تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125323 / تحميل: 5205
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مسألة ١٧ : لا تصحّ المضاربة بالدَّيْن إلّا بعد قبضه ؛ لعدم تعيّنه قبل القبض.

ولما رواه الباقر عن أمير المؤمنينعليهما‌السلام في رجل يكون له مال على رجل يتقاضاه فلا يكون عنده ما يقضيه فيقول له : هو عندك مضاربة ، فقال : « لا يصلح حتى يقبضه منه »(١) .

إذا ثبت هذا ، فلو فعل فالربح بأجمعه للمديون إن كان هو العامل ، وإلّا فللمالك ، وعليه الاُجرة.

مسألة ١٨ : لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّين ؛ لما روي عن الصادقعليه‌السلام قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يباع الدّيْن بالدَّيْن »(٢) .

ويجوز بيعه بغير الدَّيْن على مَنْ هو عليه وعلى غيره من الناس بأكثر ممّا عليه وبأقلّ وبمساوٍ إلّا في الربوي ، فتشترط المساواة ؛ لأنّ نهيهعليه‌السلام عن بيعه بالدَّيْن يدلّ من حيث المفهوم على تسويغه بغيره مطلقاً.

وكذا يجوز بيعه نقداً ، ويكره نسيئةً. قاله الشيخ(٣) رحمه‌الله .

فإن دفع المديون إلى المشتري ، وإلّا كان له الرجوع على البائع بالدرك ؛ لوجوب التسليم عليه.

قال الشيخرحمه‌الله : لو باع الدَّيْن بأقلّ ممّا لَه على المديون ، لم يلزم المديون أكثر ممّا وزن المشتري من المال(٤) ؛ لما رواه أبو حمزة عن‌ الباقرعليه‌السلام أنّه سئل عن رجل كان له على رجل دَيْنٌ فجاءه رجل فاشترى منه

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٤٠ / ٤ ، الفقيه ٣ : ١٤٤ / ٦٣٤ ، التهذيب ٦ : ١٩٥ / ٤٢٨.

(٢) الكافي ٥ : ١٠٠ ( باب بيع الدين بالدين ) الحديث ١ ، التهذيب ٦ : ١٨٩ / ٤٠٠.

(٣) النهاية : ٣١٠.

(٤) النهاية : ٣١١.

٢١

بعرض ثمّ انطلق إلى الذي عليه الدَّيْن فقال له : أعطني ما لفلان عليك فإنّي قد اشتريته منه ، فكيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال الباقرعليه‌السلام : « يردّ عليه الرجل الذي عليه الدَّيْن ما له الذي اشتراه به [ من(١) ] الرجل الذي عليه(٢) الدَّيْن »(٣) .

وهو مع ضعف سنده غير صريح فيما ادّعاه الشيخ ؛ لجواز أن يكون المدفوع مساوياً.

وأيضاً يُحتمل أن يكون ربويّاً ، ويكون قد اشتراه بأقلّ ، فيبطل الشراء ، ويكون الدفع جائزاً بالإذن المطلق المندرج تحت البيع.

إذا ثبت هذا ، فالواجب على المديون دفع جميع ما عليه إلى المشتري مع صحّة البيع.

مسألة ١٩ : أوّل ما يبدأ به من التركة بالكفن(٤) من صلب المال ، فإن فضل شي‌ء ، صُرف في الدَّيْن من الأصل أيضاً ، فإن فضل شي‌ء أو لم يكن دَيْنٌ ، صُرف في الوصيّة من الثلث إن لم يجز الورثة ، فإن أجازت ، نفذت من الأصل. ثمّ من بعد الوصيّة الميراث ؛ لقوله تعالى :( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٥) جعل الميراث مترتّباً عليهما.

وروى السكوني عن الصادق عن الباقرعليهما‌السلام ، قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أوّل ما يبدأ به من المال الكفن ثمّ الدَّيْن ثمّ الوصيّة ‌ثم

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) في التهذيب : « الذي له عليه ». وفي الكافي : « الذي له الدَّيْن ».

(٣) التهذيب ٦ : ١٨٩ / ٤٠١ ، الكافي ٥ : ١٠٠ ( باب بيع الدَّين بالدَّيْن ) الحديث ٢ ، وفيه السائل هو أبو حمزة.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بالكفن ». والصحيح ما أثبتناه ، وفي « ث » : « ما يبدأ من التركة بالكفن ».

(٥) النساء : ١١.

٢٢

الميراث »(١) .

إذا ثبت هذا ، فإن تبرّع إنسان بكفنه ، كان ما تركه في الدَّيْن مع قصور التركة ؛ لما رواه زرارة - في الصحيح - قال : سألتُ الصادقعليه‌السلام : عن رجل مات وعليه دَيْنٌ بقدر كفنه ، قال : «يكفّن بما ترك إلّا أن يتّجر عليه إنسان فيكفّنه ، ويقضى بما ترك دَيْنه »(٢) .

مسألة ٢٠ : يجوز اقتضاء الدَّيْن والجزية من الذميّ إذا باع خمراً أو خنزيراً على مثله من ذلك الثمن ؛ لأنّه مباح عندهم وقد أُمرنا أن نُقرّهم على أحكامهم.

ولما رواه داود بن سرحان في الصحيح عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل كانت له على رجل دراهم فباع بها(٣) خنازير أو خمراً وهو ينظر ، فقضاه ، قال : « لا بأس ، أمّا للمقضي فحلال ، وأمّا للبائع فحرام »(٤) .

إذا قبت هذا ، فلو كان البائع مسلماً ، لم يحلّ أخذ الثمن ؛ لبطلان البيع حينئذٍ ، سواء كان المشتري مسلماً أو كافراً ، وسواء وكّل المسلم الكافرَ في مباشرة البيع أو الشراء وعلى كلّ حال.

مسألة ٢١ : لا تصحّ قمسة الدَّيْن ؛ لعدم تعيّنه ، فلو اقتسم الشريكان ما في الذمم ، لم تصحّ القسمة ، وكان الحاصل لهما ، والتالف منهما ؛ لما رواه الباقر عن عليّعليهما‌السلام في رجلين بينهما مال ، منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما اقتسما الذي في أيديهما ، واحتال كلٌّ منهما بنصيبه ، فاقتضى‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ١٨٨ - ١٨٩ / ٣٩٨.

(٢) التهذيب ٦ : ١٨٧ / ٣٩١.

(٣) كلمة « بها » لم ترد في المصدر.

(٤) التهذيب ٦ : ١٩٥ / ٤٢٩.

٢٣

أحدهما ولم يقتض الآخَر ، قال : « ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بينهما(١) »(٢) .

إذا ثبت هذا ، فإن احتال كلٌّ منهما بحصّته على مديون من المديونين بإذن شريكه وفعَلَ الآخَر مع المديون الآخرَ ذلك ، صحّ ، ولم يكن ذلك قسمةً ، على أنّ في ذلك عندي إشكالاً أيضاً ؛ لأنّ الحوالة ها ليست بمال مسستحقٍّ على المحيل.

مسألة ٢٢ : أرزاق السلطان لا يصحّ بيعها إلّا بعد قبضها ، وكذا السهم من الزكاة والخمس؛ لعدم تعيّنها.

وهل يجوز بيع الدَّيْن قبل حلوله؟ الوجه عندي : الجواز ، ولا يجب على المديون دفعه إلّا في الأجل.

