تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء10%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125330 / تحميل: 5205
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

بإطلاقه لفظ الغنيمة فيه ثم عطفه الأكل عليها لم لم ينف ما تضمنه من التمليك كما لو قال كلوا مما ملكتم لم يكن إطلاق لفظ الأكل مانعا من صحة الملك ويدل على ذلك دخول الفاء عليه كأنه قال قد ملكتكم ذلك فكلوا* والغنيمة اسم لما أخذ من أموال المشركين بقتال فيكون خمسه لله تعالى وأربعة أخماسه للغانمين بقوله تعالى( واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه ) وأما الفيء فهو كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بغير قتال روى هذا الفرق بينهما عن عطاء بن السائب وعن سفيان الثوري أيضا* قال أبو بكر الفيء كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بقتال أو بغير قتال إذ كان سبب أخذه الكفر قال أصحابنا الجزية فيء والخراج وما يأخذه الإمام من العدو على وجه الهدنة والموادعة فهو فيء أيضا وقال الله عز وجل( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ) الآية فقيل إن هذا فيما لم يوجف عليه المسلمون مثل فدك وما أخذ من أهل نجران فكان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم صرفه في هذه الوجوه وقيل إن هذه كانت في الغنائم فنسخت بقوله تعالى( واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه ) وجائز عندنا أن لا تكون منسوخة وأن تكون آية الغنيمة فيما أوجف عليه المسلمون بخيل أو ركاب وظهر عليهم بالقتال وآية الفيء التي في الحشر فيما لم يوجف عليه المسلمون وأخذ منهم على وجه الموادعة والهدنة كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأهل نجران وفدك وسائر ما أخذه منهم بغير قتال والله أعلم بالصواب.

باب التوارث بالهجرة

قال الله تعالى( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا ) الآية حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيدة قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) الآية قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابى ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابى المهاجر فنسختها( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وروى عبد الرحمن بن عبد الله بن المسعودي عن القاسم قال آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة وآخى بين عبد الله بن مسعود والزبير بن العوام أخوة يتوارثون بها

٢٦١

لأنهم هاجروا وتركوا أقرباءهم حتى أنزل الله آية المواريث* قال أبو بكر اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتا بينهم بالهجرة والأخوة التي آخى بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بينهم دون الأرحام وأن ذلك مراد هذه الآية وأن قوله تعالى( أولئك بعضهم أولياء بعض ) قد أريد به إيجاب التوارث بينهم وأن قوله( ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا ) قد نفى إثبات التوارث بينهم بنفيه الموالاة بينهم وفي هذا دلالة على أن إطلاق الموالاة يوجب التوارث وإن كان قد يختص به بعضهم دون جميعهم على حسب وجود الأسباب المؤكدة له كما أن النسب سبب يستحق به الميراث وإن كان بعض ذوى الأنساب أولى به في بعض الأحوال لتأكد سببه وفي هذا دليل على أن قوله تعالى( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) موجب لإثبات القود لسائر ورثته وأن النساء والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه ويدل أيضا على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث وأن قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا نكاح إلا بولي مثبت للولاية لجميع من كان من أهل الميراث على حسب القرب وتأكيد السبب وأنه جائز للأم تزويج أولادها الصغار إذا لم يكن لهم أب على ما يذهب إليه أبو حنيفة إذ كانت من أهل الولاية في الميراث* وقد كانت الهجرة فرضا حين هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أن فتح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مكة فقال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فنسخ التوارث بالهجرة بسقوط فرض الهجرة وأثبت التوارث بالأنساب بقوله تعالى( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) قال الحسن كان المسلمون بتوارثون بالهجرة حتى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) فتوارثوا بالأرحام وروى الأوزاعى عن عبدة عن مجاهد عن ابن عمر قال انقطعت الهجرة بعد الفتح وروى الأوزاعى أيضا عن عطاء ابن أبى رباح عن عائشة مثله وزاد فيه ولكن جهاد ونية وإنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفتنوا عنه وقد أذاع الله الإسلام وافشاء فتضمنت هذه الآية إيجاب التوارث بالهجرة والمؤاخاة دون الأنساب وقطع الميراث بين المهاجرين وبين من لم يهاجر واقتضى أيضا إيجاب نصرة المؤمن الذي لم يهاجر إذا استنصر المهاجر على من لم يكن بينهم وبينه عهد بقوله تعالى( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) وقد روى في قوله تعالى( ما لكم من ولايتهم

٢٦٢

من شىء حتى يهاجروا ) ما قد بينا ذكره في نفى الميراث عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين وقيل إنه أراد نفى إيجاب النصرة فلم تكن حينئذ على المهاجر نصرة ومن لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقض عهده وليس يمتنع أن يكون نفى الولاية مقتضيا للأمرين جميعا من نفى التوارث والنصرة ثم نسخ نفى الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجرا كان أو غير مهاجر وإسقاطه بالهجرة فحسب ونسخ نفى إيجاب النصرة بقوله تعالى( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) وقوله تعالى( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) قال ابن عباس والسدى يعنى في الميراث وقال قتادة في النصرة والمعاونة وهو قول ابن إسحاق* قال أبو بكر لما كان قوله تعالى( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ـ إلى قوله ـأولئك بعضهم أولياء بعض ) موجبا لإثبات التوارث بالهجرة وكان قوله تعالى( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا ) نافيا للميراث وجب أن يكون قوله تعالى( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) موجبا لإثبات التوارث بينهم لأن الولاية قد صارت عبارة عن إثبات التوارث بينهم فاقتضى عمومه إثبات التوارث بين سائر الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم لأن الاسم يشملهم ويقع عليهم ولم يفرق الآية بين أهل الملل بعد أن يكونوا كفارا ويدل أيضا على إثبات ولاية الكفار على أولادهم الصغار لاقتضاء اللفظ له في جواز النكاح والتصرف في المال في حال الصغر والجنون* وقوله تعالى( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) يعنى والله أعلم إن تفعلوا ما أمرتم به في هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخوة والهجرة ومن قطعها بترك الهجرة تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وهذا مخرجه مخرج الخبر ومعناه الأمر وذلك لأنه إذا لم يتول المؤمن الفاضل على ظاهر حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله ولم يتبرأ من الفاجر والضال بما يصرف عن ضلاله وفجوره أدى ذلك إلى الفساد والفتنة قوله تعالى( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) نسخ به إيجاب التوارث وبالهجرة والحلف والموالاة ولم يفرق فيه بين العصبات وغيرهم فهو حجة في إثبات ميراث ذوى الأرحام الذين لا تسمية لهم ولا تعصيب وقد ذكرنا فيما سلف في سورة النساء وذهب عبد الله بن مسعود إلى أن ذوى الأرحام أولى من مولى

٢٦٣

العتاقة واحتج فيه بظاهر الآية وليس هو كذلك عند سائر الصحابة وقد روى أن ابنة حمزة اعتقت عبدا ومات وترك بنتا فجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنه حمزة بالولاية فجعلها عصبة والعصبة أولى بالميراث من ذوى الأرحام وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب * وقوله تعالى( فى كتاب الله ) قيل فيه وجهان أحدهما في اللوح المحفوظ كما قال( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) والثاني في حكم الله تعالى.

سورة براءة

قال الله تعالى( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) قال أبو بكر البراءة هي قطع الموالاة وارتفاع العصمة وزوال الأمان وقيل إن معناه هذه براءة من الله ورسوله ولذلك ارتفع وقيل هو ابتداء وخبره الظرف في إلى فاقتضى قوله عز وجل( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) نقض العهد الذي كان بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبينهم ورفع الأمان وإعلام نصب الحرب والقتال بينه وبينهم وهو على نحو قوله تعالى( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) فكان ما ذكر في هذه الآية من البراءة نبذا إليهم ورفعا للعهد وقيل إن ذلك كان خاصا فيمن أضمروا الخيانة وهموا بالغدر وكان حكم هذا اللفظ أن يرفع العهد في حال ذكر ذلك لهم إلا أنه لما عقبه بقوله تعالى( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) بين به أن هذه البراءة وهذا النبذ إليهم إنما هي بعد أربعة أشهر وأن عهد ذوى العهد من هذا القبيل منهم باق إلى آخر هذه المدة قال الحسن فمن كان منهم عهده أكثر من أربعة أشهر حط إليها ومن كان منهم عهده أقل رفع إليها وقيل إن هذه الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد أولها من عشرين من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرة أيام من شهر ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة التي حج فيها أبو بكر وقرأ فيها على بن أبى طالب سورة براءة على الناس بمكة بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان في ذي القعدة ثم صار الحج في السنة الثانية وهي السنة التي حج فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في في ذي الحجة وهو الوقت الذي وقته الله تعالى للحج لأن المشركين كانوا ينسئون الشهور فاتفق عود الحج في السنة التي حج فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الوقت الذي فرضه الله تعالى فيه بديا على إبراهيم وأمره فيه بدعاء الناس إليه بقوله( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا )

٢٦٤

ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفات ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض فثبت الحج في اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة والنحر وهو اليوم العاشر منه فهذا قول من يقول إن الأربعة الأشهر التي جعلها للسياحة وقطع بمضيها عصمة المشركين وعهدهم وقد قيل في جواز نقض العهد قبل مضى مدته على جهة النبذ إليهم وإعلامهم نصب الحرب وزوال الأمان وجوه أحدها أن يخاف غدرهم وخيانتهم والآخر أن يثبت غدرهم سرا فينبذ إليهم ظاهرا والآخر أن يكون في شرط العهد أن يقرهم على الأمان ما يشاء وينقضه متى شاء كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لأهل خيبر أقركم ما أقركم الله والآخر أن العهد المشروط إلى مدة معلومة فيه ثبوت الأمان من حربهم وقتالهم من غير علمهم وأن لا يقصدوا وهم غارون وأنه متى أعلمهم رفع الأمان من حربهم فذلك جائز لهم وذلك معلوم في مضمون العهد وسواء خاف غدرهم أو لم يخف وكان في شرط العهد أن لناقضه متى شئنا أو لم يكن فإن لنا متى رأينا ذلك خطا للإسلام أن ننبذ إليهم وليس ذلك بغدر منا ولا خيانة ولا خفر للعهد لأن خفر الأمان والعهد أن يأتيهم بعد الأمان وهم غارون بأماننا فأما متى نبذنا إليهم فقد زال الأمان وعادوا حربا ولا يحتاج إلى رضاهم في نبذ الأمان إليهم ولذلك قال أصحابنا أن للإمام أن يهادن العدو إذا لم تكن بالمسلمين قوة على قتالهم فإن قوى المسلمون وأطاقوا قتالهم كان له أن ينبذ إليهم ويقاتلهم وكذلك كل ما كان فيه صلاح للمسلمين فللإمام أن يفعله وليس جواز رفع الأمان موقوفا على خوف الغدر والخيانة من قبلهم وقد روى عن ابن عباس أن هذه الأربعة الأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة إلى آخر المحرم وقد كانت سورة براءة نزلت حين بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر على الحج وكان الحج في تلك السنة في ذي القعدة فكأنهم على هذا القول إنما بقي عهدهم إلى آخر الأربعة الأشهر التي هي أشهر الحرم وقد روى جرير بن عن مغيرة عن الشعبي عن المحرر بن أبى هريرة عن أبيه قال كنت مع على حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ببراءة إلى المشركين فكنت أنادى حتى صحل صوتي وكان أمرنا أن نقول لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة الأشهر فان الله برىء من المشركين ورسوله وجائز أن تكون هذه الأربعة الأشهر من وقت

٢٦٥

ندائه وإعلامهم إياه وجائز أن يريد بها تمام أربعة أشهر من الأشهر الحرم وقد روى سفيان عن أبى إسحاق عن زيد بن يثيع عن على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه يوم الحج الأكبر أن لا يطوف أحد بالبيت عريانا ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يحج مشرك بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فاجعله إلى مدته فجمل في حديث على من له عهد عهده إلى أجله ولم يخصص أربعة أشهر من غيره وقال في حديث أبى هريرة فعهده إلى أربعة أشهر وجائز أن يكون المعنيان صحيحين وأن يكون جعل أجل بعضهم أربعة أشهر أو تمام أربعة أشهر التي هي أشهر الحرم وجعل أجل بعضهم إلى مدته طالت المدة أو قصرت وذكر الأربعة الأشهر في حديث أبى هريرة موافق لقوله تعالى( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) وذكر إثبات المدة التي أجلها في حديث على موافق لقوله تعالى( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) فكان أجل بعضهم وهم الذين خيف غدرهم وخيانتهم أربعة أشهر وأجل من لم يخش غدرهم إلى مدته وقد روى يونس عن أبى إسحاق قال بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أميرا على الحج من سنة تسع فخرج أبو بكر ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يصد عن البيت أحد ولا يخاف أحد في الشهر الحرام وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى أجال مسماة فنزلت( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) أهل العهد العام من أهل الشرك من العرب( فسيحوا في الارض اربعة أشهر ) أن الله برىء من المشركين بعده هذه الحجة وقوله( إلا الذين عاهدتم من المشركين ) يعنى العهد الخاص إلى الأجل المسمى( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) يعنى الأربعة التي ضربه لهم أجلا وقوله( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) من قبائل بنى بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبين قريش فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الدئل فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بإتمام العهد لمن لم يكن نقضه من بنى بكر إلى مدته( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) وروى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال جعل الله للذين عاهدوا رسول

٢٦٦

الله صلّى الله عليه وآله وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا وأجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم خمسين ليلة وأمره إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن عاهدوا ولم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق* قال أبو بكر جعل ابن عباس في هذا الحديث الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد لمن كان له منهم عهد ومن لم يكن منهم عهد جعل أجله انسلاخ المحرم وهو تمام خمسين ليلة من وقت الحج وهو العشر من ذي الحجة وذلك آخر وقت أشهر الحرم وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) إلى أهل العهد من خزاعة ومدلج ومن كان له عهد من غيرهم قال ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعليا فآذنوا أصحاب العهود أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم المتواليات من عشر من ذي الحجة إلى عشر يخلو من شهر ربيع الآخر ثم لا عهد لهم قال وهي الحرم من أجل أنهم آمنوا فيها قال أبو بكر فجعل مجاهد الأشهر الحرم في أشهر العهد وذهب إلى أنها إنما سميت بذلك لتحريم القتال فيها وليست هي الأشهر التي قال الله فيها( أربعة حرم ) وقال( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) لأنه لا خلاف أن هذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والذي قاله مجاهد في ذلك محتمل وقال السدى( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال عشرون يبقى من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلا الإسلام أو السيف وحدثنا عبد الله بن إسحاق المروزى حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال نزلت في شوال وهي أربعة أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقال قتادة عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر كان ذلك في العهد الذي بينهم قال أبو بكر قول قتادة موافق لقول مجاهد الذي حكيناه أما قول الزهري فأظنه وهما لأن الرواة لم يختلفوا أن سورة براءة نزلت في ذي الحجة في الوقت الذي بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر على الحج ثم نزلت بعد خروجه سورة براءة فثبت بها مع على ليقرأها على الناس فثبت بما ذكرنا من هذه الأخبار أنه قد كان بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين عهد عام وهو أن لا يصد أحدا منهم عن البيت ولا يخاف أحد في الشهر الحرام فجعل الله تعالى عهدهم أربعة أشهر بقوله تعالى( فسيحوا في الأرض

٢٦٧

أربعة أشهر ) وكان بينه وبين خواص منهم عهود إلى آجال مسماة وأم بالوفاء لهم وإتمام عهودهم إلى مدتهم إذا لم يخش غدرهم وخيانتهم وهو قوله تعالى( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) وهذا يدل على أن مدتهم إما أن تكون إلى آخر الأشهر الحرم التي قد كان الله تعالى حرم القتال فيها وجائز أن تكون مدتهم إلى آخر الأربعة الأشهر من وقت النبذ إليهم وهو يوم النحر وأخره عشر مضين من شهر ربيع الآخر فسماها الأشهر الحرم على ما ذكره مجاهد لتحريم القتال فيها فلم يكن لأحد منهم بعد ذلك عهد وأوجب بمضى هذه المدة دفع العهود كلها سواء من كان له منهم عهد خاص أو سائر المشركين الذين عمهم عهده في ترك منعهم من البيت وحظره قتلهم في أشهر الحرم وجائز أن يكون مراده انسلاخ المحرم الذي هو آخر الأشهر الحرم التي كان الله تعالى حظره القتال فيها وقد رويناه عن ابن عباس قوله تعالى( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) يعنى إعلام من الله ورسوله يقال أذننى بكذا أى أعلمنى فعلمت واختلف في يوم الحج الأكبر فروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في بعض الأخبار أنه يوم عرفة وعن على وعمرو ابن عباس وعطاء ومجاهد نحو ذلك على اختلاف من الرواية فيه وروى أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه يوم النحر وعن على وابن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن أبى أو في وإبراهيم وسعيد بن جبير على اختلاف فيه من الرواة وعن مجاهد وسفيان الثوري أيام الحج كلها وهذا شائع كما يقال يوم صفين وقد كان القتال في أيام كثيرة وروى حماد عن مجاهد أيضا قال الحج الأكبر القران والحج الأصغر الإفراد وقد ضعف هذا التأويل من قبل أنه يوجب أن يكون للإفراد يوم بعينه وللقران يوم بعينه وقد علم أن يوم القران هو يوم الإفراد للحج فتبطل فائدة تفضيل اليوم الحج الأكبر فكان يجب أن يكون النداء بذلك في يوم القران وقوله تعالى( يوم الحج الأكبر ) لما كان يوم عرفة أو يوم النحر وكان الحج الأصغر العمرة وجب أن يكون أيام الحج غير أيام العمرة فلا تفعل العمرة في أيام الحج وقد روى عن ابن سيرين أنه قال إنما قال( يوم الحج الأكبر ) لأن أعياد الملل اجتمعت فيه وهو العام الذي حج فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقيل هذا غلط لأن الإذن بذلك كانت في السنة التي حج فيها أبو بكر ولأنه في السنة التي حج فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يحج فيها المشركون لتقدم النهى عن ذلك في السنة

٢٦٨

الأولى وقال عبد الله بن شداد الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة وعن ابن عباس العمر هي الحجة الصغرى وعن عبد الله بن مسعود مثله قال أبو بكر قوله( الحج الأكبر) قد اقتضى أن يكون هناك حج أصغر وهو العمرة على ما روى عن عبد الله بن شداد وابن عباس وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال العمرة الحجة الصغرى وإذا ثبت أن اسم الحج يقع على العمرة ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للأقرع بن حابس حين سأله فقال الحج في كل عام أو حجة واحدة فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا بل حجة واحدة وهذا يدل على نفى وجوب العمرة لنفى النبي الوجوب إلا في حجة واحدة وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الحج عرفة وهذا يدل على أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة ويحتمل أن يكون يوم النحر لأن فيه تمام قضاء المناسك والتفث ويحتمل أيام منى على ما روى عن مجاهد وخصه بالأكبر لأنه مخصوص بفعل الحج فيه دون العمرة وقد قيل إن يوم النحر أولى بأن يكون يوم الحج الأكبر من يوم عرفة لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الحج لقضاء المناسك وعرفة قد يأتيها بعضهم ليلا وبعضهم نهارا وأما النداء بسورة براءة فجائز أن يكون يوم عرفة وجائز يوم النحر قال الله تعالى( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) روى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله( لست عليهم بمصيطر ) وقوله( وما أنت عليهم بجبار ) وقوله تعالى( فاعف عنهم واصفح ) وقوله( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) قال نسخ هذا كله قوله تعالى( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية وقال موسى بن عقبة قد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك يكف عمن لم يقاتله بقوله تعالى( وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) ثم نسخ ذلك بقوله( براءة من الله ورسوله ) ثم قال( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) قال أبو بكر عمومه يقتضى قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إلا أنه تعالى خص أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية بقوله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية وأخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا بعث سرية قال إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فادعوهم إلى أداء الجزية فإن فعلوا فخذوه منهم وكفوا عنهم وذلك عموم في سائر المشركين

٢٦٩

فحصصنا منه لم يكن من مشركي العرب بالآية وصار قوله تعالى( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) خاصا في مشركي العرب دون غيرهم وقوله تعالى( وخذوهم واحصروهم ) يدل على حبسهم بعد الأخذ والاستبقاء بقتلهم انتظارا لإسلامهم لأن الحصر هو الحبس ويدل أيضا على جواز حصر الكفار في حصونهم ومدنهم إن كان فيهم من لا يجوز قتله من النساء والصبيان وأن يلقوا بالحصار قوله تعالى( فاقتلوا المشركين ) يقتضى عمومه جواز قتلهم على سائر وجوه القتل إلا أن السنة قد وردت بالنهى عن المثلة وعن قتل الصبر بالنبل ونحوه وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعف الناس قتلة أهل الإيمان وقال إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وجائز أن يكون أبو بكر الصديق رضى الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق والحجارة والرمي من رءوس الجبال والتنكيس في الأبار إنما ذهب فيه إلى ظاهر الآية وكذلك على بن أبى طالب رضى الله عنه حين أحرق قوما مرتدين جائز أن يكون اعتبر عموم الآية.

