تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125148 / تحميل: 5202
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

في هذه العجالة لتحليل ذلك، نعم نتوقف عند الفرض الثالث، لأنه الفرض المقبول اجمالاً في أذهان كثير من المتأثرين بالداروينية، وذلك لنبحث مدى صحة نظرية دارون الاحيائية.

- ٣ -

ملخص نظر دارون في علم الاحياء:

إن الأنواع الحية بما فيها الانسان ترجع إلى كائن حي وحيد الخلية. حدثت في داخل هذا الكائن تغيرات نوعية بشكل بالطفرات أوجبت انقسامه إلى أنواع بعد أن كان وحيد النوع. وهذه الطفرات لا تتم بتوجيه وقصد، وإنما تتم صدفة يحصل صراع - وفقاً لقانون تنازع البقاء - بين الأنواع التي زودتها الطفرة الصدفة بكفاءات نوعية جديدة، وبين تلك التي لم تحظ بذلك، وبحكم قانون بقاء الأصلح تبيد هذه الأنواع أمام الانواع المزودة بالطفرات. وهذه التغيرات المكتسبة بالطفرات الصدفة لا بد من افتراض أنها قابلة للتوريث إلى الاعقاب، وهكذا ينشأ جيل جديد ورث الخصائص النوعية المميزة عن اسلافه. وتستمر الطفرات في الحدوث صدفة ويستمر قانون الوراثة في عمله. ويستمر قانونا تنازع البقاء وبقاء الأصلح في عملهما وتستمر التطورات من خلال ذلك، حتى يصل بنا المطاف إلى الانواع الحية السائدة الان، ومن بينها الانسان، قمة هذه العملية التطورية.

هذا ملخص لنظرية دارون في اكمل صورها، بعد كثير من الاصلاحات التي اضافها خلفاء دارون إليها. فهل هي علم يقيني تماثل أن ٢ + ٢ = ٤ ؟

٨١

كلا، إنها في غالبها ظنون واحتمالات وفرضيات صنفت لأجل تكوين صورة عن عملية التطور التي لا شك فيها إجمالاً، والتي لا تختص بالأنواع الحية وحدها وإنما تشمل الجماد والنبات والحيوان. فعلينا أن نميز بين أصل مسألة التطور وهي قضية مسلمة إجمالاً وبين تفاصيلها كما شرحها دارون وخلفاؤه وهي لا تعدو أن تكون مجموعة من الظنون والاحتمالات، ولا ترقى الى مرتبة العلم واليقين.

والمناقشات التي تدور حول النظرية تكشف عن ضعفها، وعدم تماسكها:

أولاً: لماذا تحدث الطفرة؟ يجيب الداروينيون: انها تحدث صدفة.

ولكن هذا التعليل غير مقنع. إن الطفرة ظاهرة طبيعية لا بد لها من أسباب، فما هي أسبابها؟ لا ندري!!، إذن تعليلنا للتغير النوعي الذي يحدث بأنه طفرة حدثت صدفة، لا يعني اكثر من أننا نجهل سبب التغيير النوعي. وإلا فإذا كانت الصدفة وحدها كافية - علمياً - لتفسير النوع الحيواني فلماذا لا نفسر الظواهر الطبيعية الاخرى بالصدفة ايضاً؟ وإذا كان التعليل بالصدفة يكفي علمياً فلماذا نرفض فكرة أن السلالة البشرية الموجودة الآن تناسلت من أبوين وجدا صدفة، ولم يتسلسلا من نوع اخر؟.

الحقيقة أن التمسك بالصدفة لا يعني شيئاً اكثر من أننا نجهل السبب في حدوث التنوع الحيواني. وهكذا تختفي السمة العلمية من النظرية لتعوذ بالالفاظ التي تخفي عجزها عن البيان العلمي المقنع ثم ما هي الصدفة؟

٨٢

هل في الكون صدفة؟ إن للصدفة قانوناً معينا يكشف لنا عن استحالة تعليل نشوء جزيء واحد من البروتين من المركبات الاساسية في جميع الخلايا الحية - إن العالم الرياضي السويسري (تشارلز يوجين جاي) قام بحساب الفرصة التي يمكن أن تتاح لتكوين جزيء واحد من البروتين صدفة فوجد أنها بنسبة(١) إلى (١٠ ١٦٠) أي بنسبة رقم واحد إلى عشرة مضروباً في نفسه (١٦٠) مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به والتعبير عنه بالكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة اللازمة لحدوث هذا التفاعل لينتج جزيء واحد من البروتين صدفة اكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات. ويجب أن يستمر هذا التفاعل بلايين من السنين قدرها العالم المذكور بأنها عشرة مضروبة في نفسها (٢٤٣) (١٠ ٢٤٣) من السنين. كل هذا لانتاج جزيء واحد من البروتين صدفة فإذا قلنا أن التنوع الحيواني في الكون ناشيء عن طريق الصدفة نصل إلى الصفر، أي أن قيمة الاحتمال أو الصدفة تساوي الصفر أي تساوي المحال الرياضي.

ومع ذلك يقول الداروينيون إن النوع الحيواني في الكون وجد صدفة!!

ثم ان هذه التغيرات التي يسميها الداروينيون طفرات، ما الدليل على أنها نقلت كائناً حياً من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى؟ لا دليل، إنه مجرد افتراض لا غير، فلم تستطع جميع العلوم التي استعانت بها الداروينية أن تثبت بصورة علمية لا تقبل الشك حلقات الاتصال بين نوع حيواني ونوع آخر.

ان التغيرات موجودة بلا شك، وتدل على تطور في الكفاءات،

٨٣

ولكن في داخل كل نوع، ولاتدل أبداً على الانتقال بسببها من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى.

ثانياً - ننتقل إلى مشكلة توريث الصفات المكتسبة بواسطة الطفرات، دون الصفات المكتسبة الاخرى التي ثبت علمياً عدم قابليتها للتوارث. بأي تعليل علمي مقبول نعلل هذا الافتراض الذي يشكل العمود الفقري للنظرية - إلى جانب حكاية الطفرة الصدفة لقد فشل دارون وخلفاؤه في اعداد جواب علمي مقبول وكاف على هذا السؤال. أما علم الوراثة فقد اثبت ان مرد جميع الصفات الوراثية إلى الجينات التي تحويها خلايا التناسل. وقد أوضح العلم أن الجينات لم تشتق من خلايا جسمية بل من «جرمبلازم» الوالدين فالأجداد، وهكذا وعلى هذا الضوء أثبت علم الوراثة بعد التمييز بين الخلايا الجسمية والخلايا التناسلية ان الصفات المكتسبة لاتورث. وهكذا تنهار الداروينية، من هنا لتلجأ إلى فرضية التنوع عن طريق الطفرات، وقد عرفنا قيمة هذه الفرضية آنفاً.

وهكذا تبقى الداروينية - مجرد فرضية لم يحالفها التوفيق.

ثالثاً: نساير الداروينية فنقول: لقد وصل التطور إلى قمته متمثلاً بالعقل الانساني، فكيف حدث ذلك؟ ما هو العقل؟ وما هو سره العجيب؟

إن العلم الحديث لا يعرف شيئاً عن طبيعة العقل. والداروينية كغيرها من الفرضيات عاجزة عن تقديم تفسير لنشأة العقل الانساني المدهش.

هل تفرض الداروينية ان العقل تطور من تطورات المادة نشأ بواسطة

٨٤

الطفرات الصدفة وتنازع البقاء وبقاء الاصلح والتوريث؟..الحق أن أشد مذاهب علم النفس غلواً في المادية «المذهب السلوكي» حاول الجواب وفشل بشكل فاضح.

الخلاصة: إن الداروينية عاجزة عن إثبات دعواها إنها ذات نتائج احتمالية مبنية على مقدمات احتمالية، فهل يصح أن نعتبرها علماً، وان نتخذها سنداً في نقد الافكار الدينية؟ وهل نكون أُمناء حين نسمي الظنون والاحتمالات علماً(١) .

إن الدكتور العظم وقع في الخطأ حين أصدر أحكاماً جازمة مبنية على ما أسماه علماً، وما هو بعلم إن هو إلا ظن واحتمال والظن لا يغني من الحق شيئاً، وندرك مدى خطأه حين يهاجم العقائد مستنداً على هذه النظرية ويهاجم الموفقين بين العلم والدين الذين يرفضون هذه النظرية. انظر ص ٤٢ ، ٤٣ من الكتاب.

____________________

(١) نشرت صحيفة الأهرام القاهرية في عددها الصادر يوم الاربعاء ٢ شوال سنة ١٣٩٢ هجري - ٨ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧٢ م ، الخبر التالي:

واشنطن، في ٧ - ١ - ٧٢ وكالات الانباء:

أعلن ريتشار دليكي، أحد علماء الانثروبولوجيا - علم الانسان - في كينيا، أنه تم اكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها الى مليونين ونصف مليون عام، ويعد أقدم أثر من نوعه للانسان الأول. وقال العالم: ان هذا الاكتشاف يمتد في أثره مليوناً ونصف مليون عام عن أقدم أثر يمكن العثور عليه حتى الآن. وقد تم اكتشاف عظام الجمجمة مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ في جبل حجري بصحراء تقع شرق بحيرة رودلفا في كينيا.

