام ومعاوية ينص على الاعتراف بحق الحسينعليه‌السلام في الخلافة ، ولكن معاوية نقض العهد ، وأخذ لابنه البيعة. فحنق الحسينعليه‌السلام ، وزاد في حنقه فساد يزيد ، فلم يعترف قط بطاغية الشام.

وفي (عمدة الطالب في أنساب أبي طالب) ص ١٨٠ ط نجف :

وكان معاوية قد نقض شرط الحسن بن عليعليه‌السلام بعد موته ، وبايع لابنه يزيد.وامتنع الحسينعليه‌السلام من بيعته. وأعمل معاوية الحيلة حتّى أوهم الناس أنه بايعه ، وبقي على ذلك حتّى مات معاوية.

٤٠٨ ـ قدوم معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد :

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ١٢٧)

روى ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة) في قدوم معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة لابنه يزيد ، أنه لما نزل المدينة دعا الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنه إلى مجلس يضم خاصته. فلما استقرّ بهم المجلس ابتدأ معاوية فقال :

أما بعد ، فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم ، وأشهد ألا إله إلا الله ، المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا ، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. فأدّى عن الله وصدع بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتّى وضح دين الله ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون. فمضى صلوات الله عليه ، وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له ، زهادة واختيارا لله ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى. فهذه صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه ، مشاهدة ومكافحة ، ومعاينة وسماعا ، وما أعلم

٣٧١

منه فوق ما تعلمان. وقد كان أمر (يزيد) ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية ، من سدّ الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين وأحمد الفعل. هذا معناي في (يزيد) ، وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ، ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، ومع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الّذي يرجح بالصم الصلاب. وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم [يريد بذلك عمرو بن العاص] ، وفي رسول الله أسوة حسنة. فمهلا بني عبد المطلب ، فأنا وأنتم شعبا نفع وجد ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ، ما يحمد به البصيرة في عتابكما. وأستغفر الله لي ولكما.

٤٠٩ ـ ردّ الإمام الحسينعليه‌السلام على كلام معاوية :

(المصدر السابق ، ص ١٢٨)

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسينعليه‌السلام وقال : على رسلك ، فأنا المراد ، ونصيبي في التهمة أوفر. فأمسك ابن عباس.

فقام الحسينعليه‌السلام فحمد الله وصلّى على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال :

أما بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبّست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة ، والنكب عن استبلاغ البيعة. وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السّرج ، ولقد فضّلت حتّى أفرطت ، واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى بخلت ، وجرت حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتّى أخذ الشيطان حظه الأوفر ونصيبه الأكمل. وفهمت ما ذكرته عن (يزيد) من اكتماله وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ، من استفزازه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبّق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي ، تجده ناصرا. ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر

٣٧٢

هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحتفا في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية. وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة ، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول ، فأذعن للحجة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية ، من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميره له وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وببيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه فعاله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم». فكيف تحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها ، بالمجتمع عليه من الصواب؟. أم كيف ضاهيت بصاحب تابعا ، وحولك من يؤمن في صحبته ويعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون؟. تريد أن تلبس الناس شبهة ، يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟.( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) وأستغفر الله لي ولكم.

٤١٠ ـ جرأة أبي قتادة الأنصاري على معاوية :

(أخبار الدول وآثار الأول للقرماني ، ص ١٢٩)

قال ابن أبي الدنيا : حجّ معاوية سنة إحدى وخمسين ، فلما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري. فقال له معاوية : تلقّاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار!.قال : لم يكن لنا دواب. قال : فأين النواضح؟. قال : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. فسكت.

يقول القرماني : ولم نذكر في هذا الكتاب ما شجر بين معاوية وبين عليعليه‌السلام لما يتطرق للنفوس الضعيفة وأهل الأهواء من البغض لمعاوية رضي الله عنه.ونسكت عن حرب الصحابة ، فالذي جرى بينهم كان اجتهادا مجردا.