ويجوز بيعه بعد حلوله على مَنْ هو عليه وعلى غيره بحاضر أو مضمونٍ حالٍّ ، لا بمؤجَّل.

ولو قيل بجوازه كالمضمون ، أو بمنعه بالمضمون ، كان وجهاً.

ولو سقط المديون أجل الدَّيْن عليه ، لم يسقط ، وليس لصاحبه المطالبة في الحال. ويجوز دفعه قبل الأجل مع إسقاط بعضه ؛ لأنّه يكون إبراءً ، وبغير إسقاط إن رضي صاحبه ، ولا يجوز تأخيره بزيادة فيه ؛ لأنّه يكن رباً.

مسألة ٢٣ : لا يجب دفع المؤجَّل قبل أجله ، سواء كان دَيْناً أو ثمناً أو قرضاً أو غيرهما ، فإن تبرّع مَنْ عليه ، لم يجب على مَنْ له الأخذُ ، سواء‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بماله » بدل « بينهما ». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) التهذيب ٦ : ١٩٥ / ٤٣٠.

٢٤

كان على مَنْ عليه ضرر في التأخير أو لا ، وسواء كان على مَنْ له ضرر بالتأخير أو لا ، فإذا حلّ، وجب على صاحبه قبضه إذا دفعه مَنْ عليه ، فإن امتنع ، دفعه إلى الحاكم ، ويكون(١) من ضمان صاحبه ، وللحاكم إلزامه بالقبض أو الإبراء.

وكذا البائع سلَماً يدفع إلى الحاكم مع الحلول ، وهو من ضمان المشتري.

وكذا كلّ مَنْ عليه حقٌّ حالّ أو مؤجَّل فامتنع صاحبه من أخذه.

ولو تعذّر الحاكم وامتنع صاحبه من أخذه ، فالأقرب : أنّ هلاكه من صاحب الدَّيْن لا من المديون ؛ لأنّه حقّ تعيّن للمالك بتعيين المديون وامتنع من أخذه ، فكان التفريط منه.

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « فيكون ».

٢٥

الفصل الثالث : في القرض‌

وفيه مباحث :

الأوّل : القرض مستحبّ مندوب إليه مرغّب فيه إجماعاً ؛ لما فيه من الإعانة على البرّ ، وكشف كربة المسلم.

روى العامّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ كشف عن مسلم كربةً من كرب الدنيا كشف الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة ، والله في عون العبد ما كان العبد في حاجة أخيه »(١) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه ابن بابويه قال : قال الصادقعليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ :( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (٢) قال : « يعني بالمعروف القرض »(٣) .

وقال الباقرعليه‌السلام : « مَنْ أقرض قرضاً إلى ميسرة كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة عليه حتى يقبضه »(٤) .

وقال الشيخرحمه‌الله : روي أنّه أفضل من الصدقة بمثله في الثواب(٥) .

وعن عبد الله بن سنان عن الصادقعليه‌السلام قال : « قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ألف

____________________

(١) المهذّب للشيرازي ١ : ٣٠٩ ، المغني ٤ : ٣٨٣ ، وفيهما : « ما دام العبد في عون أخيه ».

(٢) النساء : ١١٤.

(٣) الفقيه ٣ : ١١٦ / ٤٩٢.

(٤) الفقيه ٣ : ١١٦ / ٤٩٤.

(٥) النهاية : ٣١١ ٣١٢.

٢٦

درهم أقرضها مرّتين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بها مرّة ، وكما لا يحلّ‌ لغريمك أن يمطلك وهو موسر فكذلك لا يحلّ لك أن تستعسره(١) إذا علمت أنّه معسر »(٢) .

مسألة ٢٤ : أداء القرض في الصفة كالقرض ، فإن دفع من غير جنسه ، لم يلزم القبول ؛ لأنّه اعتياض ، وذلك غير واجب.

فإن اتّفقا عليه ، جاز ؛ للأصل.

ولما رواه علي بن محمّد قال : كتبت إليه : رجل له رجل تمر أو حنطة أو شعير أو قطن فلمّا تقاضاه قال : خُذْ بقيمة ما لَك عندي دراهم ، أيجوز له ذلك أم لا؟ فكتب : « يجوز ذلك عن تراضٍ منهما إن شاء الله »(٣) .

إذا ثبت هذا ، فإذا دفع إليه على سبيل القضاء ، حسب بسعر يوم الدفع ، لا يوم المحاسبة ؛ لأنّ محمّد بن الحسن الصفّار كتب إليه في رجل كان له على رجل مال فلمّا حلّ عليه المال أعطاه به طعاماً أو قطناً أو زعفراناً ولم يقطعه على السعر ، فلمّا كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الطعام والزعفران والقطن أو نقص بأيّ السعرين يحسبه لصاحب الدَّيْن ، بسعر يومه الذي أعطاه وحلّ ماله عليه ، أو السعر الثاني بعد شهرين ، أو ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقّع « ليس له إلّا على حسب سعر وقت ما دفع إليه الطعام إن شاء الله »(٤) .

____________________

(١) في المصدر : « تعسره ».

(٢) التهذيب ٦ : ١٩٢ - ١٩٣ / ٤١٨.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٠٥ / ٤٦٩.

(٤) التهذيب ٦ : ١٩٦ / ٤٣٢.

٢٧

إذا عرفت هذا ، فإن دفع لا على وجه القضاء ، فإن كان المدفوع‌ مثليّاً ، كان له المطالبة به فإن تعذّر فبالقيمة يوم المطالبة. وإن لم يكن مثليّاً ، كان له المطالبة بقيمته يوم الدفع ؛ لأنّه يكون قد دفعه على وجه الإقراض.

مسألة ٢٥ : ولو دفع أجود من غير شرط ، وجب قبوله ؛ لأنّه زاده خيراً ، ولم يكن به بأس.

روى أبو الربيع قال : سُئل الصادقُعليه‌السلام : عن رجل أقرض رجلاً دراهم فردّ عليه أجود منها بطيبة نفسه وقد علم المستقرض إأنّه إنّما أقرضه ليعطيه أجود منها ، قال : « لا بأس إذا طابت نفس المستقرض »(١) .

وفي الحسن عن الحلبي عن الصادقعليه‌السلام قال : « إذا أقرضت الدراهم ثمّ أتاك بخير منها فلا بأس إن لم يكن بينكما شرط »(٢) .

وكذا إذا أخذ الدراهم المكسّرة فدفع إليه دراهم طازجيّة بالطاء غير المعجمة والزاي المعجمة والجيم ، وهي الدراهم الجيّدة من غير شرط ، كان جائزاً ؛ لما تقدّم.

ولما رواه يعقوب بن شعيب في الصحيح قال : سألت الصادقعليه‌السلام : عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلّة(٣) فيأخذ منه الدراهم الطازجيّة طيبة بها نفسه ، قال : « لا بأس » وذكر ذلك عن عليّعليه‌السلام (٤) .

مسألة ٢٦ : ولو دفع إليه أزيد ، فإن شرط ذلك ، كان حراماً إجماعاً ؛

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٥٣ ( باب الرجل يقرض الدراهم ) الحديث ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٠٠ / ٤٤٧.

(٢) الكافي ٥ : ٢٥٤ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠١ / ٤٤٩.

