نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٥

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 324

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 324
المشاهدات: 214823
تحميل: 5382


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 324 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214823 / تحميل: 5382
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد علمت أنّ معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه

وقد تعلمون أنّ بعض الملوك ربّما أحدثوا قولاً أو ديناً لهوىً، فيحملون الناس على ذلك، حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود واُبيّ بن كعب، وتوعّد على ذلك، بدون ما صنع هو وجبابرة بني اُميّة وطغاة بني مروان بولد علي وشيعته، وإنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها، لإِمساك الآباء عنها وكفّ المعلّمين عن تعليمها، حتى لو قرئت عليهم قراءة عبد الله واُبيّ ما عرفوها ولظنّوا بتأليفها الاستكراه والإِستهجان، لالف العادة وطول الجهالة، لأنّه إذا استولت على الرعية الغلبة وطالت عليهم أيام التسلّط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا على التخاذل والتناكب، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كانوا يعرفونها.

ولقد كان الحجاج - ومن ولّاه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني اُميّة - على إخفاء محاسن علي وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله واُبيّ، لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي -عليه‌السلام - وولده وإظهار محاسنهم بوارهم وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها.

وأبى الله أنْ يزيد أمره وأمر ولده إلّا استنارةً وإشراقاً، وحبّهم إلّا شغفاً وشدّةً، وذكرهم إلّا انتشاراً وكثرةً، وحجّتهم إلّا وضوحاً وقوةً، وفضلهم إلّا

٢١

ظهوراً، وشأنهم إلّا علواً، وأقدارهم إلّا إعظاماً، حتّى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء، وباماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشرّ تحوّل خيراً.

فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدّمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون، ولو لا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسّنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، وكان الأمر كما وصفناه »(١). .

ترجمة أبي جعفر الإسكافي

وأبو جعفر الإِسكافي من مشاهير أئمّة المتكلّمين ونحارير أكابر المعتزلة المعروفين:

قال أبو سعدالسمعاني: « أبو جعفر محمّد بن عبد الله الإِسكافي، أحد المتكلّمين من معتزلة البغداديين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن علي الكرابيسي يتكلّم معه ويناظره. وبلغني أنّه مات في سنة ٢٤٠ »(٢). .

وقالياقوت: « محمّد بن عبد الله أبو جعفر الإِسكافي، عداده في أهل بغداد، أحد المتكلّمين من المعتزلة، له تصانيف، وكان يناظر الحسين بن علي الكرابيسي ويتكلم معه. مات في سنة ٢٤٠»(٣). .

وقال قاضي القضاةعبد الجبار - بعد أن عدّه في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة -: « كان أبو جعفر فاضلاً عالماً وصنّف سبعين كتاباً في علم الكلام، وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته،

__________________

(١). نقض العثمانية ط في آخر العثمانيّة.

(٢). الأنساب ١ / ٢٤٥.

(٣). معجم البلدان ١ / ١٨١ « إسكاف ».

٢٢

ودخل الجاحظ الورّاقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنّه تعرّض لنقض كتابي؟ وأبو جعفر جالس، فاختفى منه حتى لم يره. وكان أبو جعفر يقول بالتفصيل على قاعدة معتزلة بغداد ويبالغ في ذلك، وكان علوي الرأي، محقّقاً منصفاً، قليل العصبيّة »(١). .

كلامٌ للسيّد حيدر الآملي

وللسيد حيدر الآملي(٢). كلام جميل، فيه بعض التفصيل لما أجمله. الإِسكافي، يناسب إيراده في هذا المقام، وهذا نصّه:

« ثمّ لا يغيب عن نظرك: أن الحاكم إذا لم يقتد بالنبيّ في حركاته وسكناته التزم أضدادها، فيحتاج السلطان إلى المعاون والمعاضد والمشير والمساعد له على مقاصده وأغراضه ومطالبه وشهواته، في ارتكاب المحرمات وشرب المسكرات، وسماع الغنا والولوع بالمردان والتهتّك مع النسوان، واجتذاب الأموال من غير حلّها وعسف الرعيّة وذلّها، فيضطرّ الملك والسلطان إلى شيطان يستره وفقيه ينصره وقاض يدلّس له، ومتشدّق يكذب لدولته، ورئيس يسكّن الأمور، وطامع يشهد بالزور، ومشايخ تتباكى وشبّان تتذاكى، ووجيه يهوّن الأحوال ويثيره على حبّ المال، وزاهد يليّن الصعاب، وفاسق ينادم على الشّراب، وعيون تنظر وألسنة تفجر، حتى ينام الخليفة أمير المؤمنين سكرانا، ويجد على فسوقه أعوانا.

ولا تقوم هذه المملكة إلّا بدحض أضدادها، ولا تتم دعوة قوم إلّا بهلاك

__________________

(١). انظر: شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٣٢ - ١٣٣.

(٢). فقيهٌ، متكلّمٌ، مفسّر، صنّف كتباً منها: الكشكول فيما جرى على آل الرسول، والتفسير، رافعة الخلاف في وجه سكوت أمير المؤمنين عن الاختلاف، شرح الفصوص توفي بعد سنة ٧٨٢. الأعلام ٢ / ٢٩٠ معجم المؤلّفين ٤ / ٩٠.

