تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125402 / تحميل: 5207
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

والثاني : أنّه لا يبطل بموت المرتهن ، ويبطل بموت الراهن.

ولأصحابه طُرق :

أحدها : أنّ في موتهما قولين نقلاً وتخريجاً :

أحدهما : أنّه يبطل بموت كلّ واحدٍ منهما ؛ لأنّه عقد جائز ، والعقود الجائزة ترتفع بموت المتعاقدين.

وثانيهما : لا يبطل ؛ لأنّ مصيره إلى اللزوم.

والثاني تقرير القولين ، وفرّقوا بأنّ المرهون بعد موت الراهن ملك الورثة ومتعلّق حقّ الغرماء إن كان له غريمٌ آخَر ، وفي استيفاء الرهن(١) إضرار بهم ، وفي صورة موت المرتهن يبقى الدَّيْن كما كان ، وإنّما ينقل الاستحقاق فيه إلى الورثة ، وهُم يحتاجون إلى الوثيقة مورّثهم.

والثالث : القطع بعدم البطلان ، سواي مات الراهن أو المرتهن.

وإذا أثبتنا الرهن ، قام ورثة الراهن مقامه في الإقباض ، وورثة المرتهن مقامه في القبض(٢) .

ثمّ اختلف أصحابه في موضع القولين.

فقال بعضهم : موضعهما رهن التبرّع ، فأمّا الرهن المشروط في البيع فإنّه لا يبطل بالموت قطعاً؛ لتأكّده بالشرط ، واقترانه بالبيع اللازم ، فلا يبعد أن يكتسب منه صفة اللزوم.

وقال بعضهم : بل القولان جاريان في النوعين(٣) .

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « الراهن » بدل « الرهن ». والصحيح ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٤ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

٢٠١

مسألة ١٤٧ : لو جُنّ أحد المتعاقدين أو أُغمي عليه قبل القبض ، فإن لم نجعل القبض شرطاً ، فالرهن لازم بمجرّد العقد. وإن جعلناه شرطاً ، لم يبطل الرهن ؛ لأنّه عقد يؤول إلى اللزوم ، فلم يبطل بجنون أحد المتعاقدين ، كالبيع الذي فيه الخيار ، ويقوم وليّ المجنون مقامه.

فإن كان المجنون الراهنَ وكان الحظّ في التقبيض بأن يكون شرطاً في بيعٍ يتضرّر بفسخه أو غير ذلك من المصالح ، أقبضه. وإن كان الحظّ في تركه ، لم يجز له تقبيضه.

وإن كان المجنون المرتهنَ ، قال بعض العامّة : قبضه وليّه(١) إن اختار الراهن ، وإن امتنع ، لم يُجبر ، فإذا مات ، قام وارثه مقامه في القبض(٢) .

وقالت الشافعيّة : إنّه مرتَّب على الموت ، فإن قلنا : لا يؤثّر الموت ، فالجنون أولى. وإن قلنا : يؤثّر(٣) ، ففي الجنون وجهان(٤) .

فإن قلنا : لا يبطل الرهن ، فإن جُنّ المرتهن ، قبض الرهن مَنْ نصبه‌ الحاكم قيّماً في ماله ، فإن لم يقبض الراهن وكان الرهن مشروطاً في بيع ، فعل ما فيه الحظّ من الفسخ والإجازة.

وإن جُنّ الراهن فإن كان الرهن مشروطاً في بيعٍ وخاف القيّم فسخ البيع لو لم يسلّمه والحظّ في الإمضاء ، سلّمه. وإن لم يخف أو كان الحظّ في الفسخ ، لم يسلّمه.

وكذا لو كان الرهن رهنَ تبرّعٍ.

____________________

(١) في النسخ الخطيّة و الحجريّة: « إليه » بدل « وليّه ». وذلك خطأ ، والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) المغني ٤ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤١٨.

(٣) في النسخ الخطّيّة الحجريّة : « مؤثّر ». والأنسب ما أثبتناه.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٢.

٢٠٢

وينبغي أن يُحمل على ما إذا لم تكن ضرورة ولا غبطة ؛ لأنّه يجوز أن يرهن مال المجنون ابتداءً فالاستدامة أولى.

ولو حُجر على الراهن بفلسٍ قبل التسليم ، لم يكن له تسليمه ؛ لما فيه من تخصيص المرتهن بثمنه ، وليس له تخصيص بعض غرمائه.

وإن حُجر عليه لسفهٍ ، فحكمه حكم ما لو زال عقله بجنون.

وإن اُغمي عليه ، لم يكن للمرتهن قبض الرهن ، وليس لأحدٍ تقبيضه ؛ لأنّ المغمى عليه لا ولاية لأحدٍ عليه.

