تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125211 / تحميل: 5205
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى:( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّاعتقد بأنّالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام( عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء|٢٦ـ٢٧) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.

ولقد علم كلّمسلم أنّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(١)

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية:

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة|١٦) وقال عزّمن قائل:( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف|٥٦).

____________

(١) السيد الخوئي: البيان: ٤٦٨ـ ٤٦٩.

٦١

وقال عزّ من قائل:( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء|٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

قال أمير الموَمنينعليه‌السلام : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(٢)

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس:( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر|١٩ـ٤٠) قال سيد الموحدين عليعليه‌السلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(٣)

____________

(١) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج١|٤٤، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي: مرآة العقول ، ج٨، ص٨٩: باب النيّة.

٦٢

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم

لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك».(١)

هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.

و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (٤|١٢١) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

____________

(١) أحمد بن حنبل، العلل و معرفة الرجال ٢: ٤٩٢، برقم :٣٢٤٣، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس، ط بيروت ١٤٠٨.

٦٣

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلاً: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١): اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد».(١)

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الاِمام، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

____________

(١) تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.

٦٤

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الاَُمور، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى. و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

١ـ إنّ فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شـمّتربة أحمد

ألاّيشـمّ مدى الزمان غوالـياً

صُبَّتْ عليَّ مصـائب لو أنّها

صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (١)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها‌السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

٢ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسينعليهما‌السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر.(٢)

____________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا ٢:٤٤٤ ـ و الخالدي في صلح الاخوان: ٥٧، و غيرهما.

(٢) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة١: ٢٨، و غيره من المصادر.

٦٥

والحقّ انّ الاِختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

١ـ قال ابن حبّان : «في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : «قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك.(١)

٢ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاكمتوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». (٢)

٣ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام٩١٤ في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّعليه‌السلام وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

____________

(١) ابن حبان: كتاب الثقات، ج٨، ص ٤٥٧.

(٢) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج٧| ٣٨٨.

٦٦

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى.(١)

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور، تنافي التوحيد و تقارن الشرك، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الاَربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

____________

(١) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب، ج١|٣١٧ـ ٣٢٢.

٦٧

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون« لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطىَ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أنّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم.

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية.(١)

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه:( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء|٦٤) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه:( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون|٥).

____________

(١) المودودي: المصطلحات الاَربعة|١٨ـ١٩.

٦٨

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه

إنّ التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

١ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.

٦٩

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.

و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:

١ـ يقول سبحانه:( و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء|٨٠). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنّاسِ ) (النحل|٦٩).

٢ـ يقول سبحانه:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (الذاريات|٥٨) بينما يقول تعالى:( وَارْزُقُ وهُمْ فِيها ) (النساء|٥).

٣ـ يقول سبحانه:( ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (الواقعة|٦٤). بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (الفتح|٢٩).

٤ـ يقول تعالى:( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (النساء|٨١). بينما يقول سبحانه:( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف|٨٠).

٥ـ يقول تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ) (يونس|٣). بينما يقول سبحانه:( فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (النازعات|٥).

٧٠

٦ـ يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (الزمر|٤٢). بينما يقول تعالى:( الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ ) (النحل|٣٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.

والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول:( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الاَوّل: يحصر الاستعانة في اللّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الاَُمور المعيّنة (غير اللّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلاّ أنّفريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الاَوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الاِنسانية و الاَسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّباللّه في الموارد التي أذن اللّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الاِنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو : عدم جواز الاستعانة بغير اللّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الاَُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

٧١

وبتعبير آخر: إنّالآيات تريد أن تقول بأنّالمعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّمعين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلاّاللّه سبحانه، و لكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الاَسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الاَصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللّه، ذلك لاَنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالاَصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ ) (آل عمران|١٢٦).

( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) (الحمد|٥).

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ ) (الاَنفال|١٠).

هذه الآيات نماذج من الصنف الاَوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والاَسباب.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥).

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (المائدة|٢).

( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ ) (الكهف|٩٥).

( وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (الاَنفال|٧٢).

و مفتاح حلّالتعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون موَثراً تاماً، و مستقلاً واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللّه سبحانه:

وأمّا العوامل الاَُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه و هي توَدي ما توَدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شيء.

٧٢

فالمعين الحقيقي في كلّالمراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الاِلهية) و معلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في اللّه سبحانه لسببين:

أوّلاً: لاَنّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الاَُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّالمستعان قادر على الاِعانة مستنداً على القدرة الاِلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الاَوّل ـ خاصّة باللّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّالاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّاستعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة باللّه بل هي عين الاستعانة به تعالى ، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارىَ الكريم بأنّموَلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالاَرواح إلاّصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّالذين يستعينون بأصحاب الاَضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللّه معرضون».(١)

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الاَُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللّه، و الاَُخرى مبعدة عن اللّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الاَسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى والفقر، و الاَصالة وعدم الاَصالة.

____________

(١) المنار ١:٥٩.

٧٣

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللّه، التي لا تعمل و لاتوَثر إلاّبإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللّه، بل هي خير موجّه إلى اللّه، ومذكّربه، إذ معناها : انقطاع كلّالاَسباب وانتهاء كلّالعلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالاَسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّالاَعجب من ذلك رأي شيخ الاَزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّكلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في "إِيّاكَ نَسْتَعين " غافلاً عن حقيقة الآية و عن الآيات الاَُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة.(١)

إجابة على سوَال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لاَنّ نداء غير اللّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللّه، يقول سبحانه:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (الجن|١٨) و يقول تعالى:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (الاَعراف|١٩٧) و يقول عزّمن قائل :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (فاطر|١٣). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللّه و لاتسيغ دعوة غيره.

____________

(١) راجع تفسير شلتوت: ٣٦ـ٣٩.

