تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125392 / تحميل: 5207
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

ولو جنى على مال الغير ، تعلّقت الجناية برقبته يتبع به بعد عتقه عندنا.

وقال أحمد : يتعلّق بالعبد أيضاً ، ويقدَّم على حقّ المرتهن ، كالجناية على النفس(١) .

وليس بشي‌ء.

إذا عرفت هذا ، فلو أقرّ المرتهن بأنّ العبد المرهون عنده جنى وساعده العبد ، أو لا(٢) ، لم يُقبل من المرتهن في حقّ الراهن ، بل يقدَّم قول الراهن مع يمينه ؛ لأنّه المالك ، وضرر الجناية يعود إليه.

فإذا بِيع في [ دَيْن ](٣) المرتهن ، لم يلزمه تسليم الثمن إليه بإقراره السابق ؛ لأنّ العبد إذا كان جانياً ، لم يصح بيعه للمرتهن ؛ لتعلّق حقّ المجنيّ عليه [ به ](٤) وإذا لم يصح بيعه ، كان الثمن باقياً على ملك المشتري. وإن لم يكن جانياً ، فلا حقّ فيه لغير المرتهن ، وقد أقرّ بعدم استحقاقه له.

ولو أقرّ الراهن بالجناية وأنكر المرتهن ، فالقول قوله مع اليمين ؛ لأصالة عدم الجناية ، واستصحاب الرهن.

فإذا بِيع في الدَّيْن ، فلا شي‌ء للمُقرّ له على الراهن ؛ لأنّ الراهن لا يغرم جناية الرهن ، ولم يُتلف برهنه شيئاً للمُقرّ له ؛ لأنّ الرهن سابق على الجناية ، بخلاف ما لو أقرّ بجناية أُمّ الولد حيث يغرم للمُقرّ له وإن كان الاستيلاد سابقاً على الجناية ؛ لأنّ السيّد يغرم جناية أُمّ الولد.

____________________

(١) المغني ٤ : ٤٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٧٨.

(٢) أي : أو لم يساعده.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في « ج ، ر » والطبعة الحجريّة : « يد ». وهي ساقطة في « ث ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

٣٤١

وقال بعض الشافعيّة : يُقبل إقرار الراهن ، ويُباع العبد في الجناية ، ويغرم الراهن للمرتهن(١) .

وليس بشي‌ء.

هذا إذا تنازعا في جنايته بعد لزوم الرهن ، فإن تنازعا فيها قبل لزوم الرهن ، فإن أقرّ الراهن بأنّه كان قد أتلف مالاً - عندهم(٢) - أو جنى على نفسٍ جنايةً توجب المال ، فإن لم يعيّن المجنيّ عليه أو عيّنه لكن كذّبه ولم يدّع ذلك ، فالرهن مستمرّ بحاله.

وإن عيّنه وادّعاه المجنيّ عليه ، فإن صدّقه المرتهن ، بِيع في الجناية ، وثبت للمرتهن الخيارُ في البيع المشروط فيه الرهن ؛ لعدم سلامته له.

وإن كذّبه المرتهن ، لم يُقبل إقراره - وهو أصحّ قولي الشافعي ، وبه قال أبو حنيفة(٣) - لما فيه من إبطال حقّ المرتهن ، والتهمة فيه ظاهرة ؛ لجواز أن يكون الراهن والمـُقرّ له قد تواطئا على ذلك بحيث يرتفع الرهن.

والقول الثاني للشافعي : أنّه يُقبل ؛ لأنّ الراهن مالك فيما أقرّ به ، فلا تهمة في إقراره(٤) .

وهو ممنوع.

وكذا القولان لو أقرّ العبد بسرقة وقبلناه في القطع ، هل يُقبل في المال؟

وكذا لو قال الراهن : كنت غصبته ، أو اشتريته شراءً فاسداً ، أو بعته قبل أن رهنته أو وهبته وأقبضته.

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٥.

٣٤٢

وكذا لو قال : كنت أعتقته(١) .

قال بعض الشافعيّة : ولا حاجة في هذه - صورة العتق - إلى تصديق العبد دعواه ، بخلاف سائر الصور(٢) .

وفي الإقرار بالعتق قولٌ ثالث : إنّه إن كان موسراً ، نفذ ، وإلّا فلا ، تنزيلاً للإقرار بالإعتاق منزلة الإعتاق(٣) .

ونقل بعض الشافعيّة الأقوال الثلاثة للشافعي في جميع الصور(٤) .