٢٣

أعدائها وعنّادها.

نظر واعتبار:

هل يجب إذا كان هذه الدعوة لعلي بن أبي طالب وملكها معاوية بن أبي سفيان، ووزيراه عليها عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وقد خصمه علي ابن أبي طالب -عليه‌السلام - عليها مدة إلى أنْ قتله معاوية، أن يرفع قدر الحسن والحسين -عليهما‌السلام - وقدر محمّد بن الحنفيّة، وقدر بني هاشم وآل أبي طالب، وأن يكرم عبد الله بن العباس، ويراعى حال أصحاب علي أحيائهم والأموات منهم؟

هذا بعيد من القياس والسياسة الدنياوية.

بل يجب على معاوية أن يفعل ما فعل من التدبير في قتل عليعليه‌السلام وأولاده، وتشتيت شملهم، وسبّ علي على المنابر، وتهوين أمره، ونسخ شرفه من صدور العوام، وبثّ ذلك في العباد والبلاد، وتهديد من صبا إليهم، والتنكيل بمن أثنى عليهم، هكذا مدة دولته. ثمّ أودع في قلوب بني أميّة بغض عليعليه‌السلام وبغض رجاله وآله، حتّى أدى الحال إلى قتل الحسن بالسم، والحسين بالسيف الذي نهب فيه حرمه، وطيف برأسه في العباد والبلاد.

وهل تمّ ذلك إلّا برجال ألبّاء، عقلاء، علماء، فقهاء، ومشايخ فقراء، وأعيان أغنياء، فيستعان بهم على تدبير العوام، وإلقاء الهوام، وتخويف النفوس، وزجر المتكلمين عن الخوض في الناموس؟

فلم يزل السب واللّعن والطرد والعزل في علي وأولاده ورجاله ألف شهر، نشأ فيها رجال ومات فيها رجال، وابيّضت لهم واسودّت لحى، وولدت صبيان وأولاد، واستوسقت بلاد وعباد، وساد بمراضي بني أميّة من ساد، وانخذل أولاد عليعليه‌السلام ورجاله وأتباعه ومن يقتفي أثرهم في المدن والأقاليم، لا ناصر لهم ولا معوان ولا مساعد ولا إخوان، وبذلت على ذلك أموال، ونشأ

٢٤

عليه رجال، وقيلت فيه أقوال، وركبت فيه أهوال، وآل الأمر في الآل إلى ما آل.

وجملة الباعة والفلاحون غافلون عن مقاصد الملوك والسلاطين وكبار الشياطين، وانستر من ذلك خفايا واشتهرت قضايا، وجرى من طباع أهل المدن وعوامهم ما اراده الملك وتربّى الناس على أغراضه، وأثمرت المحبّة لما عند الملك وبغض آل محمّد ورجالهم، وتحدّثت السوقة بذلك في الأسواق، وجال بين الناس الشقاق، وصار أتباع الملك مستظهرين بالكلام والجدال والخصام، ومن يكره الملك تحت السبّ والقتل والطرد والجلد، وانساقت المنافع إلى معاضد الملك بيده ولسانه، واحتكمت دولة بني أميّة ومعاضدها، وذلّل بالقهر والجور معاندها، وستر المتقي عقيدته، وكتم العاقل عبادته، واستمرت الأمور بين الجمهور، واشتدت الأيّام والعصور، وسارت الكتب المصنّفة بذلك في البلاد، والتبس ما فيها من المقاصد على أكثر العباد، والناس عبيد الدنيا وفي طباعهم حبّ العاجلة، وعند الملك السيف والقلم والدينار والدرهم، وآل محمّد وأتباعهم تحت الخوف وبعضهم تحت السيف، ولا يكاد يخفى عن معرفتك سرعة إجابة العوام إلى أغراض الحكّام خوفا وطمعا، يتقلبون تحت إرادته كيف شاء، وأنى شاء، ومتى شاء!

ومع ذلك، الصلوات قائمة، والأذان مرتفع، والصوم معتبر، والمواقيت والحج مستطاع، والزكاة مأتيّة، والجهاد قائم، والناس على مراتبهم، والأسواق منعقدة، والسبل مطرقة، والملاهي بين العوام مبسوطة، وليس في البلاد والشقاء والخوف والخفاء غير أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه‌السلام - وأشياعه وأتباعه.

ولمـّا استوسق الأمر لبني مروان بسبب قتل عثمان، ومقت علي بن أبي طالبعليه‌السلام ورجاله في قلوب الناس، وثبت بينهم هذا الالتباس، ونفخ الشيطان وقال باللسان هلك الملك وهان، ونشأ في الشريعة اُصول، ونما لها فروع، وبسقت لها أفنان، فأثمرت بها، ثمّ لم يغرسها الحقّ، ولا سقاها

٢٥

الرسول، ولا جناها العقل، ولا أكل ثمرها الأولياء، ولا طعمها الفقراء، فظهر بذلك مذاهب، واختلفت فيه مسائل، ونسخت أخبار وطويت آثار، واستقر العالم على الخلاف والاختلاف وعدم الايتلاف، والجبلّة الحيوانيّة بحسب مرباها ومنشأها كما أخبر الصادق الأمين: يولد المولود على الفطرة وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه فينجّسانه.