(٣) الدرهم الغلّة : المغشوش. مجمع البحرين ٥ : ٤٣٦ « علل ».

(٤) الكافي ٥ : ٢٥٤ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠١ / ٤٥٠.

٢٨

لما روى(١) الجمهور عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « كلّ قرض يجرّ منفعةً فهو حرام »(٢) .

وإن دفع الأزيد في المقدار من غير شرط عن طيبة نفس منه بالتبرّع ، كان حلالاً إجماعاً ، ولم يكره ، بل كان أفضل للمقرض.

والأصل فيه ما روى العامّة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله اقترض من رجل بَكْراً(٣) ، فقدمت عليه إبلُ الصدقة ، فأمر أبا رافع يقضي الرجل بَكْرَه ، فرجع أبو رافع فقال : لم أجد فيها إلّا جملاً خياراً(٤) رباعيّاُ(٥) ، فقال : « أعطه إيّاه ، إنّ خير الناس أحسنهم قضاءً »(٦) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي - في الحسن - عن الصادقعليه‌السلام عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عدداً ثمّ يعطي سوداً وزناً وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ وتطيب نفسه أن يجعل له فضلها ، فقال : « لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط ، ولو وهبها كلّها له صلح »(٧) .

وفي الصحيح عن يعقوب بن شعيب قال : سألتُ الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يكون عليه جُلّة(٨) من بُسْر فيأخذ جُلّةً من رطب وهو أقلّ منها ،

____________________

(١) في « ي » : « رواه ».

(٢) سنن البيهقي ٥ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٣ نحوه.

(٣) البكر : الفتيّ من الإبل. النهاية - لابن الأثير - ١ : ١٤٩ « بكر ».

(٤) يقال : جمل خيار. أي : مختار. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ٩١ « خير ».

(٥) يقال للذكر من الإبل إذا طلعت رَباعيته : رَباع. وذلك إذا دخل في السنة السابعة. النهاية لابن الأثير ٢ : ١٨٨ « ربع ».

(٦) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٤ / ١٦٠٠.

(٧) الكافي ٥ : ٢٥٣ / ١ ، الفقيه ٣ : ١٨٠ / ٨١٥ ، التهذيب ٦ : ٢٠٠ - ٢٠١ / ٤٤٨ ، بتفاوت يسير.

(٨) الجُلّة : وعاء التمر. الصحاح ٤ : ١٦٥٨ « جلل ».

٢٩

قال : « لا بأس » قلت : فيكون(١) عليه جُلّة من بُسْر فيأخذ جُلّة من تمر وهي أكثر منها ، قال : « لا بأس إذا كان معروفاً بينكما »(٢) .

مسألة ٢٧ : ولا فرق في تسويغ أخذ الأكثر والأجود والأدون والأردأ مع عدم الشرط بين أن يكون ذلك عادةً بينهما أو لا يكون وهو قول أكثر الشافعيّة -(٣) لما تقدّم.

وقال بعضهم : إذا كان ذلك على عادة بينهما ، كان حراماً ، وتجري العادة بينهما كالشرط(٤) .

وهو غلط ، وإذا كان القضاء أكثر مندوباً إليه ، فلا يكون ذلك مانعاً من القرض ، ولا تقوم العادة مقام الشرط.

مسألة ٢٨ : وكذا لو اقترض منه شيئاً ورهن عليه رهناً وأباحه في الانتفاع بذلك الرهن ، كان جائزاً إذا لم يكن عن شرط ؛ لما رواه محمّد بن مسلم في الحسن قال : سألت الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يستقرض من الرجل قرضاً ويعطيه الرهن إمّا خادماً وإمّا آنيةً وإمّا ثياباً ، فيحتاج إلى شي‌ء من منفعته فيستأذنه فيأذن له ، قال : « إذا طابت نفسه فلا باس » قلت : إنّ مَنْ عندنا يروون أنّ كلّ قرض يجرّ منفعةً فهو فاسد ، قال : « أو ليس خير القرض ما جرّ المنفعة »(٥) .

وعن محمّد بن عبدة قال : سألت الصادقَعليه‌السلام : عن القرض يجرّ

____________________

(١) في « س ، ي » بدل « فيكون » : « فكيف ». وفي الطبعة الحجريّة : « كيف ». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) الكافي ٥ : ٢٥٤ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٢٠١ / ٤٥١.

(٣و ٤ ) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١١ ، حلية العلماء ٤ : ٣٩٩ - ٤٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٦.

(٥) الكافي ٥ : ٢٥٥ ( باب القرض يجرّ المنفعة ) الحديث ١ ، الفقيه ٣ : ١٨١ / ٨١٩ ، التهذيب ٦ : ٢٠١ - ٢٠٢ / ٤٥٢.

٣٠

المنفعة ، قال : « خير القرض الذي يجرّ المنفعة »(١) .

إذا عرفت هذا ، فلا تنافي بين هذه الأخبار ؛ لأنّا نحمل ما يقتضي التحريمَ على ما إذا كان عن شرط ، والإباحةَ على ما إذا لم يكن عنه ؛ جمعاً بين الأدلة ، ولما تقدّم.

ولقول الباقرعليه‌السلام : « مَنْ أقرض رجلاً ورقاً فلا يشترط إلّا مثلها ، وإن جُوزي أجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه »(٢) .

مسألة ٢٩ : ولا فرق بين أن يكون مال القرض ربويّاً أو غير ربويّ في تحريم الزيادة مع الشرط ، وعدمه مع غيره ؛ لما تقدّم من أنّه قرض جرّ منفعةً بشرط ، فكان حراماً ، وهو قول جماعة من الشافعية(٣) .

وقال بعضهم : إنّ ما لا يجري فيه الربا تجوز فيه الزيادة ، كما يجوز أن يبيع حيواناً بحيوانين(٤) .

والفرق : أنّ ما فيه الربا يجوز أن يبيع بعضه ببعض وإن كان أحدهما أكثر صفةً ، كبيع جيّد الجوهر برديئه ، والصحيح بالمكسَّر وإن كان ذلك لا يجوز في القرض.

مسألة ٣٠ : مال القرض إن كان مثليّاً ، وجب ردّ مثله إجماعاً. فإن تعذّر المثل ، وجب ردّ قيمته عند المطالبة. وإن لم يكن مثليّاً ، فإن كان ممّا‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٥٥ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٠٢ / ٤٥٣ ، الاستبصار ٣ : ٩ / ٢٢.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٠٣ / ٤٥٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٥.

(٤) حلية العلماء ٤ : ٤٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٥.

٣١

ينضبط(١) بالوصف - وهو ما يصحّ السلف فيه ، كالحيوان والثياب - فالأقرب : أنّه يضمنه بمثله من حيث الصورة ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استقرض « بَكْراً » وردّ « بازلاً »(٢) . والبَكْر : الفتي من الإبل. والبازل : الذي تمّ له ثمان سنين. وروى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله استقرض « بَكْراً » فأمر بردّ مثله(٣) . وهو قول أكثر الشافعية(٤) .

وقال بعضهم : إنّه يُعتبر في القرض بقيمته ؛ لأنّه لا مثل له ، فإذا ضمنه ضمنه بقيمته ، كالإتلاف(٥) .