٧٤

و قد طرح هذا السوَال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللّه الدعاء عبادة بقوله:( أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي ) (غافر|٦٠)فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللّه و صار مشركاً.(١)

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّقسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:( رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً ) (نوح|٥) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (إبراهيم|٢٢) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّنوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاوَه عبادة و لاَجل ذلك كان دعاء عبدة الاَصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (هود|١٠١).

____________

(١) الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب:٢٨٤.

٧٥

و ما ورد من الآيات في السوَال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الاَُمور إليهم و لو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّدعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

( إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (الاَعراف|١٩٤).( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (الاِسراء|٥٦ـ ٥٧).( وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ) (يونس|١٠٦). "إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (فاطر|١٤). و ما ورد في الاَثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه:«...فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» (١) و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) (غافر٦٠)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الاِلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) (الكهف|٩٥) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه:( فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (القصص|١٥)

____________

(١) الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم ٤٥.

٧٦

و هذا هو النبيّ الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو قومه للذبّ عن الاِسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) (آل عمران|١٥٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراًعلى إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلاّ يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّطحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء و لا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هوَلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لاَجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب ) (ص ٢٩).

ثمّ إنّ الكلام في أنّدعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في ٢٧ صفر المظفر ١٤١٦هـ

٧٧

الفهرست

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم. ٤

الاِله في اللغة ٤

مفهوم الاِله في القرآن. ٨

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم. ١١

خاتمة المطاف.. ٢٠

الاَُولى: التوحيد في الذات.. ٢٠

الثانية: التوحيد في الخالقية ٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير. ٢٢

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين. ٢٢

الخامسة: التوحيد في الطاعة ٢٤

السادسة: التوحيد في الحاكمية ٢٤

السابعة: التوحيد في العبادة ٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة ٢٦

العبادة في المعاجم و التفاسير. ٢٧

توجيه غير سديد. ٣٢

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة ٣٢

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر ٣٣

٣ـ تعريف ابن تيمية ٣٣

عبادة ٣٤

عقيدة المشركين في آلهتهم. ٣٦

حكم التاريخ في عقيدة المشركين. ٣٦

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس: ٣٨

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين. ٣٩

٧٨

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة ٤٢

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين. ٤٣

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير. ٤٤

التعاريف الثلاثة للعبادة ٤٧

ثمرات البحث.. ٤٧

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج. ٤٨

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين. ٤٨

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم. ٤٩

٤ـ الاستعانة بالاَولياء: ٤٩

أسئلة و أجوبة ٥٠

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟ ٥٠

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟ ٥٧

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟ ٥٩

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه ٦١

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه ٦١

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة ٦٢

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم ٦٣

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم. ٦٧

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه ٦٩

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره: ٧٠

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين: ٧١

إجابة على سوَال. ٧٤

٧٩

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قال المزني : يجب أن لا يبطل البيع لبطلان الرهن ؛ لأنّ الشافعي قال : ولو تبايعا على أن يرهنه هذا العصير فرهنه إيّاه فإذا هو من ساعته خمر ، فله الخيار ؛ لأنّه لم يتمّ له الرهن(١) .

وخطّأه أصحابه ؛ لأنّ الرهن صحيح ، وإنّما فسد بعد ذلك ، وهنا فاسد من أصله ، فإذا قارن العقد أوجب الفساد(٢) .

تذنيب : هل يصحّ اشتراط كون اكتسابات العبد مرهونةً؟ نظر ، أقربه : المنع ؛ لأنّها ليست من أجزاء الأصل ، فهي معدومة على الإطلاق ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) .

وعلى القول بالفساد هل يفسد الرهن؟ قولان مخرَّجان للشافعي :

أحدهما : القولان في فساد الرهن بفساد الشرط الذي ينفع المرتهن.

وثانيهما : أنّه جمع في هذا الرهن بين معلومٍ ومجهولٍ ، فيجي‌ء فيه خلاف تفريق الصفقة(٤) .

ولو رهن وشرط كون المنافع مرهونةً ، فالشرط باطل ، ولا يجري فيه‌ القولان للشافعي ، المذكوران في الزوائد.

تذنيبٌ آخَر : لو افترض بشرط أن يرهن به شيئاً وتكون منافعه مملوكةً للمقرض ، فالقرض فاسد ؛ لأنّه جرّ منفعة ، وإذا بطل بطل الرهن.

وإن شرط كون المنافع مرهونةً أيضاً ، فإن سوّغنا مثل هذا الشرط في الرهن ، صحّ الشرط والرهن ؛ لأنّه لم يجرّ القرض نفعاً.

وعند الشافعيّة يفسد الشرط ، ويصحّ القرض ، وفي الرهن القولان(٥) .

____________________

(١) مختصر المزني : ١٠٠.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٢٥٢.

(٣ و ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٢.

١٠١

مسألة ٩١ : لو كان له على زيد ألف بلا رهن ، فقال زيد المديون : زِدْني ألفاً ، أي : أقرضني ألفاً على أن أدفع إليك رهناً سمّاه بالألفين ، فدفع إليه ، فسد القرض ؛ لأنّه شرط فيه منفعة ، وهو الاستيثاق على الألف الاُولى ، وقد نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن قرضٍ جرَّ منفعة(١) .

لا يقال : أليس لو شرط أن يعطيه بما يقرضه رهناً جاز وإن كان قد شرط الاستيثاق؟

لأنّا نقول : الشرط هنا تأكيد لما اقتضاه القرض ، فإنّه يقتضي ردّ مثله ، فإذا شرطه عليه جاز ، فلم يجرّ القرض نفعاً ؛ لأنّ وجوب الردّ ثابت في أصل القرض لا من حيث شرط الرهن ، أمّا هنا فإنّه شرط الاستيثاق في هذا القرض لدَيْنه الأوّل ، فقد شرط استيثاقاً بغير موجب القرض ، فلم يجز.

