تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125210 / تحميل: 5205
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى:( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّاعتقد بأنّالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام( عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء|٢٦ـ٢٧) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.

ولقد علم كلّمسلم أنّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(١)

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية:

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة|١٦) وقال عزّمن قائل:( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف|٥٦).

____________

(١) السيد الخوئي: البيان: ٤٦٨ـ ٤٦٩.

٦١

وقال عزّ من قائل:( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء|٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

قال أمير الموَمنينعليه‌السلام : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(٢)

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس:( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر|١٩ـ٤٠) قال سيد الموحدين عليعليه‌السلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(٣)

____________

(١) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج١|٤٤، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي: مرآة العقول ، ج٨، ص٨٩: باب النيّة.

٦٢

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم

لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك».(١)

هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.

و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (٤|١٢١) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

____________

(١) أحمد بن حنبل، العلل و معرفة الرجال ٢: ٤٩٢، برقم :٣٢٤٣، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس، ط بيروت ١٤٠٨.

٦٣

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلاً: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١): اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد».(١)

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الاِمام، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

____________

(١) تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.

٦٤

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الاَُمور، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى. و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

١ـ إنّ فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شـمّتربة أحمد

ألاّيشـمّ مدى الزمان غوالـياً

صُبَّتْ عليَّ مصـائب لو أنّها

صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (١)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها‌السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

٢ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسينعليهما‌السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر.(٢)

____________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا ٢:٤٤٤ ـ و الخالدي في صلح الاخوان: ٥٧، و غيرهما.

(٢) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة١: ٢٨، و غيره من المصادر.

٦٥

والحقّ انّ الاِختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

١ـ قال ابن حبّان : «في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : «قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك.(١)

٢ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاكمتوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». (٢)

٣ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام٩١٤ في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّعليه‌السلام وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

____________

(١) ابن حبان: كتاب الثقات، ج٨، ص ٤٥٧.

(٢) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج٧| ٣٨٨.

٦٦

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى.(١)

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور، تنافي التوحيد و تقارن الشرك، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الاَربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

____________

(١) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب، ج١|٣١٧ـ ٣٢٢.

٦٧

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون« لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطىَ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أنّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم.

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية.(١)

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه:( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء|٦٤) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه:( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون|٥).

____________

(١) المودودي: المصطلحات الاَربعة|١٨ـ١٩.

٦٨

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه

إنّ التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

١ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.

٦٩

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.

و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:

١ـ يقول سبحانه:( و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء|٨٠). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنّاسِ ) (النحل|٦٩).

٢ـ يقول سبحانه:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (الذاريات|٥٨) بينما يقول تعالى:( وَارْزُقُ وهُمْ فِيها ) (النساء|٥).

٣ـ يقول سبحانه:( ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (الواقعة|٦٤). بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (الفتح|٢٩).

٤ـ يقول تعالى:( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (النساء|٨١). بينما يقول سبحانه:( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف|٨٠).

٥ـ يقول تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ) (يونس|٣). بينما يقول سبحانه:( فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (النازعات|٥).

٧٠

٦ـ يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (الزمر|٤٢). بينما يقول تعالى:( الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ ) (النحل|٣٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.

والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول:( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الاَوّل: يحصر الاستعانة في اللّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الاَُمور المعيّنة (غير اللّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلاّ أنّفريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الاَوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الاِنسانية و الاَسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّباللّه في الموارد التي أذن اللّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الاِنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو : عدم جواز الاستعانة بغير اللّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الاَُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

٧١

وبتعبير آخر: إنّالآيات تريد أن تقول بأنّالمعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّمعين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلاّاللّه سبحانه، و لكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الاَسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الاَصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللّه، ذلك لاَنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالاَصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ ) (آل عمران|١٢٦).

( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) (الحمد|٥).

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ ) (الاَنفال|١٠).

هذه الآيات نماذج من الصنف الاَوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والاَسباب.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥).

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (المائدة|٢).

( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ ) (الكهف|٩٥).

( وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (الاَنفال|٧٢).

و مفتاح حلّالتعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون موَثراً تاماً، و مستقلاً واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللّه سبحانه:

وأمّا العوامل الاَُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه و هي توَدي ما توَدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شيء.

٧٢

فالمعين الحقيقي في كلّالمراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الاِلهية) و معلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في اللّه سبحانه لسببين:

أوّلاً: لاَنّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الاَُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّالمستعان قادر على الاِعانة مستنداً على القدرة الاِلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الاَوّل ـ خاصّة باللّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّالاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّاستعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة باللّه بل هي عين الاستعانة به تعالى ، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارىَ الكريم بأنّموَلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالاَرواح إلاّصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّالذين يستعينون بأصحاب الاَضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللّه معرضون».(١)

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الاَُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللّه، و الاَُخرى مبعدة عن اللّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الاَسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى والفقر، و الاَصالة وعدم الاَصالة.

____________

(١) المنار ١:٥٩.

٧٣

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللّه، التي لا تعمل و لاتوَثر إلاّبإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللّه، بل هي خير موجّه إلى اللّه، ومذكّربه، إذ معناها : انقطاع كلّالاَسباب وانتهاء كلّالعلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالاَسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّالاَعجب من ذلك رأي شيخ الاَزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّكلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في "إِيّاكَ نَسْتَعين " غافلاً عن حقيقة الآية و عن الآيات الاَُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة.(١)

إجابة على سوَال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لاَنّ نداء غير اللّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللّه، يقول سبحانه:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (الجن|١٨) و يقول تعالى:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (الاَعراف|١٩٧) و يقول عزّمن قائل :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (فاطر|١٣). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللّه و لاتسيغ دعوة غيره.

____________

(١) راجع تفسير شلتوت: ٣٦ـ٣٩.