فإن اُغمي على المرتهن ، لم يكن لأحدٍ أن يقوم مقامه في قبض الرهن أيضاً.

وإن خرس وكانت له كتابة مفهومة أو إشارة مفهومة ، فكالصحيح إن أذن في القبض ، جاز ، وإلّا فلا. وإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا كتابة ، لم يجز القبض.

وإن كان أحد هؤلاء قد أذن في القبض أوّلاً ، لم يعتدّ به ؛ لأنّ إذنهم يبطل بما عرض لهم.

مسألة ١٤٨ : ليس للمرتهن قبض الرهن إلّا بإذن الراهن ؛ لأنّه لا يلزمه تقبيضه ، فاعتُبر إذنه في قبضه ، كالواهب.

أمّا في الرهن المتبرّع به : فظاهر.

وأمّا فيما وقع شرطاً في عقدٍ لازم كالبيع وشبهه : فكذلك لا يجب عليه الإقباض ، سواء شرط الإقباض في العقد أو لم يشرط ، بل يتخيّر المرتهن في إجازة العقد المشروط به ، وفسخه ، وليس له إلزام الراهن بالإقباض ، فإن تعدّى المرتهن فقبضه بغير إذنٍ ، لم يثبت حكمه ، وكان بمنزلة مَنْ لم يقبض.

٢٠٣

ولو صدر من الراهن ما يدلّ على الإذن في القبض ، كان بمنزلة الإذن ، وقام مقامه ، مثل أن يرسل العبد إلى مرتهنه ، وردّ ما أخذه من المرتهن إلى يده ، ونحو ذلك ؛ لأنّه دليل على الإذن ، فاكتفي به ، كما لو دعا غيره إلى طعامٍ وقدّمه بين يديه ، فإنّ ذلك يجري مجرى الإذن في تناوله ، كذا هنا.

مسألة ١٤٩ : لو رهن عصيراً وأقبضه فانقلب في يد المرتهن خمراً ، لم نقل : إنّها مرهونة.

واختلفت عبارة الشافعيّة.

فقال بعضهم : يُتوقّف إن عاد خَلّاً ، بانَ أنّ الرهن لم يبطل ، وإلّا ظهر بطلانه(١) .

وقال أكثرهم : يبطل الرهن ؛ لخروج الرهن عن كونه مالاً ، ولا خيار للمرتهن إن كان الرهن مشروطاً في بيعٍ ؛ لحدوثه في يده(٢) .

ثمّ إن عاد خَلّاً ، يعود الرهن ، كما يعود الملك - وهو أحد قولي الشافعي(٣) - لأنّه لا يراد ببطلان الرهن اضمحلال أثره بالكلّيّة ، بل ارتفاع‌ حكمه ما دامت الخمريّة.

والثاني : أنّه لا يعود الرهن إلّا بعقدٍ جديد ، وبه قال أبو حنيفة(٤) .

والوجه : الأوّل ؛ لأنّ الرهن تابع للملك ، والملك قد عاد إلى الراهن.

ولو رهن شاة فماتت في يد المرتهن فدبغ جلدها ، لم يطهر ،

____________________

(١ - ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٢.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ١١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٠.

٢٠٤

ولم يدخل في ملك الراهن ولا المرتهن عندنا.

وللشافعي(١) وجهان :

أحدهما : عون الرهن ، كانقلاب الخمر خَلّاً.

وأظهرهما عندهم : عدم العود ؛ لأنّ ماليّته مستندة إلى الصنعة والمعالجة ، وليس العائد ذلك الملك(٢) .

ولو انقلب العصير المرهون خمراً قبل القبض ، ففي بطلانَ الرهن البطلان الكلّي للشافعي(٣) وجهان :

أحدهما : نعم ؛ لاختلال المحلّ في حال ضعف الرهن وجوازه.

والثاني : لا ، كما لو تخمّر بعد القبض.

وعلى الوجهين لو كان الرهن شرطاً في بيعٍ ، ثبت للمرتهن الخيار ؛ لأنّ الخَلّ أنقص من العصير ، ولا يصحّ الإقباض في حال الشدّة.

فإن فَعَل وعاد(٤) خَلّاً ، فعلى الوجه الثاني لا بدّ من استئناف قبضٍ ، وعلى الأوّل لا بدّ من استئناف عقدٍ(٥) .

ولو انقلب المبيع خمراً قبل القبض ، فالكلام في انقطاع البيع وعوده‌ إذا عاد خَلّاً كما تقدّم في انقلاب العصير المرهون خمراً بعد القبض.