والفرق : أنّ القيمة أحضر فأمر به ، وليس كذلك القرض ، فإنّ طريقه الرفق ، فسُومح فيه ، ولهذا يجوز فيه النسيئة وإن كان ربويّاً ، ولا يجوز ذلك في البيع ولا في إيجاب القيمة في الإتلاف.

وأمّا ما لا يُضبط بالوصف - كالجواهر والقسيّ وما لا يجوز السلف - فيه تثبت فيه قيمته ، وهو أحد قولي الشافعيّة ، والثاني : أنّه لا يجوز قرض مثل هذا ؛ لأنّه لا مثل له(٦) .

فإن قلنا : إنّ ما لا مثل له يُضمن بالقيمة ، وكذا ما لا يُضبط بالوصف ، فالاعتبار بالقيمة يوم القبض ؛ لأنّه وقت تملّك المقترض ، وهو أحد قولي الشافعيّة ، وفي الآخَر : أنّه يملك بالتصرّف ، فيعتبر قمية(٧) يوم القبض أيضاً‌ على أحد الوجهين ، وعلى الثاني : بالأكثر من يوم القبض إلى يوم

____________________

(١) في « س ، ي » : « يضبط ».

(٢) نقله الغزّالي في الوسيط ٣ : ٤٥٧ ، والوجيز ١ : ١٥٨ ، والرافعي في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٢٩.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٤ / ١٦٠٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٨.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٤.

(٧) في الطبعة الحجريّة : « قيمته ».

٣٢

التصرّف(١) .

وقال بعض الشافعيّة : بالأكثر من يوم القبض إلى يوم التلف(٢) .

فإن اختلفا في القيمة ، قدّم قول المستقرض مع يمينه ؛ لأنّه غارم.

البحث الثاني : في أركان القرض‌

أركان القرض ثلاثة :

الأوّل : الصيغة الصادرة من جائز التصرّف.

ويعتبر فيه أهليّة التبرّع ؛ لأنّ القرض تبرّع ، ولهذا لا يُقرض الوليّ مالَ الطفل ، إلّا لضرورة.

وكذلك لا يجوز شرط الأجل ؛ لأنّ المتبرّع ينبغي أن يكون بالخيار في تبرّعه ، وإنّما يلزم الأجل في المعاوضات.

والإيجاب لا بُدَّ منه ، وهو أن يقول : أقرضتك ، أو أسلفتك ، أو خُذْ هذا بمثله ، أو خُذْه واصرفه فيما شئت وردَّ مثله ، أو ملّكتك على أن تردّ بدله.

ولو اقتصر على قوله : ملّكتك ، ولم يسبق وعد القرض ، كان هبةً.

فإن اختلفا في ذكر البدل ، قُدّم قول المقترض ؛ لأصالة عدم الذكر.

أمّا لو اتّفقا على عدم الذكر واختلفا في القصد ، قُدّم قول صاحب المال ؛ لأنّه أعرف بلفظه ، والأصل عصمة ماله ، وعدم التبرّع ، ووجوب الردّ على الآخذ بقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي »(٣) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٨ - ٣٧٩.

(٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠٠ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي =

٣٣

ويُحتمل تقديم دعوى الهبة ؛ قضيّةً للظاهر من أنّ التمليك من غير عوض هبة.

وأمّا القبول فالأقرب أنّه شرط أيضاً ؛ لأنّ الأصل عصمة مال الغير ، وافتقار النقل فيما فيه الإيجاب إلى القبول ، كالبيع والهبة وسائر التمليكات(١) ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ، والثاني : أنّه لا يشترط ؛ لأنّ القرض إباحة إتلاف على سبيل الضمان ، فلا يستدعي القبول(٢) .

ولا بُدَّ من صدوره من أهله كالإيجاب ، إلّا أنّ القبول قد يكون قولاً ، وقد يكون فعلاً.

مسألة ٣١ : لا يلزم اشتراط الأجل في الدَّيْن الحالّ ، فلو أجلّ الحالّ لم يتأجّل ، وكان له المطالبة في الحال ، سواء كان الدَّيْن ثمناً أو قرضاً أو إجارةً أو غير ذلك وبه قال الشافعي -(٣) لأنّ التأجيل زيادة بعد العقد ، فلا يلحق به ، كما لا يلحق به في حقّ الشفيع. ولأنّه حطّ بعد استقرار العقد ، فلا يلحق به ، كحطّ الكلّ. ولأنّ الأصل عدم اللزوم ؛ إذ قوله : قد أجّلت ، ليس بعقدٍ ناقل ، فيبقى على حكم الأصل.

وقال أبو حنيفة : إن كان ثمناً ، يثبت(٤) فيه التأجيل والزيادة والنقصان ، ويلحق بالعقد ، إلّا أن يحط الكلّ ، فلا يلحق بالعقد ، ويكون

____________________

= ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، سن البيهقي ٦ : ٩٥ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٤٧ ، مسند أحمد ٥ : ٦٤١٠ / ١٩٦٤٣ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٦ : ١٤٦ / ٦٠٤.

(١) في النسخ الخطّيّة الحجريّة : « التملّكات ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) الوسيط ٣ : ٤٥٢ ، الوجيز ١ : ١٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٣.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٣٨٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٨٧.

(٤) في « ث ، ي » : « ثبت ».

٣٤

إبراءً. وكذا في الاُجرة والصداق وعوض الخلع ، فأمّا القرض وبدل المتلف فلا يثبت فيه(١) .

وقال مالك : يثبت الأجل في الجميع ؛ لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند‌ شروطهم »(٢) .

ولأنّ المتعاقدين يملكان التصرّف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء ، فملكا فيه الزيادة والنقصان، كما لو كانا في زمن الخيار أو المجلس(٣) .

ولا دلالة في الخبر ؛ إذ لا يدلّ على الوجوب ، فيُحمل على الاستحباب بالأصل.

ولا يشبه هذا الإقالةَ ؛ لأنّ هذا لا يجوز أن يكون فسخاً للأوّل وابتداء عقدٍ ؛ لأنّه لم يوجد منه لفظ الفسخ ولا التمليك.

وأمّا زمان الخيار فكذلك أيضاً ؛ لأنّ الملك قد انتقل إلى المشتري عندنا ، فلا تثبت الزيادة.

وعند الشيخ أنّ العقد لم يستقرّ ، فيجوز فيه ما لا يجوز بعد استقراره ، كما يجوز فيه قبض رأس مال السَّلم وعوض الصرف.

وعلى مذهب مالك أنّ هذا الحقّ يثبت حالّاً ، والتأجيل تطوّع من جهته ووَعْدٌ ، فلا يلزم الوفاء به ، كما لو أعاره داره سنةً ، كان له الرجوع.

قال مالك : يثبت الأجل في القرض ابتداءً وانتهاءً ، أمّا ابتداءً فبأن يُقرضه مؤجّلاً ، وأمّا انتهاءً فبأن يُقرضه حالّاً ثمّ يؤجّله(٤) .

____________________

(١) المغني ٤ : ٣٨٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٨٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠٢.

(٢) التهذيب ٧ : ٣٧١/١٥٠٣ ، الاستبصار ٣: ٢٣٢/٨٣٥ ، الجامع لاحكام القران ٦ : ٣٣.

(٣) الذخيرة ٥ : ٢٩٥ ، الوسيط ٣ : ٤٥١ ، المغني ٤ : ٣٨٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٨٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣١.

٣٥

الركن الثاني : المال.