وبه قال الشافعي(٢) .

وإذا فسد الفرض ، لم يملكه المقترض ، ولا يثبت في ذمّته بدله ، وإذا‌ لم يثبت في ذمّته شي‌ء لم يصحّ الرهن ؛ لأنّه رهن بالدَّيْن ولم يثبت ، ولا يصحّ بالألف الاُولى ؛ لأنّه شرط في القرض.

أمّا لو قال : بِعْني عبداً بألف على أن اُعطيك بها وبالألف التي لك عليَّ رهناً ، فباعه على هذا الشرط ، صحّ البيع والرهن عندنا ؛ لأنّه شرط سائغ في عقد بيع ، فكان لازماً ؛ للآية(٣) ، والخبر(٤) .

____________________

(١) أورده الغزّالي في الوسيط ٣ : ٤٥٣ ، والرافعي في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٣.

(٢) مختصر المزني : ١٠٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٤٦.

(٣) المائدة : ١.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

١٠٢

وقال الشافعي : يفسد البيع والرهن ؛ لأنّه شرط في البيع رهناً على دَيْنٍ آخَر ، فصار بمنزلة بيعين في بيعة ، وهو أن يقول : بِعْنى دارك على أن أبيعك داري ، وذلك فاسد ، فكذا هنا(١) .

والحكم في الأصل ممنوع عندنا ، وقد تقدّم(٢) .

مسألة ٩٢ : لو قال : أقرضتك هذه الألف بشرط أن ترهن به وبالألف التي لي عليك كذا ، أو بذلك الألف وحده ، فسد القرض‌ على ما تقدّم(٣) .

ولو قال المستقرض(٤) : أقرضني ألفاً على أن أرهن به وبالألف القديم أو بذلك الألف كذا ، تردّد الجويني فيه بناءً على أنّ القبول من المستقرض غير معتبر ، والأصحّ اعتباره ، والتسوية بين أن يصدر الشرط من المقرض ويقبله المستقرض ، وبين عكسه(٥) .

وكذا لو باع بشرط أن يرهن بالثمن والدَّيْن القديم عند الشافعي(٦) .

ويجوز عندنا على ما تقدّم(٧) .

فلو رهن المستقرض أو المشتري كما شرط ، فإمّا أن يعلم فساد ما شرط ، أو يظنّ صحّته ، فإن علم الفساد فإن رهن بالألف القديم ، صحّ. وإن رهن بهما ، لم يصحّ بالألف الذي فسد قرضه ؛ لأنّه لم يملكه ، وإنّما هو مضمون في يده للمقرض ، والأعيان لا يرهن عليها.

____________________

(١) مختصر المزني : ١٠٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٤٧.

(٢) في ج ١٠ ، ص ٢٥٠ ، المسألة ١١٨.

(٣) في صدر المسألة (٩١ ).

(٤) في الطبعة الحجريّة : « المقترض ».

(٥ و ٦ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٥.

(٧) في ذيل المسألة السابقة (٩١).

١٠٣

وفي صحّته بالألف القديم للشافعيّة قولا تفريق الصفقة ، فإن صحّ ، لم يوزّع ، بل كان الكلّ مرهوناً بالألف القديم ؛ لأنّ وضع الرهن على توثيق كلّ بعضٍ من أبعاض الدَّيْن بجميع المرهون(١) .

ولو تلف الألف الذي فسد القرض فيه في يده ، صار دَيْناً في ذمّته ، وصحّ الرهن بالألفين حينئذٍ.

وأمّا عند ظنّ الصحّة فإذا رهن بالألف القديم ، قال بعض الشافعيّة : لا يصحّ الرهن ، كما لو أدّى ألفاً على ظنّ أنّ عليه ألفاً ثمّ تبيّن خلافه ، فإنّ له الاسترداد ، وظهر بطلان الأداء(٢) .

وقال بعضهم : يصحّ ، بخلاف المقيس عليه ؛ لأنّ أداء الدَّيْن يستدعي سَبْقَ ثبوته ، وصحّة الرهن لا تستدي سَبْقَ الشرط(٣) .

ولو رهن بالألفين وقلنا بتفريق الصفقة فصحّته بالألف القديم على هذا الخلاف.

وكذا لو باع بشرط بيعٍ آخَر ، فإنّه يصحّ البيع والشرط عندنا ، ولا‌ يصحّ عندهم(٤) . فلو أنشأ البيع الثاني ظانّاً صحّة الشرط ، فقولان(٥) .

وكذا لو باع مال أبيه على ظنّ الحياة فبان ميّتاً.

ولو شرط عليه رهناً في بيع فاسد بظنّ لزوم الوفاء به فرهن ، فله الرجوع.

مسألة ٩٣ : لو رهن أرضاً وفيها أشجار أو أبنية ، فالوجه : عدم دخول الأشجار والأبنية في الرهن ؛ لأنّها ليست جزءاً من المسمّى ولا نفسه ،

____________________

(١ - ٣ ) الوسيط ٣ : ٤٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٤ و ٥ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

١٠٤

فلا تندرج تحته - على ما تقدّم(١) في البيع وإن قال : بحقوقها. وتدخل لو قال : بجميع ما اشتملت عليه حدودها.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : الدخول(٢) ، وقد سبق(٣) في البيع.

ولو رهن شجرة ، لم يدخل المغرس تحت اسم الشجرة ؛ لما تقدّم.

وللشافعيّة خلافٌ مرتَّب على الخلاف في البيع ، والرهن أولى بالمنع ؛ لضعفه(٤) .

وفي معناه دخول الاُسّ تحت الجدار.

ولا تدخل الثمرة المؤبَّرة تحت رهن الشجرة بحال.

وفي غير المؤبَّرة الحقُّ عندنا ذلك وإن دخلت في البيع ؛ اقتصاراً على‌ النصّ فيه ، ولا يتعدّى إلى غيره.