مسألة ١٥٠ : لو جنى العبد المرهون قبل القبض وتعلّق الأرش برقبته

____________________

(١ و ٣ ) كذا ، والظاهر : « للشافعيّة ».

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ١١١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٤٤ ، حلية العلماء ٤ : ٤٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٢.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « فعاد » بدل « وعاد ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٢ - ٣١٣.

٢٠٥

وقلنا : رهن الجاني ابتداءً فاسد ، ففي بطلان الرهن للشافعيّة وجهان ، إلحاقاً للجناية يتخمّر(١) العصير بجامع عروض الحالة المانعة من ابتداء الرهن قبل استحكام العقد. وهذه الصورة أولى بأن لا يبطل الرهن فيها ؛ لدوام الملك في الجاني ، بخلاف الخمر(٢) .

ولو أبق العبد المرهون قبل القبض ، فللشافعيّة وجهان ؛ لانتهاء المرهون إلى حالة تمنع ابتداءً الرهن فيها(٣) .

مسألة ١٥١ : الخمر قسمان :

خمر محترمة ، وهي التي اتّخذ عصيرها ليصير خَلّاً ، وإنّما هي محترمة ؛ لأنّ اتّخاذ الخَلّ جائز إجماعاً ، ولا ينقلب العصير إلى الحموضة إلّا بتوسّط الشدّة ، فلو لم تُحترم واُريقت في تلك الحالة لتعذّر اتّخاذ الخَلّ.

والثاني : خمر غير محترمة ، وهي التي اتّخذ عصيرها لغرض الخمريّة.

إذا عرفت هذا ، فإنّ تخليل الخمر بالأجسام الطاهرة جائز ، كطرح العصير أو الخَلّ أو الخبز أو غيرها - وبه قال أبو حنيفة(٤) - لأنّ المقتضي للتخليل - وهو زوال الخمريّة - موجود ، والمانع - وهو طرح شي‌ء فيها - لا يصلح للمانعيّة ، وإلّا لما طهرت ألبتّة ؛ لأنّ الآنية تنجس بملاقاتها ، فلو

____________________

(١) في « ث ، ج » و « العزيز شرح الوجيز » : « بتخمير ».

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٣.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ٢٢ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٢٩ ، بدائع الصنائع ٥ : ١١٣ - ١١٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١١٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٤ : ١٥٩ ، الحاوي الكبير ٦ : ١١٢ ، المغني ١٠ : ٣٣٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١.

٢٠٦

انفعلت الخمر بنجاستها(١) لم تطهر ، وهو باطل بالإجماع.

وقال الشافعي : إنّ تخليل الخمر بطرح العصير أو الخَلّ أو الخبز الحارّ أو غيرها حرام ، والخَلّ الحاصل نجس - وبه قال أحمد ، وعن مالك روايتان كالمذهبين - لأنّ أنساً قال : سُئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتُتّخذ الخمر خَلّاً؟ قال : « لا »(٢) (٣) .

وهو - بعد التسليم لا يدلّ على المطلوب ؛ لإمكان إرادة الكراهة ، أو أن يُستعمل الخمر عوض الخَلّ.

وجوّز بعضُ الشافعيّة تخليلَ المحترمة ؛ لأنّها غير مستحقّة للإراقة(٤) .

ثمّ اختلفوا في الفرق بين الطرح بالقصد وبغير قصدٍ ، كطرح الريح ، بناءً على أنّ المعنى تحريم التخليل أو نجاسة المطروح فيه؟(٥) .

ولو طرح في العصير بصلاً أو ملحاً واستعجل به الحموضة بعد الاشتداد ، فلهُمْ وجهان :

أحدهما : إذا تخلّل ، كان طاهراً ؛ لأنّ الملاقي إنّما لاقاه قبل التخمير ، فطهر بطهارته ، كأجزاء الدِّنّ.

والثاني : لا ؛ لأنّ المطروح فيه ينجس عند التخمير وتستمرّ نجاسته ،

____________________

(١) في « ر » والطبعة الحجريّة : « بنجاسته ». وفي « ث ، ج » : « بنجاسة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٥٧٣ / ١٩٨٣ ، سنن الدارقطني ٤ : ٢٦٥ / ٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤ ، المغني ١٠ : ٣٣٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٤٠ ، التفريع ١ : ٤١٠ - ٤١١ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٩٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤.

٢٠٧

بخلاف أجزاء الدِّنّ ، للضرورة(١)

ولو طرح العصير على الخَلّ وكان العصير غالباً ينغمر الخمر فيه عند الاشتداد ، فهل يطهر إذا انقلب خَلّاً؟ فيه هذا الوجهان(٢) .