٣٧٣

تعليق على القرماني :

رغم احترامي للشيخ القرماني الدمشقي ، وثقتي بدينه وتقواه وتعظيمه لأهل البيتعليهم‌السلام ، إلا أن كلامه المتقدم لا يمكن السكوت عليه ، من عدة وجوه :

١ ـ يقول : إن ما شجر بين الصحابة الأولين هو من قبيل أن الواحد منهم قد اجتهد فأخطأ. وأقول : إن الخطأ في الاجتهاد مقبول بالنسبة لأهل العلم والذين قضوا حياتهم في الدين والفقه ، فهؤلاء بعد تحصيلهم كل هذه العلوم إذا اجتهدوا وصدف أن أخطؤوا فيمكن التجاوز عنهم. لكن هذا لا ينطبق على مثل مروان بن الحكم ومعاوية والحجاج وغيرهم. فمعاوية رجل ليس عنده أي رصيد من الدين ، وكل أعماله كانت صادرة من مصلحته الشخصية ، وهذا هو الّذي دعاه إلى تولية يزيد ، وهو يعلم أنه أفجر الناس أجمعين. فليس معاوية من الذين يجوز لهم الاجتهاد في أمور الدين أصلا ، حتّى نقول إنه اجتهد فأخطأ أو أصاب.

٢ ـ إن الاجتهاد الّذي يحتمل فيه الإصابة والخطأ ، هو الاجتهاد في الأمور المبهمة المشتبه فيها ، وليس في الأشياء الواضحة الثابتة مثل خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام . فكيف يجوز لأحد أن يجتهد فيها ، ويقول إنها صحيحة أو غير صحيحة بعد أن اجتمع المسلمون عليها. وهذا انطلاقا من كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«لا اجتهاد في موضع النص». فما عمله معاوية في عدم مبايعته للإمام عليعليه‌السلام وإراقته الدماء في سبيل ذلك ، هو ليس اجتهاد ، وإنما هو خروج كامل عن الدين والإسلام.

٣ ـ إن القرماني يقول : إن ما شجر بين الصحابة يلزم عدم ذكره بل ستره ، وإذا علمنا أن ما فعله معاوية وأمثاله من العمل على اقتتال المسلمين وإراقة دمائهم ، وبالتالي ضياع الإسلام تشتيت المسلمين ، هو يحصل في كل زمان ، ولا أحد يسكت عنه ، فكيف نسكت عن الأولين الذين هم كانوا أول من فتح باب الفتن والدماء على هذه الأمة ، وهم الذين سنّوا أساس الكفر والنفاق؟ إن هؤلاء أولى بالذكر والتعرية والإنكار ممن جاء بعدهم ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

٣٧٤

٤١١ ـ قصة عن مداهنة الناس لمعاوية لكسب الأموال :

(مرآة الجنان لليافعي ، ج ١ ص ١٤٦ ط ١)

روي أن معاوية لما نصّب ولده يزيد في ولاية العهد ، أقعده في قبة حمراء ، فجعل الناس يسلّمون على معاوية ، ثم يميلون إلى يزيد. حتّى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية ، فقال : يا أمير المؤمنين لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها.والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية : ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟. فقال :أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت. فقال معاوية [للرجل] : جزاك الله خيرا عن الطاعة ، وأمر له بألوف. فلما خرج لقيه ذلك الرجل ، فقال : يا أبا بحر إني لأعلم كذا وكذا وذمّ يزيد ، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت. فقال الأحنف : إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها.

٤١٢ ـ أيهما يخدع الآخر؟ :

يروى أنه لما ألزم معاوية الناس على البيعة ليزيد بولاية العهد ، بدأ الناس يتوافدون عليه جماعات لتهنئته وتقريظه. فخلا يزيد بأبيه يوما فقال له : يا أبت ، إني متعجب ما أدري أنحن نخدع الناس ، أم أن الناس يخدعوننا؟. فقال معاوية ليزيد قوله المشهور : يا بني ، من خادعته فتخادع لك ليخدعك ، فقد خدعته.

وهذا يبيّن أن كل أعمال معاوية هي خداع في خداع. ومن أوضح الأمثلة على هذا الخداع قصة أرينب بنت اسحق!.

قصة أرينب بنت اسحق

[التي تدل على كرم أخلاق مولانا الحسين]

[في مقابل دناءة أخلاق معاوية ويزيد]

تمهيد للقصة :

بعد أن ضرب معاوية على فخذه وهو يصلي في مسجد دمشق ، ونجا من الموت بأعجوبة ، جاءته الوفود إلى الشام تهنّئه بالصحة والسلامة. وكان من جملة من جاءه مسلّما واليه على العراق عبد الله بن سلّام ومعه زوجته (أرينب بنت اسحق) ذات

٣٧٥

الجمال الأخّاذ. وكان يزيد يجلس في إحدى شرفات قصر الخضراء حين رآها تدخل مع زوجها ، فهاج في صدره حبّ قديم وكان يعرفها من قبل ، فافتتن بها.

ثم إنه دخل على أبيه معاوية وقال له : لا بدّ لي من زواج (أرينب) مهما كلف الأمر. وبما أن يزيد هو الابن المدلل لأبيه ، والذي لا تردّ له حاجة ، عمل معاوية على تنفيذ رغبة ابنه ، ولو كان في ذلك المهانة والعار ، والدناءة وغضب الجبار.