وقال العالم: ان هذا الأثريمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور الانسان عن أجداده فيما قبل التاريخ، وكيف ومتى تم. =

٨٥

____________________

= وقد قدم ريتشارد، (وهو مدير المتحف البريطاني في كينيا) تقريراً عن اكتشافه إلى الجمعية الجغرافية في واشنطن، وقال فيه:

إن نظريات التطور الحالية - وعلى رأسها نظرية دارون - تفيد أن الانسان تطور من مخلوق بدائي كانت له سمات بدنية شبيهة بسمات القرود. وان اقدم اثر للانسان كمخلوق منتصب يسير على رجليه وله مخ كبير يرجع الى نحو مليون سنة، في حين ان الاكتشاف الجديد يدل على أن المخلوق الانساني المنتصب في الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد، بل كان يعاصره منذ أكثر من مليون ونصف مليون عام، وإنه يمكن على هذا الاعتبار استبعاد المخلوق البدائي الأول على اساس ان الانسان انحدر من سلالته وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليقها:

«ان نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الأول، واسمه العلمي (أوسترالو بيتشيكوس) - وكان اساساً من أكلة النباتات - قد وصل الى مرحلة تطورية مسدودة، بينما استطاع الانسان الذي استعمل اللحم في غذائه، وتمكن من صناعة الادوات الحجرية أن يبقى على قيد الحياة.

وأكد ليكي في تقريره أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها، وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة لا تشبه جماجم الجنس البشري المعروف حالياً إلا أنها تختلف كذلك عن جميع اشكال الجماجم التي عثر عليها للانسان الأول، ولذلك لا تتفق مع أي نظرية حالية من تطور الانسان»

وفي ١١ - ٣ - ١٩٧٣ نشرت جريدة الأخبار القاهرية في صفحتها الثالثة تحت عنوان «انتكاسة نظرية الارتقاء» ما يأتي للاستاذ ظفر الاسلام خان - الهندي: «تعرضت نظرية الارتقاء لهزة عنيفة في اوائل الشهر الحالي حين قرر المجلس التعليمي الحكومي بولاية كاليفورنيا الامريكية بأن تشير جميع الكتب المدرسية للعلوم الى نظرية الارتقاء الداروينية بأنها «نظرية افتراضية وليست حقيقية» وجاء في قرار المجلس التعليمي للولاية: «ان ما يمكن معرفته عن اصول الحياة لا يعدو أن يكون مجرد افتراض ذكي - على اكثر تقدير -» وأمر المجلس «باستخدام تعديل على العقائد النظرية المسلم بها الى بيانات قابلة للتعديل وفقاً للظروف».

أوردت هذا الخبر مجلة (الايكونومست) الاسبوعية البريطانية في عددها الصادر في ١٠ مارس سنة ١٩٧٣ نقلنا هذين الخبرين عن الاستاذ الدكتور عبد اللنعم النمر مدير البحوث الاسلامية في الازهر الشريف (خواطر من الدين والحياة) الطبعة الاولى ١٩٧٣ م - دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان ص ٢١٠ - ٢١٢.

٨٦

الجن والملائكة وابحاث أخرى (الجن والملائكة)

ثمة حقائق أثبتها الوحي ولا سبيل إلى العلم بها عن طريق الحس والتجربة، وهي الحقائق الغيبية. إن الملائكة والجن وابليس والجنة والنار وما إليها ليست أساطير كما يقول المؤلف.

هل النظرة العلمية التجريبية الحسية تنفي وجود هذه الكائنات؟ أو ان الحس والتجربة لم تكتشف هذه الكائنات؟ إن التعبير الصحيح هو الثاني، ولم يقل أحد ان هذه الأشياء يمكن اكتشافها في المختبر، لسبب بسيط جداً، وهو انها خارجة عن نطاق التجربة الحسية. فالرجوع إلى النظرة العلمية الحسية للحكم على ما هو خارج عن نطاقها مسلك غير علمي، ولا ينفي عدم قدرة الحس والتجربة على ملامسة هذه الأشياء ان تكون هذه الأشياء حقيقة أيضاً كالأشياء الحسية.

إن الوحي الصادق الذي ثبت بالبرهان القاطع هو طريقنا إلى العلم بهذه الامور، فاننا إذا آمنا بالعلة الاولى للكون، وهي اللّه. وآمنا بالنبوة والوحي فلا بد لنا من الايمان بالحقائق الغيبية التي اخبرنا الوحي عنها.

٨٧

إننا حين نؤمن بأن شيئاً ما مصدر للمعرفة، فلا بد لنا من الايمان بالمعرفة التي تأتينا من هذا المصدر.

وإذن فالايمان بهذه الامور فرع للايمان بظاهرة الوحي، ومن لا يؤمن بالوحي لا معنى للكلام معه في الفرع وهو ينكر الأصل، وإذا آمنا بالوحي فمن المنطقي حينئذٍ الايمان بالغيب الذي جاء عن طريق الوحي.

والدكتور العظم وامثاله من الماديين الماركسيين وغيرهم حين يردون الكون وظواهره إلى اصل غير معروف وغير معقول، وحين يلوذون بحكاية الصدفة إذا حوصروا واعوزتهم الحجة المقنعة - هؤلاء ايضاً يؤمنون بالغيب الذي يعتقد بمثله المؤمنون بالاديان، فلماذا يكون غيب الماديين حقاً وغيب المؤمنين بالاديان باطلاً؟ مع أن غيب المؤمنين اكثر عقلانية وانسجاماً مع المنطق السليم.

***

من هنا يتضح لنا أن سخرية المؤلف في (٣٧ - ٣٨) لامعنى لها فليس المراد من النص الذي اختاره المؤلف أن بالامكان اكتشاف موجات ضوئية جنِّية وملائكية، وإنما المراد هو أن ثمة عوالم غير منظورة كثيرة وراء عالمنا، فعدم اطلاعنا على تلك العوالم وتركيبها لا ينفي وجود كائنات غير منظورة وذات طبيعة غير إنسانية فيها - وهذا معنى معقول صحيح لا وجه للسخرية منه.

***

النظرة الغائية

وهذا ينقلنا إلى مناقشة المؤلف للنظرة الغائية إلى الكون. إن المؤلف ينفي القصد والغاية من النظام الكوني. إنه نظام وجد صدفة، نعم صدفة، ووجد بهذا الشكل من النظام الدقيق المحكم المتناسق صدفة.

لا يأبى عقل الدكتور «العلمي» أن يؤمن بالصدفة في كل النظام الدقيق الشامل الذي يسيطر على كل ظواهر الطبيعة ويأبى عقله التصديق بالوحي وبالحقائق الغيبية الآتية عن طريق الوحي.

نعود إلى النظرة الغائية. إن النظام الدقيق المحكم الذي يسيطر على الكون يكشف عن القصد والغاية التي تقود الكون نحو النمو والتكامل. إن المؤلف قد نفى هذه النظرة بكلام خطابي عن العلم وعدم إدراكه للغاية والقصد مع قائمة بأسماء علماء الطبيعة والرياضيات (ص - ٣٨ ٣٩).

٨٨

وقد فات الدكتور انه لا منافاة بين النظرة الغائية وبين العلم. إن وظيفة العلم وظيفة وصفية، العلم لا يفسر ولا يفلسف، العلم يحلل ويصف فقط، أما التفسير، اما إدراك المعنى الكامن ولاء الظاهرة الطبيعية، فهو من شأن الفلسفة، من شأن العقل المفكر الواعي، وليس من شأن أنابيب الاختبار وأفران الصهر. إن العلم يستطيع أن يحلل التفاحة إلى عناصرها الأساسية، ويصفها، ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا انها جملية أو غير جميلة، لذيذة أو غير لذيذة، فلذلك شأن يتعلق بقوى إدراكية لدى الانسان لا علاقة للعلم التجريبي بها.

***

تدخل القدرة الإلهية في عمل الطبيعة

اعترض المؤلف على قوله تعالى في سورة المؤمن:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ من سُلالَةٍ من طين. ثم جَعَلْنَاه نُطْفَةً في قرارٍ مَكين. ثم خَلَقْنَا النّطْفةَ عَلَقَةً. فخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فخَلَقْنا المضغة عظاماً. فكسوْنا العظام لحماً. ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتباركَ اللّه أحسَنُ الخالقين ) (١) .

اعترض بأن ما تدل عليه الآيات من تدخل الارادة الإلهية في عملية تكون الجنين ينافي ما يقرره علم الأجنة.

ونقول للمؤلف اننا بينا عند الحديث عن المسألة الإلهية ان إيماننا باللّه علةً أُولى للكون لا يعني أننا ننفي العلل الطبيعية من التأثير، كيف ذلك ونحن نشاهد بحسنا وندرك بعقولنا تدخل العلل الطبيعية وعملها؟ وانما يعني ان العلل المتصاعدة لا بد ان تنتهي إلى علة أُولى هي اللّه تعالى.

ونزيد البيان هنا فنقول:

إن الظاهرة تارة تكون خارقة للطبيعية «معجزة» وأُخرى تكون طبيعية. حين تكون الظاهرة خارقة للطبيعة ففي هذه الحالة تكون نتيجة للتدخل الإلهي المباشر. وأما حين تكون الظاهرة طبيعية فهي تتبع بصورة مباشرة أسبابها الطبيعية، ومن ذلك نمو الجنين في الرحم، فإنه تابع

____________________

(١) سورة المؤمن، الآيات: ١٢ - ١٤

٨٩

لأسبابه الطبيعية المباشرة، وإسناد عملية الخلق إلى اللّه في هذه الآيات، إنما هو باعتبار أن اللّه تعالى هو العلة الاولى والنهائية في سلسلة العلل المتصاعدة. فهو سبحانه وتعالى خلق الأسباب وجعل العلل وفقاً لهذا النظام الذي يحكم الكون كله.