ثمّ تلاشت دولةً بني اُميّة ونشأت دولة بني العباس، فوجدوا بني اُميّة قد وطّأوا لهم المملكة بالأصالة لهم، فأقرّوا الوظائف التي قرّرها بنو اُميّة في إخماد نار الطالبيّين على حالها، وساسوا الناس بها، وتناولوها هنيّةً مريّة، وأمدّوا العالم المعاون على أغراضهم بالأموال، واستخدموا على ذلك الرجال، ووهبوا على ذلك مقامات ومراتب وولايات وهبات وصدقات، فلمـّا أحسّ الطالبيّون بولاية بني عباس وأخذت حقوقهم بغير حق، هاجروا إلى الأطراف والأوساط، خوفاً من القتل والسيّاط، وخاطبوهم في القيام عن هذا البساط، فندب لهم العباسيّون الرجال وأعدّوا لهم القتال، وتولاّهم المنصور حتى قتل منهم الاُلوف وشرّد منهم الاُلوف، ومن وقف على ( مقاتل الطالبيّين ) عرف ما جرى من بني العباس على آل عليعليه‌السلام . حتى حطّموا شجرتهم وفرّقوا كلمتهم وأفنوا اُموالهم، وأبادوا رجالهم، واضطرّ بنو العباس إلى إقامة دعوتهم ونشر كلمتهم ومراعاة مملكتهم وحراستها من آل عليعليه‌السلام نسفا على عناد بني أميّة، فما استقرّت دولتهم ولا هيبت صولتهم حتى فهموا أن شجرة الطالبيّين متفرقة والأغصان ذابلة، والأفنان ناقصة الريّ مخضودة الشوك يابسة الشرب، فعندها استقرّوا وسكنوا، ولم يأمنوا حتّى علموا أن جميع الرعايا في البلاد والآفاق المشرقية والمغربية أعداء لآل محمّد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يفضّلون أصحابه عليهم، ولا يأنسون بذكرهم

٢٦

ثمّ انهمكت الخلفاء والملوك من العرب والعجم في استعمالهم الكذب وارتكاب المنكرات التي لا تجب لمثلهم على سبيل النبوة المحمّدية والخلافة العلوية التي فرضها الله تعالى وسنّها محمّد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأمر بها ونصّ عليها.

فاضطرّوا إلى وضع المدارس مشغلة للعوام التي ألفت بالقلوب والأوهام السماطات الدسمة والملابس الفاخرة والأنعام، وسموا كلّ رئيسٍ من الرعاة إماماً، ليصحّ لهم الخلافة المملوكة بينهم، ويصير الخليفة الغاصب لكل إمام منهم إماماً، وهم يعلمون أنّهم يرتكبون الآثام ويأكلون الحرام، وأصلحُ الساكنين بالمدرسة داعي الخليفة الغاصب، قائماً بعرضه، مناوئاً لمعاديه، مرتقباً على من يطعن فيه، مكفّراً لمن لا يواليه، يأخذ على ذلك الجوائز السنيّة والمساكن العلّية والمراكب البهيّة والمطاعم الشهيّة، والملابس الفاخرة والمقامات الباهرة، والتنعّم والتلذّذ في المنام، والتقلّب في مستراح الحمام، وأعلا مكانه في المدرسة أن يناقض ويعارض ويدّعي قيام الحجة على الروافض.

وتتابع الناس على ذلك طبقاً بعد طبق، وجيلاً بعد جيل، واندرجوا عليه خلفاً أثر سلف، ونشأ مذهب الجبريين بين العوام واندرج فيه الخاص والعام، واستتر عمال الشياطين ومكراء الفراعنة من السلاطين، والعامي بعقده على هذه المذاهب أسرع من انعقاده على معرفة الله، وهو مذهب يغوث ويعوق ونسر، واشتغل علماء الجمهور بالخلاف والشقاق، وألقوا من تابعهم من الباعة والفلاحين في يمين الطلاق، وغشيت المدارس وأحدث التفاضل والتنافس، وانتظم العالم على صورة من قال غيرها - وإن كان صادقاً - كفّر، ومن التبس بسواها احتقر »(١). .

__________________

(١). الكشكول فيما جرى على آل الرسول: ١٩ - ٢٥.

٢٧

من رسائل أبي بكر الخوارزمي

وجاء في ( رسائل أبي بكر الخوارزمي ):

« وكتب إلى جماعة الشيعة بنيسابور لمـّا قصدهم محمّد بن إبراهيم وإليها:

سمعت - أرشدكم الله سعيكم وجمع على التقوى أمركم - ما تكلّم به السلطان الذي لا يتحمّل إلّا على العدل، ولا يميل إلّا على جانب الفضل، ولا يبالي بأنْ يمزّق دينه إذا رفا دنياه، ولا يفكّر في أن لا يقدّم رضا الله إذا وجد رضاه، وأنتم ونحن - أصلحنا الله وإيّاكم - عصابة لم يرض الله لنا الدنيا، فذخرنا للدار الاُخرى، ورغب بنا عن ثواب العاجل فأعدّ لنا ثواب الآجل، وقسّمنا قسمين: قسماً ماتً شهيداً وقسماً عاش شريداً، فالحي يحسد الميت على ما صار إليه، ولا يرغب بنفسه عمّا جرى عليه.