وللشافعي قولان ، هذا أصحّهما ؛ لأنّ الثمار الحادثة بعد استقرار العقد لا يثبت فيها حكم الرهن ، فالموجودة عند العقد أولى ، وبهذا يفارق البيع.

والثاني : الدخول ، كالبيع(٥) ، وبه قال أبو حنيفة ، فإنّه قال : تدخل الثمار في الرهن بكلّ حال ، بناءً على أنّ رهن الشجرة دون الثمرة

____________________

(١) في ج ١٢ ، ص ٤٣ المسألة ٥٦٧.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٢٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٦ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٣) في ج ١٢ ، ص ٤٣ ، المسألة ٥٦٧.

(٤) الوسيط ٣ : ٤٨١ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ١٢١ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٥ ، الوسيط ٣ : ٤٨١ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

١٠٥

لا يصحّ(١) .

ونفى بعضُ الشافعيّة الخلافَ هنا ، وقَطَع بعدم الدخول(٢) .

ولا يدخل البناء(٣) بين الأشجار تحت رهن الأشجار إن كانت بحيث يمكن إفراده بالانتفاع.

وإن لم ينتفع به إلّا بتبعيّة الأشجار ، فكذلك ، وهو أشهر طريقي الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : إنّه(٥) على الوجهين في المغارس(٦) .

وتدخل في رهن الأشجار الأغصانُ والأوارقُ ، وبه قال الشافعي(٧) .

أمّا التي تفصل غالباً - كأغصان الخلاف وورق الآس والفرصاد - ففيها(٨) قولان له ، كالقولين في الثمار التي لم تؤبَّر(٩) .

مسألة ٩٤ : لا يدخل الجنين تحت رهن الاُمّ الحامل - وهو أحد قولي الشافعي(١٠) - لعدم شمول الاسم له ، وكما في البيع عندنا.

____________________

(١) الفروق - للكرابيسي - ٢ : ٢٨٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، المغني ٤ : ٤٧٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٣) الظاهر : « البياض » بدل « البناء ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « إنّها » و الظاهر ما أثبتناه

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٧) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٨) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة و « ج » : « فيها ». والظاهر ما أثبتناه.

(٩) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(١٠) الوسيط ٣ : ٤٨٢ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

١٠٦

والجنين عند الشافعي أولى بالاندراج ، كالثمرة غير المؤبّرة تحت الشجرة ؛ لأنّ الحمل لا يقبل التصرّف على الانفراد(١) ، فبالحريّ أن يكون تبعاً(٢) .

وأمّا اللبن في الضرع : ففي دخوله إشكال.

وللشافعيّة طريقان ، أحدهما : القطع بأنّه لا يدخل. والمشهور : أنّه على الخلاف. ثمّ هو عند بعضهم في مرتبة الجنين ، وعند آخَرين في مرتبة الثمار ؛ لتيقّن وجوده ، وسواء أثبت الخلاف أم لا، فالظاهر أنّه لا يدخل في الرهن(٣) .

والأقرب : دخول الصوف على ظَهْر الحيوان ؛ لأنّه كالجزء من الحيوان ، فدخل تحت رهنه.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : القطع بدخوله ، كالأجزاء والأعضاء.

وأظهرهما : أنّه على قولين :

أحدهما : الدخول ، كالأغصان والأوراق في رهن الشجرة(٤) .

وأصحّهما : المنع ، كما في الثمار ؛ لأنّ العادة فيه الجَزّ(٥) .

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « الإفراد ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٧ ، وانظر : المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٨ ، والتهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٥ ، والحاوي الكبير ٦ : ١٢١ ، وحلية العلماء ٤ : ٤٣٧ ، والوسيط ٣ : ٤٨٢ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٠٣.

(٤) في « ث ، ج ، ر » : « الشجر ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٥ - ٤٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٧ ، روضة الطلابين ٣ : ٣٠٣ - ٣٠٤.

١٠٧

ونقل بعضهم بدل القولين وجهين ، وزاد وجهاً آخَر ثالثاً هو : الفرق بين القصير الذي لا يعتاد جزّه ، وبين المنتهى إلى حدّ الجَزّ(١) .

مسألة ٩٥ : لو كان في يده الحقُّ(٢) أو خريطة(٣) فقال : رهنتك هذا الحُقّ بما فيه ، أو الخريطة [ بما فيها(٤) ] وما فيهما(٥) معلوم ، صحّ الرهن إجماعاً في الظرف والمظروف.

وإن كان ما فيهما مجهولاً ، لم يصحّ الرهن قطعاً في المظروف خاصّةً ؛ للجهالة ، على إشكال ، وبه قال الشافعي(٦) .

وهل يصحّ الرهن في الظرف؟ أمّا عندنا فنعم. وأمّا عند الشافعي‌ ففيه قولا تفريق الصفقة(٧) .

ولو قال : رهنتك هذا الحُقّ دون ما فيه ، صحّ الرهن فيه قطعاً.

ولو قال : رهنتك هذا الحُقّ ، وأطلق ، صحّ الرهن فيه خاصّةً دون ما فيه.

وأمّا الخريطة فإذا قال : رهنتك هذه الخريطة بما فيها ، لم يصح مع الجهالة فيما فيها ؛ للجهل به ، ويصحّ فيها خاصّةً ، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني : لا يصحّ. ومبنى الخلاف تفريق الصفقة(٨) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٨ ، وانظر : روضة الطالبين ٣ : ٣٠٤.

(٢) الحُقّ : وعاء منحوت من الخشب أو العاج أو غير ذلك ممّا يصلح أن يُنحت منه. لسان العرب ١٠ : ٥٦ « حقق».

(٣) الخريطة : وعاء من أَدَم وغيره. الصحاح ٣ : ١١٢٣ « خرط ».

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٤.

(٧ و ٨ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٤.