٧٤

و قد طرح هذا السوَال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللّه الدعاء عبادة بقوله:( أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي ) (غافر|٦٠)فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللّه و صار مشركاً.(١)

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّقسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:( رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً ) (نوح|٥) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (إبراهيم|٢٢) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّنوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاوَه عبادة و لاَجل ذلك كان دعاء عبدة الاَصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (هود|١٠١).

____________

(١) الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب:٢٨٤.

٧٥

و ما ورد من الآيات في السوَال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الاَُمور إليهم و لو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّدعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

( إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (الاَعراف|١٩٤).( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (الاِسراء|٥٦ـ ٥٧).( وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ) (يونس|١٠٦). "إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (فاطر|١٤). و ما ورد في الاَثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه:«...فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» (١) و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) (غافر٦٠)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الاِلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) (الكهف|٩٥) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه:( فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (القصص|١٥)

____________

(١) الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم ٤٥.

٧٦

و هذا هو النبيّ الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو قومه للذبّ عن الاِسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) (آل عمران|١٥٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراًعلى إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلاّ يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّطحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء و لا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هوَلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لاَجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب ) (ص ٢٩).

ثمّ إنّ الكلام في أنّدعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في ٢٧ صفر المظفر ١٤١٦هـ

٧٧

الفهرست

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم. ٤

الاِله في اللغة ٤

مفهوم الاِله في القرآن. ٨

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم. ١١

خاتمة المطاف.. ٢٠

الاَُولى: التوحيد في الذات.. ٢٠

الثانية: التوحيد في الخالقية ٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير. ٢٢

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين. ٢٢

الخامسة: التوحيد في الطاعة ٢٤

السادسة: التوحيد في الحاكمية ٢٤

السابعة: التوحيد في العبادة ٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة ٢٦

العبادة في المعاجم و التفاسير. ٢٧

توجيه غير سديد. ٣٢

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة ٣٢

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر ٣٣

٣ـ تعريف ابن تيمية ٣٣

عبادة ٣٤

عقيدة المشركين في آلهتهم. ٣٦

حكم التاريخ في عقيدة المشركين. ٣٦

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس: ٣٨

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين. ٣٩

٧٨

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة ٤٢

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين. ٤٣

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير. ٤٤

التعاريف الثلاثة للعبادة ٤٧

ثمرات البحث.. ٤٧

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج. ٤٨

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين. ٤٨

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم. ٤٩

٤ـ الاستعانة بالاَولياء: ٤٩

أسئلة و أجوبة ٥٠

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟ ٥٠

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟ ٥٧

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟ ٥٩

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه ٦١

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه ٦١

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة ٦٢

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم ٦٣

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم. ٦٧

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه ٦٩

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره: ٧٠

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين: ٧١

إجابة على سوَال. ٧٤

٧٩

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أحدهما : أنّ العبد لا يصير أهلاً للمعاملة مع مولاه حتى تتمّ الكتابة.

والثاني : أنّ الرهن من مصالح البيع ، والبيع ليس من مصالح‌ الكتابة(١) .

ولا استبعاد في سبق أحد شقّي الرهن على ثبوت الدَّيْن ، وإنّما الممنوع منه سبق الرهن عليه. ويُمنع بطلان البيع المقترن بالكتابة.

فروع :

أ - لو قال البائع : ارتهنت وبعت ، وقال المشتري : اشتريت ورهنت ، لم يقع عند الشافعيّة ؛ لتقدّم أحد شقّي الرهن على شقّي البيع(٢) .

وكذا لو قال : ارتهنت وبعت ، وقال المشتري : رهنت واشتريت ؛ لتقدّم شقّي الرهن على أحد شقّي البيع(٣) .

ب - شرط الشافعيّة في الصحّة تقدُّمَ خطاب البيع على خطاب الرهن ، وتقدُّمَ جواب البيع على جواب الرهن.

وبالجملة ، الشرط أن يقع أحد شقّي الرهن بعد أحد شقّي البيع ، والآخَر بعد شقّي البيع(٤) .

ج - لو قال : بِعْني عبدك بكذا ورهنت به هذا الثوب ، فقال البائع : بعثت وارتهنت ، كان مبنيّاً على مسألة الاستيجاب والإيجاب.

د - لو قال البائع : بعتك بكذا على أن ترهنني دارك به ، فقال

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٨.

(٢و٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٧.

١٨١

المشتري : اشتريت ورهنت ، فالأقرب : الصحّة إن انضمّ قول البائع : « ارتهنت » أو « قبلت » لأنّ الذي وجد منه شرط إيجاب الرهن لا استيجابه ، كما لو قال : أفعل كذا لتبيعني ، لا يكون مستوجباً للبيع ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

وفي الآخَر : يتمّ العقد وإن لم ينضمّ قول البائع(١) .

والوجه : الأوّل.

مسألة ١٣٧ : يشترط مع ثبوت الدَّيْن لزومه فعلاً حالة الرهن أو قوّةً قريبة من الفعل ، كالثمن في مدّة الخيار ؛ لقرب حاله من اللزوم ، وكما لو شرط الرهن في البيع ، فإنّ الثمن غير ثابت بَعْدُ ، ويصحّ الشرط.

ولا فرق في صحّة الرهن بالدَّيْن اللازم بين أن يكون الدَّيْن مسبوقاً بحالة الجواز أو لم يكن ، ولا بين أن يكون مستقرّاً ، كالقرض ، وأرش الجناية ، وثمن المبيع المقبوض ، أو غير مستقرّ ، كالثمن قبل قبض المبيع ، والاُجرة قبل استيفاء المنفعة ، والصداق قبل الدخول.

أمّا ما ليس بلازم ولا مصير له إلى اللزوم بحال - كنجوم الكتابة عند الشيخ(٢) رحمه‌الله وعند الشافعي(٣) - فلا يصحّ الرهن به ؛ لأنّ الرهن للتوثيق ، والمكاتَب بسيل من إسقاط النجوم متى شاء ، ولا معنى لتوثيقها. ولأنّه لا يمكن استيفاء الدَّيْن من الرهن ؛ لأنّه لو عجز صار الرهن للسيّد ، لأنّه من جملة مال المكاتب.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٦ ، الوجيز ١ : ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٧.