***

تزوير وتناقض

يهاجم المؤلف (ص - ٤٢ - ٤٣) المسلمين الذين يرفضون نظرية دارون، ونظرية الحريات العامة في التاريخ كما بشرت بها الثورة الفرنسية، ونظرية فرويد والماركسية ويهاجمهم لأنهم يرفضون العلم في الوقت الذي يدعون ان الاسلام ينسجم مع العلم.

ونقول للمؤلف اننا قد بينا مدى «علمية» نظرية دارون آنفاً فهي ليست علماً بل ظن واحتمال لا يغني عن الحق شيئاً.

ونقول للمؤلف الماركسي: هل تقر عقيدتك الماركسية نظرية الحريات كما بشرت بها الثورة الفرنسية او ان الماركسية تستغل الحريات إلى أن يستولى اتباعها على السلطة فتخنق كل الحريات. هل يتاح لمسلم أن يهاجم الماركسية في دولة شيوعية كما هاجمت أنت الاسلام والمسيحية في كتابك موضوع البحث. هل توجد حريات في المجتمع الشيوعي؟

ونقول للمؤلف الماركسي هل تعترف الماركسية بنظرية فرويد التي قلت عنها (ص - ٤٣) «انها من أهم النتائج التي توصلت إليها البحوث العلمية

٩٠

في مجال الدراسات النفسية». نقول له: هل تقر الماركسية نظرية فرويد في أن المحرك الأساسي للانسان هو الغريزة الجنسية، وتنخلى الماركسية عن مبدئها الاساسي في ان العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد في حركة الفرد والمجتمع؟

إن الماركسية ترفض نظرية فرويد فلماذا لا يجوز للمسلم أن يرفضها؟ أو إنها بالنسبة إلى الماركسي تكون سخافة وبالنسبة إلى المسلم تصير علماً..

وأما مدى ما في الماركسية من «علم» فنرجو ان تتاح لنا فرصة الحديث عنه مع المؤلف في الفصل الأخير من كتابه.

***

التوفيق التبريري

في الصفحات (٤٥ - ٥١) انتقد المؤلف المحاولات التي تبذل في الدول الإسلامية لتبرير اشكال الحكم القائمة في كل دولة. ونحن نقول للمؤلف إن الإسلام كدين ليس مسؤولاً عن هذه المحاولات، وإنما المسؤول هو الحكام الذين يريدون أن يبرروا أنفسهم، ومسؤولية المبررين.

وقد عرضنا لهذه المسألة في قسم سابق من حديثنا مع المؤلف، ونبهنا على تناقض المؤلف مع نفسه بين ما ذكره هنا وبين ما ذكره عن هذا الموضوع في ص - ٢٣ - ٢٤.

التوفيق التعسفي

في الصفحات (٥١ - ٥٧) ندد المؤلف بقسوة وسخرية عن

٩١

المحاولات الرامية إلى تقرير أن بعض المكتشفات العلمية الحديثة قد وردت في القرآن.

ونقول للمؤلف: ان المبدأ العام بالنسبة إلى هذه المسألة هو أن القرآن ليس كتاباً في العلوم، ولذا فليس المطلوب منه ان يتضمن مبادئ علوم الطبيعة وغيرها، وإنما هو كتاب هدى ونور، يقوّم السلوك الإنساني ويهديه سواء السبيل.

ولكن هذا المبدأ لا ينفي أبداً أن في القرآن آيات كثيرة تتضمن إشارات واضحة جداً إلى حقائق علمية كشف العلم عنها بصورة نهائية. ان الآيات التي أتحدث عنها لم تسق للتعبير عن الحقيقة العلمية بصورة مباشرة، وإنما سيقت للتعبير عن أغراض أُخرى تتعلق بالانسان وسلوكه، وقدرة اللّه الكلية ولكنها في طيات ذلك تومئ إلى الحقيقة العلمية. والملاحظة الأمينة المحايدة الواعية تكشف عن ذلك بوضوح. ولو كان المقام يتسع لذكر بعض الأمثلة لذكرتها.

إن السخرية التي يلجأ إليها المؤلف لنفي الآراء التي لا تعجبه لا تقوى على دفع هذه الحقيقة. لسنا مع أولئك المتحمسين الذين يريدون أن يجعلوا من القرآن موسوعة علمية، ولكننا أيضاً لانوافق المؤلف على نفيه القاطع.

التوفيق على الطريقة اللبنانية

في الصفحات (٥٧ - ٦٩) استعراض المؤلف المحاولات المبذولة لانشاء حوار إسلامي مسيحي في لبنان والعالم، واعتبرها ظاهرة من ظواهر

٩٢

التفكير المجامل في اذهان المسؤولين عن شؤون الفكر الديني عامة واهتماماتهم».

ونقول: لسنا مع الأب يواكيم مبارك وغيره ممن يرون ان يحصروا الحوار في «المقابلة اللاهوتية البحت» فذلك لا يجدي ولا يفيد.

المفروض انه يوجد إسلام ويوجد مسيحية، وانهما دينان متميزان فلا معنى للمطالبة بوحدتهما في كل شيء، وإلا لكانا ديناً واحداً. إن الحوار ينبغي أن يستهدف اكتشاف المبادئ الكبرى التي تجمعها، المبادئ الكبرى في السلوك وفي احترام الانسان، وفي تيسير حركة التقدم الانساني، والتعايش بين الامم والجماعات الثقافية والدينية المختلفة.

إن الاسلام منذ ظهوره منفتح على المسيحية والمسيحيين، وتاريخه خلال العصور أعظم شاهد على انفتاحه، والمسيحية من خلال تطور الكنيسة تحاول الانفتاح على الاسلام، ونأمل أن يترجم هذا الانفتاح إلى دعم جهود العالمين الاسلامي والعربي بصورة واضحة وصريحة في المسألة الفلسطينية(١) .

تناقض

بعد أن حارب المؤلف الدين من كل الوجوه، ونفى أُسسه على جميع المستويات، ابتداء من اكبر قضاياه «وجود اللّه» إلى أبسط قضية

____________________

(١) لاحظ بحثنا عن الحوار الاسلامي المسيحي الذي نشر بعد كتابة هذه المطارحات في جريدة السفير البيروتية في حلقتين الاولى في العدد ٧٠٨ الاثنين ١٤ ربيع الأول ١٣٩٦ هجري = ١٥ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - ازمة الحضارة ومشروع جديد للحوار والثانية في العدد ٧٠٩ الثلاثاء ١٦ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - آفاق جديدة لعلاقات الحوار بين الديانتين).

٩٣

دينية، بعد كل هذا عاد في ص ٧٨ إلى القول بأنه «لا يريد نسخ الشعور الديني في تجارب الانسان من الوجود».

ونتساءل: كيف لايعترف بوجود إله، ويرفض وجود عالم غيبي، ومع ذلك يريد بقاء الشعور الديني، من أين يأتي الشعور الديني اذا لم يكن ثمة إله؟

وهذا التناقض شبيه بما ذكره في أول كتابه في (ص ١٧) حيث فرق بين ظاهرتين للدين:

١ - كونه «ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس» والدين بهذا الاعتبار ليس موضوعاً لنقد المؤلف.

٢ - كون الدين «قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا، وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي» وهو بهذا الإعتبار موضوع لنقد المؤلف.

نتساءل أولاً:

لماذا أعفى الدين بالاعتبار الأول من نقده، هل ينسجم فكر المؤلف - وهو الماركسي اللينيني - مع الظاهرة التي يمثلها هؤلاء «القديسون والمتصوفون وبعض الفلاسفة» وهل تسير الحياة الروحية لهؤلاء الذين اعفاهم المؤلف من نقده إلا على أساس المفهوم الإلهي والروحي للكون؟ وهو مفهوم يرفضه المؤلف جملة وتفصيلاً.

ونتساءل ثانياً:

هل الدين بالاعتبار الثاني الذي جعله المؤلف موضوعاً لنقده إلا نتيجة لكونه ظاهرة روحية؟ وهل هو باعتباره ظاهرة روحية تبدو في حياة

٩٤

قلة ضئيلة إلا السبب الفاعل في الحياة الاجتماعية والفكرية لجماهير المعتنقين للدين؟

أَليست هذه القلة الضئيلة من الناس التي اعفاها المؤلف من نقده هي التي أغنت الدين بأفكارها وتأملاتها، وتَقَبّل المجتمع المتدين هذه الأفكار والتأملات فجعلها خميرة لثقافته وروحاً لحضارته.

ان هذه الملاحظة، وأمثالها كثير، تكشف لنا عن مدى تناقضات المؤلف.

وإلى اللقاء مع قصة المؤلف في قصة ابليس

قصة ابليس

يجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للبحث في قصة إبليس الاسلامية، لأن القرآن الكريم هو المصدر الأصيل الذي لا يرقى إليه الشك حول ملامح هذه القصة من وجهة النظر الإسلامية.

وعلى هذا فيجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للمؤلف في بحثه الذي كتبه عن إبليس. ولا يجوز - في منطق المنهج العلمي - اعتماد مصادر أُخرى غير موثوقة لهذه القصة، كما هو الشأن في كل بحث يتناول أية مسألة من مسائل المعرفة.

وإذن، فللبحث في قصة إبليس صلة بعلم التفسير، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه: صلته بعلم التفسير من حيث انه يتناول نصاً قرآنياً، وصلته بعلم الفقه من حيث انه يتناول - في النص القرآني - تكليفاً شرعياً بالسجود، تعلق بمخلوق معين هو إبليس، وصلته بعلم اصول الفقه من حيث أنه (بحث المؤلف) يحتاج إلى معرفة بالمصطلحات الخاصة بعلم الفقه والأدلة الشرعية ليستطاع التوصل إلى فهمٍ صحيح للنص.

