تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125308 / تحميل: 5205
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

المُستعربين(١) من الذين أثارهم مدى نفوذ الإسلام، وقوّة تأثير الثقافة الإسلاميّة واللغة العربيّة في واقع الشعب الأسباني، فتحرّكوا لمواجهة هذا النفوذ والعمل على تفريغ محتواه من نفوس الأسبان، عن طريق إذكاء حالة العداء الديني وتغذيتها بأشكال الإثارة الحادّة ليتسنّى لهم دقّ إسفين الخلاف، ومِن ثمّ صبّ ذلك في محور تحريضي مباشر تجاه الخلافة الإسلاميّة.

حتّى إنّ بعض المُغالين من الرهبان كان يصرّ على التعرّض للإسلام، والطعن في النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والنيل من المقدّسات الإسلاميّة للفوز بعقوبة الموت، مُعتقدين بأنّهم يكسبون بذلك شرف الشهادة الذي حُرِموه نتيجةً للتسامح الذي كان سِمةً من سِمات حكّامهم المسلمين في دار الخلافة بالأندلس.

وبالرغم من أنّ عدد هؤلاء المتعصّبين لم يكن كبيراً، إلاّ أنّ الحكومة قد خشيت آنذاك (سوء عاقبة هذه الحوادث وأوجست خيفة من أنّ احتقارهم سلطانهم، وعدم اكتراثهم بالقوانين التي سنّوها ضدّ مَن يطعن في دينهم (الإعدام)، قد يؤدّي إلى استفحال روح الكراهيّة، وذيوع حركة العصيان بين الأهلين كافّة)(٢) .

فعمدت إلى القضاء على حركة الاستشهاد، مستفيدةً من اعتدال الكثير من المُستعربين، وعدم تفاعلهم معها.

ولمّا كانت هذه الحركة عبارة عن إرهاص متشنّج يحكي حالة الرفض المتعصّب بطريقةٍ انفعاليّة هيمنت على أفكار المُتديّنين والقساوسة الأسبان - كما عبّر عنها(ريتشارد سوذرن) ووصفها: (بأنّها حركة ضدّ رضا العامّة بالحضارة العربيّة)(٣) - فقد خلقت أرضيّة لعمل فكري يهدف إلى معرفة وفهم

____________________

(١) استعرب: صار دخيلاً بين العرب. (القاموس المنجد، باب: عرب).

(٢) أرنولد، توماس - الدعوة إلى الإسلام - الترجمة العربيّة: ١٦٥ - ١٦٦.

(٣) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٨.

٤١

العدوّ الإسلامي، ودراسة سرّ قوّته وتميّزه، ورفع الإبهام عن لغز تفوّقه وقدرته. أي بعبارةٍ أُخرى خلقت أرضيّة الاستشراق بروحه التبشيريّة.

أمّا لماذا لم يتم هذا العمل الفكري في الفترة التي كانت حركة الاستشهاد في أوجّها؟ فيقول (سوذرن): (إنّ كلاً من (أولوجيوس) و (ألبرو قرطبي) قائدَيّ الحركة كانا يعتقدان أنّ السيطرة الإسلاميّة هي بداية المقدّمة الضروريّة لظهور المسيح الدجّال، المذكور في كتبهم المقدّسة، وانسجم ذلك مع تأويلات خاطئة باقتراب يوم القيامة، وعلائمه التي كانت سائدة بين أوساط المجتمع الأوربّي المسيحي آنذاك.

إضافةً إلى أنّهما لم يكونا مؤهّلين للجهد الفكري المطلوب في معرفة وفهم العدوّ الإسلامي، كما وإنّهما - القائدَين - وأتباعهما لم يكونوا يريدون أنْ يعرفوا شيئاً)(١) لتَشبُّع قلوبهم بالبغض والكراهيّة والغضب على كلّ ما هو مُخالف لأفكارهم ومعتقداتهم الخرافيّة السائدة، وتأويلاتهم المنحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولم تكن الكنيسة الكاثوليكيّة بأحسن حالاً من هؤلاء، حيث لم تخرج عن دائرة هذا الجوّ العدائي.

فقد كانت أحد العوامل الرئيسيّة لتأجيج الصراع وتغذية الشعور المعادي للمسلمين، وإذكاء نار الحقد في صدور رعاياهم ضدهم بكلّ ما تهيّأ لها من وسائل وأُوتيت من قوّة، لما أدركته من تأثير الإسلام وسرعة نفوذه وكثرة المُقبلين عليه.

حيث يصف أحدُ المؤرّخين هذه الظاهرة فيقول: (بأنّ تأثّرهم بالإسلام كان بمحض إرادتهم في أغلب الأحيان)(٢) . وأخذت الكنيسة الكاثوليكيّة تدرك تدريجياً ومن موقع دفاعي ضرورة إعطاء النصارى أسباباً

____________________

(١) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٩.

(٢) بروفنسال، ليفي (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ - ١٧.

٤٢

وجيهةً ليحافظوا على إيمانهم التقليدي الخاص، ويتحصّنوا داخله.

إلاّ أنّ هذه المساعي لم تنجح، فسرعان ما تأجّجت العصبيّات واستفحل العداء الشديد.

وعلى هذا نرى أنّ بدايات الاستشراق لم تكن منفصلة عن منظومة التنصير والتبشير، ولا عن الدوافع الدينيّة المتطرّفة التي كانت الأساس في نشأة الفهم الاستشراقي(١) ، فلا عجب إذن إذا رأينا الكثير من المُستشرقين يجهدون في تصوير العالم الإسلامي في كتاباتهم على أنّه بشعٌ في عاداته، قبيحٌ في أخلاقه، مليء بالبِدَع والانحرافات عن الدين السماوي الحقّ الذي جاء به المسيح النبيّ، ولا يتحرّزون عن اختلاق ما يدعم دعواهم تلك، وكلّ ما مِن شأنه زرع روح التشكيك في الإسلام وزعزعة اليقين بين أوساط المسلمين.

____________________

(١) راجع د. سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) مجلّة التوحيد - العدد ٣٢: ١١٦.

٤٣

نشأة الاستشراق بين النهج العلمي والاستعداء التبشيري

إنّ البدايات التي سجّلها الباحثون لنشأة الاستشراق لم تكن خارجة عن نطاق الصراع الذي تربّع أبطاله على صدر الأندلس، وتركوا آثار حقدهم وتعصّبهم شاخصةً على مرّ العصور، مُنزِلةً الضربة تلو الأُخرى بالوجود الإسلامي في الأندلس.

فالحرب التي شنّتها المسيحيّة على الإسلام حينذاك قد نحَت مَنحَيَيَن باتّجاهين مُتوازيين يعضد أحدهما الآخر، ويؤدّيان إلى هدفٍ واحد، ألا وهو القضاء على الخصم الذي غزاهم وهُم غارقون في سُباتٍ عميق.

الأوّل: كان يُريد تحقيق هذا الهدف بحدِّ السيف وإعلان الحرب المباشرة، لاجتثاث جذور الوجود الإسلامي بشكل سريع ونهائي.

والثاني: كان يرى أنّ دراسة العدو، واستثمار معارفه وعلومه، والاطلاع على مبادئه وأفكاره يشكّل الطريق السليم لمواجهة هذا العدوّ من خلال امتلاك سرّ قوّته، ومعرفة سُبل اجتثاثه من داخله.

إنّ الاختلاف الظاهري لهذين الاتّجاهين المعاديين للإسلام والذي أُريد له أنْ يبرز بشكلٍ مقصود، كان يُعبّئ الآخرين ويبرز ردود فعلٍ موسومةً بالتصلّب والتعدّي تارة، وبالمرونة وطَرقِ السُبل السلمية بغطاءِ العلم والمعرفة تارةً أُخرى.