فإن قلنا : لا يُقبل إقرار الراهن ، فالقول في بقاء الرهن قول المرتهن مع يمينه يحلف على نفي العلم بالجناية.

وإذا حلف واستمرّ ، فهل يغرم الراهن للمجنّي عليه؟ الوجه عندنا : أنّه لا يغرم ؛ لأنّه أقرّ في رقبة العبد بما لم يُقبل إقراره ، فكأنّه لم يقرّ ، وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني - وهو الأصحّ عندهم - : أنّه يغرم ، كما لو قتله ؛ لأنّه حال بينه وبين حقّه(٥) .

وكذا القولان فيما إذا أقرّ بدارٍ لزيد ثمّ أقر لعمرو ، هل يغرم لعمرو؟ الوجه : ذلك ؛ لأنّه بالإقرار الأوّل حالَ بين مَن اعترف باستحقاقه ثانياً وبين حقّه.

فإن قلنا : يغرم ، طُولب في الحال إن كان موسراً. وإن كان معسراً فإذا أيسر.

وفيما يغرم للمجنيّ عليه؟ طريقان للشافعيّة.

قال بعضهم : أصحّ القولين أنّه يغرم الأقلّ من قيمته وأرش الجناية.

____________________

(١ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٥.

٣٤٣

وثانيهما : أنّه يغرم الأرش بالغاً ما بلغ.

وقال أكثرهم : يغرم الأقلّ بلا خلافٍ ، كما أنّ أُمّ الولد لا تفتدى إلّا بالأقلّ إذا جنت ؛ لامتناع البيع ، بخلاف العبد القِنّ(١) .

وإن قلنا : لا يغرم الراهن [ فإن ](٢) بِيع في الدَّيْن ، فلا شي‌ء عليه ، لكن لو ملكه يوماً ، فعليه تسليمه في الجناية. وكذا لو انفكّ الرهن عنه.

هذا إذا حلف المرتهن ، فإن نكل فعلى مَنْ تُردّ اليمين؟ فيه قولان للشافعيّة :

أحدهما : على الراهن ؛ لأنّه المالك للعبد ، والخصومة تجري بينه وبين المرتهن.

وأصحّهما عندهم : على المجنيّ عليه ؛ لأنّ الحقّ فيما أقرّ له ، والراهن لا يدّعي لنفسه شيئاً(٣) .

وهذا الخلاف عند بعضهم مبنيّ على أنّه لو حلف المرتهن ، هل يغرم الراهن للمجنيّ عليه؟ إن قلنا : نعم ، تُردّ على المجنيّ عليه ؛ لأنّ الراهن لا يستفيد باليمين المردودة شيئاً ، والمجنيّ عليه يستفيد بها إثبات دعواه ، وسواء قلنا : تُردّ اليمين على الراهن أو المجنيّ عليه ، فإذا حلف المردود عليه ، بِيع العبد في الجناية ، ولا خيار للمرتهن في فسخ البيع إن كان الرهن مشروطاً في بيعٍ ؛ لأنّ إقرار الراهن إذا لم يُقبل لا يفوت عليه شي‌ء ، وإنّما يلزم الفوات من النكول(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٦.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في « ج » والطبعة الحجريّة : « إن ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٧.

٣٤٤

ثمّ إن كان الأرش يستغرق قيمة العبد ، بِيع كلّه ، وإلّا بِيع منه بقدر الأرش.

وهل يكون الباقي رهناً؟ فيه وجهان : أصحّهما عندهم : لا ؛ لأنّ اليمين المردودة كالبيّنة ، أو كإقرار المرتهن بأنّه كان جانياً في الابتداء ، فلا يصحّ الرهن في شي‌ء منه(١) .

وإذا رددنا على الراهن فنكل ، فهل تُردّ الآن على المجنيّ عليه؟ قولان :

أحدهما : نعم ؛ لأنّ الحقّ له ، فلا ينبغي أن يبطل بنكول غيره.

وأشبههما : لا ؛ لأنّ اليمين لا تُردّ مرّةً بعد مرّة ، فحينئذٍ [ نكول الراهن كحلف(٢) ] المرتهن في تقرير الرهن(٣) .

وهل يغرم الراهن للمُقرّ له؟ فيه القولان(٤) .

وإن رددنا على المجنيّ عليه فنكل ، سقطت دعواه ، وانتهت الخصومة ، عند بعضهم(٥) .