٤١٣ ـ قصة أرينب بنت اسحق :

(الإتحاف بحب الإشراف للشبراوي ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٩)

يقول الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي :

فمن مكارم أخلاق الإمام الحسينعليه‌السلام ما حكاه ابن بدرون في (شرح قصيدة ابن عبدون) من قصة أرينب بنت اسحق زوجة عبد الله بن سلّام القرشي. وكان عبد الله هذا واليا لمعاوية على العراق ، وكانت أرينب هذه من أجمل نساء وقتها وأحسنهن أدبا وأكثرهن مالا. وكان يزيد بن معاوية قد سمع بجمالها وبما هي عليه من الأدب وحسن الخلق والخلق ، ففتن بها ، فلما عيل صبره استراح في ذلك مع أحد خصيان معاوية ، وكان ذلك الخصي خاصّا بمعاوية واسمه رفيف ، فذكر رفيف ذلك لمعاوية ، وذكر شغفه بأرينب ، وأنه ضاق ذرعه بأمرها.

فبعث معاوية إلى يزيد فاستخبره من أمره ، فبثّ له شأنه ، فقال معاوية : مهلا يا يزيد!. قال : علام تأمرني بالمهل ، وقد انقطع منها الأمل. قال له معاوية : فأين حجاك ومروءتك؟. فقال له يزيد : قد عيل الصبر والحجى ، ولو كان أحد ينتفع به في الهوى ، لكان أولى الناس بالصبر عليه داود حين ابتلي به.

قال له : اكتم أمرك يا بني ، فإن البوح به غير نافعك ، والله بالغ أمره فيك ، ولا بدّ مما هو كائن.

وكانت أرينب بنت اسحق مثلا في أهل زمانها ، لجمالها وتمام كمالها وشرفها وكثرة مالها. فأخذ معاوية في الحيلة حتّى يبلغ يزيد رضاه فيها.

فكتب معاوية إلى (عبد الله بن سلّام) وكان استعمله على العراق ، أن أقبل حين تنظر في كتابي لأمر فيه حظك إنشاء الله ، ولا تتأخر عنه ، وجدّ السير.

وكان عند معاوية يومئذ بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء صاحبا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .فلما قدم عليه عبد الله بن سلام الشام ، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه له ، وأعدّ

٣٧٦

فيه منزله ، ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء : إن الله قد قسم بين عباده نعما ، أوجب عليهم شكرها ، وحتم عليهم حفظها ، فحباني منهاعزوجل بأتم الشرف وأكرم الذكر ، وأوسع عليّ رزقه ، وجعلني راعي خلقه وأمينه في بلاده ، والحاكم في أمر عباده ، ليبلوني أأشكر أم أكفر. وأول ما ينبغي للعبد أن يفتقده وينظر فيه ، من استرعاه الله أمره ومن لا غنى له عنه. وقد بلغت لي ابنة [أي أدركت سن البلوغ] أريد إنكاحها ، وأنظر في اختيار من يباعلها ، لعل من يكون بعدي يقتدي فيه بهديي ، ويتّبع فيه أثري ، فإنه قد يبتزّ الملك بعدي ، من يغلب عليه ز هو الشيطان ، وتزيينه إلى تعطيل بناتهم ، فلا يردن لهن كفوا. وقد رضيت لابنتي عبد الله بن سلام القرشي ، لدينه وشرفه ومروءته وأدبه.

فقال أبو هريرة وأبو الدرداء : إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما خصّه به أنت ، لأنك صاحب رسول الله وكاتبه وصهره. قال معاوية :فاذكرا ذلك عني لعبد الله ، وقد جعلت لها في نفسها شوري ، غير أني لأرجو أن لا تخرج من رأيي إنشاء الله تعالى.

فخرجا من عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قاله لهما معاوية.

ثم إن معاوية دخل على ابنته فقال لها : إذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة ، وعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وإنكاحي إياك منه ، وحضّاك إلى المسارعة إلى هواي ، فقولي لهما : عبد الله بن سلام كفؤ كريم وقريب حميم ، غير أن تحته أرينب بنت اسحق ، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء ، فأتناول منه ما يسخط الله فيه فيعذبني عليه ، ولست بفاعلة حتّى يفارقها.