إنّ ما قام به أسقف طُلَيطَلة مِن إخضاع النصارى الأسبان له، إثر تعرّض

٤٤

العلاقات والروابط بين الكرسي البابوي من جهة، والكنيسة من جهةٍ أُخرى للضعف والتردّي، أدّى إلى انفصال الأخيرة عن البابويّة، ممّا حدا بأسقف طُلَيطلة إلى إخراج ترجمات مبكّرة لبعض الكتب العلميّة العربيّة(١) .

وكما ذكر غابريلي في(تراث الإسلام) : (لقد استعربت المسيحيّة بسرعة لغويّاً وثقافيّاً)(٢) .

في الوقت الذي استمرّت الكنيسة على تصلّبها وأبرزت تعصّباً بالغ التزمّت تجاه أيّ تقاربٍ ومهادنة أو موقفِ صداقةٍ تفرضه الطبيعة العلميّة، أو ظروف التقارب الثقافي الذي قد يتّخذه بعض طلاب الثقافة والمعرفة الأوربيّين من الإسلام والثقافة الإسلاميّة.

ومِن أمثلة ردود الفعل المتعصّبة التي أفرزتها طبيعة الخلافات هذه، هو ما أعلنه البابا(غريغور التاسع) من أنّ فريدريك الثاني حاكم صِقلْيّة الذي أصبح إمبراطوراً لألمانيا في عام ١٢٢٠م قد خرج على الكنيسة، حيثُ كان(فريدريك) هذا مُستعرباً لغةً وثقافةً وعلوماً وعادات.

وقد أهدى كتباً فلسفيّة تُرجمت عن العربيّة إلى جامعات بولونيا وباريس، وعندما أصبح إمبراطوراً أسّس جامعة في نابولي سنة ١٢٢٤م، وجعل منها أكاديميّة لنقل المعارف الإسلاميّة إلى العالم الغربي(٣) .

وعليه فإنّ نشأة التبشير في الأندلس بدأت بهدف القضاء على الإسلام، والتبشير للمسيحيّة بين صفوف المسلمين الكَفَرَة - كما كانوا يسمّونهم - الذين قدموا من بلاد العرب وفتحوا الأندلس، أو الذين دخلوا الإسلام حديثاً والذين يطلق عليهم (المولدين)(٤) ، بعد أنْ ثبت لدى أغلب رجال الفكر

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري): ٢٤.

(٢) غابريلي، فرانشسكو (تراث الإسلام) - القسم الأوّل - الترجمة العربيّة: ١٣٤.

(٣) رودنسون، مكسيم (جاذبيّة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٢ و٣٣.

(٤) أُطلقت هذه التسمية على أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا مِن آباء أسبان، وهؤلاء كانوا يمثّلون طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي، دخلوا الإسلام أثناء الفتح، وحَسُن إسلام الكثير منهم. وكان منهم من أصحاب التآليف والتصانيف والمكانة العلميّة المرموقة. عن مجلّة نور الإسلام: ٢٧ - ٢٨/ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٤٥

النصارى وعلمائهم أنّ الإسلام لا يُمكن القضاء عليه بالعمل العسكري، فدون ذلك خرط القتاد، وأنّ أيّ مواجهة سوف لنْ تثمر شيئاً ومحكومٌ عليها بالفشل والخُسران.

لذا فإنّ منظومة التبشير والتنصير قد تولّدت في أُتون الصراع المُستعِر بين الإسلام والكنيسة على الأرض الأندلسيّة، والتي شكّلت مُنذ القرن التاسع عشر الميلادي الخليّة الأولى في مشروع الاختراق الثقافي الأوربّي للوجود الإسلامي، تمهيداً للامتداد والسيطرة الاستعماريّة وبنشاطٍ منظّم.

فالتبشير مصطلحاً ونظريّة، يقوم على نشر المسيحيّة في جميع بقاع الأرض التي تخلو منها، وهو بمعنى آخر هجوم المسيحيّة على الديانات الأُخرى بهدف اقتلاعها مِن عقول ونفوس معتنقيها، والحلول محلّها بكلّ وسيلة (سلميّة) ممكنة، وتطرق في ذلك أبواباً شتّى للوصول إلى أهدافها، منها: معرفة لغة الناس المقصودين بالتبشير، ودراسة عاداتهم وقِيمهم ومعتقداتهم عن كثب، والتدخل (للمساعدة) في حلّ مشاكلهم الشخصيّة والاجتماعيّة والصحيّة(١) .

مستفيدين من حالة الجهل والأُميّة السائدة في أوساطهم، للتشكيك في عقائدهم كمقدّمة لزقّهم بالتعاليم النصرانيّة عن طريق مؤسّسات التربية والتعليم، كالمدارس والمعاهد والجامعات وأمثالها.

وهكذا بدأ التبشير حركتهُ الشاملة للقضاء على الوجود الإسلامي، متّخذاً صوراً وأشكالاً مختلفة، وكان الاستشراق أبرز صوره الفكريّة. وهكذا كان العلم والبحث العلمي الذي يفترض فيه سموّ الإنسان بتحصيله المتواصل للكمالات قد

____________________

(١) الطهطاوي، محمّد عزت إسماعيل (التبشير والاستشراق): ١ - ٣.

٤٦

استُخدِم أداةً مِن أدوات التخريب الحضاري لبلاد المسلمين، والاعتداء على تراثهم، والطعن بالباطل في دينهم. وكانت المآرب السياسيّة والتعصّب للدين من السمات الأساسيّة للحركة الاستشراقيّة، ومن العناوين الخفيّة للوحدة والانسجام بين الاستشراق والتبشير.

٤٧

مبدأ الاستشراق اختراق ثقافي لدحر المسلمين في أوربّا

لقد كان الصراع التدميري الذي خاضته الكنيسة ومن ورائها المستعربون المتعصبون من النصارى ضد المسلمين في الأندلس والذي برّز الاستشراق صورةً من صوره الفكريّة فيما بعد قد اتّخذ مسارين: الأوّل ديني، والثاني فكري وسياسي.

أوّلاً: المسار الديني:

يُمكن تلخيص الكاشف عن المسار الأوّل بما يلي:

أ - سعي الكنيسة الدائب لاسترداد أسبانيا مِن المسلمين وإعادتها إلى سلطتها، وأنّ تلكّؤ مساعيها في النجاح لا يعني هزيمتها، فحروب الأسبان (القدماء) كانت خاضعة للكرّ والفرّ، واستمرّت بأشكالٍ مختلفة، مِن حربِ عصاباتٍ إلى مناوشاتٍ مشحونةٍ بالعداء الديني، إلى تأجيج العصبيّات بصيغتها الدينيّة بين مختلف الطوائف والقبائل، حتّى استنزفت قُوى الدولة الأندلسيّة التي ما لبث التفكّك والتشرذم أنْ طال كيانها الناشئ، في الوقت الذي لم تحسم فيه المواجهة بين الطرفين المُتصارعين، واستمرّت تتناوب بين انكفاءٍ وتقدّم.

٤٨

وبدءاً بعام ٧٥٦م راحت الهَجَمَات الأسبانيّة تتوالى حتّى (أخذت شكلاً تكتّليّاً وحرباً مقدّسة صليبيّة بآخر المعاقل الإسلاميّة)(١) .