قوله عز وجل( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) لا يخلوا قوله تعالى( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطا في زوال القتل عنهم ويكون قبول ذلك والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل ومعلوم أن وجود التوبة من الشرك شرط لا محالة في زوال القتل ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمر الله في فعل الصلاة والزكاة ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دمائهم محظورة فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حول فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطا في زوال القتل وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها فإن قيل لما قال الله تعالى( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فشرط مع التوبة قبل الصلاة والزكاة ومعلوم أن التوبة إنما هي الإقلاع عن الكفر والرجوع إلى الإيمان فقد عقل بذكره التوبة التزام هذه الفرائض والاعتراف بها إذ لا تصح التوبة إلا به ثم لما شرط مع التوبة الصلاة والزكاة دل على أن المعنى المزيل للقتل هو اعتقاد الإيمان بشرائطه وفعل الصلاة والزكاة فأوجب ذلك قتل تارك الصلاة والزكاة في وقت وجوبهما

٢٧٠

وإن كان معتقدا للإيمان معترفا بلزوم شرائعه قيل له لو كان فعل الصلاة والزكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمن أسلم في غير وقت الصلاة وعم لم يؤد زكاته مع إسلامه فلما اتفق الجميع على زوال القتل عمن وصفنا أمره بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه ثبت بذلك أن فعل الصلاة والزكاة ليس من شرائط زوال القتل وأن شرطه إظهار الإيمان وقبول شرائعه ألا ترى أن قبول الإيمان والتزام شرائعه لما كان شرطا في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاصه ببعض ذلك وقد كانت الصحابة سبت ذراري مانعي الزكاة وقتلت مقاتلتهم وسموهم أهل الردة لأنهم امتنعوا من التزام الزكاة وقبول وجوبها فكانوا مرتدين بذلك لأن من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله وعلى ذلك أجرى حكمهم أبو بكر الصديق مع سائر الصحابة حين قاتلوهم ويدل على أنهم مرتدون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى معمر عن الزهري عن أنس قال لما توفى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ارتدت العرب كافة فقال عمر يا أبا بكر أتريد أن تقاتل العرب كافة فقال أبو بكر إنما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة منعونى دماءهم وأموالهم والله لو منعونى عقالا مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال ما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ارتدت العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة فنصب أبو بكر لهم الحرب فقالوا فإذا تشهد أن لا إله إلا الله ونصلى ولا نزكى فمشى عمر والبدريون إلى أبى بكر وقالوا دعهم فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدوا فقال والله لو منعونى عقالا مما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقتالتهم عليه وقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على ثلاث شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقال الله تعالى( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) والله لا أسئل فوقهن ولا أقصر دونهن فقالوا له يا أبا بكر نحن نزكى ولا ندفعها إليك فقال لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأضعها مواضعها وروى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين مثله وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبى هريرة قال لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم واستخلف أبو بكر وارتد من ارتد من العرب بعث أبو بكر لقتال من ارتد عن الإسلام فقال له عمر يا أبا بكر ألم تسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك عصموا

٢٧١

منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال لو منعونى عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه فأخبر جميع هؤلاء الرواة إن الذين ارتدوا من العرب إنما كان ردتهم من جهة امتناعهم من أداء الزكاة وذلك عندنا على أنهم امتنعوا من أداء الزكاة على جهة الرد لها وترك قبولها فسموا مرتدين من أجل ذلك وقد أخبر أبو بكر الصديق أيضا في حديث الحسن أنه يقاتلهم على ترك التزامها والاعتراف بوجوبها مرتد وأن مانعها من الإمام بعد الاعتراف بها يستحق القتال فثبت أن من أدى صدقة مواشيه إلى الفقراء إن الإمام لا يحتسب له بها وأنه متى امتنع من دفعها إلى الإمام قاتله عليها وكذلك قال أصحابنا في صدقات المواشي وأما زكاة الأموال فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر قد كانوا يأخذونها كما يأخذون صدقات المواشي فلما كان أيام عثمان خطب الناس فقال هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل الأداء إلى أرباب الأموال وصاروا بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها وهذا الذي فعله أبو بكر في مانعي الزكاة بموافقة الصحابة إياه كان من غير خلاف منهم بعد ما تبينوا صحة رأيه واجتهاده في ذلك ويحتج من أوجب قتل تارك الصلاة ومانع الزكاة عامدا بهذه الآية وزعم أنها توجب قتل المشرك إلا أن يؤمن ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة وقد بينا المعنى في قوله تعالى( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) وأن المراد قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما وأيضا فليس في الآية ما ادعوا من الدلالة على ما ذهبوا إليه من قبل أنها إنما أوجبت قتل المشركين ومن تاب من الشرك ودخل في الإسلام والتزم فروضه وأقربها فهو غير مشرك باتفاق فلم تقتض الآية قتله إذ كان حكمها مقصورا في إيجاب القتل على من كان مشركا وتارك الصلاة ومانع الزكاة ليس بمشرك فإن قالوا إنما أزال القتل عنه بشرطين أحدهما التوبة وهي الإيمان وقبول شرائعه والوجه الثاني فعل الصلاة وأداء الزكاة قيل له إنما أوجب بديا قتل المشركين بقوله تعالى( فاقتلوا المشركين ) فمتى زالت عنهم سمة الشرك فقد وجب زوال القتل ويحتاج في إيجابه إلى دلالة أخرى من غيره فإن قال هذا يؤدى إلى إبطال فائدة ذكر الشرطين في الآية قيل له ليس الأمر على ما ظننت وذلك

٢٧٢

لأن الله تعالى إنما جعل هذين القربين من فعل الصلاة وإيتاء الزكاة شرطا في وجوب تخلية سبيلهم لأنه قال( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) وذلك بعد ذكره القتل للمشركين بالحصر فإذا زال القتل بزوال سمة الشرك فالحصر والحبس باق لترك الصلاة ومنع الزكاة لأن من ترك الصلاة عامدا وأصر عليه ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه فحينئذ لا يجب تخليته إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة فانتظمت الآية حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما قوله تعالى( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) قد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام لأن قوله تعالى( استجارك ) معناه استأمنك وقوله تعالى( فأجره ) معناه فأمنه حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان توحيد الله وصحة نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله وفيه الدلالة أيضا على أن علينا تعليم كل من التمس منا تعريفه شيئا من أمور الدين لأن الكافر الذي استجارنا ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين وقوله تعالى( ثم أبلغه مأمنه ) يدل على أن على الإمام حفظ هذا الحربي المستجير وحياطته ومنع الناس من تناوله بشر لقوله( فأجره ) وقوله( ثم أبلغه مأمنه ) وفي هذا دليل أيضا على أن على الإمام حفظ أهل الذمة والمنع من أذيتهم والتخطي إلى ظلمهم وفيه الدلالة على أنه لا يجوز إقرار الحربي في دار الإسلام مدة طويلة وأنه لا يترك فيها إلا بمقدار قضاء حاجته لقوله تعالى( حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) فأمر برده إلى دار الحرب بعد سماعه كلام الله وكذلك قال أصحابنا لا ينبغي للإمام أن يترك الحربي في دار الإسلام مقيما بغير عذر ولا سبب يوجب إقامته وأن عليه أن يتقدم إليه بالخروج إلى داره فإن أقام بعد التقدم إليه سنة في دار الإسلام صار ذميا ووضع عليه الخراج قوله تعالى( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) قال أبو بكر ابتداء السورة يذكر قطع العهد بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين بقوله( براءة من

٢٧٣

الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) وقد قيل إن هؤلاء قد كان بينهم وبين النبي عهد فغدروا وأسروا وهموا به فأمر الله نبيه بالنبذ إليهم ظاهرا وفسح لهم في مدة أربعة أشهر بقوله( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) وقيل إنه أراد العهد الذي كان بينه وبين المشركين عامة في أن لا يمنع أحد من المشركين من دخوله مكة للحج وأو لا يقاتلوا ولا يقتلوا في الشهر الحرام فكان قول( براءة من الله ورسوله ) في أحد هذين الفريقين ثم استثنى من هؤلاء قوما كان بينهم وبين رسول الله عهد خاص ولم يغدروا ولم يهموا به فقال( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) ففرق بين حكم هؤلاء الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقصوكم ولم يعاونوا أعداءهم عليهم وأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم وأمر بالنبذ إلى الأولين وهم أحد فريقين من غادر قاصدا إليه أو لم يكن بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد خاص في سائر أحواله بل في دخول مكة الحج والأمان في الأشهر الحرم الذي كان يأمن فيه جميع الناس* وقوله تعالى( ولم يظاهروا عليكم أحدا ) يدل على أن المعاهد متى عاون علينا عدوا لنا فقد نقض عهده ثم قال تعالى( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) فرفع بعد انقضاء أشهر الحرم عهد كل ذي عهد من خاص ومن عام ثم قال تعالى( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) لأنهم غدروا ولم يستقيموا ثم استثنى منهم الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام قال أبو إسحاق هم قوم من بنى كنانة وقال ابن عباس هم من قريش وقال مجاهد هم من خزاعة فأمر المسلمين بالوفاء بعهدهم ما استقاموا لهم في الوفاء به وجائز أن تكون مدة هؤلاء في العهد دون مضى أشهر الحرم لأنه قال( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وعمومه يقتضى رفع سائر العهود التي كانت بين المسلمين والكفار وجائز أن تكون مدة عهدهم بعد انقضاء الأشهر الحرم وكانوا مخصوصين ممن أمروا بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وإن ذلك إنما كان خاصا في قوم منهم كانوا أهل غدر وخيانة لأنه قال( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) يدل على أن من أظهر لنا الإيمان وأقام الصلاة وآتى الزكاة فعلينا موالاته في الدين على ظاهر أمره مع وجود أن يكون اعتقاده في المغيب خلافه* قوله تعالى( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم

٢٧٤

فقاتلوا أئمة الكفر ) فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد وذلك لأن نكث الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي كقوله والله لا كلمت زيدا ولا عمرو ولا دخلت هذه الدار ولا هذه أيهما فعل حنث ونكث يمينه ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا وإن أهل الذمة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا يعزر ولا يقتل وهو قول الثوري وروى ابن القاسم عن مالك فيمن شتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعى ومالك فيمن سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قالا هي ردة يستتاب فإن تاب نكل وإن لم يتب قتل قال يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هن برىء ضرب مائة ولم يذكر فرقا بين المسلم والذمي وقال الليث في المسلم يسب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه وكذلك اليهود والنصارى وقال الشافعى ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله وظاهر الآية يدل على أن من أظهر سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل العهد فقد نقض عهده لأنه قال تعالى( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) فجعل الطعن في ديننا بمنزلة نكث الأيمان إذ معلوم أنه لم يرد أن يجعل نكث الأيمان والطعن في الدين بمجموعهما شرطا في نقض العهد لأنهم لو نكثوا الأيمان بقتال المسلمين ولم يظهروا الطعن في الدين لكانوا ناقضين للعهد وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم معاونة قريش بنى بكر على خزاعة وهم حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نقضا للعهد وكانوا يفعلون ذلك سرا ولم يكن منهم إظهار طعن في الدين فثبت بذلك أن معنى الآية وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر فإذا ثبت ذلك كان من أظهر سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل العهد ناقضا للعهد إذ سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من أكثر في الدين فهذا وجه يحتج به القائلون

٢٧٥

بما وصفنا* ومما يحتج به لذلك ما روى أبو يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن أبى عمران أن رجلا قال له إنى سمعت راهبا سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لو سمعته لقتله إنا لم نعطهم العهد على هذا وهو إسناد ضعيف وجائز أن يكون قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد روى سعيد عن قتادة عن أنس يهوديا مر على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال السام عليك فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أتدرون ما قال فقالوا نعم ثم رجع فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت دخل رهط من اليهود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا السام عليكم قالت ففهمتها فقالت وعليكم السام واللعنة فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قلت عليكم ومعلوم أن مثله لو كان من مسلم لصار به مرتدا مستحقا للقتل ولم يقتلهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك وروى شعبة عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقالوا ألا تقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها في سهوات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولا خلاف بين المسلمين أن من قصد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك فهو ممن ينتحل الإسلام أنه مرتد يستحق القتل ولم يجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مبيحة لدمها بما فعلت فكذلك إظهار سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من الذمي مخالف لإظهار المسلم له* وقوله( فقاتلوا أئمة الكفر ) روى ابن عباس ومجاهد أنهم رؤساء قريش وقال قتادة أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو وهم الذين هموا بإخراجه قال أبو بكر ولم يختلف في أن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث بها مع على بن أبى طالب ليقرأها على الناس في سنة تسع وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقد كان أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة قد كانوا قتلوا يوم بدر ولم يكن بقي من رؤساء قريش أحد يظهر الكفر في وقت نزول براءة وهذا يدل على أن رواية من روى ذلك في رؤساء قريش وهم اللهم إلا أن يكون المراد قوما من قريش قد كانوا أظهروا الإسلام وهم الطلقاء من نحو أبي سفيان وأحزابه ممن لم ينق قلبه من الكفر فيكون مراد الآية هؤلاء دون أهل العهد من المشركين الذين لم يظهروا الإسلام وهم الذين كانوا هموا بإخراج الرسول من مكة وبدرهم بالقتال والحرب بعد الهجرة وجائز أن يكون مراده هؤلاء الذين ذكرنا وسائر رؤساء العرب الذين كانوا

٢٧٦

معاضدين لقريش على حرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقتال المسلمين فأمر الله تعالى بقتالهم وقتلهم إن هم نكثوا أيمانهم وطعنوا في دين المسلمين وقوله تعالى( أنهم لا أيمان لهم ) معناه لا أيمان لهم وافية موثوقا بها ولم ينف به وجود الأيمان منهم لأنه قد قال بديا( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) وعطف على ذلك أيضا قوله( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) فثبت أنه لم برد بقوله( لا أيمان لهم ) نفى الأيمان أصلا وإنما أراد به نفى الوفاء بها وهذا يدل على جواز إطلاق لا والمراد نفى الفضل دون نفى الأصل ولذلك نظائر موجودة في السنن وفي كلام الناس كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله ونحو ذلك فأطلق الإمامة في الكفر لأن الإمام هو المقتدى به المتبع في الخير والشر قال الله تعالى( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) وقال في الخير( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) فالإمام في الخير هاد مهتد والإمام في الشر ضال مضل قد قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من المدينة وأخبر أنهم بدءوا بالغدر ونكث العهد وأمر بقتالهم بقوله( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) وجائز أن يكون جميع ذلك مرتبا على قوله( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) وجائز أن يكون قد كانوا نقضوا العهد بقوله( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) قوله تعالى( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) فإن معناه أم حسبتم أن تتركوا ولم تجاهدوا لأنهم إذا جاهدوا علم الله ذلك منهم فأطلق اسم العلم وأراد به قيامهم بفرض الجهاد حتى يعلم الله وجود ذلك منهم وقوله( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) يقتضى لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم كما يلزم اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع وهو كقوله( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) والوليجة المدخل يقال ولج إذا دخل كأنه قال لا يجوز أن يكون له مدخل غير مدخل المؤمنين ويقال إن الوليجة بمعنى الدخيلة والبطانة وهي من المداخلة والمخالطة والمؤانسة فإن كان المعنى هذا فقد دل على النهى عن مخالطة غير المؤمنين ومداخلتهم

٢٧٧

وترك الاستعانة بهم في أمور الدين كما قال( لا تتخذوا بطانة من دونكم ) .

قوله تعالى( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) عمارة المسجد تكون بمعنيين أحدهما زيارته والسكون فيه والآخر ببنائه وتجديد ما استرم منه وذلك لأنه يقال اعتمر إذا زار ومنه العمرة لأنها زيارة البيت وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون فيها وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولى مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين قوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ) فيه نهى للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليهم وإيجاب التبري منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم وسواء بين الآباء والإخوان في ذلك إلا أنه قد أمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته بالمعروف بقوله تعالى( ووصينا الإنسان بوالديه ـ إلى قوله ـوإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) وإنما أمر المؤمنين بذلك يتميزوا من المنافقين إذا كان المنافقون يتولون الكفار ويظهرون إكرامهم وتعظيمهم إذا لقوهم ويظهرون لهم الولاية والحياطة فجعل الله تعالى ما أمر به المؤمن في هذه الآية علما يتميز به المؤمن من المنافق وأخبر أن من لم يفعل ذلك فهو ظالم لنفسه مستحق للعقوبة من ربه* قوله تعالى( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار فلذلك سماهم نجسا والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين أحدهما نجاسة الأعيان والآخر نجاسة الذنوب وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع قال الله تعالى( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) وقال في وصف المنافقين( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ) فسماهم رجسا كما سمى المشركين نجسا وقد أفاد قوله( إنما المشركون نجس ) منعهم عن دخول المسجد إلا لعذر إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس* وقوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) قد تنازع معناه أهل العلم فقال مالك والشافعى لا يدخل المشرك المسجد الحرام قال مالك

٢٧٨

ولا غيره من المساجد إلا لحاجة من نحو الذمي يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة وقال الشافعى يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة وقال أصحابنا يجوز للذمي دخول سائر المساجد وإنما معنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون النهى خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لأنهم لم تكن لهم ذمة وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركوا العرب أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ولذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر فيما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مشرك فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) الآية وفي حديث على حين أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يبلغ عنه سورة براءة نادى ولا يحج بعد العام مشرك وفي ذلك دليل على المراد بقوله( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) وإنما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج فدل ذلك على أن مراد الآية الحج ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج وإن لم يكن في المسجد ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع ثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما في سائر المشركين وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون ما قرب المسجد والذي في الآية النهى عن قرب المسجد فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبى العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا يا رسول الله قوم أنجاس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام قال أبو بكر فأما وفد ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة

٢٧٩

إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر وهي سنة تسع فأنزلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا يمنع الكافر من دخول المسجد وأما أبو سفيان بأنه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لتجديد الهدنة وذلك قبل الفتح وكان أبو سفيان مشركا حينئذ والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهى عن قرب المسجد الحرام ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المساجد فإن قيل لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك لقوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ولما روى زيد بن يثيع عن على رضى الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يدخل الحرم مشرك قيل له إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج وقد روى في أخبار عن على أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك وكذلك في حديث أبى هريرة فثبت أن المراد دخول الحرم للحج وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر وإنما خص العبد والأمة والله أعلم بالذكر لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة فوقفه أبو الزبير على جابر وجائز أن يكون صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها اخرى وروى ابن جريج عن عطاء قال لا يدخل المشرك وتلا قوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) قال عطاء المسجد الحرام الحرم كله قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك قال أبو بكر والحرم كله يعبر عنه بالمسجد إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد وقال الله تعالى( والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) والحرم كله مراد به وكذلك قوله تعالى( ثم محلها إلى البيت العتيق ) قد أريد به الحرم كله لأنه في أى الحرم نحر البدن أجزأه فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام ) الحرم كله للحج إذ

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ولا يصحّ دون البناء ؛ لأنّه التابع(١) .