(٢) المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢ ، الخلاف ٦ : ٢٩٣ ، المسألة ١٧.

(٣) الأُمّ ٨ : ٤٥ و ٥٠ ، الوجيز ١ : ١٦١ و ٢ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩ ، و ١٣ : ٥١٣ ، حلية العلماء ٦ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٧ ، و ٨ : ٥٠٥.

١٨٢

وقال أبو حنيفة : يصحّ الرهن بها(١) . وهو الوجه عندي.

ويُمنع من إثبات السبيل للمكاتَب ، بل نقول : عقد الكتابة أوجب عليه المال ، فليس له إسقاطه باختياره ، بل بالعجز ، لا التعجيز من العبد ، بل من المولى.

ونمنع عدم التمكّن من استيفائه الدَّيْن من الرهن ؛ فإنّ المملوك إذا عجز ولم يعجّزه مولاه ، أمكن استيفاء الدَّيْن من الرهن. وإن عجّزه ، كان الإبراء ، فسقط الدَّيْن ، وبطل الرهن.

ولو جعلنا الخيار مانعاً من نقل الملك في الثمن إلى البائع ، فالظاهر منع الرهن عليه ؛ لوقوعه قبل ثبوت الدَّيْن ، ولا شكّ في أنّه يُباع الرهن في الثمن ما لم تمض مدّة الخيار.

وما كان الأصل في وضعه الجواز - كالجُعْل في الجعالة - فإن كان قبل الشروع في العمل ، لم يصح الرهن عليه ؛ لأنّه لم يجب ، ولا يُعلم إفضاؤه إلى الوجوب واللزوم.

وأمّا بعد الشروع في العمل وقبل إتمامه فالأقوى جوازه ؛ لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم ، فصار كالثمن في مدّة الخيار ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني - وهو الأصحّ عندهم - : المنع ؛ لأنّ الموجب للجُعْل هو العمل ، وبه يتمّ الوجوب ، فكأنّه لا ثبوت له قبل العمل(٢) .

أمّا بعد تمام العمل فإنّه يصحّ إجماعاً ؛ لأنّه لازمٌ حينئذٍ.

وكذا لا يجوز الرهن على الدية من العاقلة قبل الحول ؛ لأنّها لم تجب

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٠٧ - ٤٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩.

(٢) الوجيز ١: ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٨.

١٨٣

بَعْدُ ، ولا يُعلم إفضاؤها إلى الوجوب ، فإنّهم لو جُنّوا أو افتقروا أو ماتوا ، لم تجب عليهم ، فلا يصحّ أخذ الرهن بها. فأمّا بعد الحلول(١) فيجوز ؛ لاستقرارها.

ويحتمل جوازه قبل الحول ؛ لأصالة بقاء الحياة واليسار والعقل.

والمسابقة إن جعلناها عقداً لازماً كالإجارة ، صحّ الرهن على العوض قبل العمل ، وإلّا فلا ؛ لأنّه لا يُعلم إفضاؤها إلى الوجوب ؛ لأنّ الوجوب إنّما يثبت بسبق غير المخرج وهو غير معلوم ولا مظنون.

قال بعض العامّة : إن قلنا : إنّها إجارة ، جاز أخذ الرهن بعوضها. وإن قلنا : جعالة ، فلا(٢) .

وقال بعضهم : إن لم يكن فيها محلّل ، فهي جعالة. وإن كان فيها محلّل ، فعلى وجهين(٣) .

وهذا كلّه بعيد ؛ لأنّ الجُعْل ليس هو في مقابلة العمل بدليل أنّه لا يستحقّه إذا كان مسبوقاً وقد عمل العمل ، وإنّما هو عوض عن السبق ، ولا تُعلم القدرة عليه. ولأنّه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له ، وإذا لم تكن إجازةً مع عدم المحلّل فمع وجوده أولى ؛ لأنّ مستحقّ الجُعْل هو السابق ، وهو غير معيّن ، ولا يجوز استئجار رجلٍ غير معيّن.

مسألة ١٣٨ : لا يجوز أخذ الرهن بعوضٍ غير ثابتٍ في الذمّة ، كالثمن المعيّن والاُجرة المعيّنة في الإجارة ، والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معيّنة ، مثل إجارة الدار والعبد المعيّن والجمل المعيّن مدّة معلومة أو لحمل شي‌ء معيّن إلى مكانٍ معلوم ؛ لأنّه حقٌّ تعلَّق بالعين لا بالذمّة ،

____________________

(١) أي بعد حلول الحول.

(٢ و٣ ) المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٠.

١٨٤

ولا يمكن استيفاؤه من الرهن ؛ لأنّ منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها ، وتبطل الإجارة بتلف العين.

ولو وقعت الإجارة على منفعةٍ في الذمّة - كخياطة ثوبٍ ، وبناء جدارٍ - جاز أخذ الرهن به ؛ لأنّه ثابت في الذمّة ، ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر عنه(١) مَنْ يعمل ، فجاز أخذ الرهن به ؛ كالدَّيْن ، ويباع عند الحاجة وتحصل المنفعة من ثمنه.

إذا عرفت هذا ، فكلّ ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به ، وما لم يجز الرهن به لم يجز أخذ الضمين به ، إلّا ثلاثة أشياء : عهدة البيع يصحّ ضمانها ولا يصحّ الرهن بها ، والكتابة لا يصحّ الرهن بها على إشكالٍ سبق(٢) ، والأقرب : صحّة الضمان فيها ، وما لم يجب لا يصحّ أخذ الرهن به ، ويصحّ ضمانه ؛ لأنّ الرهن بهذه الأشياء يُبطل الإرفاق ، فإنّه إذا باع عبده بألف ودفع رهناً يساوي ألفاً ، فكأنّه ما قبض الثمن ولا ارتفق به. والمكاتَب إذا دفع ما يساوي كتابته ، فما ارتفق بالأجل ؛ لأنّه كان يمكنه بيع الرهن وإمضاء الكتابة ويستريح من تعطيل منافع عبده ، بخلاف الضمان. ولأنّ ضرر الرهن يعمّ ؛ لأنّه يدوم بقاؤه عند المشتري ، فيمنع البائع التصرّف فيه ، والضمان بخلافه.