٩٥

الأمر التشريعي والأمر التكويني «كما سنبينه في الفقرة الثالثة» «وثانياً» انها تعبر عن افكار وتصورات متأثرة بعقائد غريبة عن الاسلام مستمدء من الافلاطونية الحديثة وغيرها. وعلى أي حال فهي ذات منابع غير إسلامية.

وأما الاحاديث المسماة «الاحاديث القدسية» فاغلبها غير اسلامي، وانما تسرب إلى التراث الاسلامي من مصادر هندية وفارسية ويونانية واسرائيلية ونصرانية، ولذا فلا يمكن اعتبارها معبرة عن وجهة النظر الاسلامية الصافية.

إن الذي يعبر عن النظرة الاسلامية - بعد القرآن - هو السنة النبوية الصحيحة التي تثبت للدراسة النقدية فيما يتعلق بالسند والمتن، والشكل والمضمون، أي لما نصطلح عليه بالنقد الخارجي والنقد الداخلي.

والعجيب من المؤلف، وهو يدعي في اكثر من موضع من كتابه تقديس العلم، ويشحن كتابه بالعبارات التي ينعى فيها على مخالفيه في الرأي أنهم لا يتبعون «المنهج العلمي» في كلامهم - من العجيب أنه هو بالذات يترك ابسط مقتضيات المنهج العلمي، وهو التأكد من المصادر التي يعتمد عليها.

مثلاً: من الصحيح أن نعتبر كتاب الطواسين معبراً عن وجهة نظر الحلاج بالذات في قصة ابليس، وذلك فيما إذا أردنا أن نكتب عن شخصية الحلاج وآرائه، وأما نعتبر آراء الحلاج هي آراء الاسلام، وفهم الحلاج هو وجهة النظر الاسلامية، فهذا خطأ كبير يدركه حتى

٩٦

الطلاب الذين يحضرون اطروحة الليسانس حين يرشدهم استاذهم المشرف إلى نوعية المصادر التي تصلح أن تكون مادة للدراسة المنوي انجازها.

٢ - الحرية الداخلية:

إن البحث الذي أداره المؤلف حول قصة ابليس يبتني على نظرية الجبر، وهي فكرة باطلة، وغير إسلامية. في الاسلام: المخلوق العاقل حر، وهو الذي يقرر بحريته واختياره التام موقفه من الاشياء والأحداث. وإرادة اللّه تأتي في مرحلة متأخرة عن اختيار العبد.

إن الفعل الانساني يتم انجازه نتيجة لاختيار المخلوق وحريته الداخلية مضافاً إليها - في مرحلة تالية إرادة اللّه، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

إرادة الانسان + إرادة اللّه - الفعل.

فالفعل مخلوق لارادة اللّه، ولكن ليس ابتداء‍ً، وإنما بعد أن يريده الانسان ويقرره بتمام حريته، فهو - الفعل - نتيجة لعامل الحرية - يتلوه تدخل الاراد ة الالهية في خلق الموقف الذي قرر الانسان اتخاذه.

هذا تبسيط لنظرية أهل البيت (ع) في مسألة حرية الانسان وعلاقتها بالارادة الالهية، وذلك في النص الوارد عنهم «لا جبر ولا تفويض ولكن امر بين الأمرين»، فالمخلوق ليس مجبراً، لاننا بوجداننا ندرك ما نتمتع به من حرية داخلية مطلقة، والمخلوق ليس مفوضاً لا دخل لارادة اللّه في خلق افعاله، وفي تسيير الكون، بل إرادة اللّه حاضرة دائماً، ولكن في مرحلة لاحقة على قرار العبد الذي يتخذه.

٩٧

إن الأمر التشريعي (أو النهي التشريعي) هما الأمر والنهي المتعلقان بأفعال العباد (الانسان والملائكة، الجن، ومنهم إبليس) وفعل العبد (أو تركه) منسوب إلي العبد حقيقة، فهو الذي يفعل، وهو الذي يترك، ويتمتع بالحرية المطلقة في إطاعة الأمر الإلهي والنهي الإلهي وعصيانهما. ولكن العبد عاجز عن خلق أفعاله بنفسه، فهو يمارس حريته بمعونة الارادة الإلهية، فاذا قرر العبد موقفاً معيناً من شيء (والعبد يمارس حرية مطلقة في اتخاذ قراره بدون تدخل للارادة الالهية) حينئذٍ - وبعد أن يتخذ العبد قراره يأتي دور الارادة الالهية في تحقيق قرار العبد باعانته على جعل قراره النظري نافذاً في الواقع. وبهذا يتأكد مبدأ الحرية، اذ بدون تحقيق ارادة العبد تبقى حريته نظرية لا قيمة لها.

وقد بينا هذه الحقيقة في مطلع هذا البحث عند حديثنا عن الحرية الداخلية ان اللّه كلف العباد، وأمرهم بالطاعة، واعطاء الحرية، وجعلهم مسؤولين عن كيفية ممارستهم لحريتهم، فاذا قرروا الطاعة فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، وإذا قرروا المعصية فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، ويتحملون مسؤوليته، ولأجل أن تتحقق لهم حريتهم الكاملة تتدخل الارادة الإلهية في تنفيذ قراراتهم التي اتخذوها.

على هذا الضوء نصل إلى النتائج التالية:

١ - الارادة التكوينية (يسميها المؤلف «المشيئة») مجال عملها عالم الأشياء.

٢ - الارادة التشريعية (الأمر التشريعي) مجاله أفعال العباد، ولا

٩٨

دخل للارادة التكوينية فيه إلا بالنحو الذي بيناه، وهو كما قلنا لا يتعارض مع مبدأ الحرية، بل يؤكد مبدأ الحرية، ويجعله واقعاً عملياً معاشاً.

٣ - لأن اللّه جعل الانسان حراً، فلا يمكن أن يأمره بشيء تشريعاً، ويريد منه خلافه تكويناً، بل اذا أمره بشيء تشريعاً يترك له حرية اتخاذ قراره، وينفذ له قراره الذي اتخذه.

ومن هنا يتضح مدى الخطأ الذي وقع فيه المؤلف حين قال (في ص ٨٩) «.... لقد شاء اللّه وجود أشياء كثيرة غير انه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما انه أمرهم باشياء ولكنه أرادهم ان يحققوا أشياء أُخرى».

***

على ضوء هذه الملاحظات نشرح بإيجاز قصة إبليس من وجهة النظر الاسلامية مستهدين في ذلك بالنص القرآني، وبعد ذلك نوضح أخطاء المؤلف في آرائه وأحكامه الني أطلقها فيما يتعلق بقصة ابليس:

٩٩

( ...فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ أبَى واسْتَكْبَر، وكَانَ منَ الكَافرين ) (١) .

وفي بعض آخر من الآيات يقول اللّه على لسان ابليس:

( ....قَالَ يا إبْليسُ مَا لكَ ألا تَكُونَ مَعَ السّاجدين؟ قَالَ: لم أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَه منْ صَلْصَالٍ منْ حمأٍ مَسْنوُن ) (٢) .

( وَإذْ قُلْنَا للمَلائكَةَ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ قَالَ: أَ أَسْجُدُ لمَنْ خَلَقْتَ طيناً ) (٣)

وفي بعض ثالث من الآيات تبرز «الأنا» عند ابليس في مقابل الذات الالهية:

( قَالَ: مَا مَنَعكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ؟ قَالَ أنَا خَيْز منْه خَلَقتْنَي منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه منْ طين ) (٤) .

( فَسَجَدَ الملائكَةُ كُلّهم أجْمعَوُن إلا إبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ منَ الكَافرين. قَالَ يَا إبْليس مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لما خَلَقتُ بيَدي أسْتكبرت أمْ كُنْتَ منَ العَالين؟ قَالَ: أنَا خَيْر منْهُ خَلَقْتَني منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه من طين ) (٥) .

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٤ ٠

(٢) سورة الحجر الآية ٣٢ - ٣٣.

(٣) سورة الاسراء الآية ٦١.

(٤) سورة الاعراف الآية ١٢.

(٥) سورة الاعراف الآية ٧٥ - ٧٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الرواية الثانية - لما رواه أنس أنّ أبا طلحة سأل رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أيتامٍ ورثوا خمراً ، فقال له : « اهرقها » فقال : أنخلّلها؟ فقال : « لا »(١) وإذا ثبت أنّه محظور ، لم يكن سبباً في الإباحة ، كقتل الصيد في الحرم.

ولأنّه مائع لا يطهر بالكثرة ، فلم يطهر بالصنعة ، كاللبن النجس. ولأنّ ما يقع فيه ينجس ، فلا يمكن طهارة الخمر دونه ، والمطروح فيه لا يحصل فيه الاستحالة ، فهو باقٍ على نجاسته(٢) .

والسؤال وقع عن قضيّة خاصّة ، فجاز أن لا تتخلّل تلك الخمرة. ولا يلزم من تحريم السبب - لو سُلّم تحريمه هنا - تحريم المسبَّب ، فإنّ مَن اصطاد بآلة محرّمة فَعَل محظوراً وكان الصيد حلالاً به. وكذا لو طلّق في الحيض - عندهم - فَعَل سبباً محرّماً ، وحصلت به البينونة. ونظائره كثيرة لا تحصى. وقتل الصيد في الحرم بمنزلة خلق الصيد. والخمريّة المقتضية للتنجيس قد زالت ، فيزول معلولها ، وهو لا تنجيس ، بخلاف لا مقيس عليه. واستحالة الخمر مطهّرة له. والمطروح فيه كالآنية.