وهكذا استمرّ الحال حتّى سقوط غرناطة بأيدي الأسبان، ووصول الوجود الإسلامي في الأندلس إلى نهايته عام ١٤٩٢م بعد أنْ تواصل ثمانية قرون تقريباً.

ب - إنّ من جملة أسباب تفوّق الأسبان الأُوربّيّين في هذه الحرب هو أنّهم (استعاروا أُسلوب المسلمين في الجهاد المقدّس)(٢) فأفادت المسيحيّة الأسبانيّة من عقيدة خصمها، وخاضت غمار المواجهة بأحد أمضى أسلحة الخصم الإسلامي، وأنشأت (طوائف الفرسان الدينيّة في سانتياغو وكلاترافا وألكنترا، وفي الطوائف التي ذاع صيتها في السجلاّت التأريخيّة لحروب الاسترداد)(٣) . علماً (بأنّ الأُسلوب نفسه قد اعتمدته الحملات الصليبيّة أيضاً)(٤) .

ج - لقد ترك الصراع الذي خاضته الكنيسة ضدّ المسلمين في الأندلس آثاره على مسير الكاثوليكيّة الأسبانيّة، وجنَت منه فوائداً كبيرةً، منها تحوّل هذا الصراع إلى عامل أساسي في بناء أسبانيا، وتطوير تركيبتها الداخليّة الخاصّة وموقعها العام، خصوصاً على مستوى الحسّ الديني المُرهف الذي برز عند الأسبان أفراداً ومجتمعاً، مِن خلال ما تركته العلوم والآداب الإسلاميّة مِن آثار في أعماق وأُسُس الحضارة الأسبانيّة مُنذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا.

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي - (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري) مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط٢، ١٩٨٥م.

(٢) لومبير، إيلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في أسبانيا والبرتغال وشمال إفريقيا) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٣) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ و١٧.

(٤) قنواتي، جورج شحاته - (تراث الإسلام) القسم الثاني، الترجمة العربيّة: ٢٦٠.

٤٩

ثانياً: المسار الفكري والسياسي:

إنّ أبرز العوامل التي بلورت هذا المسار هي:

أ - إنّ النصارى مِن غلاة رجال الكنيسة والمُستعربين الأُوربّيّين الخاضعين للحكم الإسلامي، كانوا ينظرون إلى المسلمين على أنّهم محتلّون برابرة كَفَرة، ويحرّضهم على ذلك الشعور تعصّبهم الديني وجشعهم السياسي، وشهوة مُلوكهم التائقين إلى استرداد ما فقدوه بالقوّة عند الفتح الإسلامي.

ب - إنّ بعض الأُمراء الأمويّين لم يعملوا على إخضاع جميع المواقع المسيحيّة لحكمهم في شبه جزيرة أيبيريا، ممّا أعطى للأسبان فرصةً سانحةً في أنْ ينطلقوا لإثارة الحروب والفتن.

ج - السياسة غير الحكيمة التي مارسها أحياناً بعض الأُمراء الأمويّين ضدّ المُستعربين، وضدّ غيرهم مِن طوائف المجتمع الأندلسي كالصقالبة(١) ، والبربر(٢) ،

____________________

(١) الصقالبة: هم عند مؤرّخي العرب الشعوب السلافيّة القاطنة بين جبال الأورال والبحر الأدرياتيكي، وهُم من أُصول أوربيّة مختلفة، وينقسمون إلى قسمين: الأوّل منهم صقالبة الشمال (الروس والروس البيض والبولونيون)، وصقالبة الجنوب أو اليوغسلافيون (الصرب والكرواتيون والسلوفاكيون والبلغاريون).

وقد جيء بهم إلى الأندلس أطفالاً صغاراً ذكوراً وإناثاً، فنشأوا نشأةً عربيّة إسلاميّة في بلاط الملوك والحكّام. كان منهم العبيد المجنّدون في الخدمة العسكريّة، ومنهم القادة والكتّاب والأُدباء.

القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٧: ٢ و٢٨: ٣٤ من (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

(٢) البَربَر: اسم يطلق على سكّان إفريقيا الشماليّة من برقة إلى المحيط، كانوا يتكلّمون لهجات أعجميّة قبل استعرابهم، ولا يزالون. ويرجع أصلهم إلى فِئات عرقيّة مختلفة استقرّت في البلاد قبل الميلاد، وعرفت بعض الازدهار مثل:(مملكة نوميديا ومملكة موريتانيا) .

لم يكونوا مرتاحين تماماً إلى حكم روما ولا إلى أسبانيا بقيادة أحدهم وهو طارق بن زياد، تبعوا الخوارج وأعلنوا العصيان على العباسيّين. توزعوا ممالك وسلالات، فكان منهم الأغالبة والرستميّون والمرابطون والموحّدون، ثمّ زالت دولتهم في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تحمّلوا القسم الأعظم مِن أعباء الفتح فقتل منهم في هذا السبيل الآلاف، وقد تأثّروا كثيراً بالدين الإسلامي، وأبدوا تحمّساً لنشره والدفاع عنه.

عن القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٥: ١ و٢٦: ٨ في = (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٥٠

والمولدين، ممّا أدّى إلى تنامي الشعور القومي والحساسيّة العرقيّة لدى المواطنين من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا، فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا.

فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة العسكريّة النصرانية، ممّا سهّل لهم لعب دورٍ كبيرٍ لخوض حرب إيديولوجيّة سياسيّة.

د - بروز أجواء متوتّرة ساعدت على اعتماد القمع العنصري والقبلي، من قِبل الحكّام كَرَدّة فعل على الاضطرابات والأجواء المشحونة بالقلاقل، والتي كانت مدعومةً أحياناً من النصارى والمُستعربين والمُتعصّبين.

هـ - بروز صراعات سياسيّة وقبليّة بين المسلمين العرب أنفسهم، منها العصبيّة التي ثارت بين القيسيّين واليمنيّين، وأخذت العرقيّة القبليّة تنبض في نفوس أصحابها، فتطاحنوا (وتذابحوا وذهبت ريحهم)(١) . فانتهز المتربّصون بالحكم الإسلامي، والذين يصطادون في الماء العكر من نصارى الأسبان الفرصة للعصيان وإشعال فتيل الفتن والاضطرابات والتهيّؤ للمستقبل، الذي يأملون فيه القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس. فتدافعوا وجمعوا قواهم، واستعدّوا.

و - الدعم المباشر الذي قدّمه بهذا الاتّجاه النصارى الأوربّيون من الفرنسيّين وغيرهم بقيادة شارلمان (٧٤٢ - ٨١٤م) المعروف بتصدّيه التاريخي للانتشار الإسلامي في أوربّا، تمّ بمباركة البابا (أُوربانس الثاني) - الذي تسبّب فيما بعد بتأجيج الحروب الصليبيّة - عبر النداء الشهير الذي أطلقه في ٢٧ تشرين الثاني عام ١٠٩٥م، ودعا فيه نصارى أوربّا إلى الجهاد ضدّ الكَفَرَة المسلمين، وحمل السلاح لغزو الشرق، وهو نفسه الذي أعدّ حملةً مؤلّفةً في معظمها من (فرسان جنوب فرنسا) عام ١٠٨٩م لمساعدة نصارى الأسبان في مقاتلة

____________________

(١) بالنتيا، أ. جـ (تأريخ الفكر الأندلسي) الترجمة العربيّة: ١٧.

٥١

المسلمين في الأندلس(١) .