فلما ذكر ذلك أبو هريرة وأبو الدرداء لعبد الله بن سلام ، وأعلماه بالذي أمرهما معاوية ، وأنهما جاءاه خاطبين!. قال لهما : نعم ، أنتما تعلمان رضاي بذلك وحرصي على صهارة أمير المؤمنين. فرجعا إلى معاوية وذكرا له ذلك. فقال : أنا راض بذلك وطالب له ، لكني قد أعلمتكما أني جعلت لها في نفسها شوري ، فادخلا عليها واعرضا عليها ما أحببته لها. فدخلا عليها وعرضا عليها ذلك ، فقالت كالذي قال لها أبوها.

فأعلما عبد الله بن سلام بذلك ، فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا بقاء أرينب عنده ، أشهدها على طلاقها ثلاثا ، وأرسلهما يعلمان بذلك معاوية وابنته. فأظهر معاوية

٣٧٧

كراهية لما فعله عبد الله بن سلام ، وقال : ما أحببت طلاق زوجته ولا استحسنته ، ولكن انصرفا في عافية. ثم عودا إلينا فإننا نسعى في رضاها ، ويكون ذلك إنشاء الله.

وكتب إلى يزيد يعلمه بما كان من طلاق عبد الله لزوجته أرينب بنت اسحق.

ثم عاد أبو هريرة وأبو الدرداء إلى معاوية ، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها رضاها ، تبرّيا من الأمر ، ونظرا في القدر. وقال : لم يكن لي أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى في نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلام لزوجته أرينب ليسرّاها ، وذكرا من فضل عبد الله وكمال مروءته وكريم فخره. فقالت : جفّ القلم بما هو كائن ، وإنه في قريش لرفيع القدر ، وقد تعلمان أن التزويج جدّه جدّ وهزله جدّ ، والأناة في الأمور آمن لما يخاف فيها من المحذور ، وأن الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها ، كان المرء بحسن العزاء خليقا ، وبالصبر عليها حقيقا. وإني سائلة عنه حتّى أعرف دخلة خبره ، ويتضح لي بالذي أريد علمه من أمره ، وإن كنت أعلم أن لا اختيار لأحدهما فيما هو كائن ، ومعلمتكما بالذي يزينه الله في أمره ، ولا قوة إلا بالله. قال الشيخان : وفقك الله وخار لك.

وتحدث الناس بالذي كان من طلاق عبد الله بن سلام امرأته ، وخطبته ابنة معاوية. واستحث عبد الله بن سلام الشيخين ، فأتياها ، فقالا لها : اصنعي ما أنت صانعة واستخيري الله ، فإنه يهدي من استهداه. قالت : أرجو والحمد لله أن يكون الله قد خار ، فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه. وقد سألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي ، مع اختلاف من استشرتهم فيه ، فمنهم الناهي عنه والآمر به ، واختلافهم أقل ما كرهت.

فلما بلغّاه كلامها ، علم أنه مخدوع. وقال متعزيا : ليس لأمر الله رادّ ، ولا لما بدّ منه صادّ ، فإن المرء وإن كمل له علمه واجتمع له عقله ، ليس بدافع عن نفسه قدرا برأي ولا كيد. ولعل ما سرّوا به لا يدوم لهم سروره ، ولا يدفع عنهم محذوره.

وشاع أمره وفشا في الناس ، وقالوا : خدعه معاوية حتّى طلقّ امرأته ، وإنما أرادها لابنه يزيد ، بئس ما صنع.

ولما انقضت أقراؤها (وهي العدّة) وجّه معاوية أبا الدرداء إلى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد. فخرج حتّى قدمها ، وبها يومئذ الحسين بن عليعليهما‌السلام . فقال

٣٧٨

أبو الدرداء حين قدم العراق : ما ينبغي لذي نهى أن يبدأ بشيء غير زيارة الحسينعليه‌السلام سيد شباب أهل الجنة ، إذا دخل موضعا هو فيه ، فإذا أديت حقه ذهبت إلى ما جئت إليه.

مبادرة رائعة :

فلما رآه الحسينعليه‌السلام قام إليه وصافحه إجلالا لصحبته من جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولموضعه من الإسلام. وقال له : ما أتى بك يا أبا الدرداء؟. قال : وجّهني معاوية خاطبا لابنه يزيد (أرينب بنت اسحق) فرأيت عليّ حقا أن لا أبدأ بشيء قبل السلام عليك. فشكر له الحسينعليه‌السلام ذلك وأثنى عليه. ثم قال : لقد كنت أردت نكاحها وعزمت على الإرسال إليها ، إذا انقضت أقراؤها ، فلم يمنعني من ذلك إلا تخيّر فعلك ، فقد أتى الله بك ، فاخطب رحمك الله لي وله [أي يزيد] التحري من تختاره منا ، وهي أمانة في عنقك حتّى تؤديها إليها ، واعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه. فقال : أفعل إنشاء الله.