ولا يجوز الرهن من المالك على الزكاة قبل الحلول ، ولا رهن العاقلة على الدية قبله ؛ لفوات الشرط ، ويجوز بعده.

مسألة ١٣٩ : لا يشترط في الدَّيْن المرهون به أن لا يكون به رهن ، بل يجوز أن يرهن بالدَّيْن الواحد رهناً بعد رهن ، ثمّ هو كما لو رهنهما معاً.

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « يستأجر من ثمنه ».

(٢) في ص ١٨١ ، المسألة ١٣٧.

١٨٥

ولو كان الشي‌ء مرهوناً بعشرة وأقرضه عشرةً اُخرى على أن يكون‌ مرهوناً بها أيضاً ، صحّ - وبه قال مالك والشافعي في القديم(١) - كما تجوز الزيادة في الرهن بدَيْنٍ واحد.

والجديد : أنّه لا يجوز - وبه قال أبو حنيفة - كما لا يجوز رهنه عند غير المرتهن(٢) ، وإن وفى بالدَّيْنين جميعاً ، فإن أراد توثيقهما فليفسخا وليستأنفا رهناً بالعشرين ، بخلاف الزيادة في الرهن بدَيْنٍ واحد ؛ لأنّ الدَّيْن يشغل الرهن ولا ينعكس ، فالزيادة في الرهن شغل فارغ ، والزيادة في الدَّيْن شغل مشغول(٣) .

ويُمنع حكم الأصل ؛ فإنّه لا استبعاد في صحّة الرهن عند غير المرتهن ، ويكون موقوفاً على إجازة المرتهن ، فإن أجاز المرتهن الأوّلَ ، صحّ الثاني.

والأقرب : أنّه لا يبطل الرهن الأوّل ، بل يتقدّم الثاني ، فإن فضل بعد دَيْن الثاني شي‌ء ، اختصّ بالأوّل ، فإن كان قد بقي من العين شي‌ء ، اختصّ الأوّل به. وإن بِيع الجميع وفضل من الثمن فضلة ، اختصّ الأوّل بها ؛ لأنّه كقيمة المتلف من الرهن يختصّ المرتهن بها دون غيره من الدُّيّان.

سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهر ؛ فإنّ الدَّيْنين إذا كانا لواحدٍ ، لم يحصل من التنازع ما إذا تعدّد.

ولو جنى العبد المرهون ففداه المرتهن بإذن الراهن على أن يكون العبد مرهوناً بالفداء والدَّيْن الأوّل ، صحّ عندنا ، وبه قال الشافعي(٤) .

____________________

(١ و ٣ ) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣ ، الوجيز ١ : ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٢) في النسخ الخطّيّة الحجريّة : « المرهون » بدل « المرتهن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

١٨٦

ولأصحابه طريقان :

أظهرهما عندهم : القطع بالجواز ؛ لأنّه من مصالح الرهن من حيث [ إنّه ](١) يتضمّن استبقاءه(٢) .

والثاني : أنّه(٣) على القولين(٤) .

ولو اعترف الراهن بأنّه رهن على عشرين ثمّ ادّعى أنّه رهن أوّلاً بعشرة ثمّ رهن بعشرة اُخرى ونازعه(٥) المرتهن ، فلا فائدة لهذا الاختلاف عندنا وعند قديم الشافعي.

وفي الجديد : يقدّم قول المرتهن مع اليمين ؛ لأنّ اعتراف الراهن يقوّي جانبه ظاهراً(٦) .

ولو قال المرتهن في جوابه : فسخنا الرهن الأوّل واستأنفنا بالعشرين ، قدّم قول المرتهن أيضاً ؛ لاعتضاد جانبه بقول صاحبه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : قول الراهن ؛ لأنّ الأصل عدم الفسخ(٧) .

وفرّعوا عليه أنّه لو شهد شاهدان أنّه رهن بألف ثمّ رهن بألفين ، لم يحكم بأنّه رهن بألفين. ما لم يصرّح الشهود بأنّ الثاني كان بعد فسخ الأوّل(٨) .

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) في العزيز شرح الوجيز و « ر ، ث » : « استيفاءه ».

(٣) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة و « ج » : « أنّهما ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة « أنهما » والظاهر ما أثبتناه

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٧ و ٨ ) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

١٨٧

الفصل الثاني : في القبض‌

مسألة ١٤٠ : اختلف علماؤنا في القبض هل هو شرط في لزوم الرهن أو لا؟ على قولين :

أحدهما : أنّه شرط - وهو أحد قولي الشيخ(١) رحمه‌الله ، وقول المفيد(٢) رحمه‌الله - فلو رهن ولم يقبض ، كان الرهن صحيحاً غير لازم ، بل للراهن الامتناع عن الإقباض ، والتصرّف فيه بالبيع وغيره؛ لعدم لزومه - وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية. وفي الثانية : أنّه شرط في المكيل و(٣) الموزون(٤) - لقوله تعالى :( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (٥) وَصَفَها بكونها مقبوضةً.

ولقول الباقر(٦) عليه‌السلام : « لا رهن إلّا مقبوضاً »(٧) .

ولأنّه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول ، فافتقر إلى القبض كالقرض. ولأنّه

____________________

(١) النهاية : ٤٣١.

(٢) المقنعة : ٦٢٢.

(٣) في «ث ، ج ، ر » : « أو » بدل « و».

(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٣٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٩٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٢ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧١ - ٤٧٢ ، الحاوي الكبير ٦ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٧ ، المغني ٤ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٠.