وردّ آخَرون على الراهن. وإذا لم تُردّ ، لم يغرم الراهن قولاً واحداً ، ويحال بالحيلولة على نكوله(٦) .

هذا إذا قلنا : إنّ الراهن لا يُقبل إقراره ، أمّا إذا قلنا : إنّه يُقبل ، فهل يحلف أم يُقبل قوله من غير يمين؟ قولان :

أحدهما : لا يحلف ؛ لأنّ اليمين للزجر والتخويف ليرجع عن قوله إن‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٦.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « الراهن يحلف ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٣ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٦.

٣٤٥

كان كاذباً ، وهنا لا سبيل إلى الرجوع.

وأصحّهما عندهم : أنّه يحلف لحقّ المرتهن ، وعلى هذا فيحلف على البتّ ؛ لأنّه حلفٌ على الإثبات(١) .

وسواء قلنا بالتحليف أو عدمه ، فيُباع العبد في الجناية إمّا كلّه أو بعضه على ما مرّ ، وللمرتهن الخيار في فسخ البيع الذي شرط فيه هذا الرهن ، وإن نكل ، حلف المرتهن ؛ لأنّا إنّما حلّفنا الراهن لحقّه ، فالردّ يكون عليه.

و [ ما ](٢) فائدة حلفه؟ فيه قولان :

أحدهما : أنّ فائدته تقرير الرهن في العبد على ما هو قياس الخصومات.

والثاني : أنّ فائدته أن يغرم الراهن قيمته لتكون رهناً مكانه ، ويُباع العبد في الجناية بإقرار الراهن.

فإن قلنا بالأوّل ، فهل يغرم الراهن للمُقرّ له ؛ لأنّه بنكوله حالَ بينه وبين حقّه؟ قولان سبقا.

وإن قلنا بالثاني ، فهل للمرتهن الخيار في فسخ البيع الذي شرط فيه هذا الرهن؟ فيه وجهان يُنظر في أحدهما إلى حصول الوثيقة. والثاني [ إلى ](٣) أنّ عين المشروط لم يسلم(٤) .

وإن نكل المرتهن ، بِيع العبد في الجناية ، ولا خيار في البيع ، ولا غرم على الراهن.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٧ - ٥٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٦.

(٢ و ٣) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٦ - ٣٥٧.

٣٤٦

ولو أقرّ بالعتق وقلنا : إنّه لا يُقبل إقراره ، قال الشافعي : إنّه يُجعل ذلك كإنشاء الإعتاق حتى تعود فيه الأقوال ؛ لأنّ مَنْ ملك إنشاء أمرٍ قُبل إقراره به(١) .

وقيل : فيه وجهان وإن حكمنا بنفوذ الإنشاء ؛ لأنّه ممنوع من الإنشاء شرعاً وإن نفذناه إذا فعل ، كما أنّ إقرار السفيه بالطلاق مقبول كإنشائه(٢) (٣) .

ولو أقرّ بإتلاف مالٍ ، ففي قبوله وجهان ؛ لأنّه ممنوع من الإتلاف شرعاً(٤) .

قالوا : وجميع ما ذكرناه في مسألة الإقرار بالجناية مبنيّ على أنّ رهن الجاني لا يجوز ، أمّا إذا جوّزناه ، فعن بعض الشافعيّة أنّه يُقبل إقراره لا محالة حتى يغرم للمجنيّ عليه ويستمرّ الرهن(٥) .

وقال آخَرون : يطّرد فيه القولان(٦) .

ووجه عدم القبول : أنّه يحلّ بلزوم الرهن ؛ لأنّ المجنيّ عليه يبيع المرهون لو عجز عن أخذ الغرامة من الراهن(٧) .

ولو أقرّ بجنايةٍ توجب القصاص ، لم يُقبل إقراره على العبد. ولو قال : ثمّ عفي على مالٍ ، فهو كما لو أقرّ بما يوجب المال.

مسألة ٢٢٥ : إذا وطئ جاريته ولم يظهر بها حَمْلٌ ، جاز رهنها وإن احتمل أنّها حملت ؛ لأنّ الأصل عدم الإحبال ، فلا يمتنع من التصرّف لذلك‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٧.

(٢) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « بإنشائه ». والصحيح ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٨.

(٥ - ٧) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٧.

٣٤٧

الاحتمال.

فإن ظهر بها حَمْلٌ فإن كان لدون ستّة أشهر من حين الوطئ ، لم يلحق به الولد ، وكان مملوكاً، والرهن بحاله.