مسألة ٣٢ : الأموال إمّا من ذوات الأمثال أو من ذوات القِيَم.

والأوّل(١) يجوز إقراضه إجماعاً.

وأمّا الثاني فإن كان ممّا يجوز السَّلَم فيه ، جاز إقراضه أيضاً. وإن لم يكن ممّا يجوز السَّلَم فيه ، فقولان تقدّما(٢) .

وهل يجوز إقراض الجواري؟

أمّا عندنا فنعم - وهو أحد قولي الشافعي -(٣) للأصل. ولأنّه يجوز إقراض العبيد فكذا الجواري. ولأنّه يجوز السلف فيها فجاز قرضها ، كالعبيد ، وبه قال المزني وداوُد(٤) .

وأظهرهما عندهم : المنع ؛ لنهي السلف عن إقراض الولائد. ولأنّه لا يستبيح الوطؤ بالقرض ؛ لأنّه ملك ضعيف لا يمنعه من ردّها على المقرض ، ولا يمنع المقرض من أداها منه ، ومثل ذلك لا يستباح به الوطؤ ، كما لا يستبيح المشتري الوطء في مدّة خيار البائع. ولأنّه يمكنه(٥) ردّها بعد الوطئ ، فيكون في معنى الإعارة للوطئ ، وذلك غير جائز ، وإذا

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « فالأوّل ».

(٢) في ص ٣١ ، المسألة ٣٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي ١ : ٣١٠ ، الوسيط ٣ : ٤٥٢ ، الوجيز ١ : ١٥٨ ، حلية العلماء ٤ : ٣٩٦ ، التهذيب - للبغوي ٣ : ٥٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٤.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٠ ، حلية العلماء ٤ : ٣٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣١ ، المحلى ٨ : ٨٢ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٥.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « لا يمكنه » بزيادة « لا ». وهو غلط.

٣٦

ثبت أنّه لا يحلّ وطؤها ، لم يصحّ القرض ؛ لأنّ أحداً لا يفرّق بينهما. ولأنّ الملك إذا لم يستبح[به](١) الوطؤ لم يصح ؛ لانّه من المنافع المقصودة به ، بخلاف ما إذا كانت محرّمةً عليه فاشتراها ؛ لأنّ الوطء محرّم من جهة الشرع ، وهنا التمليك لا يستباح به ، فهو بمنزلة العقد الفاسد ، وفي هذا انفصال عن السَّلم والعبد ، ولا يلزم المكاتب إذا اشترى أمةً(٢) .

ونهي السلف ليس حجّةً. ونمنع عدم استباحة الوطئ ، والردّ من المقترض لا يوجب ضعف ملكه. ونمنع عدم منع المقرض من استراد العين ؛ لأنّ القرض عندنا يُملك بالقبض. وإمكان الإعادة بعد الوطي لا يوجب مماثلتها للإعارة.

قال بعض الشافعيّة : القولان مبنيّان على الخلاف في أنّ القرض بِمَ يُملك؟ وفي كيفيّة البناء طريقان :

قال قائلون : إن قلنا : يُملك بالقبض ، جاز إقراضها ، وإلّا فلا ؛ لما في إثبات اليد من غير مالكٍ من خوف الوقوع في الوطئ.

وقال بعضهم : إنّا إن قلنا : يُملك بالقبض ، لم يجز إقراضها أيضاً ؛ لأنّه إذا ملكها فربّما يطؤها ثمّ يستردّها المقرض ، فيكون ذلك في صورة إعارة الجواري للوطي. وإن قلنا : لا يُملك بالقبض فيجوز ؛ لأنّه إذا لم يملكها لم يطأها(٣) .

تذنيب : الخلاف المذكور إنّما هو في الجارية التي يحلّ للمستقرض وطؤها ، أمّا المحرَّمة بنسبٍ أو رضاعٍ أو مصاهرة فلا خلاف في جواز

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجريّة : « منه». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) الوسيط ٣ : ٤٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٤ ، المغني ٤ : ٣٨٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٨٥ - ٣٨٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤: ٤٣١.

٣٧

إقراضها منه.

إذا ثبت هذا ، فإذا اقترض مَنْ ينعتق عليه ، انعتق بالقبض ؛ لأنّه حالة الملك.

مسألة ٣٣ : يجوز قرض الحيوان ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(١) - للأصل. ولأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله اقترض « بَكْراً » وردّ « بازلاً »(٢) . ولأنّه يثبت في‌ الذمّة بعقد السَّلَم ، فجاز أن يثبت في الذمّة بعقد القرض ، كالمكيل والموزون.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز القرض إلّا فيما له مثل من الأموال ، كالمكيل والموزون ؛ لأنّ ما لا مثل له لا يجوز قرضه ، كالجواهر والإماء(٣) .

ويُمنع حكم الأصل على ما تقدّم.

ولأنّ عند أبي حنيفة لو أتلف ثوباً ، ثبت في ذمّة المـُتْلِف مثله ، ولهذا جوّز الصلح عنه على أكثر من قيمة المـُتْلَف(٤) .

ولو سلّمنا الحكم في الجواهر ، فلأنّه لا يثبت في الذمّة سَلَماً ، بخلاف المتنازع.

ولو سلّمنا المنع في الأمة ، فلاحن القرض ملكٌ ضعيف ، فلا يباح به الوطؤ ، فلا يصحّ الملك. على أنّ الحقّ عندنا منع الحكم في الأصل.

مسألة ٣٤ : يجوز إقراض الخبز ، عند علمائنا - وهو أحد قولي

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٣ : ١٤ / ١٠٨٣ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٦ ، الهامش (٣)

(٣) حلية العلماء ٤ : ٣٩٧ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٥.

(٤) المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٥.

٣٨

الشافعي ، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل(١) - للحاجة العامّة إليه ، وإطباق الناس عليه.

ولأنّ الصباح بن سيابة سأله الصادقَعليه‌السلام : إنّا نستقرض الخبز من الجيران فنردّ أصغر أو أكبر، فقالعليه‌السلام : « نحن نستقرض الستّين والسبعين عدداً فتكون فيه الصغيرة والكبيرة فلا بأس»(٢) .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز - وهو القول الآخَر للشافعي - لأنّه ليس من ذوات الأمثال(٣) .

ونمنع حصر القرض في المثلي على ما تقدّم.

تذنيب : يجوز ردّ مثله عدداً أو وزناً وبه قال محمد بن الحسن(٤) للحديث السابق. ولقضاء العادة به.

وقال أبو يوسف : يردّ وزناً(٥) . وهو أحد قولي الشافعي(٦) . ولا بأس به.

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٠١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٤ ، المبسوط للسرخسي ١٤ : ٣١ ، الهداية للمرغيناني ٣ : ٦٦ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٩.

(٢) الفقيه ٣ : ١١٦ / ٤٩٣.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ١٤ : ٤٠١ ، بدائع الصنائع ٧ : ٣٩٥ ، الهداية للمرغيناني ٣ : ٦٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠١ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٤ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٩.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ١٤ : ٣١ ، بدائع الصنائع ٧ : ٣٩٥ ، الهداية للمرغيناني ٣ : ٦٦.

(٥) المبسوط - للسرخسي - ١٤ : ٣١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٦٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠١.

(٦) راجع الهامش (٢ و ٣ ) من ص ٣٩.