(٥) البقرة : ٢٨٣.

(٦) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « الصادق » بدل « الباقر ». وما أثبتناه هو الموافق لما في المصدر ولما في مختلف الشيعة ٥ : ٤١٨ ، ضمن المسألة ٣٧ ( الفصل الثالث : في الرهن ).

(٧) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩.

١٨٨

رهن لم يقبض ، فلا يلزم إقباضه ، كما لو مات الراهن.

والثاني : أنّه ليس بشرط ، بل يلزم الرهن بمجرّد العقد - وهو القول الثاني للشيخ(١) رحمه‌الله وقول ابن إدريس(٢) ، وبه قال مالك وأحمد في الرواية الاُخرى(٣) - لقوله تعالى :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٤) ولأنّه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله(٥) ، كالبيع.

ولا حجّة في وصف الرهن بالقبض ؛ لأنّ القصد بالآية كمال الإرشاد ، ولهذا أمر تعالى بالكتابة(٦) ، وليس شرطاً مع الأمر ، فكيف يكون الوصف شرطاً مع انتفاء الأمر!؟ على أنّ نفس الرهن ليس شرطاً في الدَّيْن.

والحديث ضعيف السند.

والفرق مع القرض ظاهر ؛ فإنّه مجرّد إرفاقٍ ، بخلاف الرهن ؛ فإنّه لا ينفكّ عن معارضةٍ مّا.

مسألة ١٤١ : القبض هنا كالقبض في البيع وغيره ، وهو إمّا التخلية مطلقاً على رأي ، أو النقل والتحويل فيما يُنقل ويُحوّل ، والكيل والوزن فيما يُكال ويوزن ، والتخلية فيما لا يمكن فيه شي‌ء من ذلك.

وقال بعض الشافعيّة : لو جوّزنا التخلية في المنقول في البيع ،

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٢٣ ، المسألة ٥.

(٢) السرائر ٢ : ٤١٧.

(٣) بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤ ، التلقين ٢ : ٤١٦ ، الذخيرة ٨ : ١٠٠ ، المعونة ٢ : ١١٥٣ ، المغني ٤ : ٣٩٩ - ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٦ ، الوسيط ٣ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢.

(٤) المائدة : ١.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « فيه » بدل « قبله ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٦) البقرة : ٢٨٢.

١٨٩

لم تكف هنا ؛ لأنّ القبض(١) مستحقّ في البيع ، وهنا بخلافه(٢) .

ويشترط في القبض صدوره من جائز التصرّف ، وهو الحُرّ المكلّف الرشيد غير المحجور عليه لسفهٍ أو فلْسٍ. ويعتبر ذلك حال رهنه وإقباضه ؛ لأنّ العقد والتسليم ليس بواجب ، وإنّما هو إلى اختيار الراهن فإذا لم يكن له اختيار صحيح ، لم يصح. ولأنّه نوع تصرّفٍ في المال ، فلا يصحّ من المحجور عليه من غير إذن ، كالبيع.

وتجري النيابة في القبض كما تجري في العقد ، ويقوم قبض الوكيل مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر أحكامه.

وهل يجوز أن يستنيب المرتهن الراهنَ في القبض؟ مَنَع منه الشافعي ؛ لأنّ الواحد لا يتولّى طرفي القبض(٣) .

وليس جيّداً ، كالجدّ والأب.

وحكم عبده ومدبَّره واُمّ ولده حكمه ؛ لأنّ يدهم وجهان للشافعي :

أحدهما : الجواز ؛ لانفراده باليد والتصرّف.

وأصحّهما : المنع ، فإنّه عبده القنّ ، وهو متمكّن من الحجر عليه(٤) .

مسألة ١٤٢ : لو أودع مالاً عند إنسان أو أعاره منه أو كان مستاماً أو كان

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة الحجريّة : « الرهن » بدل « القبض » وذلك لا معنى له ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) الوسيط ٣ : ٤٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٨.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ١٠ ، الوسيط ٣ : ٤٨٦ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٧.

(٤) الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٧.

١٩٠

وكيلاً ثمّ رهنه منه ، فإن لم نشترط القبض ، فلا بحث ، ويلزم الرهن بمجرّد العقد. وإن شرطناه ، فالأقرب : أنّه يلزم الرهن بمجرّد العقد أيضاً ؛ لأنّه‌ مقبوض للمرتهن ، فيندرج تحت الآية(١) ، وبه قال أحمد ؛ فإنّ اليد ثابتة والقبض حاصل ، وإنّما تغيّر الحكم لا غير ، ويمكن تغيّر الحكم مع استدامة القبض ، كما لو طُولب بالوديعة فجحدها ، تغيّر الحكم ، وصارت مضمونةً(٢) عليه من غير أمرٍ زائد. ولو عاد الجاحد فأقرّ بها وقال لصاحبها : خُذْ وديعتك ، فقال : دَعْها عندك وديعةً كما كانت ولا ضمان عليك فيها ، لتغيَّر الحكم من غير حدوث أمرٍ زائد(٣) .

وقال الشافعي : لا يصير رهناً حتى تمضي مدّة يتأتّى قبضه فيها ، فإن كان منقولاً ، فبمضيّ مدّة يمكن نقله فيها. وإن كان مكيلاً ، فبمضيّ مدّة يمكن كيله فيها. وإن كان غير منقول ، فبمضيّ مدّة التخلية. وإن كان غائباً عن المرتهن ، لم يصر مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله ثمّ تمضي مدّة يمكن قبضه فيها ؛ لأنّ العقد يفتقر إلى القبض ، والقبض إنّما يحصل بفعله أو إمكانه(٤) .

واعلم أنّ الشافعي قال في الجديد : لا بُدّ من إذنٍ جديد في القبض(٥) .

ولو وهبه منه ، فظاهر قوله أنّه يحصل القبض من غير إذنٍ جديد.

ولأصحابه طرق ثلاثة.