ولو كان الغالب الخَلّ وكان يمنع العصير من الاشتداد ، فلا بأس.

وأمّا [ إمساك ](٣) الخمر المحترمة إلى أن تصير خَلّاً جائز ، والتي لا تُحترم تجب إراقتها ، لكن لو لم يرقها حتى تخلّلت ، فهي طاهرات(٤) أيضاً ؛ لأنّ النجاسة والتحريم إنّما ثبتا للشدّة وقد زالت.

وقال بعض الشافعيّة : لا يجوز إمساك الخمر المحترمة ، بل يضرب عن العصير إلى أن يصير خَلّاً ، فإن اتّفقت منّا اطّلاعة وهو خمر ، أرقناه(٥) .

وقال بعضهم : لو أمسك التي لا تُحترم حتى تخلّلت ، لم تحلّ ولم تطهر ؛ لأنّ إمساكها حرام ، فلا يستفاد به نعمة(٦) .

ومتى عادت الطهارة بالتخليل ، طهرت أجزاء الظرف.

وقال بعض الشافعيّة : إن كان الظرف لا يتشرّب شيئاً من الخمر كالقوارير ، طهر ، وإن كان ممّا يتشرّب ، لم يطهر(٧) .

ويطهر أيضاً ما فوقه الذي أصابته الخمر في حالة الغليان.

ولو كان ينقلها من الظلّ إلى الشمس أو بفتح رأسها ليصيبها الهواء

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤.

(٣) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « طاهر ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥ و ٦ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٤.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥.

٢٠٨

استعجالاً للحموضة ، فوجهان :

أحدهما : لا تطهر ، كما لو طرح فيها شيئاً.

وأصحّهما : الطهارة عندهم ؛ لزوال الشدّة(١) .

وتردّد بعضُ الشافعيّة في بيع الخمر المحترمة ؛ بناءً على تردّدهم في طهارتها(٢) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ١١٥ ، الوسيط ٣ : ٤٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٥.

٢٠٩

الفصل الثالث : في منع المتراهنين من التصرّفات‌

مسألة ١٥٢ : الرهن وثيقة لدَيْن المرتهن إمّا في عينه أو بدله ، ولا تحصل الوثيقة إلّا بالحجر على الراهن وقطع سلطنةٍ كان له ليتحرّك إلى الأداء ، وبتجديد سلطنةٍ للمرتهن لم تكن ، ليتوصّل بها إلى الاستيفاء.

وهذه الوثيقة ليست دائمةً ، بل لها غاية تنتهي عندها على ما يأتي.

إذا ثبت هذا ، فالرهن يمنع الراهن لا المرتهن من التصرّفات على ما يأتي تفصيله في نظرين :

الأوّل : في منع الراهن.

ويُمنع الراهن من كلّ تصرّف يزيل الملك إلى الغير ، كالبيع والهبة ونحوهما ، وإلّا فاتت الوثيقة.

ويُمنع أيضاً ممّا يزاحم المرتهن في مقصود الرهن ، وهو الرهن من غيره ، ومن كلّ تصرّف ينقص المرهون ويقلّل الرغبة فيه ، كالتزويج - وبه قال الشافعي ومالك(١) - لأنّ الرغبة في الجارية الخليّة فوق الرغبة في المزوّجة ، فالتزويج يوجب نقص ثمنها ، ويشغل بعض منافعها ، فإنّه يعطّل منافع بُضعها ، ويمنع مشتريها من وطئها ، ويُعرّضها بوطئها للحمل ، ويُمكّن زوجها من الاستمتاع بها ليلاً ، ويمنعها عن الخدمة بتربية ولدها ،

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٤٠ ، الوجيز ١ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٦ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٣٥.

٢١٠

فتقلّ الرغبة فيها.

وقال الشيخرحمه‌الله : إذا زوّج الراهن عبده المرهون أو جاريته المرهونة ، كان تزويجه صحيحاً - وبه قال أبو حنيفة - لعموم قوله تعالى :( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) (١) (٢) .

ولأنّ محلّ النكاح غير محلّ الرهن ، ولهذا صحّ رهن الأمة المزوّجة(٣) .

والعامّ مخصوص بما دلّ [ على ](٤) منع الراهن والمرتهن من التصرّف في الرهن.

ويُمنع تغاير المحلّين ؛ فإنّ البيع يتناول جملتها ، ولهذا يستبيح المشتري نكاحها ، وإنّما صحّ رهن المزوّجة ؛ لبقاء معظم المنفعة فيها ، وبقائها محلّاً للبيع ، كما يصحّ رهن المستأجرة.