فروع :

أ - إذا كانت الخمر في ظرفٍ فَنَقلها من الظلّ إلى الشمس أو من‌ الشمس إلى الظلّ فتخلّلت ، طهرت عندنا.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما ؛ لأنّها لم يخالطها ما يمنعها الطهارة ،

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٣٢٦ / ٣٦٧٥ ، مسند أحمد ٣ : ٥٦٦ / ١١٧٧٩ ، بتفاوت يسير.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٥٥ ، المجموع ٢ : ٥٧٤ و ٥٧٦ و ٥٧٨ - ٥٧٩ ، الحاوي الكبير ٦ : ١١٢ ، حلية العلماء ١ : ٣١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١ - ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤ ، المغني ١٠ : ٣٣٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٩٠ ، التفريع ١ : ٤١١ ، الاستذكار ٢٤ : ٣١٣ / ٣٦٥١٦ و ٣٦٥١٧ ، و ٣١٥ / ٣٦٥٢٨.

١٤١

بخلاف المطروح فيها.

والثاني : أنّها لا تحلّ ؛ لأنّ ذلك فعْلٌ محظور(١) .

وهو ممنوع ، وينتقض بما إذا أمسكها حتى تخلّلت ، فإنّ إمساكها لا يجوز ، وإذا تخلّلت في يده حلّت.

ب - لو طرح فيها شيئاً نجساً غير الخمر فانقلبت خَلّاً أو عالجها الذمّي أو لمسها حال الخمريّة فانقلبت خَلّاً ، لم تطهر بالانقلاب ؛ لأنّ نجاسة المطروح لم تكن بسبب الخمر ولا بسبب ملاقاته إيّاها ، بل بنجاسةٍ لا تطهر بالانقلاب ، فلا يطهر ما طُرح فيه بالانقلاب. ولا فرق بين أن تكون نجاسته ذاتيّةً أو عرضيّة.

وربما خطر لبعض مَنْ(٢) لا مزيد تحصيلٍ له الطهارةُ ؛ لأنّ النجاسة الواحدة ، وحالة الخمريّة العينُ نجسة ، فإذا لاقتها نجاسة اُخرى ، لم يزد أثر التنجيس فيها ، فإذا انقلب خَلّاً ، طهرت مطلقاً.

وهو غلط ؛ لأنّ النجاسات متفاوتة في قبول التطهير وعدمه وفي سبب التطهير.

ج - حكى الجويني عن بعض الشافعيّة جوازَ تخليل المحترمة ؛ لأنّها غير مستحقّة للإراقة(٣) .

لكنّ المشهور عندهم عدم الفرق بين المحترمة وغيرها في تحريم التخليل(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ١١٥ ، التهذيب - للبغوي - ١ : ١٨٨ ، حلية العلماء ١ : ٣١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣ و ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢.

١٤٢

د - لا فرق بين الطرح بالقصد وبين أن يتّفق من غير قصد كطرح الريح في إباحته وطهارته مع الانقلاب.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : لا فرق بينهما في التحريم ، وعدم الطهارة.

والثاني : الفرق(١) .

والخلاف مبنيّ على أنّ المعنى تحريم التخليل أو نجاسته المطروح فيه. والأظهر عندهم : أنّه لا فرق(٢) .

هذا إذا كان المطرح في حالة التخمير ، أمّا إذا طرح في العصير بصلاً أو ملحاً واستعجل به الحموضة بعد الاشتداد ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه إذا تخلّل ، كان طاهراً ؛ لأنّ ما لاقاه إنّما لاقاه قبل التخمير ، فيطهر بطهارته كأجزاء الدَّنِّ.

والثاني : لا ؛ لأنّ المطروح فيه ينجس عند التخمير وتستمرّ نجاسته ، بخلاف أجزاء الدّنِّ ؛ للضرورة(٣) .

ه- لو طرح العصير على الخَلّ وكان العصير غالباً ينغمر الخلّ فيه عند الاشتداد ، طهر إذا انقلب خَلّاً ؛ لزوال المقتضي للنجاسة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : أنّه لا يطهر(٤) .

ولو كان الغالب الخَلّ وكان يمنع العصير من الاشتداد ، فلا بأس به ، وبه قال الشافعيّة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢‌.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤.

(٤ و ٥ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤ ، المجموع ٢ : ٥٧٧.

١٤٣

مسألة ١٢٠ : قد بيّنّا أنّه يجوز إمساك الخمر المحترمة إلى أن تصير خَلّاً ، وهو قول الشافعيّة(١) . والتي لا تُحترم تجب إراقتها ، لكن لو لم يرقها حتى تخلّلت ، طهرت عندنا أيضاً - وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) - لأنّ النجاسة والتحريم إنّما ثبتا للشدّة وقد زالت.

وعن الجويني عن بعض الخلافيّين أنّه لا يجوز إمساك الخمر المحترمة ، بل يُضرب عن العصير إلى أن يصير خلاًّ ، فإن اتّفقت منّا اطّلاعة وهو خمر ، أرقناه(٣) .

وقال بعضهم : لو أمسك غير المحترمة حتى تخلّلت ، لم تحل ولم تطهر ؛ لأنّ إمساكها حرام ، فلا يستفاد به نعمة ، فإذا عادت الطهارة بالتخلّل ، تطهر أجزاء الظرف أيضاً ؛ للضرورة(٤) .

وقال بعضهم : إن كان الظرف بحيث لا يشرب شيئاً من الخمر كالقوارير طهر ، وإن كان ممّا يشرب ، لم يطهر(٥) .

وكما يطهر الملاقي بعد التخلّل يطهر ما فوقه الذي أصابته الخمر في حال الغليان.

واعلم أنّ بعض الشافعيّة تردّد في بيع الخمر المحترمة بناءً على‌ التردّد في طهارتها مع الانقلاب(٦) .

والحقّ عندنا : التحريم.

والعناقيد التي استحالت أجزاءٌ من حبّاتها خمراً يجوز بيعها ،

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤ ، المجموع ٢ : ٥٧٧.

(٣ و ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤ - ٣١٥ ، المجموع ٢ : ٥٧٧.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥ ، المجموع ٢ : ٥٧٧.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥.

١٤٤

ولا يقصد(١) بيع الحبّات التي استحالت.

وللشافعيّة وجهان في جواز بيعها ، أعني بيع الحبّات التي استحالت اعتماداً على طهارة ظاهرها في الحال ، وتوقّع فائدتها في المآل(٢) .

وطردوا الوجهين في البيضة المستحيل باطنها دماً(٣) .

والحقّ عندنا المنع.

مسألة ١٢١ : لو رهنه عصيراً فصار خمراً قبل الإقبال ، بطل الرهن على ما بيّنّا ، وكان للمرتهن الخيار في البيع الذي شرط فيه ارتهانه.

وإن صار خمراً بعد القبض ، خرج من الرهن ، ولا خيار للمرتهن.

فإن اختلفا فقال المرتهن : قبضتُه وهو خمر ، وقال الراهن : بل قبضتَه وهو عصير ، وإنّما صار خمراً في يدك فالأقوى تقديم قول المرتهن - وبه قال الشيخ(٤) ، وأبو حنيفة ، وهو أحد قولي الشافعي(٥) لأنّ مَن في يده مالٌ لغيره فالقول قوله في صفته ، كالغاصب والمستعير وغيرهما. ولأنّ المرتهن ينكر أن يكون قد قبض رهناً ، والقول قوله مع عدم الرهن.

والقول الثاني للشافعي : إنّ القول قول الراهن ؛ لأنّهما اتّفقا على العقد والتسليم واختلفا في صفة المقبوض ، فكان القول قول الذي سلّم ، كالبائع والمشترى إذا اختلفا في العيب ويمكن حدوثه عند كلّ واحدٍ منهما ، فإنّ القول قول البائع(٦) .

____________________

(١) في « ج » : « ولا يجوز » بدل « لا يقصد ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥ ، المجموع ٢ : ٥٧٨.

(٤) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٤ ، الخلاف ٣ : ٢٤٠ ، المسألة ٣٥.

(٥ و ٦ ) مختصر المزني : ٩٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ١١٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٤ ، حلية العلماء ٤ : ٤٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٠.

١٤٥

فأمّا الغاصب والمستعير فإنّ القول قولهما فيما يغرمان ؛ لأنّ القول قول الغارم ، لأنّه مدّعى عليه ، وهنا المرتهن يثبت لنفسه خياراً في العقد بذلك ، فهو بمنزلة المشتري.

أمّا لو اختلفا في العقد فقال المرتهن : رهنتنيه خمراً وقبضتُه خمراً ، وقال الراهن : بل رهنتكه عصيراً وقبضتَه عصيراً ، قال بعض الشافعيّة : القول قول المرتهن في هذه قولاً واحداً ؛ لأنّه ينكر العقد.

وقال آخَرون منهم : فيها القولان ؛ لأنّه معترف بحصول عقدٍ وقبض ، وإنّما يدّعي صفةً في المعقود عليه ، والأصل عدمها(١) .

ولو صار العصير خمراً في يد الراهن قبل القبض ، بطل الرهن ، فإن عاد خَلّاً ، لم يعد ، ويخالف إذا كان بعد القبض ؛ لأنّ الرهن قد لزم وقد صار تابعاً للملك.

فأمّا إذا اشترى عصيراً فصار خمراً في يد البائع وعاد خَلّاً ، فسد العقد ، ولم يعد ملك المشتري لعوده خَلّاً.