____________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) في النسخ والطبعة الحجريّة : « وصار مضموناً ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) المغني ٤ : ٤٠٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٦ - ٤٢٧.

(٤) المغني ٤ : ٤٠٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٦ ٤٢٧.

(٥) الوسيط ٣ : ٤٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٨.

١٩١

أظهرها : أنّ فيه قولين :

أحدهما : أنّه لا حاجة في واحد من العقدين إلى الإذن في القبض ، بل إنشاؤهما مع الذي في يده المال يتضمّن الإذن في القبض.

وأصحّهما عندهم : أنّه لا بُدّ منه ؛ لأنّ اليد الثابتة كانت من غير جهة الرهن ، ولم يجر تعرّض للقبض بحكم الرهن.

والثاني : تقرير القولين.

والفرق : أنّ الهبة عقد تمليك ، ومقصوده الانتفاع ، والانتفاع لا يتمّ إلّا بالقبض ، والرهن توثيق ، وأنّه حاصل دون القبض ، ولهذا لو شرط في الرهن كونه في يد ثالثٍ ، جاز. ولو شرط مثله في الهبة ، فسد ، وكانت الهبة ممّن المال في يده رضا بالقبض.

والثالث : القطع باعتبار الإذن الجديد فيهما ، فيتناول قوله في الهبة ، وسواء شرط إذن جديد في القبض أو لم يشترط ، فلا يلزم العقد ما لم يمض زمان [ يتأتّى ](١) فيه صورة القبض ، لكن إذا شرط الإذن ، فهذا الزمان معتبر من وقت الإذن ، فإن لم يشترط ، فهو معتبر من وقت العقد.

وله قولٌ آخَر : لا حاجة إلى مضيّ هذا الزمان ، ويلزم العقد بنفسه.

والأقوى عندهم : الأوّل ؛ لأنّا نجعل دوام اليد كابتداء القبض ، فلا أقلّ من زمان يتصوّر فيه ابتداء القبض. ولو كان غائباً ، اعتبر زمان يمكن المصير فيه إليه ونقله.

وهل يشترط مع ذلك نفس المصير إليه ومشاهدته؟ له(٢) وجهان :

أحدهما : نعم ، ليتيقّن حصوله ويثق به.

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) كذا ، والظاهر : « لهم »

١٩٢

وأصحّهما عندهم : لا ، ويكتفى بأنّ الأصل بقاؤه.

واختلفوا في محلّ القولين ، منهم مَنْ جَعَله احتياطاً. ومنهم مَنْ حمله‌ على ما إذا كان المرهون ممّا يتردّد في بقائه في يده بأن كان حيواناً غير مأمون الآفات ، أمّا إذا تيقّنه ، فلا حاجة إليه.

وعلى اشتراط الحضور والمشاهدة فهل يشترط النقل؟ وجهان :

أحدهما : نعم ؛ لأنّ قبض المنقول به يحصل.

والثاني : لا يشترط ؛ لأنّ النقل إنّما يعتبر ليخرج من يد المالك ، وهو خارج هنا.

وإذا شرط الحضور أو النقل معه ، فهل يجوز أن يوكّل؟ فيه وجهان :

أصحّهما عندهم : الجواز ، كما في ابتداء القبض.

والمنع ؛ لأنّ ابتداء القبض - وهو النقل - وُجد من المودع ، فليصدر تتمّته منه(١) .

ولو ذهب إلى موضع المرهون فوجده قد خرج من يده ، فإن أذن له في القبض بعد العقد ، فله أخذه حيث وجده. وإن لم يأذن ، لم يأخذه حتى يقبضه الراهن ، سواء شرطنا الإذن الجديد أو لم نشرطه.

ولو رهن الأب مال الطفل من نفسه أو ماله من الطفل ، ففي اشتراط مضيّ زمان يمكن فيه القبض وجهان ، فإن شرطناه فهو ، كما لو رهن الوديعة من المودع ، فيعود الاختلاف المذكور ، وقصد الأب قبضاً وإقباضاً(٢) نازل منزلة الإذن الجديد.

أمّا لو باع المالك الوديعةَ ، أو العاريةَ ممّن في يده ، فهل يعتبر زمان

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٣ - ٤٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٨ - ٣٠٩.

(٢) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « وافياً » بدل « وإقباضاً ». والصحيح ما أثبتناه.

١٩٣

إمكان القبض لجواز التصرّف وانتقال الضمان؟ الأقرب عندنا : المنع - وهو‌ أحد وجهي الشافعي(١) - لأنّه مقبوض حقيقةً ، ولأنّ البيع يفيد الملك ، ولا معنى مع اجتماع الملك واليد لاعتبار شي‌ء آخَر.

والثاني : نعم(٢) .

وهل يحتاج إلى الإذن في القبض؟ إن كان الثمن حالّاً ولم يوفّه ، لم يحصل القبض ، إلّا إذا أذن البائع فيه. فإن وفّاه أو كان مؤجَّلاً؟ قال بعضهم : إنّه كالرهن(٣) .

والمشهور : أنّه لا يحتاج إليه(٤) .

والفرق : أنّ البيع يوجب القبض ، فدوام اليد يقع عن القبض المستحقّ ، ولا استحقاق في الرهن.

مسألة ١٤٣ : لو رهن المالك ماله المغصوب في يد الغاصب ، صحّ الرهن؟

وعلى قولنا بعدم اشتراط القبض يصير رهناً بمجرّد العقد.

وعلى القول باشتراطه لا بُدّ من مضيّ زمانٍ يمكن فيه تجديد القبض مع إذنٍ في القبض - كما تقدّم - جديدٍ ، وهو أحد قولي الشافعي(٥) .

والثاني : القطع في الغصب بافتقاره إلى إذنٍ جديد ؛ لأنّ يده غير صادرة عن إذن المالك أصلاً(٦) .

إذا عرفت هذا ، فإذا رهن الغصب أو المستعار المشروط فيه الضمان‌ أو المستام أو المبيع فاسداً، صحّ الرهن إجماعاً.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩.