إذا عرفت هذا ، فقال أبو حنيفة : يصحّ الرهن ، وللمرتهن منع الزوج من وطئها ، ومهرها رهنٌ معها(٥) .

ولا بأس بقوله في المنع من الوطئ على تقدير صحّة العقد.

مسألة ١٥٣ : قال الشيخرحمه‌الله : لا يجوز للراهن أن يكري داره المرهونة أو يُسكنها غيره ، إلّا بإذن المرتهن ، فإن أكراها وحصلت اُجرتها ، كانت له.

وقال الشافعي : له أن يؤجرها ويُسكنها غيره.

____________________

(١) النور : ٣٢.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٥٣ ، المسألة ٦٠.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٢٢ : ١٢ ، حلية العلماء ٤ : ٤٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٤ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٣٥.

(٤) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٥) المبسوط - للسرخسي - ٢٢ : ١٢ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٣٥.

٢١١

وهل له أن يسكنها بنفسه؟ لهم فيه وجهان(١) .

وفصَّل أصحابه ، فقالوا : إن كان الدَّيْن حالّاً أو كان مؤجَّلاً لكنّه يحلّ قبل انقضاء مدّة الإجارة ، ففي روايةٍ بناء صحّة الإجارة على القولين في جواز بيع المستأجر ، إن جوّزناه ، صحّت الإجارة ، وإلّا فلا ، والمشهور : بطلانها قطعاً.

أمّا إذا لم نجوّز بيع المستأجر : فظاهر.

وأمّا إذا جوّزناه : فلأنّ الإجارة تبقى وإن صحّ البيع ، وذلك ممّا يقلّل الرغبة(٢) .

وقال بعضهم : يبطل قدر الأجل ، وفي الزائد عليه قولا تفريق الصفقة(٣) .

وإن كان الأجل يحلّ مع انقضاء مدّة الإجارة أو بعدها ، صحّت الإجارة.

ثمّ لو اتّفق حلول الدَّيْن قبل انقضائها بموت الراهن ، فوجهان :

أحدهما : أنّه تنفسخ الإجارة رعايةً لحقّ المرتهن ، فإنّه أسبق ، ويُضارب المستأجر بالاُجرة المدفوعة مع الغرماء.

والثاني : أنّ المرتهن يصبر إلى انقضاء مدّة الإجارة ، كما يصبر الغرماء إلى انقضاء العدّة لتستوفي المعتدّة حقّ السكنى ؛ جمعاً بين الحقّين ، وعلى هذا يُضارِب المرتهن بدَيْنه مع الغرماء في الحال.

وإذا انقضت المدّة وبِيع المرهون ، قضي باقي دَيْنه ، فإن فضل منه‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٥٢ ، المسألة ٥٩ ، وانظر : حلية العلماء ٤ : ٤٣٩ ، والمغني ٤ : ٤٧٢ - ٤٧٣ ، والشرح الكبير ٤ : ٤٣١.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٦.

٢١٢

شي‌ء ، فهو للغرماء(١) .

هذا كلّه فيما إذا آجر المرهون من غير المرتهن ، أمّا إذا آجره منه ، فيجوز(٢) ، ولا يبطل الرهن ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما ، وقد اتّفقا على ذلك ، فجاز ، كما اتّفقا على إيجاز الغير.

وكذا لو كان مستأجراً [ من ](٣) المرتهن ثمّ ارتهنه ، وبه قال الشافعي(٤) ، ولا نعلم فيه خلافاً.

فلو كانت الإجارة قبل تسليم الرهن ثمّ سلّمه عنهما جميعاً ، جاز. ولو سلّم عن الرهن ، وقع عنهما جميعاً ؛ لأنّ القبض في الإجارة مستحقّ. ولو سلّم عن الإجارة ، لم يحصل قبض الرهن.

وقال أبو حنيفة : الرهن والإجارة لا يجتمعان ، والمتأخّر منهما يرفع المتقدّم ويُبطله(٥) .

والشافعي جوّز ذلك ؛ لأنّ الإعارة من المرتهن لا تُبطل الرهن ، فكذا الإجارة(٦) .

واعلم أنّ للشافعي قولين :

الجديد : أنّ السبيعَ من الراهن ، وغيرَه من التصرّفات باطلة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٤ ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٦.

(٢) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « يجوز ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في « ث » و الطبعة الحجريّة : « مع ». وفي « ج ، ر » : « على ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٦.

(٥) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ١٦٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٤٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٥.

(٦) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٦.

٢١٣

والقديم : يجوز وقف العقود بكون هذه التصرّفات موقوفةً على الانفكاك وعدمه(١) .