١٠٨

ولو قال : رهنتكها دون ما فيها ، صحّ الرهن فيها خاصّةً كالحُقّ.

وقال الشافعي : لا يصحّ فيها أيضاً ؛ لأنّ الظاهر أنّها لا تُقصد ، وإنّما يُقصد ما فيها ، بخلاف الحُق(١) .

قال أصحابه : ولو كانت الخريطة ممّا تُقصد لكثرة قيمتها ، كانت كالحُقّ. ولو كان الحُقّ لا قيمة له مقصودة ، لم يصح رهنه ، كالخريطة إذا لم تكن لها قيمة مقصودة(٢) .

ولو قال : رهنتك هذا الظرف دون ما فيه ، صحّ رهنه وإن كانت قيمته قليلةً ؛ لأنّه إذا أفرده فقد وجّه الرهن نحوه ، وجَعَله المقصود.

وإن رهن الظرف ولم يتعرّض لما فيه نفياً وإثباتاً ، فإن كان بحيث يقصد بالرهن وحده ، فهو المرهون لا غير.

وإن كان لا يُقصد منفرداً لكنّه متموّل ، فالمرهون الظرف وحده ؛ لأصالة عدم رهن غيره.

وللشافعيّة وجهان ، أحدهما : هذا. والثاني : أنّه يكون رهناً مع المظروف(٣) .

ولو لم يكن متموّلاً ، فللشافعيّة وجهان ، أحدهما : توجّه الرهن إلى المظروف. والثاني : أنّه يلغى(٤) .

البحث الثاني : في العاقد.

مسألة ٩٦ : يُشترط في المتعاقدين التكليفُ والاختيار والقصد وانتفاء الحَجْر عنه بسفه أو فلس ، فلا يصحّ رهن الصبي ولا المجنون المطبق

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٤.

١٠٩

ولا مَنْ يعتوره حالة الجنون إيجاباً وقبولاً ، ولا المكره ولا الغافل ولا الساهي ولا النائم ولا المغمى عليه ولا السكران ولا العابث ولا الهازل ، سواء في ذلك كلّه الإيجابُ والقبول.

ولا بُدّ أن يكون الراهنُ غيرَ محجور عليه بالسفه أو الفلس ؛ لأنّهما ممنوعان من التصرّف في أموالهما ، ولا اعتبار باختيارهما ، مع أنّ عقد الرهن والتسليم لا يكون واجباً ، وإنّما يكون إلى اختيار الراهن ، فإذا لم يكن له اختيار ، لم يصح منه. ولأنّ الرهن تبرّعٌ فإن صدر من أهل التبرّع، فلا كلام ، وإلّا فلا بُدَّ من قائم يقوم مقام المالك.

ويُشترط وقوعه على وفق المصلحة والاحتياط ، فإذا رهن الوليّ مال الصبي والمجنون والسفيه أو ارتهن لهم ، فلا بُدَّ من اعتبار مصلحتهم والاحتياط ، وذلك مثل أن يشتري للطفل ما يساوي مائتين بمائة نسيئةً ويرهن به ما يساوي مائة من مال الطفل ، فإنّ ذلك جائز ؛ لأنّه إن لم يعرض تلف ، ففيه غبطة ظاهرة. وإن تلف الرهن ، كان في المشتري ما يجبره.

ولو لم يرض البائع إلّا برهن يزيد قيمته على المائة ، فإن كان الرهن ممّا لا يخشى تلفه في العادة كالعقار ، جاز رهنه ؛ لما فيه من تحصيل الغبطة والمنفعة للصبي ، الخالية عن توهّم التلف.

وظاهر مذهب الشافعي المنع من هذه المعاملة(١) .

ولو كان الرهن ممّا يخشى تلفه ، فالأقوى : الجواز في موضعٍ يجوز إيداعه.

ومَنَع الشافعي من ذلك ؛ لأنّ الرهن يمنع من التصرّف وربما يتلف فيتضرّر به الطفل(٢) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٥.

١١٠

ولو كان الزمانُ زمانَ نَهب أو وقع حريق وخاف الوليّ على مال الطفل ، فله أن يشتري عقاراً ويرهن بالثمن شيئاً من ماله إذا لم يتهيّأ أداؤه في الحال ولم يبع صاحب العقار عقارَه إلاّ بشرط الرهن ؛ لأنّه يجوز في مثل هذه الحالة إيداع المال ممّن لا يمتد النهب إلى ما في يده ، فهذا الرهن أولى.

ولو استقرض له شيئاً والحال هذه ، لم يجز ؛ لأنّه يخاف التلف على ما يستقرضه خوفه على ما يرهنه.

ولو لم يجد الوليّ مَنْ يأخذ المال وديعةً ووجد مَنْ يأخذه رهناً وكان المرهون أكثر قيمةً من مال القرض ، جاز له الرهن.

مسألة ٩٧ : يجوز للوليّ أن يستقرض للطفل لحاجته إلى النفقة والكسوة أو لتوفية ما لزمه أو لصلاح ضياعه ومرمّتها وعمارة أبنيته أو إخراج ما يحتاج ارتفاع الغلّات فيه أو لحلول ما لَه من الدَّيْن المؤجَّل ، أو(١) النفاق متاعه الكاسد ، فإن لم يرتقب شيئاً من ذلك ، فبيع ما [ تعذّر ](٢) رهنه أولى من الاستقراض ، فإن تعذّر البيع ، استقرض ، ورهن من مال الطفل بحسب المصلحة ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : لا يجوز للوليّ رهن ماله بحال من الأحوال(٤) .

وكذا يجوز أن يرتهن للطفل بأن يتعذّر على الوليّ استيفاء دَيْن الصبي ، فيرتهن به إلى وقت الاستيفاء.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « و» بدل « أو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في « ج » والطبعة الحجريّة : « يقدر ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٥.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٣٠٥.