٣٩

وللشافعي قولٌ آخَر : إنّه يجب ردّ القيمة(١) .

والأصل في الخلاف أنّهم إن قالوا : يجب في المتقوّمات المثلُ من حيث الصورة ، وجب الردّ وزناً. وإن قالوا : تجب القيمة ، وجب هنا القيمة(٢) .

فإن شرط ردّ المثل ، فللشافعّية - على تقدير وجوب القيمة - وجها في جواز الشرط وعدمه(٣) .

مسألة ٣٥ : يجب في المال أن يكون معلوم القدر ليمكن قضاؤه.

ويجوز إقراض المكيل وزناً والموزون كيلاً كما في السلف ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٤) .

وقال القفّال : لا يجوز إقراض المكيل بالوزن ، بخلاف السَّلَم ، فإنّه لا يسوّى بين رأس المال والمـُسْلَم فيه. وزاد فقال : لو أتلف مائة منٍّ من الحنطة ، ضمنها بالكيل. ولو باع شقصاً. مشفوعاً بمائة منٍّ من الحنطة ، يُنظر كم هي بالكيل ، فيأخذه الشفيع بمثلها كيلاً(٥) .

والأصحّ في الكلّ الجواز.

الركن الثالث : الشرط.

يشترط في القرض أن لا يجرّ المنفعة بالقرض ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١١ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠١.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٥.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٧٥.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٣٢ ، وانظر : التهذيب للبغوي ٣ : ٥٤٦ ، وروضة الطالبين ٣ : ٢٧٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثُمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) .(١)

قال ابن عبّاس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به

وقد خُصّ بالكتاب المُنزَّل على نبيِّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار له كالعَلَم ، كما أنّ التوراة لمّا أُنزل على موسىعليه‌السلام ، والإنجيل لمّا أُنزل على عيسىعليه‌السلام

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قُرآناً من بين كتب اللّه ، لكونه جامعاً لثَمرَة كُتبِه ، بل لجمعه ثَمرَة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله :( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) .(٢)

وعلى هذا ، فالقرآن مِن قَرَأَ بمعنى : جمع ، ولكن يُحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (٣) ، أي : قراءته

الحلف بالكتاب :

حلف سبحانه بالكتاب مرَّتين وقال :

١ ـ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (٤)

٢ ـ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١٧ـ ١٨

(٢) الأنعام : ١٥٤

(٣) الإسراء : ٧٨

(٤) الدخان : ١ـ٣

(٥) الزخرف : ١ـ٣

٦١

فالمُقسَم به هو الكتاب ، والمُقسَم عليه في الآية الأولى قوله :( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصِلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه مُنزَّل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة

كما أنّ المُقسَم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمُقسَم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربيّاً للتعقّل ، والصِلة بينهما واضحة

ووُصف الكتاب بالمُبين دون غيره ؛ لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم ، كما جاء في الآيتين ، حيث قال :( إِنّا كُنّا مُنذرين ) ، وقال :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية ، أي : الإنذار والتعقّل ، يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً ، لا مجهولاً ومعقداً

والكتاب في الأصل مصدر ، ثُمّ سُمّي المكتوب فيه كتاباً

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب

بقي هنا الكلام في عظمة المُقسَم به

ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه ، حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة

وقد تكلّم غير واحد من المُفكّرين الغربيّين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونَستنطِقه حتى يُبدي رأيه في حقِّ نفسه

أ ـ القرآن نور ينير الطريق لطلاّب السعادة ، قال سبحانه :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (١)

ب ـ إنّه هدى للمُتَّقين ، قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (٢) فهو وإن كان هدى لعامّة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المُتَّقون ؛ ولذلك خصَّهم بالذِكر

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ١٥

(٢) البقرة : ٢

٦٢

ج ـ هو الهادي إلى الشريعة الأقوَم ، قال سبحانه :( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (١)

د ـ الغاية من إنزاله قيام الناس بالقِسط ، قال سبحانه :( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) .(٢)

هـ ـ لا يتطرَّق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ، ولا في مضامينه ولا محتواه ، قال سبحانه :( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (٣)

و ـ يحثّ الناس إلى التدبُّر والتفكّر فيه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (٤)

ز ـ تبيان لكلّ شيء :( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (٥)

ح ـ نذير للعالمين :( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (٦)

ط ـ فيه أحسن القَصص :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (٧)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٩

(٢) الحديد : ٢٥

(٣) النساء : ٨٢

(٤) ص : ٢٩

(٥) النحل : ٨٩

(٦) الفرقان : ١

(٧) يوسف : ٣

٦٣

ي ـ ضُرب فيه للناس من كلِّ مَثل :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (١)

هذه نماذج من الآيات الّتي تصف القرآن ببعض الأوصاف

وللنبي والأئمّة المعصومين كلمات قيِّمة حول التعريف بالقرآن ، ننقل شذرات منها :

قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، فقال :( أيّها الناس ، إنّكم في دار هُدنة ، وأنتم على ظَهرِ سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبليان كلّ جديد ، ويُقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المُجاز )

فقام المُقداد بن الأسود وقال : يا رسول اللّه ، و ما دار الهُدنة ؟

قال : ( دار بلاغٍ وانقطاعٍ .

فإذا التبست عليكم الفِتن كقطع اللّيل المُظلِم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافِع مُشفَّع وماحِل مُصدَّق ، ومَن جعله أَمامَه قادَه إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار

وهو الدليل ، يدلُّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفَصل ليس بالهَزل ، وله ظَهْر وبَطْن ، فظاهره حكم وباطنه عِلم ، ظاهره أنيق وباطنه عَميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبه ولا تبلَى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمَن عرف الصِفة

فليَجل جال بَصَره ، وليبلغ الصِفة نظره ، ينج مَن عطب ، ويتخلَّص مَن نشب ، فإنّ التَفكُّر حياة قلبِ البصير ، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحُسنِ التخلّص وقلَّة التربّص ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٥٤

(٢) الكافي : ٢/٥٩٩ ، كتاب فضل القرآن

٦٤

وقال الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصف القرآن :

( ثُمّ أنزلَ عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبُو توقُّده ،وبحراً لا يُدرك قعرُه ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا يَنزِفه المُستنزفون ، وعيون لا يُنضِبُها الماتِحُون ، ومناهل لا يَغيضُها الواردون ) (١)

إلى غير ذلك من الخُطب والكلم حول التعريف بالقرآن ، الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨

٦٥

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر

حلف سبحانه بالعصر مرّةً واحدة ، دون أن يقرنه بمُقسَمٍ به آخر ، وقال :( وَالعَصْر * إِنّ الإنْسانَ لَفي خُسْر ) (١)

تفسير الآيات :

العَصْر يُطلق ويراد منه تارة : الدَهر ، وجَمْعه عصور

وأُخرى : العَشيّ مقابل الغداة ، يُقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران : الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر

وثالثة : بمعنى الضَغْط ، فيكون مصدر عَصَرْتُ ، والمَعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصَر ، قال سبحانه :( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (٢) ، وقال :( وفيهِ يَعْصِرُون ) (٣) ، وقال :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (٤) أي : السُّحُب الّتي تعتصرُ بالمَطَر

ورابعة : بمعنى ما يُثير الغبار ، قال سبحانه :( فَأَصابَها إعصار ) (٥) .(٦)