قال أمير المؤمنين ويعسوب الدين -عليه‌السلام -: المحن إلى شيعتنا أسرع إلى الحدور. وهذه مقالة اُسست على المحن، وولد أهلها في طالع الهزاهز والفتن، فحياة أهلها نغص وقلوبهم حشوها غصص، والأيام عليهم متحاملة والدنيا عنهم مائلة، فإذا كنا شيعة أئمّتنا في الفرائض والسنن ومتبعي آثارهم في ترك كل قبيح وفعل حسن، فينبغي أن نتّبع آثارهم في المحن.

غُصبت سيّدتنا فاطمة صلوات الله عليها وعلى آلها ميراث أبيها - صلوات الله عليه وعلى آله - يوم السقيفة، وأخّر أمير المؤمنين عن الخلافة، وسمّ الحسنعليه‌السلام سرّا، وقتل أخوه -عليه‌السلام - جهرا، وصلب زيد بن علي بالكناسة، وقطع رأس زيد بن علي في المعركة، وقتل ابناه محمّد وإبراهيم على يد عيسى بن موسى العباسي، ومات موسى بن جعفر في حبس هارون، وسمّ علي بن موسى بيد المأمون، وهزم إدريس بفخ حتى وقع إلى الأندلس فريداً،

٢٨

ومات عيسى بن زيد طريداً شريداً، وقتل يحيى بن عبد الله بعد الأمان والأيمان وبعد توكيد العهود والضمان.

هذا غير ما فعل يعقوب بن اللّيث بعلويّة طبرستان، وغير قتل محمّد بن زيد والحسن بن القاسم الداعي على أيدي آل ساسان، وغير ما صنعه أبو السيّاح في علوية المدينة، حملهم بلا غطاء ولا وطاء من الحجاز إلى سامراء، وهذا بعد قتل قتيبة بن مسلم الباهلي لابن عمر بن علي حين أخذه بابويه، وقد ستر نفسه ووارى شخصه، يصانع حياته ويدافع وفاته، ولا كما فعله الحسين ابن إسماعيل المصعبي بيحيى بن عمر الزيدي خاصة، وما فعله مزاحم بن خاقان بعلويّة الكوفة كافة.

وبحسبكم أنّه ليست في بيضة الإِسلام بلدة إلّا وفيها لقتيل طالبيٍّ تربة تشارك في قتله الاُموي والعباسي، وأطبق عليهم العدناني والقحطاني.

فليس حي من الأحياء نعرفه

من ذي يمان ولا بكرٍ ولا مضرٍ

إلّا وهم شركاء في دمائهم

كما تشارك أيسار على جزر

قادتهم الحميّة إلى المنيّة، وكرهوا عيش الذلّة، فماتوا موت العزّة، ووثقوا بما لهم في الدار الباقية، فسخت نفوسهم عن هذه الفانية.

ثمّ لم يشربوا كأساً من الموت إلّا شربها شيعتهم وأولياؤهم، ولا قاسوا لوناً من الشدائد إلّا قاساه أنصارهم وأتباعهم.

داس عثمان بن عفان بطن عمار بن ياسر بالمدينة، ونفى أبا ذرّ الغفاري إلى الربذة، وأشخص عامر بن عبد قيس التميمي، وغرّب الأشتر النخعي وعديّ بن حاتم الطّائي، وسيّر عمر بن زرارة إلى الشام، ونَفى كميل بن زياد إلى العراق، وجفا اُبيّ بن كعب وأقصاه، وعادى محمّد بن حذيفة وناواه، وعمل في دم محمّد بن سالم ما عمل، وفَعَل مع كعب ذي الحطبة ما فعل.

واتّبعه في سيرته بنو اُميّة، يقتلون من حاربهم ويغدرون بمن سالمهم،

٢٩

لا يحفلون المهاجري ولا يصونون الأنصاري، ولا يخافون الله ولا يحتشمون الناس، قد اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً، يهدمون الكعبة ويستعبدون الصحابة، ويعطّلون الصّلاة الموقوتة، ويحطّمون أعناق الأحرار، ويسيرون في حرم الرسول سيرتهم في حرم الكفار، وإذا فسق الاُموي فلم يأت بالضلالة عن كلالة.