١١١

ولو كان له دَيْنٌ مؤجَّل إمّا بأن ورثة كذلك أو بأن باع الوليّ مالَه نسيئةً بالغبطة ، فيجوز له حينئذٍ الارتهان للصبي.

ولو كان المشتري موسراً ، لم يكتف الوليّ به ، بل لا بُدَّ من الارتهان بالثمن. ولو لم يحصل أو حسن الظنّ بيساره وأمانته ، أمكن البيع نسيئةً بغير رهن ، كما يجوز إبضاع مال الطفل.

وإذا ارتهن على الثمن ، جاز أن يرتهن على جميعه ، وهو الأظهر من مذهب الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ آخَر : أنّه لا بُدّ أن يستوفي ما يساوي المبيع نقداً ، وإنّما يرتهن ويؤجّل بالنسبة إلى الفاضل(٢) .

والمعتمد : الأوّل.

مسألة ٩٨ : يجوز للوليّ إقراض مال الطفل مع المصلحة بأن يخاف تلفه بنَهب أو حريق. وكذا يبيعه ويرتهن بالقرض أو ثمن المبيع للطفل‌ شيئاً حفظاً لمالِه من النهب والحريق ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٣) .

ولهم قولٌ آخَر : إنّ الأولى أن لا يرتهن للطفل إذا كان المرهون ممّا يخاف تلفه ؛ لأنّه قد يتلف ويرفع الأمر إلى حاكمٍ يرى سقوط الدَّيْن بتلف الرهن(٤) .

والوجه : الأوّل.

وحيث يجوز للوليّ الرهن فالشرط أن يرهن من أمين يجوز الإيداع

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٥.

(٢ -٤ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٦.

١١٢

منه. ولا فرق بين الأولياء في ذلك ، سواء الأبُ والجدُّ للأب والوصيّ والحاكم وأمينه.

وحيث يجوز الرهن والارتهان فللأب والجدّ أن يعاملا نفسيهما ويتولّيا طرفي العقد ؛ للوثوق بشفقتهما.

وهل لغيرهما ذلك؟ مَنَع منه الشافعيّة(١) . وليس بقويّ.

مسألة ٩٩ : يجوز للمكاتب أن يرهن ويرتهن مع المصلحة والغبطة ؛ لانقطاع تصرّف المولى عنه ، ولكن يشترط النظر والمصلحة ، كما في الطفل ، وهو قول بعض الشافعيّة.

وقال بعضهم : لا يجوز له الرهن استقلالاً ، ومع إذن السيّد قولان بناءً على أنّ الرهن تبرّع(٢) .

وللشافعيّة وجهٌ آخَر : أنّه لا يجوز له الاستقلال بالبيع نسيئةً بحال(٣) ، وهو المشهور عندنا.

ومع إذن السيّد يجوز عندنا.

وللشافعي مع الإذن قولان(٤) .

أمّا المأذون فإن دفع إليه السيّد مالاً ليتّجر فيه ، فهو كالمكاتب إلّا في وجهين :

أحدهما : أنّ رهنه أولى بالمنع من رهن المكاتب ؛ لأنّ الرهن ليس من عقود التجارات.

وشبّهه الجويني بإجارة الرقاب(٥) . وفي نفوذها منه خلاف بين

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٠ - ٤٧١ روضة الطالبين ٣ : ٣٠٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧١.

١١٣

الشافعيّة(١) .

والثاني : أنّ له البيع نسيئةً بإذن السيّد إجماعاً ؛ لأنّه مال السيّد ، فيكون تصرّفُ المأذون فيه بإذن المولى في الحقيقة تصرّدَ المولى في ماله.

ولو قال له مولاه : اتّجر بجاهك ، ولم يدفع إليه مالاً ، فله البيع والشراء في الذمّة حالّاً ومؤجَّلاً ، وكذا الرهن والارتهان ؛ لانتفاء الضرر فيه على المولى ، فإن فضل في يده مال ، كان للمولى ، ويكون حكمُه حكمَ ما لو دفع إليه المولى مالاً.

مسألة ١٠٠ : يشترط في الراهن أن يكون مالكاً للرهن أو في حكم المالك بأن يكون مأذوناً له في الرهن ؛ لأنّه تصرّف في مال الغير ، فلا يجوز إلّا بإذن المالك إمّا من جهة المالك ، كالمستعير للرهن ، أو من جهة الشرع ، كوليّ الطفل ، فإنّ له أن يرهن على ما تقدّم(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإذا استعار عبداً من غيره ليرهنه على دَيْنه الذي عليه فرَهَنه ، صحّ.

قال ابن المنذر : أجمع كلّ مَنْ تحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الرجل إذا استعار من الرجل شيئاً ليرهنه على دنانير معيّنة عند رجل إلى وقتٍ معلوم ففَعَل أنّ ذلك جائز(٣) .

وهذا يقتضي تعيين المرتهن وقدر الدَّيْن وجنسه ومدّة الرهن ؛ لاختلاف العقود بذلك.

وهل يكون سبيلُ هذا العقد سبيلَ العاريّة أو الضمان؟ الحقّ عندنا

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧١.

(٢) في ص ١١٠ ، المسألة ٩٧.

(٣) المغني ٤ : ٤١٢.

١١٤

الأوّل - وهو أحد قولي الشافعي(١) - لأنّه قبض مال غيره لمنفعة نفسه منفرداً بها فكان عاريةً ، كما لو استعاره للخدمة. ولأنّ الضمان يثبت في الذمّة ، وهنا يثبت في رقبة العبد.

وأصحّهما : أنّ سبيله سبيل الضمان ، ومعناه أنّ سيّد العبد ضمّن دَيْن الغير في رقبة ماله ، كما لو أذن لعبده في ضمان دَيْن غيره ، يصحّ ، وتكون ذمّته فارغةً ، وكما ملك أن يلزم ذمّته دَيْن الغير وجب أن يملك إلزامه عين ماله ؛ لأنّ كل واحدٍ منهما محلّ حقّه وتصرّفه(٢) .