والمُراد من الآية أحد المَعنيين الأوّليين :

الأوّل : الدَهر والزمان

الثاني : العَصْر مقابل الغداة

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع ، كما هو واضح

ــــــــــــــــ

(١) العصر : ١ـ٢

(٢) يوسف : ٣٦

(٣) يوسف : ٤٩

(٤) النبأ : ١٤

(٥) البقرة : ٢٦٦

(٦) مفردات القرآن : مادّة عصر ، و مجمَع البيان : ٥/٥٣٥

٦٦

وإليك بيان المَعنَيين الأوّلين

١ ـ العَصْر : الدَهْر . وإنّما حلف به ؛ لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار

وقد نُسب ذلك القول إلى ابن عبّاس ، والكلبي ، والجبائي

قال الزَمخشري : وأقسَمَ بالزمان ؛ لما في مروره من أصناف العجائب(١)

ولعلّ المُراد من الدهر والزمان اللّذين يُفسِّرون بهما العصر هو تاريخ البشريّة ؛ وذلك لأنّه سبحانه جعل المُقسَم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصّة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو مِن تصرّم عُمْره ، ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده

وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة ، نأتي بنصِّها :

قال : وعن بعضِ السَلَف ، تعلّمتُ معنى السورة من بائع الثلج ، كان يصيح ويقول : ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خُسْر ؛ يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ، فإذا هو خاسر(٢)

٢ ـ العصر : أحدُ طَرفَي النهار . وأقسم بالعَصر كما أَقسم بالضُحى ، وقال :( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (٣) ، كما أقسم بالصبح وقال :( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (١)

وإنّما أقسَمَ بالعَصرِ لأهمّيّته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المَعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليوميّة تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٥٧

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٣٢/٨٥

(٣) الضحى : ١ـ٢

٦٧

وهناك قولان آخران :

أ ـ المرادُ عَصْر الرسول ذلك لما تضمَّنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمَن اتَّبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكّد على أن يكون المراد من العصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري ، وظهور الحقّ على الباطل

ب ـ المراد به وقت العصر وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسَمَ بها ، لفضلها ، بدليل قوله :( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (٢) ، كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (٣) هو صلاة العصر

أضف إلى ذلك ، أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبةِ تُختَم بها الأعمال.

ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف ؛ إذ لا صِلة بين القَسَم بصلاة العصر والمُقسَم عليه ، أعني :( الإنْسان لفي خُسر ) ، على أنّه لو كان المُقسَم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه وحذف المضاف ، مع عدم توفُّر قرينة عليه ؟! ومنه يظهر حال الوجه المُتقدّم عليه

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ؛ حيث أنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي : خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثّر : ٣٤

(٢) البقرة : ٢٣٨

(٣) المائدة : ١٠٦

٦٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر ) ، والمراد من الخسران هو : مضيّ أثمَن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسانُ في كلّ لحظة يفقد رأس ماله ، بنحوٍ لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سُنَّة الحياة الدنيويّة ، حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأيُّ خسران أعظم من ذلك ؟!

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فأوضح من أن يخفى ؛ لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة مُتصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان ، فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج

ثُمّ أنّه سبحانه استثنى من الخسران مَن آمن وعمل صالحاً ، وتواصى بالحقِّ وتواصى بالصبر

ووجه الاستثناء واضح ؛ لأنّه بدَّلّ رأس ماله بشيء أغلى وأثمَن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المُنقضي ، فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ونِعمه المادِّية والمعنويّة

يقول سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١١

٦٩

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم

وردتْ كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور(١) ، وحلف به مرَّة واحدة وقال :( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وهي من السور المكِّية

تفسير الآيات :

النَجْمُ في اللغة : الكوكب الطالِع ، وجمعه نُجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب

وأمّا ( هوى ) في قوله :( إِذا هَوى ) ، فيُطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علوٍ إلى سفل

ولكنّ تفسيره بسقوط النجم وغروبه لا يُساعده اللفظ ، وإنّما المُراد هو ميله

وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى ، أي : إذا مالَ

ثُمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ ـ أمّا مُطلَق النجم ، فيشمل كافّة النجوم الّتي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ، ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها

ــــــــــــــــ

(١) وهي : النحل : ١٦ ، النجم : ١ ، الرحمن : ٦ ، الطارق : ٣

(٢) النجم : ١ـ٤

٧٠

ب ـ المراد هو نجم الشِعْرَى ، الّذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه :( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (١)

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثُريّا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستَّة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه تُختبر قوَّة البَصَرِ

وربّما فُسّر بالقرآن الّذي نزل على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة ٢٣ سنة ؛ لنزوله نجوماً(٢) ، لكنّ لفظ الآية لا يُساعد على هذا المعنى ، فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامّة النجوم ، أو بنجم خاصِّ يهتدي به السائر

ويدلّ على ذلك أنّه قيَّد القَسَم بوقت هويِّه ، ولعلّ الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرضِ لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق(٣)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى )

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغَيِّ فنفاهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآنُ يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (٤)

ــــــــــــــــ

(١) النجم : ٤٩

(٢) انظر الميزان : ١٩/٢٧ ، مجمع البيان : ٥/١٧٢

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٧٩

(٤) المائدة : ١٠٥

٧١

كما يستعمل الغَيّ في مقابل الرُشد ، يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (١)

والمُهمُّ بيان الفرق بين الضلالةِ والغواية ، فنقول :

ذكرَ الرازي : أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصَده طريقاً أصلاً ، والغِواية أن لا يكون له طريق مُستقيم إلى المقصَد يدلّك على هذا أنّك تقول للمؤمن الّذي ليس على طريق السَداد : إنّه سَفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضالّ ، والضالّ كالكافر ، والغاوي كالفاسق(٢)

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهلٌ من اعتقادٍ فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني يُقال له : غَيّ(٣)

وعلى هذا ، فالآية بصَدَد بيان نفي الضلالة والغَي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليردّ به التُهم المُوجّهة إليه من جانب أعدائه

وأمّا بيان الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوى والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي : بقوله وفعله وتقريره

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينيّة ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي المُوحى إليه ، ولذلك قال :( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى )

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٦

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٨٠

(٣) مفردات الراغب : ٣٦٩

٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

حَلَفَ سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (١)

تفسير الآيات :

المُراد من مواقع النجوم مساقِطها حيث تغيب

قال الراغب : الوقوع : ثبوت الشيء وسقوطه ، يُقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالِعها ومَغاربها ، يقال : مواقع الغَيث أي : مَساقِطه(٢)

ويدلُّ على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها ، أنّ اللّه سبحانه يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجَريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (٣) ، وقال :( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) ، وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب )

ــــــــــــــــ

(١) الواقعة : ٧٥ـ ٧٩

(٢) مفردات الراغب : ٥٣٠ ، مادَّة وَقَعَ

(٣) التكوير : ١٥ـ ١٦ .