قتل معاوية حجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي بعد الأيمان المؤكدة والمواثيق المغلظة، وقتل زياد بن سميّة الاُلوف من شيعة الكوفة وشيعة البصرة صبراً، وأوسعهم حبساً وأسراً، حتى قبض الله معاوية على أسوء أعماله وختم عمره بشرّ أحواله، فاتّبعه ابنه، يجهز على جرحاه ويقتل أبناء قتلاه، إلى أن قتل هاني بن عروة المرادي ومسلم بن عقيل الهاشمي أوّلاً، وعقّب بالحرّ بن زياد الرياحي، وبأبي موسى عمرو بن قرطَة الأنصاري، وحبيب ابن مظاهر الأسدي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، ونافع بن هلال البجلي، وحنظلة بن سعد الشامي، وعابس بن أبي شبيب الشاكري، في نيف وسبعين من جماعة شيعة الحسينعليه‌السلام يوم كربلاء ثانياً.

ثمّ سلّط الله عليهم الدّعي ابن الدّعي عبيد الله بن زياد، يصلبهم على جذوع النخل ويقتلهم ألوان القتل، حتى اجتثَّ الله دابره ثقيل الظهر بدمائهم التي سفك، عظيم التبعة بحريمهم الذي انتهك.

فانتبهت لنصرة أهل البيت طائفة أراد الله أن يخرجهم من عهدة ما صنعوا، ويغسل عنهم وضر ما اجترحوا، فصمدوا صمود الفئة الباغية، وطلبوا دم الشهيد من ابن الزانية، لا يزيدهم قلّة عددهم وانقطاع مددهم وكثرة سواد أهل الكوفة بإزائهم إلّا إقداماً على القتل والقتال، وسخاء بالنفوس والأموال، حتى قتل سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة الفزاري، وعبد الله بن واصل التميمي، في رجالٍ من خيار المؤمنين وعليّة التابعين، ومصابيح الأنام

٣٠

وفرسان الإِسلام.

ثمّ تسلّط ابن الزبير على الحجاز والعراق، فقتل المختار بعد أنْ شفى الأوتار وأدرك الثار وأفنى الأشرار وطلب بدم المظلوم الغريب، فقتل قاتله ونفى خاذله، وأتبعوه أبا عمر بن كيسان، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن يزيد، والسائب بن مالك، وعبد الله بن كامل، وتلقطّوا بقايا الشيعة، يمثّلون بهم كلّ مثلة، ويقتلونهم شرّ قتلة، حتى طهّر الله من عبد الله بن الزبير البلاد وأراح من أخيه مصعب العباد، فقتلهما عبد الملك بن مروان( كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) بعد ما حبس ابن الزبير محمّد بن الحنفيّة وأراد إحراقه، ونفى عبد الله بن العباس وأكثر إرهاقه.

فلمـّا خلت البلاد لآل مروان سلّطوا الحجاج على الحجازيين ثمّ على العراقيين، فتلعّب بالهاشميين وأخاف الفاطميين، وقتل شيعة علي، ومحا آثار بيت النبيّ، وجرى منه ما جرى على كميل بن زياد النخعي.

واتّصل البلاء مدة ملك المروانيّة إلى الأيام العباسية، حتى إذا أراد الله أن يختم مدّتهم بأكثر آثامهم، ويجعل أعظم ذنوبهم في آخر أيّامهم، بعث على بقية الحق المهمل والدين المعطّل زيد بن علي، فخذله منافقوا أهل العراق، وقتله أحزاب أهل الشام، وقتل معه من شيعته: نصر بن خزيمة الأسدي، ومعاوية بن إسحاق الأنصاري، وجماعة من شايعه وتابعه، وحتى من زوّجه وأدناه، وحتى من كلّمه وأثناه.

فلمـّا انتهكوا ذلك الحريم واقترفوا ذلك الإِثم العظيم عضب الله عليهم وانتزع الملك منهم، فبعث عليهم أبا مجرم لا أبا مسلم، فنظر - لا نظر الله إليه - إلى صلابة العلوية وإلى لين العباسيّة، فترك تقاه واتّبع هواه، وباع آخرته بدنياه، وافتتح عمله بقتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسلّط طواغيت خراسان وخوارج سجستان وأكراد أصفهان على آل أبي طالب،

٣١

يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل، حتى سلّط عليه أحبّ الناس إليه، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه أنْ أسخط الله برضاه وأن ركب ما يهواه.

وحَلَت من الدوانيقي الدنيا، فخبط فيها عسفاً، وتقصّى فيها جوراً وحيفاً، إلى أنْ مات وقد امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة ومعدن الطيب والطهارة، قد تتبّع غائبهم وتلقّط حاضرهم، حتى قتل عبد الله بن محمّد بن عبد الله الحسني بالسند، على يد عمر بن هشام بن عمر التغلبي، فما ظنّك بمن قرب تناوله عليه ولان مسّه على يديه.

وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجّه على الحسين بن علي بفخ من موسى، وما اتّفق على علي بن الأفطس الحسيني من هارون، وما جرى على أحمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسني من حبسه، وعلى علي بن غسّان الخزاعي حين أخذ من قبله. والجملة: إن هارون مات وقد قصّر شجرة النبوّة واقتلع غرس الإِمامة.

وأنتم - أصلحكم الله - لستم أعظم نصيباً في الدين من الأعمش فقد أخافوه، ومن علي بن يقطين فقد اتّهموه.