ولأنّ منفعة العبد لسيّده ، والعارية ما أفادت المنفعة ، وإنّما حصلت المنفعة للراهن لكونه وثيقةً عنه ، فهو بمنزلة الضمان في ذمّته.

لأنّ الحق المتعلّق بالذمّة ينبغي أن يتعلّق مثله بالرقبة ، كالملك.

ثمّ أجابوا عن الأوّل بأنّ المقبوض للخدمة منفعة للمستعير ، بخلاف مسألتنا(٣) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ الضمان عقد مستقلّ بنفسه يتضمّن التعهّدَ بدَيْن الغير ، وانتقالَه من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، ولم يوجد هنا ، فلم يكن ضماناً.

وقال بعض الشافعيّة : إنّ هذا فيما يدور بين الراهن والمرتهن رهنٌ محض ، وفيما بين المعبر والمستعير عارية ، وفيما بين المعير والمرتهن حكم الضمان أغلب ، فيرجع فيه ما دام في يد الراهن ، ولا يرجع بعد القبض على الأصحّ عندهم ؛ لأنّه ضمن له الدَّيْن في عين ملكه ، ويقدر على إجبار الراهن على فكّه بأداء الدَّيْن ؛ لأنّه معير(٤) في حقّه إن كان الدَّيْن

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٣.

(٣) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « معتبر ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

١١٥

حالّاً ، وفي المؤجَّل قولان(١) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ العارية هنا تكون مضمونةً على المستعير إجماعاً.

أمّا عند العامّة : فضاهرٌ حيث قالوا بأنّ العارية مطلقاً مضمونة(٢) .

وأمّا عندنا : فلأنّ المالك لم يدفعه ليملكه المستعير ، بل لينتفع به ويردّه على مالكه ، فإذا عرّضه للإتلاف بالرهن ، كان ضامناً له ، كالملتقط إذا نوى التملّك في اللقطة ، فإنّه يكون ضامناً ، كذا هنا.

واعلم أنّ هذا الرهن صحيح ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال ابن سريج : إذا قلنا : إنّ ذلك عارية ، لم يصح رهنه ؛ لأنّ العارية لا تكون لازمةً ، والرهن لازم ، فعلى هذا يشترط في الرهن كون المرهون‌ ملكاً للراهن(٤) .

وأبطله باقي الشافعيّة بأنّ العارية غير لازمة من جهة المستعير ، فإنّ لصاحب العبد أن يطالب الراهن بافتكاكه قبل أن يحلّ الدَّيْن وإن كان قد أذن في رهنه بدَيْن مؤجَّل. ولأنّ العارية قد تكون لازمةً بأن يعيره جذعاً يبني عليه ، وكما لو استعار أرضاً للدفن فدفن ميّته ، وأشباههما(٥) .

ولو قال المديون : أرهن عبدك بدَيْني من فلان ، فهو كما لو قبضه فرَهَنه.

مسألة ١٠١ : إذا أذن له في رهن عبده على الدَّيْن الذي عليه لثالثٍ ،

____________________

(١) الوجيز ١ : ١٦٠ - ١٦١.

(٢) الوجيز ١ : ٢٠٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦ ، المغني ٥ : ٣٥٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥.

(٣-٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٣.

١١٦

كان هذا التصرّف سائغاً ، بخلاف ما لو باع مال الغير لنفسه ؛ لأنّ البيع معاوضة ، فلا يملك الثمن مَنْ لا يملك المثمن ، والرهن استيثاق ، والاستيثاق يحصل بما لا يملك ، كما يحصل بالكفالة والإشهاد.

إذا ثبت هذا ، فإنّ لمالك العبد الرجوعَ في الإذن قبل الرهن إجماعاً ؛ لأنّ العارية قد بيّنّا أنّها غير لازمة ، ولم يحصل الضمان بَعْدُ ، فعلى قول العارية ظاهر ، وعلى قول الضمان : فلأنّه بَعْدُ لم يلزم.

وهل له الرجوع بعد عقد الرهن قبل الإقباض؟ إن قلنا : إنّ القبض ليس شرطاً في صحّة الرهن ، لم يكن له الرجوع ؛ لأنّ الرهن قد لزم بنفس العقد. وإن قلنا : إنّه شرط ، صحّ الرجوع ؛ لأنّ المستعير مخيّر في فسخ الرهن قبل القبض ، فإذا لم يلزم في حقّه وهو المديون ، فأولى أن لا يلزم في حقّ غيره ، وبه قالت الشافعيّة(١) .

وأمّا بعد القبض فليس للمالك الرجوعُ في إذن الرهن ، وبه قال‌ الشافعي على قول الضمان ، وأمّا على قول العارية فوجهان :

أحدهما : أنّ له أن يرجع ؛ جرياً على مقتضى العارية.

والأظهر : أنّه لا يرجع ، وإلّا لم يكن لهذا الرهن معنى ، ولا يحصل به توثّق(٢) .

وقال بعضهم : إنّه إذا كان الدَّيْن مؤجَّلاً ، ففي جواز الرجوع قبل حلول الأجل وجهان ؛ لمنافاته(٣) الإذن بمدّة ، كما لو أعار للغراس مدّةً(٤) .

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٣. ١‌

(٣) كذا في « ر » الطبعة الحجريّة وفي « العزيز شرح الوجيز » : « لما فيه من » بدل « لمنافاته ». و كذا في « ج » : « لما فيه من » بدل « لمنافاته » وكذا في « ج » من دون « من ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٣.

١١٧

وإذا حكمنا بالرجوع فرجع وكان الرهن مشروطاً في بيعٍ ، فللمرتهن فسخ البيع إذا كان جاهلاً بالحال.

مسألة ١٠٢ : إذا أذن له في رهن عبده ، فرهنه المديون ، فإن كان الدَّيْن حالّاً ، كان لصاحب العبد مطالبة الراهن وإجباره على افتكاكه مع قدرة المديون منه ؛ لأنّه عندنا عارية ، والعارية غير لازمة ، بل للمالك الرجوع فيها متى شاء.