ز - الدور الذكيّ والمُخادع الذي لَعِبهألفونس الثالث (٨٦٦ - ٩١٠م) ملك أشتوريش وليون الاسباني في العمل الجاهد لاختراق المسلمين في الداخل ونشر الفرقة بينهم، حتّى نجح في استمالة المُستعربين الذين أسلموا حديثاً، مستنفراً فيهم كوامن المذهبيّة والطائفيّة، ممّا حداهم إلى رفض الإسلام والتمرّد على السلطة المركزيّة في قرطبة (ووعدهم بمنحهم الاستقلال إذا انقلبوا في اللحظة الحاسمة، ووقفوا إلى جانبه في موعد الهجوم على ضواحي قرطبة ومناطقها الشماليّة، وذلك مِن أجل أنْ يعيشوا أحراراً في أرضهم التي انتزعها المسلمون منهم بالعنف.

وإنّ وعدهم نصرتهم الملك، تعني استمرارهم كوسائل اقتصاديّة فقط، وكمصدر لإغناء خزينة الخلافة الإسلاميّة)(٢) .

وهكذا كانت عمليّة اختراق الوجود الإسلامي مِن قبل المُستعربين في الأندلس قد تمّت من زاويتين رئيسيّتين:

الأولى: بشريّة تشكل قوّة عسكريّة كبيرة العدد مدعومةً بالقوّة الأوربّية قادرة على ترجيح الكفّة من الناحية الإستراتيجيّة للمسيحيّة.

الثانية: إيديولوجيّة حضاريّة، وهي مدار بحثنا هذا، وهي الأهم والتي يُمكن أنْ يلعب مِن خلالها المُستعربون دوراً كبيراً في تقويم أوربّا الرازحة تحت وطأة التخلّف الحضاري، والخواء الثقافي، ورفدها بالمعارف والعلوم الحيويّة لنهضتها المخطّط لها. ثمّ إنّ دورهم هذا هو دينٌ عليهم وردٌ للجميل الذي قدّمته أوربّا لهم بمساعدتها لضرب الحكم الإسلامي.

وقد بذلت الكنيسة ومؤسّساتها كامل الجهد لاستيعاب كل هذه الأهداف

____________________

(١) لومبير، ايلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في إسبانيا...) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٢) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ٧٩.

٥٢

في تخطيطٍ شاملٍ، وبرعاية السلطة السياسيّة وتشكيلاتها.

وهكذا كان، فقد ابتكرت الكنيسة حرباً جديدة ومواجهة غير مرتقبة، سلاحُها العلم والفكر واغتنام المفردات الحضاريّة للمسلمين، وتكييفها بالشكل الذي يسدُّ نقصهم وثغراتهم الأيديولوجيّة، ويمنحهم القدرة للتفوّق في هذا الجانب الأساسي على العدوّ الإسلامي. فبعد أنْ كان النصارى الأسبان يتخبّطون في ظُلمات جهلهم إبّان الفتح الإسلامي، ضُعفاء لا يملكون أسباب القوّة للردّ والمواجهة، أدركوا الآن قانوناً أساسيّاً من قوانين مقارعة الخصم والذي يتمثّل في معرفة الخصم وفهم حقيقته، وذلك عن طريق اكتشاف عوامل كماله ونقصه، وأسباب قوّته وضعفه، ومواطن ذلك في وجوده، ومن الذي يكمن وراء تفوّقه وهيمنته. وخلال دورة زمنيّة لم تطل كثيراً استطاعوا بإتقان أنْ يصلوا إلى أهدافهم، ويستحوذوا على كافّة مستلزمات المواجهة الشاملة لدحر المسلمين.

وفي طليعة انجازاتهم هذه:

أ - ما قام به الرُهبان مع بداية القرن التاسع من تعلّم اللغة العربيّة الفصحى، ومن ثمّ الإقبال على الترجمة عنها، وذلك (بناءً على تعليمات أساقفتهم)(١) . كما

____________________

(١) إنّ أوّل ترجمة (مزعومة) للقرآن يرجع تأريخها إلى عام ١١٤٣م، عندما أنهى إنجليزي وهو(روبرت الكتوني) بين ١٦ أيار و٣١ كانون الأوّل، من العام المذكور ترجمة لبعض معاني القرآن من العربيّة إلى اللاتينيّة، واستناداً إلى فهمه الشخصي. وكان هذا الرجل قد تنقّل في بعض البلدان الآسيويّة قبل انتقاله إلى برشلونة عام ١١٣٦م. وقد كانت ترجمته هذه بالإضافة إلى ترجمة كتب أُخرى من العربيّة إلى اللاتينية قد نمت تحت إشراف ورعاية أحد الأساقفة، وهو(بطرس الموقر) رئيس دير(كلوني) الفرنسي، وهو الدير الذي تخرّج منه البابا (أُوربانس الثاني) مؤجّج الحروب الصليبيّة. وكان الموقر هذا يرى في الإسلام خطراً فكريّاً شديداً على المسيحيّة لابد من التعرّف عليه لتمكن مكافحته بغير الوسائل العسكريّة.

راجع ما يلي:

خدابخش، صلاح الدين - (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٤١ - ٤٢. وكذلك سوذرن، ريتشارد. (صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى): ٨٠ - ٨٢.

٥٣

جاء على لسان المُستشرق(فرانز روزنتال) بقوله: (وبتعلّم اللغة العربيّة باعتبارها لغة العلوم والفلسفة والفكر آنذاك، وبالاطلاع على القرآن وترجمته إلى اللاتينيّة، بهدفٍ وحيد وهو الوصول إلى فهمٍ عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً في أنْ يُصبح الرهبان أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مواطن الضعف فيه)(١) .

ب - قيام القساوسة والرهبان الأوربّيون، وكذلك الأسبان بحملةٍ ضخمةٍ لترجمة الفكر والثقافة الإسلاميّة وعطاءاتها الحضاريّة الإنسانيّة، وبذلك تمكّنوا مِن تأسيس أوّل شبكة إيديولوجيّة للاستشراق الغربي، مستهدفين بذلك مقاومة الإسلام ومحاصرته سياسيّاً وفكرياً وعقائديّاً بعيداً عن أيّ هدفٍ علمي منزّه(٢) ، واضعين نصب أعينهم إعادة المجد التليد، والبريق القديم الذي فقدته النصرانيّة هدفاً لهم، مخطّطين لحملاتٍ ضخمةٍ للتنصير، عبر منهجَين متضادَين ومتوازيَين ظاهريّاً: أحدهما علمي يستند إلى البحث والدراسة بقصد المعرفة والكشف، والآخر سياسي تطويقي يهدف إلى تدمير وتصفية الخصم بأيّ وسيلةٍ ممكنة. وبذلك تتوظّف كلّ الجهود العلميّة والسياسيّة لتحقيق الهدف التنصيري.

ويشهد على ذلك قول(رودي بارت) : (كان موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام هو موقف الدفع والمشاحنة فحسب. صحيح أنْ العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتّصلون بالمصادر الأُولى في تعرّفهم على الإسلام، وكانوا يتّصلون بها على نطاق كبير، ولكن كلّ محاولةٍ لتقويم هذه

____________________

(١) فوك، يوهان - (المُستشرقون الألمان): ١٥.

(٢) سمايلو فيتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٤٩. وكذلك مقدّمة مصطفى محمود لكتاب سمايلو فيتش: ٣. وكذلك خدابخش، صلاح الدين في (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٥.

٥٤

المصادر على نحوٍ موضوعي نوعاً ما كانت تصطدم بحكمٍ سابقٍ يتمثّل في أنّ الدين المعادي للمسيحيّة لا يُمكن أنْ يكون فيه خير)(١) .