وكذا لو كان لأكثر من مدّة الحمل ، وهو سنة نادراً عندنا ، وأربع سنين عند الشافعي(١) .

وإن كان لستّة أشهر فأكثر إلى سنة عندنا وإلى أربع سنين عند الشافعي(٢) ، لحق به الحمل ، وصارت أُمَّ ولدٍ ، وكان الولد حُرّاً لاحقاً به.

وهل يثبت ذلك في حقّ المرتهن؟ يُنظر فإن كان إقراره بالوطء قبل الرهن أو بعده قبل القبض ، إن جعلنا القبض شرطاً ، ثبت في حقّ المرتهن ، وخرجت من الرهن ؛ لأنّه أقرّ في حالةٍ ثبت ، ولم يثبت حقّ المرتهن في الرهن ، وخرجت من الرهن.

وكذا لو كان إقراره بعد لزوم الرهن وصدّقه المرتهن أو قامت عليه بيّنة ، فتكون أُمَّ له ، ولدٍ ويبطل الرهن.

وللمرتهن فسخ البيع الذي شرط فيه رهنها.

وقال بعض الشافعيّة : لا خيار له ؛ لأنّه قبضها مع الرضا بالوطئ ، فهو بمنزلة العيب(٣) .

وقال بعضهم : إن كان قد أقرّ بالوطئ قبل العقد ، فلا خيار له. وإن كان بعد [ العقد ](٤) فله الخيار(٥) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٧.

(٣ و ٥) حلية العلماء ٤ : ٤٦٣.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « القبض » والظاهر ما أثبتناه كما في المصدر.

٣٤٨

وقال بعضهم : يثبت له الخيار بكلّ حال ؛ لأنّ الوطء لا يمنع صحّة عقد الرهن ، ولا يثبت الخيار للبائع ، وإذا شرط ارتهانها وأقرّ السيّد بالوطئ ، لم يثبت له بذلك الخيارُ ، فلم يكن قبضها رضاً بالحمل الذي يؤول إليه الوطؤ ، ولأنّا إذا جعلنا الظاهر عدمه ، فلا نجعل رضاه بالوطئ رضاً به ، فلم يسقط حقّه بذلك(١) .

فأمّا إذا أقرّ بالوطئ بعد ما قبضها المرتهن وكذّبه المرتهن ، فللشافعي قولان :

أحدهما : يُقبل إقراره لثبوت الاستيلاد ؛ لأنّه أقرّ في ملكه بما لا تهمة عليه ، لأنّه يستضرّ بذلك ، فيخرج من الرهن ، وبقي الدَّيْن في ذمّته ، فلزم إقراره.

والثاني : لا يُقبل ؛ لأنّه أقرّ بما فسخ به عقداً على غيره ، فلم يُقبل ، كما لو باع جاريةً ثمّ أقرّ بعتقها قبل البيع(٢) .

وكذا القولان فيما إذا رهن عبداً وأقبضه ثمّ أقرّ بأنّه جنى على إنسان ، أو أعتقه.

وعلى كلّ حال فالولد حُرٌّ ثابت النسب عند الإمكان.

ولو لم يصادف ولداً في الحال وزعم الراهن أنّها ولدت منه قبل الرهن ، ففيه الخلاف.

مسألة ٢٢٦ : لو أقرّ بجناية يقصر أرشها عن قيمة العبد ومبلغ الدَّيْن ، قُبل في مقدار الأرش على الخلاف السابق ، ولا يُقبل فيما زاد على ذلك ؛ لظهور التهمة فيه.

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٦٣.

(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٦٣ ، المغني ٤ : ٤٣٩.

٣٤٩

وقيل بطرد الخلاف(١) .

ولو باع عبداً ثمّ أقرّ بأنّه كان قد غصبه أو باعه أو أنّه اشتراه شراءً فاسداً ، لم يعتد بقوله ؛ لأنّه إقرار في ملك الغير ، فيكون مردوداً ظاهراً ، بخلاف إقرار الراهن ، فإنّه إقرار في ملكه.

وقال بعض الشافعيّة : يجري فيه الخلاف المذكور(٢) .

والحقُّ : الأوّل ، فيكون القولُ قولَ المشتري.

فإن نكل ، فالردّ على المدّعي أو على المُقرّ البائع؟ فيه قولان(٣) .

ولو آجر عبداً ثمّ أقرّ بأنّه كان قد باعه أو آجره أو أعتقه ، لم يُقبل.