وقد بيّنّا فساد الجميع. ولو رهن ثوباً قيمته عشرة بعشرة فهلك عند المرتهن ، سقط دَيْنه عند الحنفيّة(٢) .

ولو كانت قيمته خمسةً ، رجع المرتهن على الراهن بخمسة اُخرى. ولو كانت قيمته خمسة عشر ، فالفضل أمانة ، عند أبي حنيفة(٣) .

وقال زفر : يرجع الراهن على المرتهن بخمسة ؛ لأنّ الرهن عنده مضمون بالقيمة. ولأنّ الزيادة على الرهن مرهونة ؛ لكونها محبوسةً ، فتكون مضمونةً ، كقدر الدَّيْن. ولقول عليّعليه‌السلام : « يترادّان الفضل »(٤) (٥) .

مسألة ٢٣٥ : لو طالَب المرتهن الراهنَ بالدَّيْن ، لم يكن للراهن أن يقول : أحضر المرهون وأنا أُؤدّي دَيْنك من مالي ، بل لا يلزمه الإحضار بعد الأداء أيضاً ، وإنّما عليه التمكين ، كالمودع.

والإحضار وما يحتاج إليه من مؤونةٍ على ربّ المال.

ولو احتاج إلى بيعه في الدَّيْن ، لم يكن عليه الإحضار أيضاً ، بل يتكلّف الراهن مؤونته ، ويحضره القاضي [ ليبيعه ](٦) وبه قال الشافعي(٧) .

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٢ - ١٣٣.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٦٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٦٠.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٦٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٦٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٨.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ٤٣.

(٥) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٨.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « بقبضه ». والصحيح ما أثبتناه.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٤٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦١.

٣٦١

وقال أبو حنيفة : إذا طالب المرتهنُ الراهنَ بالدَّيْن ، أُمر المرتهن بإحضار الرهن ؛ لأنّ قبض الرهن قبضُ استيفاءٍ ، فلو أُمر بقضاء الدَّيْن قبل إحضار الرهن ، ربما يهلك الدَّيْن بعد ذلك ، فيصير مستوفياً لدَيْنه مرّتين بناءً على مذهبه من الضمان ، فإذا أحضره ، أُمر الراهن بتسليم دَيْنه أوّلاً ؛ لتعيّن حقّه كما تعيّن حقّ الراهن ، تحقيقاً للتسوية ، كما في تسليم المبيع والثمن يحضر المبيع ثمّ يسلّم الثمن أوّلاً.

وكذا إن طالَبه بالدَّيْن في غير بلد الرهن ولا حمل له ولا مؤونة ، لأنّ الأماكن كلّها كمكان العقد فيما لا حمل له ولا مؤونة ، ألا ترى أنّه لا يشترط فيه بيان مكان الإيفاء في السَّلَم بالإجماع ، فيؤمر بإحضاره.

وإن كان لحمله مؤونة ، يأخذ دَيْنه ، ولا يكلّف المرتهن بإحضار الرهن ؛ لأنّ المرتهن عاجز عن الإحضار ، والتسليم غير واجبٍ عليه في بلدٍ لم يَجْر فيه العقد. ولأنّ الواجب عليه التسليم بمعنى التخلية ، لا النقل من مكانٍ إلى مكانٍ ؛ لأنّ العين أمانة(١) .

مسألة ٢٣٦ : لو باع الراهن الرهنَ بغير إذن المرتهن ، فإن فسخه المرتهن ، بطل. وإن أمضاه ، نفذ. وإن لم يحصل منه إذنٌ ولا فسخ ؛ لعدم اطّلاعه عليه ، كان البيع موقوفاً على الإجازة ، ولا يقع باطلاً في أصله ، وبه قال أبو حنيفة(٢) .

وقال أبو يوسف : ينفذ البيع كالإعتاق ؛ لأنّه تصرّف في خالص ملكه(٣) .

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٧ - ١٢٩.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٥.

(٣) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٦٢

وليس بجيّد ؛ لأنّ حقّ المرتهن تعلّق به ، فيقف على إجازته.

قال أبو حنيفة : فإن أجاز المرتهن البيعَ ، نفذ ؛ لأنّ المانع من النفوذ حقّه ، وحقّه قد زال بالإجازة. وإن لم يجز البيع وفسخه ، انفسخ - في روايةٍ عن محمّد - حتى [ لو افتكّ الراهن الرهنَ](١) لا سبيل للمشتري عليه ؛ لأنّه يملك الإجازة فيملك الفسخ كالمالك ؛ لأنّ حقّه يضاهي الملك(٢) .

وأشار في الجامع الكبير إلى أنّه لا ينفسخ ؛ لأنّ التوقّف مع المقتضي للنفاذ إنّما كان لصيانة حقّه ، وحقّه يُصان بانعقاد هذا العقد موقوفاً ، وإذا بقي موقوفاً فإن شاء المشتري صبر حتى يفكّ الراهنُ الرهنَ فيسلّم له المبيع ؛ لأنّ المانع على شرف الزوال ، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي ليفسخ القاضي العقد بحكم العجز عن التسليم ، وولاية الفسخ إلى القاضي ، وصار كما إذا أبق العبد المشترى قبل القبض ، فإنّ المشتري بالخيار إن شاء صبر حتى يرجع الآبق ، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد بحكم العجز عن التسليم(٣) .

مسألة ٢٣٧ : إذا باع الراهن الرهنَ من رجلٍ ثمّ باعه بيعاً ثانياً من غيره قبل أن يُجيز المرتهن ، فالثاني أيضاً موقوف على إجازته ؛ لأنّ الأوّل موقوف ، والموقوف لا يمنع توقّف الثاني ، فجاز البيع الأوّل إن أجازه ، وجاز البيع الثاني إن أجازه ، وبه قال أبو حنيفة(٤) .

فإن باع الراهن ثمّ آجر أو رهن أو وهب من غيره وأجاز المرتهن‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٥.

(٣) أورده المرغيناني في الهداية ٤ : ١٤٥ ، والموصلي في الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٠٣.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٥.

٣٦٣

الإجارة أو الرهن أو الهبة ، نفذت ، ولم ينفذ البيع السابق عندنا.

وقال أبو حنيفة : ينفذ البيع السابق ؛ لأنّ تصرّف الراهن في الرهن إذا كان يُبطل حقّ المرتهن ، لا ينفذ إلّا بإجازة المرتهن ، فإذا أجاز المرتهن تصرّفه ، يُنظر فيه ، فإن كان تصرّفاً يصلح حقّاً للمرتهن ، ينفذ بإجازة المرتهن التصرّف الذي لحقه الإجازة. وإن كان تصرّفاً لا يصلح حقّاً للمرتهن ، فبالإجازة يبطل حقّ المرتهن ، والنفاذ يكون من جهة الراهن ، فينفذ السابق من تصرّفات الراهن.

وإن كان المرتهن أجاز اللاحق ، فنقول حينئذٍ : المرتهن ذو حظّ من البيع الثاني ؛ لأنّه يتحوّل حقّه إلى الثمن بناءً على مذهبه من أنّ إجازة المرتهن البيعَ تُفيد تعلّقَ الرهن بالثمن ، فيصير الثمن رهناً عنده ، ويكون المرتهن أحقَّ بثمنه من الغرماء لو مات الراهن ، فصحّ تعيينه ، لتعلّق حقّ الفائدة به ، ولا حقّ للمرتهن في هذه العقود ؛ إذ لا بدل في الهبة والرهن. وأمّا الإجارة فبدلها في مقابلة المنفعة ، وحقّه في ماليّة العين لا في المنفعة ، فكانت إجازته إسقاطاً لحقّه ، فزال المانع من النفاذ ، فنفذ البيع السابق ، كما لو باع المستأجر من اثنين فأجاز المستأجر الثاني ، نفذ الأوّل ؛ لأنّه لاحقّ له في الثمن ، فكانت الإجازة إسقاطاً(١) .

وهذا الضابط الذي ذكره ممنوع.

مسألة ٢٣٨ : لو استعار الراهن الرهنَ من المرتهن ، خرج من ضمان المرتهن عند أبي حنيفة ؛ لأنّ الضمان باعتبار قبضه وقد زال. فإن هلك في يد الراهن ، هلك بغير شي‌ء ؛ لفوات القبض الموجب للضمان ، وللمرتهن‌

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٥ - ١٤٦.

٣٦٤

أن يستردّه إلى يده ؛ لأنّ عقد الرهن باقٍ إلّا في حكم الضمان في الحال ، فإذا استردّه ، عاد مضموناً عليه عنده ؛ لأنّه عاد القبض بحكم الرهن ، فيعود بصفته(١) ، وهو الضمان.

وكذا لو أعاره أحدهما أجنبيّاً بإذن الآخَر ، خرج عن أن يكون مضموناً ، وبقي مرهوناً ؛ لما تقدّم.

ولكلٍّ منهما أن يردّه رهناً كما كان ؛ لأنّ لكلٍّ منهما حقّاً محتوماً فيه ، بخلاف ما إذا آجره - ولو مات الراهن قبل الردّ إلى المرتهن ، يكون اسوةَ الغرماء - لأنّ الإجارة تصرّف لازم أوجبت حقّاً لازماً للغير في الرهن ، فيبطل به حكم الرهن ، ولم يتعلّق بالعارية حقٌّ لازم ، فافترقا.

ولو استعار المرتهن الرهنَ من الراهن ليعمل به فهلك قبل أخذه في العمل ، هلك على ضمان الرهن ؛ لبقاء يد المرتهن ، فبقي ضمانه.

وكذا إن هلك بعد الفراغ من العمل ؛ لأنّ يد العارية ارتفعت وظهر الضمان.

وإن هلك في حالة العمل ، هلك بغير ضمان ؛ لأنّ يد العارية غير ضامنة.

وكذا إذا أذن الراهن للمرتهن بالاستعمال(٢) .

مسألة ٢٣٩ : لو استعار شيئاً ليرهنه فتلف قبل رهنه أو بعد ما افتكّه ، فالأقرب : عدم الضمان - وبه قال أبو حنيفة(٣) - لأنّ حفظ العين في الحال بإذن المالك ، وبالهلاك قبل الرهن أو بعد الفكّ لم يصر قاضياً شيئاً من‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « بصيغته ». وهي غلط.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٨ - ١٤٩.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٥٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٣٦.