(٥ و ٦ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩ - ٣١٠.

١٩٤

وهل يزول الضمان بالرهن؟ قال الشيخ(١) : لا يزول ، ويثبت فيه حكم الرهن ، والحكم الذي كان ثابتاً فيه يبقى(٢) بحاله - وبه قال الشافعي ومالك وأبو ثور(٣) - لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي »(٤) .

ولأنّ الدوام أقوى من الابتداء ، ودوام الرهن لا يمنع ابتداء الضمان ، فإنّ المرتهن إذا تعدّى في المرهون ، يصير ضامناً ، ويبقى الرهن بحاله ، فلأن لا يرفع ابتداء الرهن دوام الضمان كان أولى. ولأنّه لا تنافي بين الرهن وثبوت الضمان ، كما لو تعدّى في الرهن ، فإنّه يصير مضموناً ضمانَ الغصب ، وهو رهن كما كان ، فكذلك ابتداؤه ؛ لأنّه أحد حالتي الرهن.

وقال أبو حنيفة وأحمد : يزول الضمان - وهو منقول عن مالك أيضاً - لأنّه مأذون له في إمساكه رهناً(٥) ، لم يتجدّد منه فيه عدوان ، فلم يضمنه ، كما لو قبضه منه ثمّ أقبضه إيّاه أو أبرأه من ضمانه(٦) .

ومنعوا عدم التنافي ؛ فإنّ يد الغاصب عادية يجب عليه إزالتها ، ويد‌ المرتهن محقّة جَعَلها الشرع له ، ويد المرتهن أمانة ، ويد الغاصب

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٢٨ ، المسألة ١٧.

(٢) في النسخ والخطّيّة و الحجريّة : « فيبقى ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠ ، الوسيط ٣ : ٤٨٨ ، الوجيز ١ : ١٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩ - ٣١٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٣ ، الذخيرة ٨ : ١١٤ ، المغني ٤ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٧ ، وحكاه عنهم أيضاً الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٢٢٨ ، المسألة ١٧.

(٤) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، مسند أحمد ٥ : ٦٣٨ / ١٩٦٢٠.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « وهنا » بدل « رهناً ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) المغني ٤ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٢٧ - ٤٢٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠، الوسيط ٣ : ٤٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، الذخيرة ٨ : ١١٤.

١٩٥

والمستام(١) ونحوهما(٢) يد ضامنة ، وهُما متنافيان.

ولأنّ السبب المقتضى للضمان زال ، فزال الضمان لزواله ، كما لو ردّه إلى مالكه ، وذلك لأنّ سببَ الضمان الغصبُ أو العاريةُ ونحوهما ، وهذا لم يبق غاصباً ولا مستاماً(٣) ، ولا يبقى الحكم مع زوال سببه وحدوث سببٍ يخالفه حكمه ، وأمّا إذا تعدّى في الرهن ، فإنّه يضمن ؛ لعدوانه ، لا لكونه غاصباً ولا مستاماً(٤) ، وهنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه ، فلم يثبت(٥) .

ويُمنع استلزام إذن الإمساك رهناً لعدم الضمان ، فإنّ المرتهن إذا تعدّى والمودع وغيرهما من الأُمناء مأذون لهم في الإمساك مع ثبوت الضمان.

والفرق بين إقباضه بعد استعارته واستمرار القبض ظاهر ؛ فإنّ اليد في الأوّل قد زالت حقيقةً ، فلا موجب للضمان ، وغاية ثبوت الضمان الدفع إلى المالك وقد حصل ، فلا يثبت الضمان بعد الغاية له ، والإبراء بمنزلته ؛ لأنّه إسقاط ، فلا ثبوت للساقط بعده ؛ لانتفاء سببٍ جديد.

سلّمنا أنّ الغصب قد زال لكن نمنع زوال الضمان ، ولا نسلّم زوال المقتضى للضمان ؛ فإنّ اليد باقية ، والاستصحاب يقتضي استمرار الضمان.

إذا عرفت هذا ، فلو أراد المرتهن البراءة عن الضمان ، فليردّه إلى‌ الراهن ثمّ له الاسترداد بحكم الرهن.

____________________

(١) في المصدر : « والمستعير » بدل « والمستام ».

(٢) في الخطّية و الحجريّة : « ونحوها ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٣ و ٤) في المصدر : « مستعيراً » بدل « مستاماً ».

(٥) المغني ٤ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٨.

١٩٦

ولو امتنع الراهن من قبضه ومن الإبراء من ضمانه ، قال بعض الشافعيّة : له أن يجبره عليه(١) .

وليس بجيّد ؛ إذ لا يجب على صاحب الحقّ ترك حقّه ، وقد ثبت للراهن ضمانٌ على المرتهن ، فكيف يجب عليه إسقاطه عنه!؟.

ولو أودع الغاصبَ المالَ المغصوب ، فالأقوى هنا سقوط الضمان - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّ مقصودَ الإيداع الاستئمانُ ، والضمان والأمانة لا يجتمعان ، ولهذا لو تعدّى المودع في الوديعة ، ارتفعت الوديعة ، بخلاف الرهن ؛ لأنّ الغرض منه التوثيق ، إلّا أنّ الأمانة من مقتضاه ، وهو مع الضمان قد يجتمعان.

والثاني : أنّه لا يبرأ ، كما في الرهن(٣) .

ولو آجر العينَ المغصوبة ، فالأولى أنّ الإجارة لا تفيد البراءة ؛ لأنّه ليس الغرض منها الائتمان ، بخلاف الوديعة.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ولو وكّله في بيع العبد المغصوب أو إعتاقه ، فالأقرب : بقاء الضمان ؛ لأنّه أولى من الإجارة به، لأنّ في الإجارة تسليطاً على القبض والإمساك ، بخلاف التوكيل.

وللشافعيّة وجهان(٥) .

وفي معنى الإجارة والتوكيل ما إذا قارضه على المال المغصوب ، أو

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٢ و٣ ) الحاوي الكبير ٦ : ٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢ ، الوسيط ٣ : ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٥) الوسيط ٣ : ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

١٩٧

كانت جارية فتزوّجها منه.