فلما دخل أبو الدرداء على أرينب ، قال : أيتها المرأة ، إن الله خلق الأمور بقدرته ، وكوّنها بعزته ، فجعل لكل أمر قدرا ، ولكل قدر سببا ، فليس لأحد عن قدر الله مستخلص ، ولا للخروج من عمله مناص ، فكان ما سبق لك وقدّر عليك ، الّذي كان من فراق عبد الله بن سلام إياك ، ولعل ذلك لا يضرّك ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا. وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن مليكها وولي عهده والخليفة من بعده : يزيد ابن معاوية ، والحسين ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن أول من أقرّ به من أمته وسيد شباب أهل الجنة يوم القيامة. وقد بلغك سناهما وفضلهما ، وجئتك خاطبا لهما ، فاختاري أيهما شئت.

فسكتت طويلا ، ثم قالت : يا أبا الدرداء ، لو كان هذا الأمر جاءني وأنت غائب ، لأشخصت فيه الرسل إليك ، واتبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك. فأما إذ كنت المرسل فيه ، فقد فوّضت أمري بعد الله إليك ، وجعلته في يديك ، فاختر لي أرضاهما لديك ، والله شاهد عليك ، فاقض في قصدي بالتحري ، ولا يصدّنك عن ذلك اتباع هوى ، فليس أمرهما عليك خفيّا ، ولست فيما طوّقتك غبيّا.

قال أبو الدرداء : أيتها المرأة إنما عليّ إعلامك ، وعليك الاختيار لنفسك.فقالت : عفا الله عنك ، إنما أنا بنت أخيك ومن لا غنى به عنك ، فلا تمنعك رهبة

٣٧٩

أحد من قول الحق فيما طوّقتك. فقد وجبت عليك إذا الأمانة فيما حمّلتك. والله خير من روعي وخيف ، إنه بنا خبير لطيف.

فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة ، قال : أي بنيّة ، ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ لك وأرضى عندي ، والله أعلم بخيرهما لك. وقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعا شفتيه على شفتي حسين ، فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله شفتيه.قالت : قد اخترته ورضيته فتزوجها الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام وساق لها مهرا عظيما.

وبلغ معاوية الّذي كان من فعل أبي الدرداء في ذلك ، ونكاح الحسينعليه‌السلام إياها ، فتعاظمه جدا ولامه شديدا. وقال : من يرسل ذا بله وعمى ، يركب خلاف ما يهوى. وكان عبد الله بن سلام قد استودع أرينب قبل فراقها بدرات مملوءة درّا ، وكان ذلك أعظم ماله لديه وأحبه إليه. وقد كان معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه. فلم يزل يجفوه حتّى عيل صبره ، وقلّ ما في يديه ، ولام نفسه على المقام لديه. فرجع إلى العراق ، وهو يذكر ماله الّذي استودعه إياها ، ولا يدري كيف يصنع فيه ، وأنّى يصل إليه ، وهو يتوقع جحودها لسوء فعله بها ، وطلاقه إياها من غير شيء أنكره عليها.

ردّ الحقّ إلى أهله :

فلما قدم العراق لقي الحسينعليه‌السلام فسلّم عليه ، ثم قال له : قد عرفت ما كان من خبري وخبر أرينب. وكنت قبل فراقي إياها قد استودعتها مالا عظيما ، وكان الّذي كان ، ولم أقبضه ، ووالله ما أنكرت منها في طول صحبتها فتيلا ، ولا أظن بها إلا جميلا. فذاكرها أمري وحاضضها على ردّ مالي إليّ ، فإن الله يحسن إليك ذكرك ، ويجزل به أجرك. فسكت عنه.

ولما انصرف الحسينعليه‌السلام إلى أهله ، قال لها : قدم عبد الله بن سلام ، وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك ، في حسن صحبتك ، وما آنسه قديما من أمانتك ، فسرّني بذلك وأعجبني. وذكر أنه كان استودعك مالا ، فأدّي إليه أمانته ، وردّي عليه ماله ، فإنه لم يقل إلا صدقا ، ولم يطلب إلا حقا. قالت : صدق.استودعني مالا لا أدري ما هو ، وإنه لمطبوع عليه بخاتمه ، ما حوّل فيه شيء إلى يومه ، وها هو فادفعه إليه بطابعه. فأثنى عليها الحسينعليه‌السلام خيرا. وقال : أدخله عليك حتّى تبرئي إليه منه ، كما دفعه إليك.

٣٨٠

381