مسألة ١٥٤ : لا يصحّ من الراهن إعتاق العبد المرهون ؛ لأنّه إتلاف للوثيقة ، وإبطالٌ لحقّ المرتهن منها.

وللشافعي - في القديم - : الجزم بعدم النفوذ إن كان الراهن معسراً. وإن كان موسراً ، فقولان. وفي الجديد : الجزم بنفوذه إن كان موسراً. وإن كان معسراً ، فقولان. فيحصل له أقوال ثلاثة.

أ : أنّه لا ينفذ بحال وهو الذي ذهبنا إليه لأنّ الرهن عقد لازم حجر به الراهن على نفسه ، فلا يتمكّن من إبطاله مع بقاء الدَّيْن.

ب : أنّه ينفذ ؛ لأنّه إعتاقٌ صادفَ الملك ، فأشبه إعتاق المستأجر والزوجة ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ، إلّا أنّ أبا حنيفة يقول : يستسعى العبد في قيمته إن كان الراهن معسراً.

ج - وهو الأصحّ عندهم ، وبه قال مالك - : أنّه إن كان موسراً ، نفذ ، وإلّا فلا ، تشبيهاً لسريان العتق إلى حقّ المرتهن بسريانه من نصيب أحد الشريكين إلى الآخَر ، والمعنى فيه أنّ [ حقّ ](٢) الوثيقة لا يتعطّل ، ولا يتأخّر إذا كان موسراً(٣) .

فإن قلنا : إنّه لا ينفذ ، فالرهن بحاله ، فلو انفكّ بإبراءٍ أو بغيره ، فللشافعي قولان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٦.

(٢) أضفناه من المصادر عدا « روضة الطالبين » و « حلية العلماء ».

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٥ - ٤٨٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٧ ، المغني ٤ : ٤٣٢ - ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٣٣ - ٤٣٤.

٢١٤

أظهرهما عندهم : أنّه لا يُحكم بنفوذه أيضاً ؛ لأنّه لا يملك إعتاقه ، فأشبه ما إذا أعتق المحجور عليه للسفه ثمّ زال الحجر.

والثاني : يُحكم ؛ لأنّ المانع من النفوذ في الحال حقّ المرتهن وقد زال.

والخلاف فيه كالخلاف فيما إذا أعتق المحجور عليه بالفلس عبداً ثمّ انفكّ الحجر عنه ولم يتّفق بيع ذلك العبد ، هل يُعتق؟ وإن بِيع في الدَّيْن ثمّ ملكه ولو يوماً ما ، لم يُحكم بالعتق.

ومنهم مَنْ طرد الخلاف المذكور في الصورة الاُولى(١) .

وعن مالك أنّه يُحكم بنفوذ العتق في الصورتين(٢) .

وإن قلنا : ينفذ العتق مطلقاً ، فعلى الراهن قيمته باعتبار يوم الإعتاق.

ثمّ إن كان موسراً ، اُخذت منه في الحال ، وجُعلت رهناً مكانه. وإن كان معسراً ، اُنظر إلى اليسار ، فإذا أيسر ، اُخذت منه ، وجُعلت رهناً إن لم يحلّ الحقُّ بَعْدُ(٣) ، وإن حلّ ، طُولب به ، ولا معنى للرهن(٤) .

ويحتمل أن يقال : كما أنّ ابتداء الرهن قد يكون بالحالّ وقد يكون بالمؤجَّل ، فكذا قد تقتضي المصلحة أخذ القيمة رهناً وإن حلّ الحقّ إلى يتيسّر استيفاؤه.

وبتقدير صحّة التفصيل الذي ذكروه وجب أن يجري مثله في القيمة التي تؤخذ من الموسر.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٧.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٦.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بعده ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) ورد التفصيل المذكور في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٦ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣١٧.

٢١٥

ومهما بذله القيمة على قصد الغرم ، صارت رهناً ، ولا حاجة إلى عقدٍ مستأنف ، والاعتبار(١) بقصد المؤدّي.

وإذا كان المعتق موسراً ، فعلى القول الثاني أو الثالث في وقت نفوذ العتق عندهم طريقان :

أحدهما : أنّه على الأقوال في وقت نفوذ العتق في نصيب الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه ، ففي قولٍ يتعجّل. وفي قولٍ يتأخّر إلى أن يغرم القيمة. وفي قولٍ يتوقّف ، فإذا غرم ، تبيّنّا صحّة العتق.

وأظهرهما : القطع بنفوذه في الحال ، والفرق أنّ يسري إلى ملك الغير ، ولا بدّ من تقدير انتقاله إلى المعتق ، فجاز أن نقول : إنّما ينتقل إذا استقرّ ملك [ الشريك ](٢) ويده على العوض ، وإعتاق الراهن يصادف ملكه(٣) .