وفيه الخلاف المذكور للشافعيّة في الرهن ؛ لبقاء الملك(٤) .

ولو كاتبه ثمّ أقرّ بما لا تصحّ معه الكتابة ، جرى فيه الخلاف السابق(٥) . والوجه : عدم القبول ؛ لأنّ المكاتب بمنزلة مَنْ زال الملك عنه.

مسألة ٢٢٧ : لو أذن المرتهن في بيع الرهن وباع الراهن ورجع المرتهن [ عن ](٦) الإذن ثمّ اختلفا ، فقال المرتهن : رجعتُ قبل أن بعتَ فيبطل بيعك ويبقى المال رهناً كما كان. وقال الراهن : بل كان رجوعك بعد البيع ، قال الشيخرحمه‌الله : يقدَّم قولُ المرتهن ؛ لأنّ الراهن يدّعي بيعاً والأصل عدمه ، والمرتهن يدّعي رجوعاً والأصل عدمه ، فتعارض الأصلان ، ولم يمكن العمل بهما ولا بأحدهما ؛ لعدم الأولويّة ، فسقطا ، والأصل بقاء‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٣٩.

(٢ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٨.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في « ج » والطبعة الحجريّة : « على ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٥٠

الوثيقة حتى يُعلم زوالها(١) . وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني : أنّ القول قول الراهن ؛ لتقوّي جانبه بالإذن الذي سلّمه المرتهن(٢) .

وقال بعضهم : إن قال الراهن أوّلاً : تصرّفتُ بإذنك ، ثمّ قال المرتهن : كنت رجعت قبله ، فالقول قول الراهن مع يمينه. وإن قال المرتهن أوّلاً : رجعتُ عمّا أذنتُ ، فقال الراهن : كنت تصرّفتُ قبل رجوعك ، فالقول قول المرتهن مع يمينه ؛ لأنّ الراهن حينما أخبر لم يكن قادراً على الإنشاء(٣) . ولو أنكر الراهن أصلَ الرجوع ، فالقول قوله مع اليمين ؛ لأنّ الأصل عدم الرجوع.

مسألة ٢٢٨ : لو كان على إنسان لآخَر ألفان : ألف بِرَهْنٍ ، وألف بغير رهن ، فسلّم المديون إليه ألفاً ثمّ اختلفا ، فقال الراهن : دفعت إليك وتلفّظت لك أنّها على الألف التي بالرهن ، وقال المدفوع إليه : بل دفعتها عن الألف الاُخرى ، فالقول قول الدافع ؛ لأنّه أعلم بما دفعه ، ولأنّه يقول : إنّ الدَّيْن الباقي بلا رهن ، والقول قوله في أصله فكذلك في صفته.

وإن اتّفقا على أنّه لم يتلفّظ بشي‌ء وقال الدافع : نويتها عن الألف التي بالرهن ، وقال المرتهن : بل أردت بذلك الألفَ الاُخرى ، فالقول قول الدافع أيضاً ؛ لما تقدّم ، ولأنّه أعلم بنيّته.

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٠٩ - ٢١٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٨.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨ ، وعنه في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٠ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٥٨.

٣٥١

وكذا البحث لو كان [ بأحدهما ](١) كفيلٌ ، أو كان أحدهما حالّا أو ثمنَ مبيعٍ محبوس ، فقال : سلّمته عنه ، وأنكر صاحبه.

والاعتبار في أداء الدَّيْن بقصد المؤدّي حتى لو ظنّ المستحقّ أنّه يودعه عنده وقصد المديون أداء الدَّيْن ، برئت ذمّته ، وصار المؤدّى ملكاً للمستحقّ.

إذا عرفت هذا ، فإن كان عليه دَيْنان فأدّى عن أحدهما بعينه ، وقع عنه. فإن أدّى عنهما ، قُسّط على الدَّيْنين.

وإن لم يقصد في الحال شيئاً ، احتمل توزيعه على الدَّيْنين ؛ لعدم الأولويّة ، ومراجعتُه حتى يصرفه الآن إلى أيّهما شاء ، كما لو كان له مالان : حاضر وغائب ، ودفع زكاةً إلى المستحقّين ولم يعيّن بالنيّة أحدهما ، صرفها إلى ما شاء منهما.

وكلا الاحتمالين للشافعيّة قولان مثلهما(٢) .

وتردّد بعضهم في الاحتمال الأوّل هل يوزّع على قدر الدَّيْنين أو على المستحقّين بالسويّة؟(٣) .