ج - ودعماً لهذا المخطّط فقد رافقت تلك الفترة استخدام أبشع وسائل الاضطهاد، وممارسة شتّى أنواع التنكيل بالمسلمين، وارتكاب أفضع جرائم القهر الديني والسياسي بحقّهم، ومحاربتهم نفسيّاً واقتصاديّاً، وصُودرت نتاجاتهم العلميّة والثقافيّة ونُسِبت إلى غيرهم من أعدائهم، وعملت الكنيسة على تأسيس محاكم التفتيش(٢) التي نكّلت بمَن تبقّى من المسلمين الأندلسيّين بعد سقوط الأندلس وغرناطة في أواخر القرن الخامس عشر، وأُعطيت صلاحيّات استثنائيّة واسعة أيّامفرديناند (٣) ،وإيزابيلا (٤) ،وفيليب الثاني (٥) ، وشمِل التقتيل والإحراق

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس. (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧٥.

(٢) يُعزى تأسيس محاكم التفتيش إلى البابا(غريغور السابع) عام ١٣٣٣م، عندما أمر بتشكيل لجنة من كلّ قريةٍ أو بلدةٍ يرأسها قسّ، وبعضوية شخصيّتين بارزتين وذلك للتفتيش عن الهراطقة ومحاكمتهم (وقد أطلقت تسمية الهراطقة عند النصارى على أهل البدعة في الدين. والمقصود بهم هنا الذين ينتمون إلى الدين الإسلامي في بلاد النصارى). ثمّ ما لبث أنْ تسلّم المحاكم هذه جماعة الدومنيكان وغيرهم من الرهبان. وجماعة الدومنيكان أو ما يُطلق عليهم: الأُخوة الواعظون: هُم أعضاء الرهبانيّة التي أسّسها القدّيسعبد الأحد لدحض البِدَع عام ١٣٠٦م، وكانوا أرباب التعليم الفلسفي واللاهوتي في القرون الوسطى. دخلوا البلاد الشرقيّة في القرن السابع عشر، أسّسوا كليريكيّة الموصل عام ١٨٨٢م (وهي البيع التي يخدم فيها الشمامسة والقساوسة والأساقفة)، وكانت لهم فيها مطبعة عربيّة شهيرة، ولهم في القدس مدرسة الكتاب المقدّس.

راجع، براندتراند، جون في (تراث الإسلام) الترجمة العربيّة: ٧٠، وكذلك (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٣) فرديناند: ملك أراغون وهو المعروف بالكاثوليكي، ملك قشتالة (١٤٧٤ - ١٥٠٤م) بعد زواجه وإرثه عرش قشتالة من إيزابيل، أخذ غرناطة من العرب (المسلمين) عام ١٤٩٢م ووحد إسبانيا تحت سلطته ونظم إداراتها. وفي عهده اكتشف كريستوفر كولومبس أميركا. عن (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٤) إيزابيلا: (١٤٥١ - ١٥٠٤م) ملّقبة بالكاثوليكيّة وهي ملكة قشتالة التي تزوّجها فرديناند، فتوحّدت بهذا الزواج الدولة الأسبانيّة، وأدّى ذلك إلى سقوط غرناطة عام ١٤٩٢م. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

(٥) فيليب الثاني: (١٥٢٧ - ١٥٩٨م) ابن كارل الخامس ملك أسبانيا وهولندا (١٥٥٦م). ثمّ ملك = البرتغال عام ١٥٨٠م، ويعتبر عهده أوج السيطرة الأسبانية في أوربّا. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

٥٥

والذبح جماعةً من المسلمين الذين تنصّروا ظاهراً، وأقاموا على عقيدتهم (الإسلاميّة) وظلّوا يمارسونها في الخفاء. وامتدّت صلاحيّات هذه المؤسّسة التنكيليّة لتنال من مصادر الفكر الإسلامي، وإحراق الكتب، وإتلاف كلّ ما يُؤدّي في نظر الأساقفة إلى إلحاق الضرر بالكنيسة.

وبالرغم من ذلك فقد (بقي المسلمون الذين ظلّوا في أسبانيا بعد استردادها (سقوط الأندلس) يحتفظون بكتبهم، باذلين غاية جهدهم لإخفائها عن أعيُن مكاتب التفتيش. ولمّا اضطرّوا إلى مغادرة وطنهم خبأوا كتبهم في فجوات الجدران، أو دفنوها تحت الأرض في بيوتهم المتروكة. وقد عثر في القرن الأخير مصادفة على عدّة مكتبات منها...)(١) . واستمرّت محاكم التفتيش قائمة في أسبانيا حتّى حلّها نابليون بونابرت عام ١٧٩٢م.

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧١ - ٧٢. ويذكر شكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسيّة في الأخبار والآثار الأندلسيّة) المجلد الأوّل: ٢٨٠ - ٣٨٣ الكثير من الأخبار عن صنوف الاضطهاد التي مُورست في حقّ مَن كانت محاكم التفتيش تشكّ بأنّه لا يزال على إسلامه من أهالي طليطلة، ومنها الإحراق بالنار ومصادرة الأملاك والتعزير.. إلخ. وذلك بتهم مثل عدم أكل لحم الخنزير، والامتناع عن شرب الخمرة وغيرها...

٥٦

الاستعراب(١) أولاً ثمّ الاستشراق

نشأت ظاهرة الاستعراب نتيجة للاحتكاك المباشر الذي حصل بين بعض الطوائف المسيحيّة التي كانت تقطن إسبانيا وبين المسلمين العرب فاتحي الأندلس، والذي أدّى بدوره إلى تعميق عُرى التمازج العرقي والتعايش الاجتماعي والاتّصال الثقافي فيما بينهم. وقد أفرزت هذه الحالة ظهور طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي اندمجت مع أوساط المسلمين، وتشبّهت بهم في سيرتهم وسلوكهم اليومي، وقلّدتهم في إقامة مناسباتهم وشعائرهم الدينيّة، وحتّى في دقائق وجزئيّات أُمورهم الحيويّة فأقدم الكثير منهم على الاختتان وفق مراسم المسلمين، وامتنعوا عن معاقرة الخمر وأكل لحم الخنزير، وغيرها من الممارسات التي كانت مألوفة في المجتمع النصراني. وقد أُطلق على هؤلاء (المُستعربين) الذين كان جُلّهم من أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا من آباء إسبان، ومن خلال البحث والاستقصاء عن أحوالهم أمكن تصنيفهم إلى صنفين:

الأوّل: ويضم الذين دخلوا الإسلام أثناء الفتح (فتح الأندلس) وحسُن إسلام الكثير منهم، فأقبلوا على دراسة الفكر الإسلامي، وتدرجوا في شتّى العلوم. فكانوا أصحاب التآليف والتصانيف، وصارت لهم مكانة علميّة مرموقة تميّزوا بها

____________________

(١) مصطلح يطلق على الذين صاروا دُخلاء بين العرب، ثمّ سرى استعماله لأُولئك الذين دخلوا الإسلام بعد أنْ تعلموا اللغة العربيّة وتشبّهوا بالمسلمين العرب خاصّة في عاداتهم وتقاليدهم.

٥٧

عمّن سواهم، وظهر فيهم العلماء والأُدباء والقادة العسكريّون، فحازوا إعجاب الحكام المسلمين وأصبح قسمٌ منهم ذوي نفوذ واسع في الحكم (ولكنّهم ظلّوا مع ذلك لا يجدون أنفسهم إلاّ مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة)(١) .