والفرق بينه وبين الرهن أنّ الرهن عاد تبعاً لملك الراهن ، وها هنا يعود ملك البائع ؛ لعدم العقد، ولا يصحّ أن يتبعه ملك المشتري.

مسألة ١٢٢ : لو جنى العبد المرهون قبل القبض‌ وتعلَّق الأرشُ برقبته‌ وقلنا : رهن الجاني ابتداءً فاسد ، ففي بطلان الرهن للشافعيّة وجهان ؛ إلحاقاً للجناية بتخمير العصير بجامع عروض الحالة المانعة من ابتداء الرهن قبل استحكام العقد ، وهذه الصورة أولى بأن لا يبطل الرهن فيها ؛ لدوام الملك

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٤ ، حلية العلماء ٤ : ٤٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٠.

١٤٦

في الجاني ، بخلاف الخمر(١) .

ولو أبق العبد المرهون قبل القبض ، قال الجويني : يلزم على سياق ما سبق تخريج وجهين فيه ؛ لانتهاء المرهون إلى حالة يمتنع ابتداء الرهن فيها(٢) .

الشرط الثالث : أن يكون المرهون ممّا يمكن إثبات يد المرتهن عليه ، فلو رهن عبداً مسلماً عند كافر أو رهن مصحفاً عنده ، فالأقرب : المنع ؛ لما فيه من تعظيم شأن الإسلام والكتاب العزيز ، ومن نفي السبيل على المؤمن ، فإنّ إثبات يد المرتهن سبيلٌ عليه.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه على القولين في بيعه منه إن صحّحنا البيع ، صحّ الرهن ، ويوضع على يد مسلمٍ؛ لأنّ إزالة الرهن لا يمكن إلّا بفسخه.

والثاني : القطع بجوازه ؛ لأنّه لا ملك للكافر فيه ولا انتفاع ، وإنّما هو مجرّد استيثاق ، بخلاف البيع ؛ لأنّ في التملّك نوعَ إذلال ، وهذا إنّما هو استيثاق به ، وإنّما الذلّ بكونه تحت يده ، فإذا أخرجناه من يده ، جاز(٣) .

ورهن السلاح من الحربي يترتّب على بيعه منه.

وفي رهن كتب أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والفقه الخلافُ بين الشافعيّة(٤) ، المتقدّم.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٧ - ٤٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٣.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٧.

١٤٧

ويجوز أن يرهن عند الكافر ما سوى ذلك ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي(١) .

وهل يصحّ رهن المصحف عند المسلم؟ إن قلنا بجواز بيعه ، صحّ ، وإلّا فلا.

وعن أحمد روايتان ، إحداهما : الصحّة ، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي(٢) .

مسألة ١٢٣ : يجوز رهن الجواري والعبيد ؛ لأنّهم أموال يستوثق بهم الدَّيْن ، فجاز رهنهم كغيرهم.

ولا فرق بين الجارية الحسناء وغيرها ، وسواء كانت الجارية الحسناء مَحْرماً للمرتهن أو غير مَحْرم ، وسواء كان المرتهن عَدْلاً أو فاسقاً على كراهية فيه.

ولا فرق بين أن تكون الجارية صغيرةً لا تشتهي بَعْدُ ، أو كبيرةً تشتهي ؛ للأصل ، والعمومات.

وقال بعض الشافعيّة روايةً : إنّه لا يجوز رهن الجارية الحسناء إلّا أن تكون مَحْرماً للمرتهن(٣) .

والمذهب المشهور عندهم : الجواز مطلقاً(٤) .

ثمّ إن كانت صغيرةً لا تشتهي بَعْدُ ، فهي كالعبد يجوز رهنها وإن كانت كبيرةً تشتهي ، فإن رهنت من مَحْرم أو امرأة ، جاز. وإن رهنت من

____________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٣٧.

(٢) المغني ٤ : ٤١٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٤١٢ - ٤١٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٣.

١٤٨

رجلٍ بالغ أو أجنبيّ ، فإن كان ثقةً وعنده زوجته أو جاريته أو نسوة يؤمن معهنّ من المقاربة لها ، جاز أيضاً ، وإلّا وُضعت عند مَحْرمٍ لها أو امرأة ثقة أو عدْل بالصفة المذكورة في المرتهن.

ولو شرط وضعها عند غير مَنْ ذكرنا ، فهو شرط فاسد عندهم ؛ لما فيه من الخلوة بالأجنبيّة ، وخوف الفتنة(١) .

وألحق الجويني بالصغيرة [ الخسيسةَ ](٢) مع دمامة(٣) الصورة(٤) .

والفرق بيّنٌ بينهما عند الباقين(٥) .

ولو كان المرهون خنثى ، فهو كما لو كان جاريةً إلاّ أنّه لا يوضع عند المرأة.

الشرط الرابع : أن يكون المرهون ممّا يصحّ بيعه عند حلول الدَّين ؛ لأنّ الغاية التي وضعها الشارع في الرهن استيفاء الحقّ من ثمن المرهون عند الحاجة ، فلا بُدَّ وأن يكون قابلاً للبيع ليصرف ثمنه في دَيْن المرتهن ، فكلّ ما لا يصحّ بيعه لا يجوز رهنه ، فلا يجوز رهن الحُرّ واُمّ الولد‌ والمكاتَب والوقف وغير ذلك ممّا يمتنع شرعاً بيعه.

مسألة ١٢٤ : لعلمائنا قولان في جواز التفرقة بين الاُمّ وولدها الصغير

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٤.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في الطبعة الحجريّة : « الصغيرة الجثّة ». وفي « ث ، ج » : و ظاهر « ر » « الحسنة ». وفي « روضة الطالبين » : كما أثبتناه. وفي « العزيز شرح الوجيز » : « الحسنة الخسيسة ». وفي الطبعة الحجريّة منه - فتح العزيز ١٠ : ٦ - : « الحسنة » فقط. والظاهر ما أثبتناه. وفي العين - للخليل - ٤ : ١٣٥ « خس » وامرأة مستخسّة ، أي : قبيحة الوجه محقورة ، اشتُقّت من الخسيس ، أي القليل.

(٣) الدمامة : القِصَر والقبح. لسان العرب ١٢ : ٢٠٨ « دمم ».

(٤ و ٥ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٤.

١٤٩

بالبيع وشبهه ، فَمَنعه البعض وكرهه آخَرون ، وقد تقدّم(١) القولان.

والشافعيّة وإن حرّموا التفريق ففي إفساد البيع عندهم قولان(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز عندنا وعندهم(٣) رهن الجارية دون الولد الصغير ؛ لأنّ الرهن لا يزيل الملك ، فيحصل بذلك تفرقة بينهما ، وإنّما هي ملكٌ للراهن له الانتفاع بها وتسليم ولدها إليه. ولأنّ الجارية المرهونة لو ولدت في يد المرتهن ، كان ولدها غير مرهون وهي مرهونة ، فكذا في الابتداء.

قال الشافعي : إنّ ذلك ليس تفرقةً بين الاُمّ وولدها(٤) .

واختلف في معناه.

فقال بعضهم : إنّ الرهن لا يوجب تفرقةً ؛ لأنّ الملك فيهما باقٍ للراهن والمنافع له ، فيمكن أن يأمرها بتعهّد الولد وحضانته ، وإذا كان كذلك ، وجب تصحيح الرهن ، ثمّ ما يتّفق من بيعٍ وتفريقٍ فهو من ضرورة إلجاء الراهن إليه.

وقال بعضهم : معناه أنّه لا تفرقة في الحال ، وإنّما التفرقة تقع عند‌ البيع ، وحينئذٍ يحترز منها بأن يبيعهما معاً.

والقائل الأوّل لا يبالي بإفراد أحدهما بالبيع إذا وقعت الحاجة إلى

____________________

(١) في ج ١٠ ، ص ٣٣١ - ٣٣٥ ، المسألة ١٥٠ والفرع « ه‍ـ » منها.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٥ ، المجموع ٩ : ٣٦٠ و ٣٦١ ، الوجيز ١ : ١٣٩ و ١٦٠ ، الوسيط ٣ : ٦١، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٣٣ و ٤٤٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ١١٩ ، و ١٤ : ٢٤٤ - ٢٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٨٣ و ٢٨٥.

(٣) مختصر المزني : ٩٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ١١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ ٣١٦ ، الوجيز ١ : ١٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٥.

١٥٠

البيع. والأصحّ عندهم : الثاني(١) .

إذا ثبت هذا ، فإذا حلّ الحقّ وأراد بيع الجارية ، فإن كان قد تمّ للولد سبع سنين فما زاد ، جاز بيعها دونه إجماعاً ؛ لأنّ بلوغ هذا السنّ يجوز معه التفريق.

وإن كان له أقلّ من ذلك ، فالأقرب : بيعهما معاً وهو أحد قولي الشافعيّة -(٢) لأنّ الجمع بينهما في العقد ممكن ، بخلاف ما إذا ولدت من الراهن ، فإنّها تباع منفردةً عن الولد ؛ لأنّ الولد حُرٌّ لا يمكن بيعه. فإذا بِيعا معاً بِيعا صفقةً واحدة ؛ لئلّا يقع التفريق ؛ للنهي عنه ، ويتعلّق حقّ المرتهن من الثمن بقدر قيمة الجارية ، فيقال : كم قيمة هذه الجارية ذات الولد دون ولدها؟ فيقال : مائة ، ويقال : كم قيمة الولد؟ فيقال : خمسون ، فتكون حصّة الجارية ثلثي الثمن المسمّى في العقد.