ولهذه المسألة نظائر :

منها : لو تبايع كافران درهماً بدرهمين وسلّم مشتري الدرهم أحدَ الدرهمين ثمّ أسلما ، إن قصد تسليمه عن الفضل ، فعليه الأصل. وإن قصد تسليمَه عن الأصل ، فلا شي‌ء عليه. وإن قصد تسليمه عنهما ، وزّع عليهما ،

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « أحدهما ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٥٩.

٣٥٢

وسقط ما بقي من الفضل. وإن لم يقصد شيئاً ، فالوجهان.

ومنها : لو كان لزيدٍ عليه مائة ولعمرو مائة ثمّ وكّلا وكيلاً بالاستيفاء فدفع المديون لزيدٍ أو لعمرو ، انصرف إلى مَنْ قصده. وإن أطلق ، فالوجهان.

ومنها : لو قال : خُذْه وادفعه إلى فلان أو إليهما ، فهذا توكيل منه بالأداء ، وله التعيين ما لم يصل إلى المستحقّ. ولو لم يعيّن فدفعه الوكيل إلى وكيليهما ، فالوجهان.

ومنها : لو كان عليه مائتان لواحدٍ فأبرأه المالك عن مائة ، فإن قصدهما أو واحدةً منهما بعينها ، انصرف إلى ما قصده. وإن أطلق فالوجهان.

فإن اختلفا فقال المبرئ : أبرأت عن الدَّيْن الخالي عن الرهن والكفيل ، فقال المديون : بل عن الآخَر ، فالقول قول المالك مع يمينه ؛ لأنّه أعرف بنيّته.

مسألة ٢٢٩ : لو باعه شيئاً وشرط في العقد رَهْنَ شي‌ء بعينه ، فرهنه ثمّ وجد المرتهن فيه عيباً وادّعى قِدَمه ، وأنكر الراهن ليسقط خيار المرتهن في البيع ، فالقول قول مَنْ ينكر القِدَم.

ولو رهنه عصيراً ثمّ اختلفا بعد القبض ، فقال المرتهن : قبضتُه وقد تخمّر فلي الخيار في البيع المشروط فيه الرهن ، وقال الراهن : بل صار عندك خمراً ، فالقول قول الراهن مع يمينه ؛ لأصالة بقاء البيع ، والمرتهن يطلب بدعواه التدرّج إلى الفسخ ، وهو أصحّ قولي الشافعي.

٣٥٣

والثاني : أنّ القول قول المرتهن مع يمينه وبه قال أبو حنيفة لأنّ الأصل عدم القبض الصحيح(١) .

ولو زعم المرتهن أنّه كان خمراً يوم العقد وكان الشرط شرطَ رَهْنٍ فاسد ، فمن الشافعيّة مَنْ طرد القولين. ومنهم مَنْ قطع بأنّ القول قول المرتهن.

ومأخذ الطريقين أنّ فساد الرهن هل يوجب فساد البيع؟

إن قلنا : لا ، عاد القولان.

وإن قلنا : نعم ، فالقول قول المرتهن ؛ لأنّه ينكر أصل البيع ، والأصل عدمه(٢) .

وخرّج قومٌ القولين على أنّ المدّعي مَنْ يدّعي أمراً خفيّاً ، والمدّعى عليه مَنْ يدّعي أمراً جليّاً ، أو المدّعي مَنْ لو سكت تُرك ، والمدّعى عليه مَنْ لو سكت لم يُترك. فإن قلنا بالأوّل ، فالمدّعي الراهن ؛ لأنّه يزعم جريان القبض الصحيح ، والأصل عدمه ، فيكون القول قولَ المرتهن. وإن قلنا بالثاني ، فالمدّعي هو المرتهن ؛ لأنّه لو سكت لتُرك والراهن لا يُترك لو سكت ، فيكون القولُ قولَ الراهن(٣) .

ولو سلّم الراهن العبدَ المشروط رهنُه في البيع ملفوفاً في ثوبٍ ثمّ وُجد ميّتاً ، فقال الراهن : مات عندك ، وقال المرتهن : بل كان ميّتاً ، فالأقوى‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٢ - ٥٤٤.

٣٥٤

تقديم قول المرتهن ؛ لأصالة عدم الإقباض.

وللشافعيّة فيه القولان السابقان(١) .

ولو اشترى لبناً وأتى بظرفٍ فصبّه البائع فيه فوُجدت فيه فأرة ميّتة ، فقال البائع : إنّها كانت في ظرفك ، وقال المشتري : بل دفعته وفيه الفأرة ، فالقولان(٢) .