الثاني: كان يضم أُولئك الذين تشبّهوا بالمسلمين ظاهريّاً، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وكان تأثّرهم سطحيّاً على قاعدة التمثّل بالفاتحين والتشبه بهم. كما يرى ابن خلدون ذلك (المغلوب يتشبّه أبداً بالغالب). وبالرغم من إقبالهم على تعلّم اللغة العربيّة ودراسة آثار المسلمين وأفكارهم، وكذلك إعجابهم بالمنجزات الحضاريّة لهم، وانبهارهم بالطرح الثقافي الإسلامي الجديد. إلاّ أنّ هذا لم يكن ليصرفهم عن عدائهم الشديد للرسالة الدينيّة والإيديولوجيّة الإسلاميّة، ولا ليثنيهم عن رفضهم القومي للسلطة السياسيّة التي يخضعون لها.

ولا سيّما أنّ بعض الحكّام آنذاك كانوا لأغراض سياسيّة يستخدمون أساليب مِن شأنها أنْ تثير روح العصبيّة بين طَبَقات المجتمع الأندلسي، كأنْ يُقرّبوا طائفة على حساب طائفة أُخرى، ممّا يُؤدّي إلى نشوء العداء مع السلطة، وبالتالي محاولة الانتقام أو التقليل من شأن الرسالة والفكر الذي ينتمي إليه هؤلاء الحكّام.

فمثلاً عند اشتداد الروح العصبيّة بين القبائل العربيّة المتنافسة في عهد عبد الرحمان الداخل ويأسه من القضاء عليها وإزالتها، واتّخاذها أُسلوب المواجهة والمنافسة مع الحكم، لجأ إلى تكوين طبقة الأعوان والقادة، وربّاهم بنفسه واستعان بهم على إدارة دفّة الحكم، ونفوذهم ينمو نتيجةً لقربهم من الطبقة الحاكمة حتّى صاروا شركاء للخليفة في الحكم، ثمّ صاروا يدبّرون المؤامرات لإدارة الحكم بأنفسهم(٢) .

____________________

(١) د. إحسان، عبّاس (تأريخ الأدب الأندلسي): ٨٩.

(٢) مجلّة نور الإسلام. العددان ٢٧ - ٢٨ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس): ٣٤.

٥٨

وعلى أثر ذلك تولّد الصراع بين العرب والمُستعربين، ولم يكن هذا الصراع سياسيّاً أو عسكريّاً فحسب، بل كان صراعاً يلتمس مبرّراته مِن أُطُر دينيّة، وينعكس على طبيعة التفكير الديني، الأمر الذي نشأ عنه نَمَطَان من التفكير: نمط يتَطرّف في تمجيد العرب دينيّاً، وآخر يتَطرّف في الاتّجاه المضاد.

وليس إلى الشكّ سبيل في أنّ ابتعاد الحكم العربي في الأندلس عن الإسلام، كان له الأثر الكبير في إعطاء الفرصة للمُستعربين كي ينتفضوا ويترجموا رفضهم بشكل حرب اتّخذت أبعاداً مختلفة، حتّى أنّ بعضاً منهم كان له الدور الكبير في إضرام فتنة طليطلة ضدّ قرطبة في بداية عهد الأمير محمّد بن عبد الرحمان التي تمخّضت عن المعارك التي خاضها ابن حفصون ضدّ الحكم العربي الإسلامي سنوات طوالاً بدأت من عام ٢٦٨هـ وانتهت بوفاته عام ٣٠٦هـ.

وصلت قوّة العداء بين الطرفين إلى الحدّ الذي دفع عمر بن حفصون، إلى الارتداد عن الإسلام والعودة إلى النصرانيّة، لكي يستميل النصارى إليه ويعينوه في قتاله ضدّ الحكم العربي، وذلك من خلال عمليّة أراد بها أنْ تكون انتقاماً من هذا الحكم.

وفي هذا الخضمّ المتلاطم مِن الفتن والصراعات والاضطرابات انتعشت الكنيسة، وبرزت الحوافز، وازدهرت الحركات الداعية إلى تقويض أركان الإمارة الأمويّة، واستُُنفرت القُوى المضادّة للإسلام، وارتفعت أصوات الغُلاة من النصارى برُدودِ فعلٍ متباينة، كان منها اندلاع حركة الاستشهاد كما أسلَفنا، وكذلك بُروز دعاوى مواجهة الوجود الإسلامي بأساليبٍ تتعدّى حدود المصادمات العسكريّة والمواجهات الدمويّة، تهدف إلى مقارعة المسلمين عن طريق الفهم العميق لإيديولوجيّتهم، ومعرفة أسباب قوّتهم ومنازلتهم بمناهجهم الفكريّة وقواعدهم الحضاريّة.

٥٩

وكان للمُستعربين الدور الفعلي في الاختراق البشري والثقافي والسياسي للمجتمع الأندلسي، فوظّف فعلهم هذا بقصد أو بدون قصد، في بعض الأحيان، في خضمّ المشروع المعادي للوجود الإسلامي.

وإذا كان الاستشراق علماً يختصّ بلغات الشرق، وبالانجازات الحضاريّة المعبّر عنها بتلك اللغة، وبأديانهم وقيمهم وثقافتهم. وإذا كان قد فتح أمام الغرب والأوربّيين بصورةٍ عامّة أبواب الفكر الإسلامي، وآفاق نظامه الدقيق بهدف فهم الأُطروحة الإسلاميّة، التي غزت العالم وغيّرت الكثير من الثقافات السائدة والنظُم المنحرفة عن الفطرة الإنسانيّة، وتداعت أمامها أغلب النظريّات المتهرّئة، كان لابدّ من استطلاع دواعي هذه الأطروحة بل والمعايشة المباشرة والشاملة للوضع الجديد الذي طرأ على العالم، إزاء التحوّلات الخطيرة التي حصلت بفعل الإسلام والمسلمين.

وعليه فلابدّ للباحث المتتبّع للوقائع التاريخيّة من الاعتقاد بأنّ بِدء تكوّن الاستشراق، قد حدث بعد انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيريّة، أي بعد سنة ٧١٥م وبِدء استيطان العرب للمناطق المفتوحة، وأنّ ظاهرة الاستعراب الثقافي والاجتماعي والتشبّه بالفاتحين في عاداتهم وممارساتهم، لا يمكن فصلها عن تطوّر حركة الاستشراق وشروطها، والأوليّات الاجتماعيّة لتكوّنها.

بالإضافة إلى هذا فقد برز طرحٌ آخر كان له الدور الكبير في بلْوَرة الاستشراق، كان أبطاله وأدوات تنفيذه اليهود الذين وجدوا في المسلمين الفاتحين طريقاً للخلاص من الاضطهاد القوطي(١) ، وظلم الكاثوليكيّة. فتعاونوا معهم

____________________

(١) القوط: مجموعة شعوب منهم الشرقيّون ومنهم الغربيّون. والقوط الشرقيّون: استقرّوا أوّلاً في وادي الدانوب الشرقي، ثُمّ غزوا إيطاليا وأسّسوا فيها مملكة في أواخر القرن الخامس الميلادي. قضى عليها بوستينياس عام ٥٥٢م. والقوط الغربيّون: أقاموا غربي الدانوب في القرن الرابع الميلادي واعتنقوا = المسيحيّة الآريوسيّة (وهي بِدعة لدى النصارى، تنسب آريوس إلى الكاهن الاسكندري). احتلّوا روما عام ٤١٠م ثُمّ جلوا عنها ليستقرّوا في جنوب غربي فرنسا. ثمّ إسبانيا حيث أسّسوا مملكة ظلّت قائمة حتّى الفتح الإسلامي عام ٧١١م (القاموس (المنجد في الإعلام)).