قال بعض الشافعيّة : ينبغي أن نُقدّم على كيفيّة توزيع الثمن مسألةً هي أنّه إذا رهن أرضاً بيضاء ثمّ نبت فيها نخل ، فلها حالتان :

إحداهما : أن يرهن الأرض ثمّ يدفن فيها النوى أو يحمل السيل أو الطير النوى إليها فتنبت ، فهي للراهن ، ولا يُجبر في الحال على قلعها ؛ لإمكان أن يؤدّي الدَّيْن من موضعٍ آخَر ، فإذا دعت الحاجة إلى بيع الأرض ، نُظر فإن قام ثمن الأرض - لو بِيعت وحدها - بالدَّيْن ، بِيعت وحدها ولم‌ يقلع النخل ، وكذا لو لم يف به ، إلّا أنّ قيمة الأرض وفيها الأشجار كقيمتها بيضاء.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٣ ، وانظر : روضة الطالبين ٣ : ٢٨٥.

(٢) اُنظر : حلية العلماء ٤ : ١٢٢ - ١٢٣ ، والمغني ١٠ : ٤٦٠ ، والشرح الكبير ١٠ : ٤٠٩.

١٥١

وإن لم يف به ونقصت قيمتها بالأشجار ، فللمرتهن قلعها لتباع الأرض بيضاء ، إلّا أن يأذن الراهن في بيعها مع الأرض ، فيُباعان ويُوزّع الثمن عليهما.

هذا إذا لم يكن الراهن محجوراً عليه بالإفلاس ، فإن كان كذلك ، فلا قلع بحالٍ ؛ لتعلّق حقّ الغرماء بها ، بل يُباعان ويُوزّع الثمن عليهما ، فما يقابل الأرض يختصّ به المرتهن ، وما يقابل الأشجار يُقسّم بين الغرماء. فإن انتقصت قيمة الأرض بسبب الأشجار ، حُسب النقصان على الغرماء ؛ لأنّ حقّ المرتهن في أرضٍ فارغة ، وإنّما مُنع من القلع لرعاية جانبهم ، فلا يهمل جانبه بالكلّيّة.

الحالة الثانية : أن تكون النوى مدفونةً في الأرض يوم الرهن ثمّ نبتت ، فإن كان المرتهن جاهلاً بالحال ، فله الخيار في فسخ البيع الذي شُرط فيه هذا الرهن ، فإنّ استحقاق بقاء الأشجار في الأرض عيب فيها يوجب الخيار ، فإن فسخ فلا بحث ، وإن لم يفسخ ، فهو بمنزلة العالم ، فلا خيار له.

وإذا بِيعت الأرض مع النخل ، وُزّع الثمن عليهما.

والمعتبر في الحالة الاُولى قيمة أرضٍ فارغة ، وفي الثانية قيمة أرضٍ مشغولة ؛ لأنّها كانت كذلك يوم الرهن.

وفي كيفيّة اعتبار قيمة الأشجار وجهان نقلهما الجويني في الحالتين :

أظهرهما : أنّ الأرض تُقوّم وحدها ، فإذا قيل : قيمتها مائة ، قُوّمت مع الأشجار ، فإذا قيل : مائة وعشرون ، فالزيادة بسبب الأشجار عشرون هي‌ سدس المائة والعشرين ، فيراعى في ثمنها نسبة الأسداس.

والثاني : أنّه كما قُوّمت الأرض وحدها تُقوّم الأشجار وحدها ثانياً ،

١٥٢

فإذا قيل : قيمتها خمسون ، عرفنا أنّ النسبة بالأثلاث.

وفي المثال المذكور لإيضاح الوجهين تكون قيمة الأرض ناقصةً بسبب الاجتماع ؛ لأنّا فرضنا قيمتها وحدها مائةً ، وقيمة الأشجار وحدها ثابتةً خمسون(١) ، وقيمة المجموع مائة وعشرون.

إذا عرفت هذا ، فلنعد إلى مسألة الاُمّ والولد ، فإذا بِيعا معاً وأردنا التوزيع ، قال الجويني : فيه طريقان :

أحدهما : أنّ التوزيع عليهما كالتوزيع على الأرض والأشجار ، فتُعتبر فيه قيمة الاُمّ وحدها. وفي الولد الوجهان.

والثاني : أنّ الاُمّ لا تُقوَّم وحدها ، بل تُقوَّم مع الولد خاصّةً ؛ لأنّها رهنت وهي ذات ولد ، والأرض بالا أشجار(٢) وكذا أورده أكثر الشافعيّة.

أمّا لو رهنها حائلاً ثمّ حملت بالولد بعد الرهن والتسليم من نكاح أو زنا وبِيعا معاً ، فللمرتهن قيمة جارية لا ولد لها ، فتُقوَّم خاليةً من ولد ، ويُقوَّم الولد ، ويُنظر حصّتها من الثمن ، فيكون للراهن(٣) .

والفرق بين المسألتين أنّ في الاُولى رضي بكونها اُمّ ولد فقُوّمت اُمّ ولد ، وفي الثانية لم يرض بكونها اُمّ ولد.

فإن قيل : هذا الولد حدث في يد المرتهن ، وإذا كان ذلك حادثاً في‌ يده ، كان بمنزلة ما رضي به ، كما لو حدث فيه نقص وعيب.

قلنا : إنّ ذلك لا يجري مجرى النقص الحادث لتلف جزء من

____________________

(١) في « ث ، ج ، ر » : « ثمانية وخمسون ». وفي الطبعة الحجرية بدون الواو ، بدل « ثابتةً خمسون ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) في « ث ، ر » الطبعة الحجريّة « بالأشجار » بدل « بلا أشجار ». وكلاهما ساقط في « ج ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤: ٤٤٣ - ٤٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٥ - ٢٨٦.

١٥٣

الرهن ؛ لأنّ التالف مضمون عليه بسقوط حقّ الوثيقة ، وفي مسألتنا الرهن بحاله ، وهذه الزيادة للراهن يقتضي وجوده نقصان قيمة الاُمّ لبيعه معها ، فإذا لم يرض به لم يلزمه حكمه.

مسألة ١٢٥ : إذا رهن شيئاً رطباً يسرع إليه الفساد ، نُظر فإن كان يمكن استصلاحه وتجفيفه كالرطب والعنب ، صحّ رهنه ، ويجب على الراهن تجفيفه واستصلاحه ؛ لأنّ ذلك من مؤونة حفظه وتبقيته ، فكانت عليه ، كنفقة الحيوان المرهون.

فإن كان ممّا لا يمكن استصلاحه كالثمرة التي لا تجفّف والبقول والطبائخ والريحان وما أشبه ذلك ، نُظر فإن كان الدَّيْن حالّاً أو يحلّ قبل فساده ، صحّ رهنه ؛ لأنّ المقصود منه يمكن حصوله.

ثمّ إن بِيع في الدَّيْن أو قُضي الدَّيْن من موضعٍ آخَر ، فذاك ، وإلّا بِيع وجُعل الثمن رهناً لئلّا يضيع ، ولا تفوت الوثيقة.

فلو تركه المرتهن حتى فسد ، ضمن إن أمكن رَفْعُ أمره إلى الحاكم ولم يفعل.

ولو تعذّر الحاكم ، فإن نهاه الراهن عن البيع ، لم يضمن ، وإلّا احتمل الضمان.

وقال بعض الشافعيّة : إن كان الراهن أذن له في بيعه ، ضمن ، وإلّا لم يضمن(١) .

وإن كان الرهن على دَيْنٍ مؤجَّلاً ، فأحواله ثلاثة :

أ : أن يعلم حلول الأجل قبل فساده ، فهو بحكم الرهن على الدَّيْن

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٧.

١٥٤

الحالّ.

ب : أن يعلم عكسه ، فإن شرط في الرهن بيعه عند الإشراف على الفساد وجَعْل ثمنه رهناً ، صحّ ، ولزم الوفاء بالشرط.

وإن شرط أن لا يُباع بحال قبل حلول الأجل ، فهو فاسد ويُفسد الرهن ؛ لمناقضته مقصود الاستيثاق.

وإن أطلق العقد ولم يشترط البيع ولا عدمه ، فالأقرب : الجواز ، ويُجبر على بيعه ؛ لأنّ العرف يقتضي ذلك ؛ لأنّ المالك للشي‌ء لا يعرضه للتلف والهلاك ، بل يبيعه ، فيحمل مطلق العقد عليه، كما على الاستصلاح ، وهو أحد قولي الشافعيّة.

والقول الثاني : إنّه لا يصحّ ؛ لأنّ الإجبار على البيع إجبار على إزالة ملكه وبيع الرهن قبل حلول الأجل ، وذلك لا يقتضيه عقد الرهن ، فلم يجب وإذا ثبت أنّ البيع لا يُجبر عليه ، فالمرهون لا يمكن(١) استيفاء الحقّ منه ، فلم يصح عقد الرهن ، كما لو رهن عبداً علّق عتقه بشرطٍ يُوجد قبل المحلّ(٢) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ في ترك بيعه إضراراً مّا بالمالك والمرتهن معاً ، وفي بيعه إحسان إليهما ؛ لاشتماله على مصلحتهما ، فوجب البيع حفظاً للحقّين.

وما اخترناه أوّلاً هو الصحيح - وبه قال أبو حنيفة وأحمد(٣) - كما لو

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة :: « لا يملك » بدل « لا يمكن ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٧ - ٢٨٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٦.

١٥٥

شرط ، فإنّ الظاهر أنّه لا يقصد فساد ماله ، فصار كالمأذون فيه.