فأمّا في الصدر الأول فقد قتل زيد بن صوحان العبدي، وعوقب عثمان ابن حنيف الأنصاري، واُقصي حارثة بن قدامة السّعدي، وجندب بن زهير الأزدي، وشريح بن هاني المرادي، ومالك بن كعب الأرحبي، ومعقل بن قيس الرياحي، والحارث بن الأعور الهمداني، وأبو الطفيل الكناني، وما فيهم إلّا من خرَّ على وجهه قتيلاً أو عاش في بيته ذليلاً، يسمع شتمة الوصي فلا ينكر، ويرى قتلة الأوصياء وأولادهم فلا يغير، ولا يخفى عليكم حرج عامّتهم وحيرتهم، كجابر الجعفي، وكرشيد الهجري، وكزرارة بن أعين ليس إلّا أنهم -رحمهم‌الله - يتولّون أولياء الله ويتبرؤن من أعداء الله، وكفى به جرماً عظيماً عندهم وعيباً كبيراً بينهم.

٣٢

وقُل في بني العبّاس، فإنّك ستجد - بحمد الله تعالى - مقالاً، وجُل في عجائبهم فإنّك ترى ما شئت مجالاً، يُجبى فيئهم فيفرّق على الديلمي والتركي ويحمل إلى المغربي والفرغاني، ويموت إمام من أئمة الهدى وسيد من سادات المصطفى، فلا تتّبع جنازته ولا تجصّص مقبرته، ويموت ضرّاط لهم أو لاعب أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عند القواد والولاة، ويسلم فيهم من يعرفونه دهرياً أو سوفسطائياً، ولا يتعرّضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً ومانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمّى ابنه علياً.

ولم لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلّى بن خنيس قتيل داود بن علي، ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، ونائرة لا تطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحاً لا يلتحم.

وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم ودُوّنت أخبارهم، ورواها الرواة مثل الواقدي ووهب بن منبّه التميمي، ومثل الكلبي والشرقي بن قطامي، والهيثم بن عدي، ودأب بن الكناني. وإنّ بعض شعراء الشيعة يتكلّم في ذكر مناقب الوصي، بل في ذكر معجزات النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فيقطع لسانه، ويمزّق ديوانه، كما فعل بعبد الله ابن عمار البرقي، وكما أريد بالكميت بن زيد الأسدي، وكما نبش قبر منصور ابن الزبرقان النمري، وكما دمّر على دعبل بن علي الخزاعي، مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي، ليس إلّا لغلوّهما في النصب واستيجابهما مقت الربّ.

حتى أن هارون بن الخيزران وجعفر المتوكل على الشيطان لا على الرحمن، كانا لا يعطيان مالاً ولا يبذلان نوالاً إلّا لمن شتم آل أبي طالب ونصر مذهب النواصب، مثل عبد الله بن مصعب الزبيري، ووهب بن وهب

٣٣

البختري، ومن الشعراء مثل مروان بن أبي حفصة الاُموي، ومن الاُدباء مثل عبد الملك بن قريب الأصمعي. فأمّا في أيام جعفر فمثل بكّار بن عبد الله الزبيري، وأبي السمط بن أبي الجون الاُموي، وابن أبي الشوارب العبشمي.

ونحن - أرشدكم الله - قد تمسّكنا بالعروة الوثقى، وآثرنا الدين على الدنيا، وليس يزيدنا بصيرةً زيادة من زاد فينا، ولن يحلّ لنا عقيدة نقصان من نقص منّا، فإنّ الإِسلام بدء غريباً وسيعود كما بدء. كلمة من الله ووصيه من رسول الله، يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ومع اليوم غد وبعد السبت أحد، قال عمّار بن ياسررضي‌الله‌عنه يوم صفين: لو ضربونا حتى نبلغ سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وأنّهم على الباطل.

ولقد هزم جيش رسول الله - صلوات الله عليه - ثم هزم، ولقد تأخّر أمر الإِسلام ثم تقدّم( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) . ولو لا محنة المؤمنين وقلّتهم، ودولة الكافرين وكثرتهم، لما امتلأت جهنم حتى تقول هل من مزيد، ولما قال الله تعالى:( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ولما تبيّن الجزوع من الصبور ولا عرف الشكور من الكفور، ولما استحق المطيع الأجر، ولا احتقب العاصي الوزر.

فإنْ أصابتنا نكبة فذلك ما تعوّدناه، وإن رجعت لنا دولة فذلك ما قد انتظرناه، وعندنا - بحمد الله تعالى - لكل حالةٍ آلة، ولكل مقامة مقالة، فعند المحن الصبر وعند النعم الشكر.