٣٦٥

دَيْنه ، والضمان إنّما يتعلّق باعتبار استيفاء الدَّيْن منه ولم يستوف.

هذا على قول أبي حنيفة : إنّ المرتهن ضامن للرهن مطلقاً(١) ، أمّا عندنا فإنه غير مضمون عليه ، لكن على الراهن.

وهل يثبت الضمان عليه بنفس القبض بالعارية للرهن أو بالرهن؟ إشكال أقربه : الثاني.

فإن اختلف الراهن والمعير بعد التلف ، فادّعى المالك تلفه في يد المرتهن ، وقال المستعير : هلك قبل رهنه أو بعد فكّه ، فالقول قول الراهن مع يمينه ؛ لأنّ الضمان إنّما يجب على المستعير بإيفاء الدَّيْن منه أو بإمساكه رهناً وهو يُنكرهما.

مسألة ٢٤٠ : قد بيّنّا(٢) الخلافَ في القبض هل هو شرط أو لا؟ والخلافَ في ماهيّة القبض ، فقيل : إنّه التخلية مطلقاً ، وإنّما يتحقّق القبض بأن يحضر المرتهن فيقبض ، أو يوكّل في قبضه ، فيصحّ قبض الوكيل.

ثمّ الرهن إن كان خفيفاً يمكن تناوله باليد ، فالقبض فيه أن يتناوله بيده ، وإن كان ثقيلاً - كالعبد والدابّة - فالقبض فيه النقل من مكان إلى آخَر. وإن كان طعاماً فارتهن مكيالاً من طعامٍ بعينه ، فقَبْضُه أن يكتاله. وإن ارتهن صُبرة على أنّ كيلها كذا ، فقَبْضُها أيضاً أن يكتاله. وإن ارتهنها جزافاً ، فقَبْضُها النقل من مكان إلى مكان.

وإذا كان ممّا لا يُنقل ولا يُحوّل من أرضٍ ودارٍ وعليها باب مغلق ، فقَبْضُها أن يخلّي صاحبه بينه وبينها ويفتح بابها ، أو يدفع إليه مفتاحها. وإن‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٦ : ١٥٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٩٩.

(٢) في ص ١٨٧ و ١٨٨ ، المسألتان ١٤٠ و ١٤١ ، وكذا في ج ١٠ ص ١٠١.

٣٦٦

لم يكن عليها باب ، فقَبْضُه التخلية بينه وبينها من غير حائل.

وإن كان الرهن مشاعاً فإن كان ممّا لا يُنقل ، خُلّي بينه وبينه ، سواء حضر شريكه أو لم يحضر.

وإن كان ممّا يُنقل ويُحوّل - كالشقص من الجوهر والسيف وغيرهما - لم يجز تسليمه إلى مرتهنه إلّا بحضرة شريكه ؛ لأنّه يريد نقل نصيبه ونصيب شريكه إلى يده.

فإذا حضر وسلّمه إليه ، فإن رضيا أن يكون الجميع على يد المرتهن ، جاز. وإن رضيا أن يكون الجميع في يد الشريك ، جاز ، وناب عنه في القبض. وإن رضيا أن يكون على يدَي عَدْلٍ ، جاز. وإن تشاحّا واختلفا ، انتزعه الحاكم من يدهما ، ووضعه على يد عَدْلٍ إن لم تكن لمنفعته قيمة. وإن كانت لمنفعته قيمة وأمكن إجارته وكان الانتفاع به لا ينقصه ، فإنّه يكرى.

ولو سلّمه الراهن للمرتهن فقبضه ، حصل القبض ؛ لأنّ الرهن حصل في يده مع التعدّي في غيره ، فأشبه ما لو سلّم الرهن وغيره.

ولو كان في يد المرتهن بالعارية السابقة ، كفى ذلك في القبض.

وهل يفتقر إلى مضيّ زمان يتحقّق فيه القبض لو لم يكن في يده؟ الأقرب : المنع.

وليس للمستعير بعد عقد الرهن الانتفاعُ به ؛ لأنّ الرهن مانع من التصرّف ، فليس له الانتفاع به كما كان ينتفع به قبل الرهن ، قاله الشيخ(١) رحمه‌الله .

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٠٤ - ٢٠٥.

٣٦٧

وقال الشافعي : له الانتفاع كما كان(١) .

ولو رهنه ثوباً فاشتبه عليه بغيره فسلّم إليه أحدهما ، لم يثبت القبض ؛ لعدم العلم بأنّه أقبضه الرهن ، فإن ثبت أنّه الرهن تبيّنّا صحّة القبض.

ولو سلّم إليه الثوبين معاً ، صحّ القبض ؛ لأنّه قد قبض الرهن قطعاً.

ولو رهنه داراً فخلّى بينه وبينها وهُما فيها ثمّ خرج الراهن ، صحّ القبض في النصف.

وقال الشافعي : يصحّ القبض في الجميع ؛ لأنّ التخلية تصحّ بقوله مع التمكين منها وعدم المانع ، فأشبه ما لو كانا خارجين عنها(٢) .

وقال أبو حنيفة : لا يصحّ حتى يخلّي بينه وبينها بعد خروجه منها ؛ لأنّه ما كان في الدار(٣) فيده عليها ، فلم تحصل التخلية(٤) .

واعتُرض بأنّ خروج المرتهن منها لا يزيل يده عنها ، ودخوله إلى دار غيره لا يُثبت يده عليها. ولأنّه بخروجه عنها محقّق لقوله ، فلا معنى لإعادة التخلية(٥) .

مسألة ٢٤١ : قد بيّنّا أنّه يصحّ رهن العبد الجاني ؛ لبقاء الملك فيه ، لكن يقدَّم حقّ الجناية على حقّ الرهن ؛ لأنّه متقدّم عليه لو تأخّر فمع التقدّم أولى.

ثمّ إن اقتصّ منه في النفس ، بطل الرهن. وإن اقتصّ في الطرف ، بقي الباقي رهناً بحاله.

____________________

(١) روضة الطالبين ٣ : ٣١٠ ، وانظر الحاوي الكبير ٦ : ٤٢.

(٢ و ٥) المغني ٤ : ٤٠٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٦.

(٣) أي : لأنّه ما دام كائناً فيها.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠ ، المغني ٤ : ٤٠٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٦.

٣٦٨

وإن كانت الجناية خطأً ، فإن كان الأرش أقلَّ من قيمته ، كان الفاضل منه رهناً. وإن ساواها أو زاد ، فإن سلّمه المالك إلى المجنيّ عليه في الجناية ، بطل الرهن. وإن فداه ، سقط الأرش عن رقبته ، وبقي العبد رهناً. وإن بِيع في الجناية ، فسخ الرهن.

ثمّ إن استوعبت الجناية قيمته ، بطل الرهن ، وإلّا بِيع بقدرها ، وكان الباقي رهناً.

والشيخرحمه‌الله أبطل رهن الجاني عمداً وخطأً [ لأنّها ](١) إن كانت عمداً ، فقد وجب عليه القصاص. وإن كانت خطأً فلسيّده أن يسلّمه إلى مَنْ جُني عليه ، فإنّها تتعلّق برقبة العبد ، والسيّد بالخيار بين أن يسلّمه ليُباع في الجناية وبين أن يفديه و [ أيّهما ](٢) فعل فالرهن على البطلان ؛ لأنّه وقع باطلاً في الأصل ، فلا يصحّ حتى يستأنف(٣) .

والوجه : ما قلناه.

ولو كانت الجناية أقلَّ من قيمته ولم يمكن بيع بعضه ، بِيع كلُّه واُعطي المجنيّ عليه حقّه ، وكان الباقي رهناً مكانه. ولو فداه غير السيّد أو أبرأه المجنيّ عليه ، بقي رهناً كما كان.

مسألة ٢٤٢ : قد بيّنّا أنّه يصحّ رهن المدبَّر ، ويبطل التدبير ؛ لأنّه وصيّة ، فكان الرهن رجوعاً فيه ، كما لو أوصى به لزيدٍ ثمّ رهنه ، فإنّه يكون رجوعاً عن الوصيّة ، ويصحّ الرهن.

قال الشيخرحمه‌الله : وإن قلنا : إنّ الرهن صحيح والتدبير بحاله ، كان‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « وأيّما ». والمثبت من المصدر.

(٣) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٢.

٣٦٩

قويّاً ؛ لعدم دليلٍ على إبطاله(١) .

قال : فعلى هذا إذا حلّ الأجل في الدَّيْن وقضاه المديون من غير الرهن ، كان جائزاً. وإن باعه ، كان له ذلك. وإن امتنع من قضاء(٢) الدَّيْن ، نظر الحاكم فإن كان له مالٌ غيره ، قضى دَيْنه منه ، وزال الرهن من العبد ، وكان مدبَّراً بحاله. وإن لم يكن له مالٌ غيره ، باعه الحاكم في الدَّيْن ، وزال الرهن والتدبير معاً(٣) .

مسألة ٢٤٣ : إذا رهن جارية ذات ولدٍ صغير ، صحّ.

فإن علم المرتهن ، لم يكن له الردّ ولا فسخ البيع المشروط فيه الرهن المذكور.

ولو لم يعلم أنّ لها ولداً صغيراً دون سبع سنين ثمّ علم ، كان له ردّها ، وله فسخ البيع المشروط رهنها إن حرّمنا التفرقة ؛ لأنّ ذلك نقص في الرهن ، فإنّ بيعها منفردةً أكثر لثمنها ، وهو غير جائز هنا ؛ لتحريم التفرقة في البيع.

فإن اختار إمضاء الرهن ورضي بالنقص ، فهو بمنزلة العالم يبطل خياره في فسخ البيع.

ولو رهن أرضاً بيضاء ، لم يكن له غرسها. فإن نبت فيها نخل بغرسه أو بحمل السيل إليها نوىً فنبت ، لم يدخل في الرهن ، وليس للمرتهن قلعه.

____________________

(١ و ٣) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٣.

(٢) في الطبعة الحجريّة : « أداء » بدل « قضاء ».