٦٠

« مَنْ باع عبداً وله مالٌ فمالُه للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع »(١) .

وقد رواه الخاصّة - في الصحيح - عن محمّد بن مسلم عن الباقر أو الصادقعليهما‌السلام قال : سألته عن رجل باع مملوكاً فوجد له مالاً ، فقال : « المال للبائع إنّما باع نفسه إلّا أن يكون شرط عليه أنّ ما كان من مال أو متاع فهو له »(٦) ولو ملكه العبد لم يكن للبائع ، فلمّا جَعَله للبائع دلّ على أنّ العبد لم‌ يملك ، وثبت بذلك أنّ الإضافة مجاز.

ويفارق الحُرّ ؛ لأنّه غير مملوك.

وملك النكاح ؛ لأنّه موضع حاجة وضرورة ؛ لأنّه لا يستباح في غير ملك. ولأنّه لمـّا ملكه لم يملك السيّد إزالة يده عنه ، بخلاف المال.

والفائدة في القولين تظهر في الزكاة ، فإن قلنا : يملك ، فلا زكاة ؛ لضعف ملكه ، إذ لمولاه انتزاعه منه متى شاء. وإن قلنا : لا يملك ، وجبت الزكاة على المولى.

وإذا ملّكه جاريةً وقلنا : يملك ، استباح وطأها ، وإلّا فلا.

ويكفّر بالمال إن قلنا : يملك ، وإلّا بالصوم.

البحث الثاني : في المأذون له في الاستدانة.

مسألة ٥٨ : يجوز للسيّد أن يأذن لعبده في الاستدانة والتجارة وسائر التصرّفات إجماعاً. ولأنّه صحيح العبارة ، وإنّما مُنع من التصرّف لحقّ السيّد ، فإذا أمره ، زال المانع.

إذا ثبت هذا ، فإذا أذن له في الاستدانة ، فإن استدان للمولى بإذنه ، كان الضمان على المولى؛ لأنّه المستدين في الحقيقة ، والمملوك نائبه.

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٦٨ / ٣٤٣٣ و ٣٤٣٥ ، سنن النسائي ٧ : ٢٩٧ ، مسند أحمد ٢ : ٧٣ / ٤٥٣٨.

(٢) الكافي ٥ : ٢١٣ ( باب المملوك يباع ) ح ٢ ، التهذيب ٧ : ٧١ / ٣٠٦.

٦١

وإن استدان لنفسه بإذن المولى ، فإن استبقاه مملوكاً أو باعه ، فالضمان على المولى أيضاً ؛ لأنّه بإذنه دفع المالك ماله إليه.

ولما رواه أبو بصير عن الباقرعليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير عليه دَيْن ، قال : « إن كان أذن له أن يستدين فالدَّيْن على مولاه ، وإن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شي‌ء على المولى ، ويستسعى العبد في الدَّيْن »(١) .

مسألة ٥٩ : لو أعتقه مولاه وقد أذن له في الاستدانة فاستدان ، فالأقرب إلزام العبد بما استدانه ؛ لأنّه أخرجه في مصلحته ، فكان عليه أداؤه ، بخلاف ما لو باعه مولاه أو استبقاه ؛ لأنّ التفريط من المولى بإذنه ، وعدم تمكن صاحب المال من أخذه.

ولما رواه عثمان بن عيسى عن ظريف الأكفاني قال : كان أذن لغلامٍ له في الشراء والبيع فأفلس ولزمه دَيْنٌ فأُخذ بذلك الدَّيْن الذي عليه ، وليس يساوي ثمنه ما عليه من الدَّيْن ، قال : فقال الصادقعليه‌السلام : « إن بعته لزمك ، وإن أعتقته لم يلزمك » فعتقه ولم يلزمه شي‌ء(٢) .

ويحتمل إلزام المولى ؛ لأنّه أذن له في الاستدانة ، فكأنّه قد أذن له في إتلاف مال الغير ، ولا شي‌ء للعبد حالة الإذن ، فتضمّن ذلك الالتزام بما يسدينه ، وهذا هو المشهور.

مسألة ٦٠ : لو استدان العبد بإذن المولى ثمّ مات المولى وعليه ديون وقصرت التركة عن الديون ، قُسّمت التركة على دَيْن المولى ودَيْن العبد بالنسبة ؛ لأنّهما معاً يستحقّان في ذمّة المولى.

ولما رواه زرارة ، قالت : سألتُ الباقرَعليه‌السلام : عن رجل مات وترك عليه

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٠ / ٤٤٥ ، الاستبصار ٣ : ١١ - ١٢ / ٣١.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ١ ، التهذيب ٦ : ١٩٩ / ٤٤٣ ، الاستبصار ٣ : ١١ / ٢٩.

٦٢

دَيْناً وترك عبداً له مال في التجارة وولداً وفي يد العبد مال ومتاع وعليه دَيْنٌ استدانه العبد في حياة سيّده في تجارة ، فإنّ الورثة وغرماء الميّت اختصموا فيما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة العبد ، فقال‌ « أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد ، ولا على ما في يده من المتاع والمال إلّا أن يضمنوا(١) دَيْن الغرماء جميعاً ، فيكون العبد وما في يديه للورثة ، فإن أبوا كان العبد وما في يديه للغرماء ، يقوّم العبد وما في يديه من المال ثمّ يقسّم ذلك بينهم بالحصص ، فإن عجز قيمة العبد وما في يديه عن أموال الغرماء رجعوا على الورثة فيما بقي لهم إن كان الميّت ترك شيئاً » قال : « فإن فضل من قيمة العبد وما كان في يديه عن دَيْن الغرماء ردّه على الورثة »(٢) .

مسألة ٦١ : لو أذن المولى لعبده في الشراء للعبد ، صحّ.

والأقرب أنّه لا يملكه العبد ، فحينئذٍ يملكه المولى ؛ لاستحالة ملكٍ لا مالك له ، ولكن للعبد استباحة التصرّف والوطي لو كان أمةً لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الإذن.

إذا عرفت هذا ، فليس الإذن في الاستدانة للمملوك إذناً لمملوك المأذون ؛ لاختصاصه بالمأذون، فلا يتعدّى إلى غيره بالأصل.

ولا بدّ في إذن الاستدانة من التصريح ، فلا يكفي السكوت لو رآه يستدين ، ولا ترك الإنكار.

أمّا أمر صاحبَ المال بالإدانة لعبده ، فالأقرب أنّه إذن للعبد ، فيستبيح العبد التصرّفَ ، ويتعلّق الضمان بالمولى ، بل هو أبلغ من الإذن للعبد فيه.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « يضمنوا » : « يظهر » والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٩٩ - ٢٠٠ / ٤٤٤ ، الاستبصار ٣ : ١١ / ٣٠.

٦٣

البحث الثالث : في المأذون له في التجارة.

والنظر فيه يتعلّق بأُمور ثلاثة :

الأوّل: فيما يجوز له من التصرّفات.

مسألة ٦٢ : إذا أذن السيّد لعبده في التجارة ، اقتصر على ما حدّه له ، ولا يجوز له التعدّي إلى غيره ، سواء كان في جنس ما يشتريه ويبيعه أو في القدر أو في السفر إلى موضعٍ. وإن عمّم له ، جاز ، ولم يختصّ الإذن بشي‌ء من الأنواع دون شي‌ء.