أمّا لو علّق الراهن عتق المرهون ، فعندنا : أنّه يبطل ؛ لأنّه لا يصحّ تعليق العتق على شرط.

وأمّا مَنْ جوّزه - كالشافعي - فقال : يُنظر إن علّق عتق المرهون بفكاك الرهن نفذ عند الانفكاك ؛ لأنّ مجرّد التعليق لا يضرّ المرتهن ، وحين ينزل العتق لا يبقى له حقّ.

وإن علّق بصفة اُخرى ، فإن وُجدت قبل فكاك الرهن ، ففيه الأقوال‌ المذكورة في التنجيز. وإن(٤) وُجدت بعده ، فوجهان :

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ولا اعتبار » بدل « والاعتبار ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « المشتري ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٧ - ٣١٨.

(٤) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « فإن ». والظاهر ما أثبتناه من المصدر.

٢١٦

أصحّهما عدهم : النفوذ ؛ لأنّه لا يبطل حقّ المرتهن.

والثاني : عدمه إبطالاً للتعليق مطلقاً ، كالتنجيز في قولٍ(١) .

والخلاف هنا يُشبه خلافَهم فيما لو قال العبد لزوجته : إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق ثلاثاً ، ثمّ عُتق ثمّ فعلته ، هل تقع الطلقة الثالثة؟ لكنّ الخلاف جارٍ وإن علّق بالعتق ، فقال : إن عُتقت فأنتِ طالق ثلاثاً. ولا خلاف في تعليق العتق بالفكاك أنّه ينفذ عند الفكاك(٢) .

فرّقوا بأنّ الطلقة الثالثة ليست مملوكةً للعبد ، ومحلّ العتق مملوك للراهن ، وإنّما منع لحقّ المرتهن(٣) .

وفيه نظر ؛ فإنّ العتق غير مملوك للراهن ، كما أنّ الطلقة الثالثة غير مملوكة للعبد ، ومحلّ الطلاق مملوك للعبد كما أنّ محلّ العتق مملوك للراهن ، فلا فرق.

ولو رهن نصف عبده ثمّ أعتق نصفه ، فإن أضاف العتق إلى النصف المرهون ، ففيه الخلاف. وإن أضافه إلى الطلق أو أطلق ، عُتق الطلق.

وهل يسرى إلى المرهون؟ إن جوّزنا عتق المرهون ، فنعم ، وإلّا فوجهان عند الشافعيّة(٤) .

والذي يقتضيه مذهبنا أنّه يسري - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة -(٥) لأنّ أقصى ما في الباب تنزيل المرهون منزلة ملك الغير ، وهو يسري إليه ، فحينئذٍ هل يفرّق بين الموسر والمعسر؟ قولان للشافعيّة ، أحدهما : نعم. والثاني : لا ؛ لأنّه ملكه(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٨.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٧.

(٤-٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٨.

٢١٧

ولو وقف المرهون ، لم يصح عندنا ؛ لما فيه من إفساد حقّ الغير.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه كالعتق ؛ لما فيه من القربة والتعليق الذي لا يقبل النقض.

وأظهرهما عندهم : القطع بالمنع ، بخلاف العتق ، فإنّه أقوى بالسراية وغيرها(١) .

ولهم طريقة ثالثة : إن قلنا : الوقف لا يحتاج إلى القبول ، فهو كالعتق. وإن قلنا : يحتاج إليه ، فيقطع بالمنع(٢) .

مسألة ١٥٥ : ليس للراهن وطؤ أمته المرهونة إلّا بإذن المرتهن ، سواء كانت بكراً وثيّباً ، وسواء كانت من أهل الإحبال أو لا ؛ لأنّ الوطء ربما أحبلها فتنقص قيمتها ، وربما ماتت في الولادة.

وقال الشافعي : إن كانت الجارية بكراً ، لم يكن للراهن وطؤها بحال ؛ لأنّ الافتضاض ينقض قيمتها.

وإن كانت ثيّباً ، فكذلك [ إن كانت ](٣) في سنّ مَنْ تحبل ؛ لأنّها ربما حبلت فتفوت الوثيقة أو تتعرّض للهلاك في الطلق ونقصان الولادة ، وليس له أن يقول : أطأُ فأعزل ؛ لأنّ الماء قد يسبق.

وإن كانت في سنّ مَنْ لا تحبل لصغرٍ أو يأسٍ ، فوجهان ‌:

أحدهما : له أن يطأها ، كسائر الانتفاعات التي لا تضرّ بالمرتهن.