ولقد شتم أمير المؤمنين -عليه‌السلام - على المنابر ألف شهر، فما شككنا في وصيته، وكذّب محمّد -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بضع عشرة سنة فما اتّهمناه في نبوته، وعاش إبليس مدة تزيد على المدد فلم نرتب في لعنته، وابتلينا بفترة الحق ونحن مستيقضون بدولته، ودفعنا إلى قتل الإمام بعد الإمام والرضا بعد الرضا ولا مرية عندنا في صحة إمامته، وكان وعد الله مفعولاً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً( كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) و( سَيَعْلَمُ

٣٤

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ( لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

إعلموا - رحمكم الله - أن بني اُميّة الشجرة الملعونة في القرآن وأتباع الطاغوت والشيطان، جهدوا في دفن محاسن الوصي، واستأجروا من كذب في الأحاديث على النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وحوّلوا الجوار إلى بيت المقدس عن المدينة، والخلافة زعموا إلى دمشق عن الكوفة، وبذلوا في طمس هذا الأمر الأموال وقلّدوا عليه الأعمال، واصطنعوا فيه الرجال، فما قدروا على دفن حديثٍ من أحاديث رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولا على تحريف آيةٍ من كتاب الله تعالى، ولا على دسّ أحد من أعداء الله في أولياء الله.

ولقد كان ينادى على روؤسهم بفضائل العترة، ويبكّت بعضهم بعضاً بالدليل والحجة، لا تنفع في ذلك عيبة ولا يمنع منه رغبة ولا رهبة، والحق عزيز وإنْ استذلَّ أهلُه، وكثير وإنْ قلَّ حزبه، والباطل وإنْ رصّع بالشبه قبيح، وذليل وإنْ غطّي وجهه بكل مليح:

قال عبد الرحمن بن الحكم - وهو من أنفس بني اُميّة -:

سميّة أمسى نسلها عدد الحصا

وبنت رسول الله ليس لها نسل

غيره:

لعن الله من يسبّ عليّاً

وحسيناً من سوقة وإمام

وقال أبو دهبل الجمحي، في حميّة سلطان بني أميّة وولاية آل بني سفيان:

تبيت السّكارى من اُميّة نوّماً

وبالطف قتلى ما ينام حميمها

وقال الكميت بن زيد - وهو جار خالد بن عبد الله القسري -:

فقل لبني اُميّة حيث حلّوا

وإنْ خفت المهنّد والقطيعا

أجاع الله من أشبعتموه

وأشبع من بجوركم اُجيعا

وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على روؤسهم بالحق وإنْ

٣٥

كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه. قال المنصُور بن الزبرقان على بساط هارون:

آلُ النبيّ ومن يحبّهم

يتطامنون مخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

من اُمّة التوحيد في الأزل

وقال دعبل بن علي - وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم -:

ألم تر أني مذ ثمانين حجة

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

وقال علي بن العباس الرومي - وهو مولى المعتصم -:

تألّيت أن لا يبرح المرء منكم

يتل على خرّ الجبين فيعفج

كذاك بنو العباس تصبر منكم

ويصير للسيف الكمي المدجج

بكلّ أوانٍ للنبيّ محمّد

قتيل زكي بالدماء مضرّج

وقال إبراهيم بن العباس الصولي - وهو كاتب القوم وعاملهم في الرضا لمـّا قرّبه المأمون -:

يمنّ عليكم بأموالكم

وتُعطَون من مائةٍ واحدا؟!

وكيف لا ينتقصون قوماً يقتلون بني عمّهم جوعاً وسغباً، ويملئون ديار الترك والديلم فضةً وذهباً؟! يستنصرون المغربي والفرغاني ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولّون أنباط السواد وزارتهم وقلف العجم والطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث اُمّهم وفيء جدّهم؟ يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز وصدقات الحرمين والحجاز تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، واقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وجارى بغا التركي والأفشين الأشروسي كفاية أمة ذات عدد.

والمتوكّل - زعموا - يتسرّى باثني عشر ألف سرية، والسيّد من سادات

٣٦

أهل البيت يتعفّف بزنجية وسندية، وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة وعلى موائد المخانثة، وعلى طعمة الكلاّبين ورسوم القرّادين، وعلى مخارق، وعلوبة المغنّي، وعلى زدزد وعمر بن بانة الملهّي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانقٍ وحبّة، ويشترون العوّادة بالبدر ويجرون لها ما يفي برزق عسكر، والقوم الذين أحلّ لهم الخمس وحرّمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبّة، يتكفّفون ضرّا ويهلكون فقرا، وليرهن أحدهم سيفه ويبيع ثوبه وينظر إلى فيئه بعين مريضة، ويتشدّد على دهره بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلاّ أنّ جده النبي، وأبوه الوصي، وامّه فاطمة، وجدّته خديجة، ومذهبه الإِيمان، وإمامه القرآن » إلى آخر ما أفاد وأجاد(١). .

صورة ما جاء في آخر الطبعة المصريّة

ولا يخفى أن هذه الرّسالة نقلناها من الطّبعة المصريّة لرسائل أبي بكر الخوارزمي، وقد جاء في آخر النسخة:

« وقد تناهى طبع هذه الرسائل التي لم يبلغ شأوها في الفصاحة سحبان وائل، هو عندها أدنى من باقل، ولو ظهرت في أيّامه لمدّ إليها كف مستمد سائل، ولو كانت في عصر قس بن ساعدة الأيادي، لكان لها عليه جميل الأيادي، فلعمري إنّها نسخت ما تركت الأوائل كلمة لقائل، وأحكمت كم ترك الأوّل للآخر والماضي للغابر، فليكن الأديب لها نعم الآخذ، وليعضّ عليها بالنواجذ، فإنّه يبلغ بها في صناعته أشُدّه، وتكون له في الإِنشاء أوفر عدّة.