٣٧٠

فإن حلّ الدَّيْن ولم يقض إلّا منها فإن وفى ثمنها بالدَّيْن ، بِيعت من غير نخل ، ويُترك النخل على ملك الراهن. ولو لم يف إلّا أنّ الغرس الذي فيها لم يُنقّص ثمنها ، بِيعت الأرض للمرتهن ، ولم يجب بيع الأشجار معها. ولو نقّص ، تخيّر الراهن بين بيعهما جميعاً وبين قلع الشجر وتسليم الأرض سليمةً من الحُفَر لتُباع للمرتهن إذا لم يكن مفلَّساً ، فإن فلّس ، لم يجز قلعه ، بل يُباعان ، ويُدفع إلى المرتهن ما قابَل أرضاً بيضاء ، والباقي خارج عنه.

مسألة ٢٤٤ : لو رهن عبدين وسلّم أحدهما إلى المرتهن فمات في يده وامتنع من تسليم الآخَر ، قال الشيخ : لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع ؛ لأنّ الخيار في فسخ البيع إنّما يثبت إذا ردّ الرهن ولا يمكنه ردّ ما قبضه ؛ لفواته.

وكذلك إذا قبض أحدهما وحدث به عيب في يده وامتنع الراهن من تسليم الآخَر إليه ، لم يكن له الخيار في فسخ البيع ؛ لأنّه لا يجوز له ردّ المعيب للعيب الحادث في يده(١) .

والوجه : أن نقول : إن جعلنا القبض شرطاً في الرهن أو شرطاه ، تخيّر المرتهن في البيع حيث لم يف الراهن بما شرطه.

مسألة ٢٤٥ : إذا اشترى شيئاً بثمن على أن يكون المبيع رهناً ، قال الشيخرحمه‌الله : لا يصحّ البيع - وبه قال الشافعي(٢) لأنّ شرطه أن يكون رهناً لا يصحّ ، لأنّه شرط أن يرهن ما لا يملك ، فإنّ المبيع لا يملكه المشتري قبل تمام العقد ، وإذا بطل الرهن بطل البيع ؛ لأنّ البيع يقتضي إيفاء الثمن‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٣٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٨ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٦٣.

٣٧١

من غير المبيع ، والرهن يقتضي إيفاء الثمن من ثمن المبيع ، وذلك متناقض. ولأنّ الرهن يقتضي أن يكون أمانةً في يد البائع ، والبيع يقتضي أن يكون المبيع مضموناً عليه ، وذلك متناقض(١) .

وأمّا إذا شرط البائع أن يسلّم المبيع إلى المشتري ثمّ يردّه إلى يده رهناً بالثمن ، فإنّ الرهن والبيع فاسدان ، كالاُولى.

لا يقال : أليس يصحّ شرط الرهن في العقد وإن كان الثمن لم يملكه البائع؟

لأنّا نقول : إنّما جوّزنا ذلك لموضع الحاجة إلى شرطه ليصير حقّاً للبائع ، بخلاف مسألتنا.

وأمّا البيع فلا يصحّ أيضاً عند الشافعيّة ؛ لأنّ هذا استثناء منفعة المبيع ، وذلك لا يجوز عندهم. ولأنّ البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع ، والرهن يقتضي إيفاء الدَّيْن منه. ولأنّ البيع يقتضي تسليم المبيع أوّلاً ، والرهن يقتضي تسليم الدَّيْن أوّلاً ، والبيع يقتضي أيضاً أن يكون إمساك البائع مضموناً ، والرهن يقتضي أن يكون إمساك المرتهن أمانةً ، وذلك يوجب تناقض [ أحكامهما ](٢) (٣) .

مسألة ٢٤٦ : إذا رهن شيئاً عند آخَر فأيّهما مات قام وارثه مقامه في حقّ الرهن.

فإن كان الميّت هو المرتهن ، ورث وارثه حقّ الوثيقة ؛ لأنّ ذلك ممّا‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٣٥.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ والخطّيّة و الحجريّة : « أحكامها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٩.

٣٧٢

يورّث ، إلّا أنّ للراهن أن يمتنع من كونه في يده ؛ لأنّه قد رضي بأمانة المرتهن ولم يرض بأمانة وارثه ، فله مطالبته بنقله إلى يد عَدْلٍ.

وإن كان الميّت هو الراهن ، قام وارثه مقامه في الرهن ، فيكون مستحقّاً عليه كما كان مستحقّاً على الراهن ، إلّا أنّ الدَّيْن الذي كان مؤجَّلاً في حقّ الراهن يصير حالّاً في حقّ وارثه ؛ لأنّ الأجل لا يورّث ، ويسقط بموت مَنْ عليه الدَّيْن. وجملة ذلك أنّ وارث المرتهن يقوم مقام المرتهن إلّا في القبض ، ووارث الراهن يقوم مقام الراهن إلّا في الأجل في الدَّيْن.

مسألة ٢٤٧ : لو أراد الراهن أو المرتهن أن يقطع شيئاً من الثمرة قبل محلّ الحقّ ، فإن كان بعد إدراكها وبلوغها أوانَ أخذها وكان في قطعه مصلحة وفي تركها مضرّة ، أُجبر الممتنع على القطع ؛ لأنّ فيه صلاحاً لهما جميعاً.

وإن كان قبل إدراكها ، فإن كان للتخفيف عن الاُصول أو لازدحام بعضها على بعض وكان في قطع بعضها مصلحة للثمرة ، فإنّه إذا قطع منها كان أقوى لثمرتها وأزكى لها ، فإذا كان كذلك قُطع منها وأُجبر الممتنع.

وإن كان لا مصلحة في قطعها ، فإنّه يُمنع من قطعها ، ولا يُجبر الممتنع عليه.

فإن اتّفقا جميعاً على قطعها أو قطع بعضها ، كان لهما ؛ لأنّ الحقّ لهما ، فإذا رضيا بذلك ، لم يُمنعا.

وما يلزم القطع من المؤونة فعلى الراهن ، فإن لم يكن حاضراً ، أخذ الحاكم من ماله وأنفق عليه. ولو لم يكن مالٌ ، أخذ من الثمرة بقدر الأجرة. فإن قال المرتهن : أنا أنفق عليه على أنّي أرجع بها في مال الراهن ،

٣٧٣

أذن له الحاكم في ذلك.

فإن قال : أنفق في ذلك على أن تكون الثمرة رهناً بها مع الدَّيْن الذي عنده ، جاز أيضاً.

قال الشيخرحمه‌الله : ومن الناس مَنْ مَنَع منه ، وهو الأحوط(١) .

فإن استأجر المرتهن من ماله بغير إذن الحاكم ، فإن كان الحاكم مقدوراً عليه ، لم يرجع على الراهن ؛ لأنّه متطوّع به. وإن لم يكن مقدوراً عليه ، فإن أشهد عليه عَدْلين أنّه يستأجر ليرجع بالاُجرة عليه ، فيه قولان. فإن لم يشهد ، لم يكن له الرجوعُ.

مسألة ٢٤٨ : يجب على المرتهن إذا قبض الرهن أن يحفظه ، كما يحفظ الوديعة ؛ لأنّه أمانة في يده لغيره ، فلا يجوز له التفريط فيها. ولا يجوز له أن يسلّمه إلى غيره وإن كان زوجةً أو ولداً أو مَنْ هو في عياله. وقال أبو حنيفة : له أن يحفظه بنفسه وولده وزوجته وخادمه الذي في عياله. ولو حفظ بغير مَنْ في عياله أو أودعه ، ضمن(٢) .

وليس بجيّد.

ولو رهنه خاتماً فجَعَله في خنصره ، فإن كان واسعاً ، ضمنه ؛ لسقوطه غالباً ، وإلّا فلا.

وقال أبو حنيفة : يضمنه مطلقاً ؛ لأنّه مأذون في الحفظ دون الاستعمال ، وهذا لُبْسٌ واستعمال ، فصار ضامناً ، سواء في ذلك اليمنى واليسرى ، لأنّ الناس يختلفون فيه تجمّلاً(٣) .

ونحن نقول : إن قصد التجمّل والاستعمال ، ضمن ، وإلّا فلا.

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٤٣.

(٢ و ٣ ) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٠.

٣٧٤

ولو جعله في بقيّة الأصابع ، كان رهناً بما فيه عند أبي حنيفة - وهو مذهبنا - لأنّه لا يُلبس كذلك عادةً ، فكان من باب الحفظ ، دون الاستعمال(١) .

قال : ولو رهنه سيفين فتقلّدهما ، ضمن ؛ لأنّ العادة قد جرت بتقليد سيفين في الحرب. ولو كانت ثلاثةً فتقلّدها ، لم يضمن ؛ لعدم جريان العادة بلُبْس الثلاثة(٢) .

قال : ولو لبس خاتماً فوق خاتم ، فإن كان ممّن يتجمّل بلُبْس خاتمين ، ضمن ، وإن كان لا يتجمّل بذلك ، فهو حافظ لا لابس(٣) .

والضابط ما قلناه من أنّه إن قصد الاستعمال ، ضمن ، وإلّا فلا.

مسألة ٢٤٩ : قد بيّنّا أنّ اُجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن على الراهن ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال أبو حنيفة : إنّه على المرتهن ، وكذا اُجرة الحافظ. وأمّا اُجرة الراعي ونفقة الرهن فإنّها على الراهن عنده.

والأصل أنّ ما يرجع إلى البقاء يكون على الراهن ، سواء كان في الرهن فضل أو لا ؛ لبقاء العين على ملكه ومنافعها مملوكة له ، فيكون إبقاؤها عليه ، لأنّه مؤونة ملكه ، كما في الوديعة ، وذلك مثل النفقة في مأكله ومشربه واُجرة الراعي ، لأنّه يحتاج إليه لعلف الحيوان ، فهو كالطعام والشراب. ومن هذا الجنس كسوة الرقيق واُجرة ظئر ولد الرهن وسقي البستان وتلقيح النخل وجذاذه والقيام بمصالحه.

____________________

(١ - ٣ ) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٠.

(٤) حلية العلماء ٤ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢ ، المغني ٤ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤١.

٣٧٥

وأمّا ما يرجع إلى حفظه فهو على المرتهن ، كاُجرة الحافظ ؛ لأنّ الحفظ واجب عليه ، والإمساك حقٌّ له ، فيكون بدله عليه.