ج : أن لا يُعلم واحد من الأمرين وكانا محتملين ، ففي جواز الرهن المطلق قولان مرتَّبان على القولين في القسم الثاني. والصحّة هنا أظهر.

تذنيب : لو رهن ما لا يسرع إليه الفساد فطرأ ما عرّضه للفساد قبل حلول الأجل ، كما لو ابتلّت الحنطة وتعذّر التجفيف ، لم ينفسخ الرهن بحالٍ وإن منع الصحّةَ في الابتداء على قولٍ للشافعيّة(١) ، كما أنّ إباق العبد يمنع صحّة العقد ، وإذا طرأ لم يوجب الانفساخ.

ولو طرأ ذلك قبل قبض الرهن ، ففي الانفساخ للشافعيّة وجهان(٢) ، كما في عروض الجنون والموت. وإذا لم ينفسخ يُباع ويُجعل الثمن رهناً مكانه.

مسألة ١٢٦ : المرتدّ إمّا أن يكون عن فطرة أو لا عن فطرة ، والأوّل يجب قتله في الحال ، ولا تُقبل توبته ، عند علمائنا. والثاني تُقبل توبته ، ولا يجب قتله في الحال إلّا بعد الامتناع من التوبة عند الاستتابة.

إذا عرفت هذا ، فلو ارتدّ العبد ، فالأقرب : أنّ الردّة إن كانت عن فطرةٍ ، لم يصح رهنه ؛ لأنّه في كلّ آن يجب إعدامه شرعاً ، ويتعيّن إتلافه ، فانتفت غاية الرهن فيه ، وهي التوثيق. وإن لم يكن عن فطرة ، صحّ رهنه ؛ لأنّ الردّة لا تزيل الملك.

والعامّة أطلقوا وقالوا : يصحّ رهن المرتدّ ، كما يصحّ بيعه(٣) ؛ لبقاء‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٨.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٨١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٢ ، الوجيز ١ : ١٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٦ ، الوسيط ٣ : ٤٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٨.

١٥٦

الملك مع الردّة ، وإنّما يعرّضه للإتلاف ، فهو بمنزلة المريض المدنف.

وإذا ثبت هذا ، فإذا رهنه فإن كان المرتهن عالماً بالردّة ، لم يكن له ردّه ، ولا يثبت له خيار في البيع الذي شرط رهنه فيه.

ثمّ يُنظر فإن عاد إلى الإسلام وتاب ، فقد زال العيب. وإن قُتل بالردّة في يد المرتهن ، لم يثبت للمرتهن خيار فسخ البيع المشروط رهنه فيه ؛ لأنّ القتل حصل في يده بسبب الردّة وقد رضي بها، فهو بمنزلة أن يرهنه مريضاً فيُعلمه بمرضه ثمّ يموت منه في يده.

لا يقال : الفرق ظاهر ؛ فإنّ المريض تلف بتزايد المرض في يد المرتهن.

لأنّا نقول : والمرتدّ قُتل بإقامته على الردّة في يد المرتهن ، ولأنّه وإن قُتل بما كان في يد البائع إلّا أنّه لا يصحّ الرضا به ، وهذا مذهب الشافعي(١) .

وقيل : إنّه كالمستحقّ(٢) ، فعلى هذا يثبت الخيار في البيع.

فأمّا إذا لم يعلم المرتهن حال الرهن بردّته ثمّ علم بعد ذلك قبل أن يُقتل ، فله الخيار في البيع المشروط رهنه فيه ، فإن قُتل قبل القبض ، فله فسخ البيع ، وإن قُتل بعده ، كان الحكم فيه كما لو رهنه وهو عالم بردّته.

وأمّا إن قُتل قبل أن يعلم بردّته ، قال أبو إسحاق من الشافعيّة : إنّه بمنزلة المستحقّ ، ويثبت الخيار للمرتهن(٣) .

____________________

(١) الاُمّ ٣ : ١٥١.

(٢) اُنظر : الحاوي الكبير ٦ : ٨٢.

(٣) اُنظر : الحاوي الكبير ٦ : ٨٣.

١٥٧

وقال آخَرون : إنّه بمنزلة العيب ، ولا يثبت للمشتري الخيار في الرهن(١) .

والشافعي قال هنا : إنّه بمنزلة المستحقّ(٢) ، فجَعَله مع العلم بمنزلة العيب ، ومع عدم العلم بمنزلة الاستحقاق ؛ لأنّه هلك بسببٍ كان موجوداً حال العقد ولم يرض به ، ولا يلزم المريض ؛ لأنّه تلف بسببٍ حادث.

قال أصحابه : إن قلنا بقوله وقول أبي إسحاق ، ثبت للمرتهن الخيارُ في البيع. وإن قلنا بقول الآخَرين ، فلا يثبت له الخيار ولا المطالبة بالأرش إن يكون رهناً.

ويفارق البيع حيث قلنا على هذا الوجه : إنّه يرجح بأرش العيب ؛ لأنّ الرهن لا يلزم إلّا فيما حصل فيه القبض ، بخلاف البيع ، فما لم يسلمه إليه من صفات الرهن لا يمكنه المطالبة به ، ولا يثبت له الخيار لفقده ؛ لأنّه قد تلف الرهن في يده وتعذّر عليه ردّه ، والرهن مضمون على المرتهن بحقّ الوثيقة(٣) .

وقال الشافعي في الاُمّ : ولو أنّه(٤) دلّس فيه بعيب وقبضه فمات في يده موتاً قبل أن يختار فسخ البيع ، لم يكن له خيار الفسخ لما فات من الرهن(٥) .

مسألة ١٢٧ : يصحّ رهن العبد الجاني ، سواء كانت الجناية عمداً أو

____________________

(١) اُنظر : الحاوي الكبير ٦ : ٨٣.

(٢) الاُم ٣ : ١٥١.

(٣) لم نعثر على نصّه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « وبه قال الشافعي في الاُم. ولأنّه ». وفي «ث ، ج ، ر » : « وبه قال الشافعي في الاُم. ولو أنّه ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) الام ٣ : ١٥١.

١٥٨

خطأً.

والشافعيّة رتّبوا حكم رهنه على بيعه ، فإن قالوا بأنّه لا يصحّ بيعه ، فرهنه أولى. وإن صحّ ، ففي رهنه قولان. وفرّقوا بينهما بأنّ الجناية العارضة في دوام الرهن تقتضي تقديم حقّ المجنيّ عليه ، فإذا وُجدت أوّلاً ، منعت‌ من ثبوت حقّ المرتهن(١) .

وللشافعيّة ثلاث طرق :

أحدها : إن كان القتل خطأً ، لم يصح قولاً واحداً. وإن كان عمداً ، فعلى القولين.

والثاني : أنّه إن كان عامداً ، صحّ قولاً واحداً. وإن كان خطأً ، فعلى قولين.

والثالث : أنّه على قولين ، عمداً كان أو خطأً. وقد مضى توجيه ذلك في البيع. فإذا قلنا : إنّه يصحّ الرهن ، فالحكم فيه كما ذكرنا في المرتدّ سواء(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإن لم يصحّ الرهن ففداه السيّد أو أسقط المجنيّ عليه حقَّه ، فلا بدّ من استئناف رهن.

وإن صحّحناه ، قال بعضهم : إنّه يكون مختاراً للفداء ، كما سبق في البيع(٣) .

وقال بعضهم : لا يلزمه الفداء ، بخلاف ما في البيع والعتق ؛ لأنّ محل الجناية باقٍ هنا ، والجناية لا تنافي الرهن ، ألا ترى أنّه لو جنى وهو مرهون

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٩.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٩٤ و ٣١٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٧.

١٥٩

تتعلّق الجناية به ، ولا يبطل الرهن(١) .

وإن صحّحنا الرهن والواجب القصاص ومنعناه والواجب المال فرهن والواجب القصاص ثمّ عفا المستحقّ على مال ، فيبطل الرهن من أصله أو‌هو كجناية تصدر من المرهون حتى يبقى الرهن لو لم يُبَع في الجناية؟ فيه للشافعيّة وجهان(٢) .

وإذا قيل به(٣) ، فلو كان قد حفر بئراً في محلّ عدوان فتردّى فيها بعد ما رهن إنسان ، ففي تبيّن الفساد وجهان. الفرق أنّه في الصورة الاُولى رهن وهو جانٍ ، وهنا بخلافه(٤) .

تذنيب : لو رهن عبداً سارقاً أو زانياً ، صحّ الرهن ، ويكون ذلك بمنزلة العيب على ما بيّنّاه.

وإن كان قد قَتل في قطع الطريق ، فإن كان قبل قدرة الإمام عليه ، صحّ على أحد القولين ؛ لأنّه تصحّ منه التوبة. وإن كان بعد القدرة ، لم يصح ؛ لأنّ قتله متحتّم.

تذنيبٌ آخَر (٥) : قد بيّنّا أنّ للشافعيّة ثلاث طرق في رهن الجاني ، وأنّ منهم مَنْ يقول في ذلك قولان ، فإذا قلنا فيها قولان ، فرّعنا عليه إذا قلنا : يصحّ الرهن ، كانت الجناية مقدّمةً عليه ، فإن بِيع فيها جميعه ، بطل الرهن. وإن بِيع بعضه ، وبقي الباقي رهناً.

لا يقال : إذا صحّحتم الرهن فألا ألزمتموه الفداء كما إذا أعتقه وصحّحتم عتقه.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٧.

(٢ و ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٠.

(٣) الضمير في « به » راجع إلى الوجه الأوّل ، وهو بطلان الرهن من أصله.

(٥) كلمة « تذنيب » لم ترد في « ث ، ج ، ر».

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400