ولو زعم المشتري أنّها كانت فيه يومَ البيع ، فهو اختلاف في أنّ العقد جرى صحيحاً أو فاسداً ، فالقول قول مدّعي الصحّة.

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٠.

٣٥٥

الفصل التاسع :

في اللواحق‌

مسألة ٢٣٠ : الرهن شرعاً : جَعْل المال وثيقةً على الدَّيْن ليستوفى منه إذا تعذّر استيفاؤه من المديون ، وليس واجباً إجماعاً.

وهو جائز في السفر والحضر عند عامّة أهل العلم. وحكي عن مجاهد وداوُد أنّهما قالا : لا يجوز إلّا في السفر ؛ لقوله تعالى :( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١) فشرط السفر(٢) .

وليس بشي‌ء ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رهن درعه عند يهوديّ وكان بالمدينة(٣) .

ولأنّ هذه وثيقة تجوز في السفر ، فجازت في الحضر ، كالضمان والشهادة.

وشرط السفر في الآية بناءً على الأغلب ، فإنّ عدم الكاتب في العادة لا يكون إلّا في السفر ؛ لقوله تعالى : ‌( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ

____________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤ - ٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠٧ ، المحلّى ٨ : ٨٧ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٩٨.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٧٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨١٥ / ٢٤٣٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٦.

٣٥٦

جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (١) وشرط السفر لأنّ العدم يكون في الغالب فيه ، ألا ترى أنّه شرط عدم الكاتب ويجوز الرهن وإن كان الكاتب غيرَ معدومٍ.

مسألة ٢٣١ : قد بيّنّا(٢) أنّ الرهن يتمّ عند أكثر علمائنا بنفس العقد وإن لم يحصل القبض.

وقال بعضهم : لا بُدَّ من القبض.

وللعامّة قولان كهذين.

فلو رهن ثمّ جُنّ ، لم يبطل الرهن عند الشافعي(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : يبطل ؛ لأنّ الرهن قبل القبض عقد جائز غير لازمٍ ، فيبطل بزوال التكليف ، كالوكالة والشركة(٤) .

وأجابوا عنه : بأنّه وإن لم يكن لازماً إلّا أنّه يؤول إلى اللزوم ، فهو كعقد البيع المشروط فيه الخيار ، بخلاف الوكالة والشركة ، فإنّهما لا يؤولان إلى اللزوم. ولأنّ تلك العقود تبطل بموت كلّ واحدٍ منهما ، وهنا لا يبطل الرهن ، فافترقا(٥) .

تذنيب : لو كان بين شريكين دار فرهن أحدهما نصيبه من بيتٍ بعينه ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّه يصحّ بيعه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

____________________

(١) النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦.

(٢) راجع ص ١٨٩ ١٩٠ ، المسألة ١٤٠.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٨ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٦ ، الوجيز ١ : ١٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٢.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٨ - ٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٢.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٩.

٣٥٧

والثاني : لا يصحّ ؛ لأنّه قد يقاسم شريكه ، فيقع هذا البيت في حصّة شريكه وهو مرهون ، فلا يجوز(١) .

تذنيبٌ آخَر : لو كان له غرماء غير المرتهن وحجر عليه الحاكم لأجل الغرماء ، لم يجز تسليم الرهن إلى مَنْ رهنه عنده قبل الحجر ؛ لأنّه ليس له أن يرهن ابتداءً في هذه الحالة كذلك تسليم الرهن ؛ لحقّ الغرماء وتعلّقه بماله.

مسألة ٢٣٢ : يجب على الوليّ الاحتياط في مال الطفل والمجنون ، فلو ارتهن في بيعٍ مع المصلحة ، جاز ، وفيه ثلاث مسائل :

أ : لو كان له مال يساوي مائةً نقداً فيبيعه بمائة نسيئةً ويأخذ رهناً ، فإنّ هذا بيعٌ فاسد - إلّا أن يخاف النهب - لأنّ بيعه بذلك نقداً أحظّ.

ب : أن يكون ماله يساوي مائةً نقداً ، فيبيعه بمائة وعشرين ، مائة نقداً ، وعشرين نسيئةً ، ويأخذ بها رهناً ، فإنّه يجوز ؛ لأنّ له بيعه بمائة نقداً ، وقد زاده خيراً ، وكان أولى بالجواز.