وكذا اُجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن ؛ لأنّ الحفظ على المرتهن ، ولا يتأتّى الحفظ إلّا في منزله ، فمؤونة ذلك تكون على المرتهن ، وهذا لأنّه في الحفظ عاملٌ لنفسه ، لأنّه يقصد به إضجار الراهن.

وقال أبو يوسف : كري المأوى على الراهن ؛ لأنّه بمنزلة النفقة ، لكونه سعياً في تبقيته(١) .

وما يلزمه لردّ العين فهو على المرتهن ، وذلك كجُعْل الآبق ، لأنّ يد الاستيفاء كانت ثابتةً على المحلّ ، ويحتاج إلى إعادة يد الاستيفاء ليردّه على المالك ، فكانت من مُؤن الردّ ، فيكون عليه.

هذا إذا تساوت قيمة الدَّيْن والرهن ، فإن كانت قيمة الرهن أكثر ، فعلى المرتهن بقدر المضمون؛ لأنّ الرهن عنده(٢) مضمون ، وعلى الراهن بقدر الأمانة ؛ [ لأنّه ](٣) في قدر الأمانة بمنزلة المودَع ، بخلاف اُجرة البيت ، فإنّه يجب الكلّ على المرتهن وإن كان في قيمة الرهن فضلٌ ؛ لأنّ ذلك إنّما لزمه بسبب الحبس ، وحقّ الحبس في الكلّ ثابت له ، وأمّا الجُعْل فإنّما لزمه لأجل الضمان ، فيتقدّر بقدر المصمون.

وأمّا مداواة القروح والجروح ومعالجة الأمراض من الجناية تنقسم بقدر الأمانة والضمان ؛ لأنّها للإصلاح ، وبالإصلاح ينتفع المرتهن في المضمون والراهن في الأمانة. والخراج على الراهن خاصّةً - وهو جيّد‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣١.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٧٣ ، ضمن المسألة ٢٣٩.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والطبعة الحجريّة : « لأنّ ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٧٦

عندنا - لأنّه من مؤن الملك ، فيكون عليه ، كالنفقة.

والعُشْر فيما يُخرج ويأخذه الإمام ؛ لأنّ العُشْر متعلّق بالعين ، فيكون مقدَّماً على حقّ المرتهن ، ولا يبطل الرهن في الباقي ، بخلاف ما إذا استحقّ بعض الرهن شائعاً ؛ لأنّ تعلّق العُشْر بالخارج لا يخرجه عن ملكه ، ولهذا يجوز بيعه والأداء من محلٍّ آخَر ، بخلاف الاستحقاق(١) .

مسألة ٢٥٠ : قد بيّنّا(٢) اختلاف الناس في أنّ القبض شرط في صحّة الرهن أو لزومه‌ او ليس شرطاً فيهما ، فالحنفيّة جعلوه شرطاً في اللزوم ، وكذا الشافعيّة وبعض علمائنا ، خلافاً للباقي من علمائنا ولمالك حيث جعلوه لازماً بمجرّد الإيجاب والقبول.

إذا عرفت هذا ، فالقبض هنا كالقبض في البيع ، فقبض الدار بالتخلية بينه وبينها ويفتح له بابها ، أو يسلّم إليه مفتاحها.

ولو خلّى بينه وبينها وفيها قماش للراهن ، صحّ التسليم عندنا وعند الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة(٤) .

وكذا نقول : لو رهنه دابّةً عليها حَمْلٌ للراهن وسلّم الجميع إليه ، صحّ القبض عندنا وعند الشافعي(٥) ، خلافاً لأبي حنيفة(٦) .

ولو رهنه الحملَ خاصّةً دون الدابّة أو رهنهما معاً وسلّمهما معاً ، صحّ‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ - ١٥٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٠ - ١٣١.

(٢) في ص ١٨٧ - ١٨٨ ، المسألة ١٤٠.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٣١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣١.

(٥) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٦) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠.

٣٧٧

القبض عندنا وعند أبي حنيفة(١) .

أمّا إذا رهنهما معاً وسلّمهما : فظاهر.

وأمّا إذا رهن الحمل : فلأنّ الحمل ليس مشغولاً بالدابّة ولا هو تابع [ لها ](٢) فصار كما لو رهن متاعاً في دار.

وليس بجيّد ؛ لأنّ كلّ ما كان قبضاً في البيع كان قبضاً في الرهن ، كالحمل ، وقد قال : إذا رهنه سرج دابّةٍ ولجامها وسلّمها بذلك ، لم يصح القبض فيه ؛ لأنّه تابع للدابّة(٣) . وهذا ينقض ما ذكرناه في الحمل.

وقوله : « إنّه تابع » يبطل به إذا باع الدابّة ، فإنّ السرج لا يدخل فيه ، وعلى أنّ الدابّة في يده فكذلك ما يتبعها.

قال : ولو رهن دابّةً عليها سرج أو لجام ، دخل ذلك في الرهن من غير ذِكْرٍ(٤) .

وليس بمعتمد.

مسألة ٢٥١ : قد بيّنّا أنّه لا يصحّ الرهن إلّا على دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة ، ولا يصحّ الرهن على الأمانات ، كالوديعة والعارية ومال القراض ومال الشركة وشبهها من الأمانات ، وبه قال أبو حنيفة.

وعلّل بأنّ موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء من الرهن ، فكان قبض الرهن مضموناً ، فلا بدّ من ضمان ثابت ليقع القبض مضموناً ويتحقّق استيفاء الدَّيْن منه(٥) .

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ والخطّيّة و الحجريّة : « له ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣ و ٤) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٤٠.

(٥) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣.

٣٧٨

ولا يصحّ الرهن عنده بالأعيان المضمونة بغيرها كالمبيع في يد البائع ؛ لأنّ المبيع ليس بمضمون ، فإنّه لو هلك لم يضمن البائع شيئاً ، ولكن يسقط الثمن ، وهو حقّ البائع ، فلا يصحّ الرهن به ، فلو هلك لهلك بغير شي‌ء ؛ لأنّه لا اعتبار للباطل ، فبقي قبضاً بإذنه. ويصحّ على الأعيان المضمونة بنفسها ، وهو أن يكون مضموناً بالمثل عند الهلاك إن كان مثليّاً ، أو بالقيمة إن لم يكن مثليّاً ، كالمغصوب والمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد ؛ لأنّ الضمان مقدّر(١) ، فإنّه إن كان قائماً ، وجب تسليمه ، وإن كان هالكاً ، تجب قيمته. ولو كان رهناً بما هو مضمون ، فيصحّ(٢) .

قال : والرهن بالدرك باطل ، وتصحّ الكفالة بالدرك.

والفرق : أنّ الرهن مشروع للاستيفاء ، ولا استيفاء قبل الوجوب ؛ لأنّ الواجب هو الذي يستوفى ، وضمان الدرك هو ضمان الثمن عند استحقاق المبيع ، فلا يجب قبل الاستحقاق ، فلا يصحّ مضافاً إلى حال وجود الدَّيْن ؛ لأنّ الاستيفاء معاوضة ، فلا يحتمل الإضافة ؛ لأنّ إضافة التمليك(٣) إلى زمانٍ في المستقبل لا تجوز ، والكفالة مشروعة لالتزام المطالبة ، لا لالتزام أصل الدَّيْن ، والتزام الأفعال يصحّ(٤) مضافاً إلى زمان الاستقبال ، كالتزام الصدقات والصيامات بالنذر.

وتفسير الرهن بالدرك كأن يبيع رجل سلعة وقبض ثمنها وسلّمها وخاف المشتري الاستحقاق فأخذ بالثمن من البائع رهناً قبل الدرك ، فإنّه‌

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « متقرّر » بدل « مقدّر » كما في المصدر.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٣.

(٣) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « التملّك ». وما أثبتناه من المصدر.

(٤) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « لا يصحّ ». وما أثبتناه من المصدر.

٣٧٩

باطل عنده حتى لا يملك حبس الرهن ، حلّ الدرك أو لم يحلّ. وإذا هلك الرهن عنده ، كان أمانةً، حلّ الدرك أو لم يحلّ ؛ لأنّه لا عقد حيث وقع باطلاً ، بخلاف الرهن بالدَّيْن الموعود بأن يقول : رهنتك هذا لتقرضني ، فقبض الرهن وهلك في يد المرتهن قبل أن يقرضه ألفاً ، فإنّه يهلك مضموناً على المرتهن حتى يجب على المرتهن تسليم الألف إلى الراهن بعد الهلاك ؛ لأنّ الموعود جُعل كالموجود باعتبار الحاجة ، فكان الرهن حاصلاً بعد القرض حكماً ؛ إذ الظاهر أنّ الخلف لا يجري في الوعد ، فكان مفضياً إلى الوجود غالباً ، بخلاف الرهن بالدرك ؛ لأنّ الدرك لا يكون موجوداً غالباً ؛ إذ الظاهر أنّ المسلم يبيع مال نفسه(١) .

وهذا من أغرب الأشياء ، فإنّ الدرك إنّما يثبت إذا سبق السبب على الرهن ، فيكون مستحقّاً في الذمّة ، والوعد بالقرض لا يُثبت في الذمّة شيئاً ، فكيف يصحّ الرهن على الثاني دون الأوّل!؟

مسألة ٢٥٢ : قد بيّنّا أنّ الرهن أمانة في يد المرتهن لا يسقط من الدَّيْن شي‌ء بتلفه من غير تفريطٍ ، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال : يسقط من الدَّيْن بقدر ما تلف ، ونقص السعر لا يوجب سقوط شي‌ء من الدَّيْن عنده حتى لو رهن عبداً قيمته ألف فنقص سعره حتى صار يساوي مائةً ، لم يسقط شي‌ء من الدَّيْن عند أبي حنيفة(٢) .

وقال زفر : تسقط تسعمائة من الدَّيْن ؛ لنقصان الماليّة بتغيّر السعر ، كما لو انتقصت الماليّة بتغيّرٍ في البدن ، وهذا لأنّ الضمان الثابت بالرهن‌

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٤ ، المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٣.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٦٤ و ١٠٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٢٨ و ١٥١.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400