ولو صرّح المالك بإبراء الغاصب عن ضمان الغصب والمال باقٍ في يده ، احتُمل عدم البراءة ؛ لأنّ الغصب سبب وجود القيمة عند التلف ، والإبراء لم يصادف حقّاً ثابتاً وإن صادف سببه ، وهذا يؤكّد ما تقدّم من انتفاء البراءة مع عقود الأمانات ؛ لأنّها أدون من التصريح بالإبراء ، فإذا لم تحصل البراءة به ، فتلك العقود أولى.

ويُحتمل قويّاً فيما عدا الغصب - من المستام والمبيع فاسداً أو العارية المضمونة - عدم الضمان؛ لأنّها أخفّ من ضمان الغصب ، لاستناد اليد فيها إلى رضا المالك.

مسألة ١٤٤ : استدامة القبض ليست شرطاً في لزوم الرهن وصحّته ، عند علمائنا أجمع.

أمّا على قول مَنْ لا يشترط القبض في الابتداء : فظاهر ؛ لأنّه إذا لم يكن شرطاً في الابتداء فأولى أن لا يكون في الاستدامة ، لأنّ كلّ شرطٍ يُعتبر في الاستدامة يُعتبر في الابتداء ، وقد يُعتبر في الابتداء ما لا يُعتبر في الاستدامة.

وأمّا على قول مَنْ جعل القبض شرطاً في الابتداء : فإنّه لا يجعله شرطاً في الاستدامة.

أمّا العامّة فالقائل منهم بعدم اشتراط القبض فظاهر عندهم أيضاً.

وأمّا مَنْ قال : إنّه شرط ، فقد اختلفوا.

فقال الشافعي : إنّه ليس شرطاً ؛ لأنّه عقد يُعتبر القبض في ابتدائه ، فلا تُشترط استدامته ، كالهبة(١) .

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٢٢ ، المغني ٤ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢١ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤.

١٩٨

وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : استدامة القبض شرط ؛ لقوله تعالى :( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١) .

ولأنّها إحدى حالتي الرهن ، فكان القبض فيها شرطاً ، كالابتداء(٢) .

ولا دليل في الآية على ما تقدّم. والأصل ممنوع ، مع أنّ النصّ على خلافه ، قالعليه‌السلام : « الرهن محلوب ومركوب »(٣) وليس ذلك للمرتهن إجماعاً ، فبقي أن يكون للراهن ، وهو يدلّ على عدم اشتراط استدامة القبض.

مسألة ١٤٥ : لو تصرّف الراهن في الرهن قبل الإقباض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقاً أو رهنة ثانياً أو جعله مالَ إجارة ، فعلى ما قلناه - من لزوم الرهن بمجرّد العقد تكون التصرّفات موقوفةً على إجارة المرتهن ، فإن أجازها ، صحّت ، وبطلت وثيقته إلّا في الرهن على إشكالٍ سبق. وإن فسخها المرتهن ، بطلت.

وعلى القول بالاشتراط يكون ذلك رجوعاً عن الرهن ، فبطل الرهن ؛ لأنّه أخرجه عن إمكان استيفاء الدَّيْن عن ثمنه أو فعل ما يدلّ على قصد‌ ذلك ، وسواء أقبض البيع والهبة والرهن الثاني ، أو لم يقبضه.

وكتابه العبد ووطؤ الجارية مع الإحبال كالبيع.

أمّا الوطؤ من غير إحبال أو التزويج فليس رجوعاً ؛ إذ لا تعلّق له بمورد الرهن ، فإنّ رهن المزوّجة ابتداءً جائز ، وبه قال الشافعي(١) .

وأمّا الإجازة فإن قلنا : إنّ رهن المكري وبيعه جائز ، فهي كالتزويج ،

____________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) المغني ٤ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٠ - ٤٢١ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤.

(٣) المستدرك - للحاكم - ٢ :‍ ٥٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

١٩٩

وإلّا فهي رجوع.

وقال بعضهم : إنّها ليست برجوع بحال(١) .

وأمّا لو دبّر العبد المرهون ، فيحتمل أن يقال : إنّه رجوع ؛ للتنافي بين مقصود التدبير ومقصود الرهن ، وإشعاره بالرجوع.

مسألة ١٤٦ : لو مات المرتهن قبل القبض ، لم يبطل الرهن ، وهو ظاهر عند مَنْ لم يعتبر القبض.

وأمّا من اعتبره فقد اختلفوا.

فقال بعضهم ببطلانه ؛ لأنّه عقد جائز ، والعقود الجائزة ترتفع بموت المتعاقدين ، كالوكالة ، وهو أحد قولي(٢) الشافعي.

وفي الآخَر : لا يبطل الرهن ، ويقوم وارثه مقامه في القبض - وهو أصحّ قولَي(٣) الشافعي - لأنّ مصيره إلى اللزوم ، فلا يتأثّر بموته ، كالبيع في زمن الخيار ، والدَّيْن باقٍ كما كان ، وإنّما انتقل الاستحقاق فيه إلى الورثة ، وهُمْ محتاجون إلى الوثيقة حاجة مورّثهم ، وبه قال أحمد ؛ ولأنّ المرتهن لو مات كان الدَّيْن باقياً على تأجيله ، فكان الرهن بحاله(٤) .

ولو مات الراهن قبل الإقباض ، لم يبطل الرهن عند مَنْ لم يشترط القبض.

وأمّا من اشترطه فقد اختلفوا ، فللشافعي قولان :

أحدهما(٥) : أنّه يبطل ؛ لأنّه من العقود الجائزة ، كما تقدّم(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

(٢ و ٣) في « ث » الطبعة الحجريّة : « أقوال » بدل « قولي ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٥ ، المغني ٤ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤١٩.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فللشافعي أقوال أحدها ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٦) راجع ص ١٨٧ ، المسالة ١٤٠.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400