ج : أن يساوي مائةً نقداً ، فيبيعه بمائة وعشرين مؤجَّلةً ويأخذ بالجميع رهناً ، فإنّه يجوز مع المصلحة.

وللشافعيّة قولان ، منهم مَنْ مَنَع ؛ لما فيه من التغرير بمال الطفل ، وبيع النقد أحوط(٢) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه مأمور بالتجارة وطلب الربح ، وهذا طريقه ، فكان جائزاً.

وأمّا قرض ماله فلا يجوز إلّا بشرطين‌ :

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٣.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٣٠٦ ، المغني ٤ : ٤٣١.

٣٥٨

أحدهما : أن يخاف عليه النهب أو الغرق وشبهه.

والثاني : أن يكون المقترض ثقةً مليّاً ليأمن جحوده.

فإن رأى من المصلحة قبض الرهن ، قَبَضه. وإن رأى من المصلحة تركه ، لم يقبضه ؛ لأنّه إذا خاف عليه التلف فربما رفعه إلى حاكمٍ يرى سقوط الدَّيْن بالتلف.

مسألة ٢٣٣ : قد بيّنّا أنّه ليس للراهن وطؤ الجارية المرهونة ؛ لجواز أن تحمل فتتلف أو تنقص قيمتها بالحمل ، بخلاف الاستخدام وسكنى العقار ؛ لانتفاء الضرر.

ولو كانت صغيرةً لا تحبل أو آيسةً ، احتُمل الجواز وبه قال بعض الشافعيّة ؛ لانتفاء الضرر(١) - لما رواه الحلبي - في الحسن - قال : سألتُ الصادقَعليه‌السلام عن رجل رهن جاريته عند قومٍ أيحلّ له أن يطأها؟ قال : « إنّ الذين ارتهنوا يحولون(٢) بينه وبينها » قلت : أرأيت إن قدر عليها خالياً؟ قال : « نعم ، لا أرى هذا عليه حراماً »(٣) .

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن الباقرعليه‌السلام في رجل رهن جاريته قوماً أله أن يطأها؟ فقال : « إنّ الذين ارتهنوا يحولون(٤) بينه وبينها » فقلت : أرأيت إن قدر على ذلك خالياً؟ قال : « نعم ، لا أرى بذلك بأساً »(٥) .

والشيخرحمه‌الله مَنَع من ذلك(٦) .

____________________

(١) الوجيز ١ : ١٦٤ ، الوسيط ٣ : ٤٩٧ - ٤٩٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٩ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٣٦.

(٢و٤) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « يحيلون ». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٥ - ٢٣٦ / ١٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٩ / ٧٥٢.

(٥) الكافي ٥ : ٢٣٧ / ٢٠ ، التهذيب ٧ : ١٦٩ - ١٧٠ / ٧٥٣.

(٦) النهاية : ٤٣٣ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٠٦ ، الخلاف ٣ : ٢٣١ ، المسألة ٢٠.

٣٥٩

مسألة ٢٣٤ : شرط الحنفيّة في تمام عقد الرهن القبضَ التامّ ، وهو أن يكون مقسوماً مفرغاً متميّزاً(١) .

واحتُرز بالمقسوم عن رهن المشاع ، فإنّه لا يصحّ عندهم(٢) .

وقد بيّنّا بطلان قولهم. واحترزوا بالمفرغ عن [ رهن ] دارٍ فيها متاع للراهن(٣) ، وبالمتميّز عن رهن متّصلٍ بغيره اتّصالَ خلقةٍ ، كما لو رهن الثمر على رأس الشجر دون الشجر ، فإنّه لا يجوز عندهم(٤) .

وكذا لا يجوز رهن الزرع في الأرض ، دونها ، ولا رهن النخل في الأرض ، دونها(٥) . وكذا لا يجوز رهن الأرض ، دون النخل أو دون الزرع ، أو النخل دون الثمر ، ولا رهن الدار دون البناء(٦) .

وفي روايةٍ عن أبي حنيفة : جواز رهن الأرض دون الأشجار ،

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٣٨ و ١٤٠ و ١٤٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٩٨ ، النتف ٢ : ٨٩٤.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٣٨ ، المبسوط للسرخسي ٢١ : ٦٩ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٣٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٩٨ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ١ : ٥٢٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٨٧ / ٢٠٠٣ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٢ ، المغني ٤ : ٤٠٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٠٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٣.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٩ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣١.

(٤و٥) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠ ، المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٢.

(٦) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠ ، المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٢ - ١٣٣.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400