وأمّا على أحد قولي الشافعيّة من أنّه ضمان(١) : فكذلك أيضاً ؛ لاستخلاص ملكه المشغول بوثيقة الرهن ، ولا يُخرَّج على الخلاف بين الشافعيّة في أنّ الضامن هل يملك إجبار الأصيل على الأداء لتبرئة ذمّته تشبيهاً للشغل الذي أثبته بأداء الدَّيْن؟(٢) .

وإن كان مؤجَّلاً وأذن له في الرهن عليه ، فليس لصاحب العبد إجباره على الفكّ قبل الحلول على القول بأنّه ضمان ، كمن ضمن دَيْناً مؤجَّلاً لا‌ يطالب الأصيل بتعجيله لإبراء ذمّته.

وإن قلنا : إنّه عارية ، كان له مطالبته بفكاكه ؛ لأنّ العارية لا تلزم.

ثمّ إذا حلّ الأجل وأمهل المرتهن الراهنَ ، فللمالك أن يقول : إمّا أن تردّ العبد إليَّ ، أو تطالبه بالدَّيْن ليؤدّيه ، فينفكّ الرهن ، كما إذا ضمن دَيْناً مؤجَّلاً ومات الأصيل ، فللضامن أن يقول : إمّا أن تطالب بحقّك من التركة ، أو تبرئني.

مسألة ١٠٣ : إذا أذن المالك في الرهن ثمّ حلّ الدَّيْن أو كان حالّاً في أصله ، فإن كان الراه معسراً ، جاز للمرتهن بيع الرهن ، واستيفاء الدَّيْن

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٤.

١١٨

منه إن كان وكيلاً في البيع ، وإلّا باعه الحاكم إذا ثبت عنده الرهن ، سواء رضي المالك بذلك أو لا ؛ لأنّ الإذن في الرهن إذنٌ في لوازمه التي من جملتها بيعه عند الإعسار.

ولو كان الراهن موسراً مُماطلاً ، فالأقرب : أنّ للمرتهن البيعَ أيضاً ، ولا يكلَّف الصبر على مطالبة المماطل ولا حبسه وإن جاز له ذلك.

ولو لم يكن مماطلاً وكان حاضراً يمكن استيفاء الدَّيْن منه ، لم يجز البيع.

وإن كان غائباً ولا مال له في بلد المرتهن ، فالأقوى جواز البيع أيضاً.

وأمّا الشافعيّة فقالوا : إن قلنا : إنّه ضمان ، فلا يباع في حقّ المرتهن إن قدر الراهن على أداء الدَّيْن ، إلّا بإذنٍ مجدَّد ، وإن كان معسراً ، فيباع وإن كره المالك. وإن قلنا : إنّه عارية ، فلا يباع إلّا بإذنٍ مجدَّد ، سواء كان الراهن موسراً أو معسراً(١) .

وقياس قول مَنْ قال منهم بلزوم الرهن على قول العارية أنّه يجوز بيعه عند الإعسار من غير مراجعة كما على قول الضمان(٢) .

قال بعضهم : الرهن وإن صدر من المالك فإنّه لا يسلَّط على البيع إلّا بإذنٍ جديد ، فإن رجع ولم يأذن ، فحينئذٍ يُباع عليه ، فإذَنْ المراجعةُ لا بُدَّ منها(٣) .

ثمّ إذا لم يأذن في البيع ، فقياس مذهبهم أن يقال : إن قلنا : إنّه عارية ، فيعود الوجهان في أنّه هل يُمكَّن من الرجوع؟ وإن قلنا : إنّه ضمان ولم يؤدّ

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٤.

١١٩

الدَّيْن الراهنُ ، فلا يُمكَّن من الإباء ، ويُباع عليه ، معسراً كان الراهن أو موسراً ، كما لو ضمن في ذمّته ، يُطالَب ، موسراً كان الأصيل أو معسراً(١) .

مسألة ١٠٤ : إذا أعسر الراهن المستعير للرهن وتعذّر الاستيفاء منه فبِيع الرهن في الدَّيْن وقُضي به الدَّيْن ، فإن فضل من الثمن شي‌ء ، فهو لمالك العبد ؛ لأنّه ثمن ملكه. وإن أعوز شي‌ء ، لم يلزم صاحب العبد شي‌ء ؛ لأنّ المعير ليس بضامنٍ للدَّيْن.

وأمّا عند الشافعيّة فكذلك أيضاً ، سواء قلنا : إنّ الإذن في الرهن عارية أو ضمان ؛ لأنّه إنّما ضمن في تلك العين المأذون في دفعها خاصّةً ، وإذا حصر الضمان في عينٍ لم يتعدّ إلى غيرها(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإن كانت قيمة العبد بقدر الدَّيْن ولم يوجد باذل لأكثر منها ، بِيع وصُرف في الدَّيْن. وإن كانت القيمة أكثر من الدَّيْن ، فإن وُجد راغب في شراء شقص من العبد بقدر الدَّيْن وتساوت قيمة الشقص‌ منفرداً وقيمته منضمّاً أو وُجد باذل لذلك ، بِيع الشقص وقُضي منه الدَّيْن ، وكان الباقي لمالك العبد.

ولم لم يرض المالك بالتشقيص بِيع الجميع.

ولو كانت قيمة الشقص منضمّاً أكثر من قيمته منفرداً ولم يوجد باذل للزيادة مع الانفراد ، بِيع الجميع لئلّا يتضرّر المالك ، فإن طلبه المالك ، اُجيب إليه.

مسألة ١٠٥ : إذا بِيع العبد المأذون في رهنه في الدَّيْن وقُضي به الدَّيْن ، نُظر فإن بِيع بقدر قيمته ، رجع المالك بذلك على الراهن على

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٤.

(٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400