وكان طبعها على هذا الوجه الحسن، وتمثيلها في هذا القالب المستحسن، بدار الطباعة المصرية الكائنة ببولاق مصر المغربة، تعلق المستعين بمولاه فيما يعيد ويبدي: عبد الرحمن بيك رشدي، على ذمّة حضرة

__________________

(١). رسائل أبي بكر الخوارزمي: ١١٨.

٣٧

محمّد علي بيك جرّاح باشي بالديار المصريّة، وحضرة حسن أفندي مترجم الكتب العسكرية. لا زالوا ملحوظين بعين العناية الربانية.

وكان تصحيحها حسب الإِمكان بمعرفة الفقير إلى رحمة الرحيم الرحمن، المتوسّل إلى ربّه بالجاه النبوي: محمّد قطة العدوي باشي، مصحّح المطبعة المذكورة، يسرّ الله في الدارين أُموره.

وقد وافق انتهاء طبعها وتمام تمثيلها ووضعها أوائل ذي الحجة، الذي هو في هذا العام لشهور ١٢٧٩ تسع وسبعين ومائتين وألف من الهجرة ختام. فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصّالحات، والشكر له على مدى الأوقات، وصلّى الله وسلّم على سيد الكائنات وعلى آله وأصحابه ذوي الكرامات، ما لاح بدر تمام وفاح مسك ختام ».

ترجمة أبي بكر الخوارزمي

وهذا موجز ترجمته عن المصادر المعتبرة:

١ - ابن خلّكان: « أبو بكر محمّد بن العبّاس أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، كان إماماً في اللّغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب وكان يشار إليه في عصره، له ديوان رسائل وديوان شعر، ولـمّا رجع من الشام سكن نيسابور ومات بها في منتصف شهر رمضان سنة ٣٨٣. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أنّه توفي سنة ٣٩٣ »(١). .

٢ - الصّفدي: « كان ابن اُخت محمّد بن جرير الطبري، قال الحاكم في تاريخه: كان أوحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يحيّرني من حفظه »(٢). .

__________________

(١). وفيات الأعيان ٤ / ٣٣.

(٢). الوافي بالوفيات ٣ / ١٩١.

٣٨

٣ - السمعاني: « أبو بكر محمّد بن العباس الخوارزمي الشاعر المعروف، وكان حافظاً للّغة، عارفاً باُصولها، شاعراً مغلقاً ، سمع الحديث ببغداد من أبي علي إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الصفار، وأبي بكر أحمد ابن كامل بن خلف ابن شجرة القاضي وغيرهما »(١). .

وراجع:

١ - سير أعلام النبلاء ١٦ / ٥٢٦.

٢ - يتيمة الدهر ٤ / ١٩٤.

٣ - بغية الوعاة ١ / ١٢٥.

٤ - مرآة الجنان ٢ / ٤١٦.

٥ - شذرات الذهب ٣ / ١٠٦.

كلام للسيد علي بن معصوم المدني

وقال السيد علي بن معصوم المدني(٢). : « إعلم رحمك الله تعالى: أن شيعة أمير المؤمنين والأئمة من ولده -عليهم‌السلام - لم يزالوا في كلّ عصر وزمان ووقتٍ وأوان مختفين في زوايا الاستتار، محتجبين احتجاب الأسرار في صدور الأحرار، وذلك لما مُنوا به من معاداة أهل الإِلحاد ومناواة أولي النصب والعناد، الذين أزالوا أهل البيت عن مقاماتهم ومراتبهم، وسعوا في إخفاء

__________________

(١). الأنساب ٤ / ٤٤.

(٢). من كبار العلماء الاُدباء، له آثارٌ جليلة في علومٍ مختلفة، توفّي فيما بين سنة ١١١٧ وسنة ١١٢٠ على اختلاف الأقوال. وتوجد ترجمته في:

١ - البدر الطالع ١ / ٤٢٨.

٢ - نزهة الجليس ١ / ٢٩٠.

٣ - أبجد العلوم: ٩٠٨.

٤ - هدية العارفين ١ / ٧٦٣.

٣٩

مكارمهم الشريفة ومناقبهم، فلم يزل كل متغلّب منهم يبذل في متابعة الهوى مقدوره، ويلتهب حسداً ليطفئ نور الله إلّا أنْ يتم نوره.

كما روي عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليهما‌السلام أنّه قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس! إن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به واُسلم، ووثبت عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، وانتهب عسكره وخولجت خلاخل اُمّهات أولاده. فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل. ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه.

ثم لم نزل أهل البيت نُستذل ونُستضام، ونُقضي ونمتهن ونحرم، ونقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وأعمال السوء في كل بلدة تحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن -عليه‌السلام - فقتلت شيعتنا في كل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، من ذُكر بحبّنا والإِنقطاع إلينا سجن ونهب ماله وهدم داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد - لعنه الله - قاتل الحسينعليه‌السلام . ثم جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أنْ يقال له شيعة عليعليه‌السلام .

٤٠