٧٣

ويرجح هذا القول أيضاً : أنّ النجوم حيث وقعت في القرآن ، فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى :( وَإدْبار النُّجوم ) (١) ، وقوله :( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (٢)

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون )

وصفَ القرآن بصفاتٍ أربع :

أ ـ ( لقُرآنٌ كَريم ) والكريم هو البَهيّ الكثير الخير العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله ـ أعني القرآن ـ مثله

وقال الأزهري : الكريم : اسم جامع لما يُحمَد ، فاللّه كريم يُحمَد فِعاله ، والقرآن كريم يُحمَد ؛ لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة

ب ـ( في كتابٍ مَكنُون ) ولعلّ المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله :( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (٣) ويُحتمَل أن يكون المراد الكتاب الّذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه :( في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَررَةٍ ) (٤)

ج ـ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهَّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله :( لقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادَر ، لأنّ الآيات بصَدَد وصفه وبيان منزلته ، فلا يمسّ المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه :( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ٤٩

(٢) الحجّ : ١٨

(٣) البروج : ٢١ ـ ٢٢

(٤) عبس : ١٣ ـ ١٦

(٥) البقرة : ٢٢٨

٧٤

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتابٍ مَكنُون ) ، فيكون المعنى لا يمسّ الكتاب المَكنون إلاّ المطهَّرون

وربّما يُؤيَّد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وأنّ محلّه لا يصل إليه ، فلا يمسّه إلاّ المطهّرون ، فيستحيل على أخابثِ خلق اللّه وأنجسِهم أن يصلوا إليه أو يَمسُّوه ، قال تعالى :( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (١)

د ـ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الّذي يُركِّز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وأنّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر

وأمّا الصِلة بين القَسَمِ والمُقسَم به فهو واضح ؛ فلاَنّ النجوم بمواقعها ـ أي طلوعها وغروبها ـ يهتدي بها البشر في ظلمات البرِّ والبحر ، فالقرآن الكريم كذلك ، يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغَي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادَّة ، كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنويَّة في عالم المُجرَّدات

إكمال :

إنّه سبحانه قال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) ، فالمراد منه القَسَم بلا شكّ ، بشهادة أنّه قال بعده :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) ، فلو كان معنى الآية هو نفي القَسَم ، فلا يُناسب ما بعده ؛ حيث يصفه بأنّه حلف عظيم

وقد اختلف المفسِّرون في هذه الآيات ونظائرها إلى أقوال :

١ ـ ( لا ) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :( لئلاّ يَعْلَم )

٢ ـ أصلها ( لأُقسِمُ ) بلام التأكيد ، فلمّا أُشبعَت فتحتها صارت ( لا ) كما في الوقف

٣ ـ ( لا ) نافية ، بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المُخاطَب ، ثُمّ الابتداء بالقَسَمِ ، كما نقول : لا واللّه ، لا صحَّة لقول الكفّار ، أُقسِم عليه

ــــــــــــــــ

(١) الشعراء : ٢١٠ـ٢١١

٧٥

ثُمّ إنّه سبحانه يصف هذا القَسَم بكونه عظيماً ، كما في قوله :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عظيم ) وصف ( القَسَم ) ، أُخِّر لحفظِ فواصل الآيات

وهذا القَسَم هو القَسَم الوحيد الّذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم

فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا وفي كلّ المَجرّات

ولأنّها كلّها تتحرَّك ، فإنّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المُعقَّدة الّتي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاصّ به ، وحفظته في علاقات متوازنة دقيقة مُحكمَة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغيَّر سُنَنها وقوانينها ، وهي لا تسير خَبطَ عَشواء ، أو في مساراتٍ متقاطعةٍ أو متعارضة ، بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم ، وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه(١)

يقول الفلكيُّون : إنّ من هذه النجوم والكواكب ـ الّتي تزيد على عدَّة بلايين نجم ـ ما يمكن روَيته بالعين المُجرَّدة ، وما لا يُرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تَحسَّ به الأجهزة دون أن تراه

هذه كلّها تسبحُ في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجمٍ من مجال نجمٍ آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر ، إلاّ كما يُحتمَل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسّط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتّجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ١٩٢

(٢) اللّه والعلم الحديث : ٢٤

٧٦

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك

حَلَفَ سبحانه في سورة الذاريات بأُمورٍ خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما أنّ المُقسَم عليه مُتعدِّد ؛ فصلنا القَسَم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القَسَمِ المُفرَد

قال سبحانه :( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (١)

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله :( إِنّما تُوعَدُون لَصادِق * وانّ الدِّين لواقِع )

ثُمّ شرع بحلفٍ آخر ، وقال :( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ * إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (٢)

فهناك قَسَم خامس وهو : ( والسماء ذات الحُبُك ) ، وله جواب خاصّ لا يمتّ لجواب الأقسام الأربعة ، وهو قوله :( إِنَّكُمْ لَفي قولٍ مختلِف )

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ ٦

(٢) الذاريات : ٧ـ ٨

٧٧

تفسير الآيات :

الحُبُك : جمع الحِباك ، كالكتب جمع كتاب ، تُستعمَل تارة في الطرائق ، كالطرائق الّتي تُرى في السماء ، وأُخرى في الشَعْرِ المجعد ، وثالثة في حُسن أثرِ الصنعة في الشيء واستوائه

قال الراغب :( والسَّماء ذات الحُبُك ) أي : ذات الطرائق ، فمن الناس مَن تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّة

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل ، أي : السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيّده جواب القَسَم ، وهو اختلاف الناس وتشتُّت طرائقهم ، كما في قوله :( إنّكم لفي قولٍ مختلِف )

وربّما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث ، أي : أُقسم بالسماء ذات الحُسنِ والزينة ، نظير قوله تعالى :( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) .(١)

ولكنّه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلفَ حالِف بالأمواج الجميلة الّتي ترتَسِم بالسُحب أو بالمجرّات العظيمة ، الّتي تبدو كأنّها تجاعيد الشَعْرِ على صفحة السماء ، ثُمّ يقول :( إِنّكم لفي قولٍ مختلِف ) ، أي : إنّكم متناقضون في الكلام

وعلى كلّ حال ، فالمُقسَم عليه هو : التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم ، فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتهم عظاماً رميم ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبويّة ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو ممّا علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوَّلين

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم ، إذ لا تعتمدون على دليلٍ خاصّ ، فانّ تناقض المُدَّعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ٦

٧٨

ثُمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصَّاً بشخصٍ أو بطائفة ، بل هو شيمة كلّ مُخالِف للحقِّ يقول :( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) . (١)

والأفْك : الصَرف ، والضمير في ( عنه ) يرجع إلى الكتاب ، من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء ، أي : يُصرَف عن القرآن من صُرف وخالفَ الحقّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فقد ظهر ممّا ذكرنا ؛ لما عرفتَ من أنّ معنى الحُبُك هو الطرائق المختلفة المتنوِّعة ، فناسب أن يحلفَ به سبحانه على اختلافهم وتشتّت آرائهم ، في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته ، والكتاب الّذي أُنزل معه ، والمعاد الّذي يدعو إليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٩

٧٩

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

١ ـ الصافّات ، ٢ ـ الذاريات ، ٣ ـ المُرسلات ، ٤ ـ النازعات

وليس المُقسَم به هو لفظ المَلَكِ أو الملائكة ، وإنّما هو الصِفات البارزة للملائكة ، وأفعالها ، وإليك الآيات :

١ ـ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) .(١)

٢ ـ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (٢)

٣ ـ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١ـ٤

(٢) الذاريات : ١ـ٦

(٣) المُرسَلات : ١ـ٧

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400