وقال الأكثر : يُمنع من وطئها أيضاً احتياطاً لحسم الباب ؛ إذ العلوق ليس له وقت معلوم ، وهذا كما أنّ العدّة تجب على الصغيرة والكبيرة

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٨.

(٣) ما بين المعقوفين من « العزيز شرح الوجيز ».

٢١٨

والآيسة وإن كان القصد الأصلي استبراء الرحم(١) .

ويجري الوجهان فيما إذا كانت حاملاً من الزنا ؛ لأنّه لا يخاف من وطئها الحبلُ.

نعم ، غشيان مثل هذه المرأة مكروه على الإطلاق(٢) .

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمرتهن منع الراهن من وطئ أمته المرهونة ، ولأنّ سائر مَنْ يحرم وطؤها لا فرق بين الآيسة والصغيرة ونحوهما ، كالمعتدّة والمستبرأة والأجنبيّة(٣) .

مسألة ١٥٦ : لو خالف الراهن ما قلناه ووطئ ، لم يكن زانياً ؛ لأنّه وطئ في ملكٍ ، فلا حدّ عليه ؛ لأنّ التحريم عارض ، كما عرض في الـمُحْرمة والصائمة ، ولا مهر عليه ؛ لأنّ المرتهن لا حقّ له في منفعتها ، ووطؤها لا ينقض قيمتها ، فأشبه ما لو استخدمها ، بخلاف ما لو وطئ المكاتبة حيث يغرم المهر ؛ لأنّ المكاتبة قد استقلّت واضطرب الملك فيها أو زال ، ولهذا لو وطئها أجنبيّ ، كان المهر لها ، ولو وطئ المرهونة أجنبيّ ، كان المهر للوليّ.

ولو تلف جزء منها أو بُضْعها مثل أن افتضّ البكر أو أفضاها ، فعليه قيمة ما أتلف ، فإن شاء جَعَله رهناً معها ، وإن شاء جَعَله قضاءً من الحقّ إن‌ لم يكن حلّ إذا رضي المرتهن ، وإن كان حلّ ، جَعَله قضاءً إن كان من جنس الحقّ لا غير ، فإنّه لا فائدة في جَعْله رهناً. ولا فرق بين الكبيرة والصغيرة فيما ذكرناه ، ولا نعلم في هذا خلافاً.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٨ - ٣١٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٩.

(٣) المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٣٦.

٢١٩

فإن أولدها ، فالولد حُرٌّ لاحِقٌ به ، ولا قيمة عليه ؛ لأنّ المرتهن لا حقّ له في ولد المرهونة بحال.

وهل تصير اُمّ ولدٍ للراهن؟ مذهبنا : أنّها تصير اُمَّ ولدٍ له ، ولا يبطل الرهن. ثمّ إن كان الواطئ موسراً ، لزمه قيمة الرهن من غيرها ؛ لحرمة ولدها يكون رهناً مكانها ، وإن كان معسراً ، كان الدَّيْن باقياً ، وجاز بيعها فيه.

وللشافعي أقوال ثلاثة :

أحدهما : أنّها تصير اُمّ ولدٍ ، وتعتق ، سواء كان الراهن موسراً أو معسراً ، ولكنّه يجب على الموسر قيمتها تكون رهناً مكانها ؛ لأنّ الاستيلاد أولى بالنفوذ من الإعتاق ؛ لأنّه فعل ، والأفعال أقوى وأشدّ نفوذاً ، ولهذا ينفذ استيلاد المجنون والمحجور عليه ، ولا ينفذ إعتاقهما ، وينفذ استيلاد المريض من رأس المال وإعتاقه من الثلث.

الثاني : القطع بعدم نفوذ الاستيلاد ، ولا تخرج من الرهن ، وتباع في دَيْن المرتهن ، سواء كان موسراً أو معسراً.

والثالث : الفرق بين الموسر والمعسر ، فإن كان موسراً ، صارت اُمَّ ولدٍ له ، وإن أعتقها ، عُتقت ، ووجب عليه قيمتها تكون رهناً مكانها. وإن كان معسراً ، لم تخرج من الرهن ، وبِيعت في حقّ المرتهن.

فقد حصل ثلاثة طرق : أظهرها عندهم : طرد الخلاف في الاستيلاد ، كما في الإعتاق. والثاني : القطع بنفوذ الاستيلاد. والثالث : القطع بعدمه(١) .

وقال أبو حنيفة : تصير أُمَّ ولدٍ ، وتُعتق ، سواء كان موسراً أو معسراً ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٩.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400