ويستفيد المأذون له في التجارة بالإذن كلّ ما يندرج تحت اسم التجارة أو كان من لوازمها وتوابعها ، كنشر الثوب وطيّه ، وحمل المتاع إلى المنزل والسوق ، والردّ بالعيب ، والمخاصمة في العهدة ونحوها ، فلا يستفيد به غير ذلك ، فليس له النكاح ؛ لأنّ الإذن تعلّق بالتجارة ، وهي لا تتناول النكاح ، فيبقى على أصالة المنع ، وكما أنّ المأذون له في النكاح ليس له أن يتّجر ، كذا بالعكس ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لا يندرج تحت اسم الآخَر.

مسألة ٦٣ : ليس للمأذون في التجارة أن يؤاجر نفسه ؛ لأنّه لا يملك التصرّف في رقبة فكذا في منفعة ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : إنّه يملك ذلك(٢) . وبه قال أبو حنيفة(٣) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٩ ، الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣ ، منهاج الطالبين : ١٠٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٤ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : =

٦٤

وهل له إجارة أموال التجارة ، كالعبيد والدوابّ؟ الأقرب : اتّباع العادة في ذلك.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : المنع ، كما أنّه لا يؤاجر نفسه.

والثاني : الجواز ؛ لاعتياد التّجار ذلك. ولأنّ المنفعة من فوائد المال ، فيملك العقد عليها كالصوف واللبن. ولأنّ ذلك أنفع للمالك ، فيكون محسناً به ، فلا سبيل عليه ؛ لقوله تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) (٢) .

مسألة ٦٤ : لو أذن له السيّد في التجارة في نوع من المال ، لم يصر مأذوناً في سائر الأنواع وكذا لو أذن له في التجارة شهراً أو سنةً ، لم يكن مأذوناً بعد تلك المدّة ، عند علمائنا وبه قال الشافعي -(٣) اقتصاراً بالإذن على مورده ؛ لعدم تناوله غير ذلك النوع.

وقال أبو حنيفة : إنّ الإذن في نوع يقتضي الإذن في غيره ، وكذا الإذن في التجارة مدّةً يقتضي تعميم الأقارب ؛ لأنّ في الإذن في نوعٍ أو مدّة غروراً للناس ؛ لأنّهم يحسبونه مأذوناً له في كلّ نوع ، والغرور من المغرور صدر حيث بنى الأمر على التخمين ولم يفحص في البحث عن حاله ، كما‌

____________________

= ٦ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(١) التوبة : ٩١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، الوسيط ٣ : ١٩٦ ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣ ٢٢٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٥

أنّه لو لم يأذن لعبده في التجارة فعامل العبد فتوهّم الغير الإذنَ ، لم يلزم المولى حكمٌ ، كذا هنا(١) .

واعلم أنّ أبا حنيفة سلّم أنّه لو دفع المولى إليه ألفاً ليشتري به شيئاً ، لا يصير مأذوناً له في التجارة(٢) .

ولو دفع إلى ألفاً وقال : اتّجر فيه فله أن يشتري بعين ما دفع إليه وبقدره في الذّمة لا يزيد عليه.

ولو قال : اجعله رأس مالك وتصرّفْ واتّجر فيه ، فله أن يشتري بأكثر من القدر المدفوع إليه.

مسألة ٦٥ : لو أذن لعبده في التجارة وكان للمأذون عبد ، لم يكن لعبد المأذون التجارة ، ولا للمأذون أن يأذن له إلّا بإذن مولاه ؛ لأنّ المولى إنّما اعتمد على نظر المأذون ، فلم يكن له أن يتجاوزه بالاستنابة ، كالتوكيل ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إنّ للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة(٤) .

وليس بمعتمد.

ولو أذن له السيّد في ذلك ففَعَل ، جاز ، ثمّ ينعزل مأذون المأذون بعزل السيّد له أو للمأذون ، سواء انتزعه من يد المأذون أو لا ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ٥ و ٩ و ١٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٥ - ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٦

وقال أبو حنيفة : إذا لم ينتزعه ، لم ينعزل(١) .

وهل للمأذون أن يوكّل غيره في آحاد التصرّفات؟ الأولى المنع ؛ لأنّ السيّد لم يرض بتصرّف غيره.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّ له ذلك ؛ لأنّها تصدر عن نظره ، وإنّما الممتنع أن يقيم غيره مقام نفسه(٢) .

والمعتمد : الأوّل.

مسألة ٦٦ : ليس للمأذون التصدّق ، إلّا مع علم انتفاء كراهيّة المولى ، ولا ينفق على نفسه من مال التجارة ؛ لأنّه ملك لسيّده.

وعند أبي حنيفة له ذلك(٣) .

والشافعي(٤) وافقنا على ما قلناه.

ولا يتّخذ الدعوة للمجهزين(٥) .

ولا يعامل سيّده بيعاً وشراءً ؛ لأنّ تصرّفه لسيّده ، بخلاف المكاتب يتصرّف لا لسيّده ، وبه قال الشافعي(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز : ٤ : ٣٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٥ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦.

(٤) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٥) قال المطرزي في المغرب ١ : ١٠١ : والمجاز عند العامّة : الغليّ من التّجار. وكأنّه اُريد المجهز ، وهو الذي يبعث التّجار بالجهاز ، وهو فاخر المتاع ، أو يسافر به ، فحُرّف إلى المجاهز.

(٦) الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٧

وقال أبو حنيفة : له أن يعامل سيّده(١) .

وربما قيّد بعض الشافعيّة ذلك بما إذا ركبته الديون(٢) .

مسألة ٦٧ : لو احتطب المأذون له في التجارة أو اصطاد أو قَبِل الوصيّة أو أخذ من معدن أو مباح ، لم ينضمّ إلى مال التجارة ، فليس له التصرّف فيه إلّا بإذن مولاه ؛ لأنّه مال اكتسبه بغير التجارة ، فيكون للسيّد ، والسيّد لم يأذن له في التصرّف فيه ولا سلّمه إليه ليكون رأس المال ، وبه قال بعض الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : له ذلك ؛ لأنّه من جملة أكسابه(٤) (٥) .

وهو غير دالّ على الغرض ؛ إذ الكسب لا ينافي المنع.

مسألة ٦٨ : وفي انعزال المأذون بالإباق نظر ، أقربه ذلك ، قضاءً للعادة ، فإنّ خروجه عن طاعة مولاه يؤذن بكراهة المولى لتصرّفه حيث خروج عن الأمانة ، وبه قال أبو حنيفة(٦) .

ويحتمل أن لا ينعزل بالإباق ، بل له التصرّف في البلد الذي خرج إليه ، إلّا إذا خصّ السيّد الإذن بهذا البلد ؛ لأنّ الإباق عصيان ، فلا يوجب‌

____________________

(١) الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « اكتسابه ». وما أثبتناه من المصادر.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٦) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٧ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ - ٣٦٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

٦٨

الحجر ، كما لو عصى السيّد من وجهٍ آخَر.

والفرق ظاهر ؛ فإنّ قهر المولى على نفسه بالإباق يقتضي قهره على ما بيده ، فلا يناسب الإذن له في التصرّف فيه.

ولو أذن لجاريته في التجارة ثمّ استولدها ، ففيه هذا الخلاف. ولا خلاف في أنّ له أن يأذن لمستولدته في التجارة(١) .

وعندنا لو أذن لجاريته في التجارة ثمّ استولدها ، لم يبطل الإذن.

مسألة ٦٩ : لو شاهد عبده يبيع ويشتري فسكت عنه ولم ينكر عليه ولم يظهر منه أثر الاختيار ، لم يصر مأذوناً له في التجارة - وبه قال الشافعي(٢) - كما لو رآه ينكح فسكت ، لم يكن مأذوناً له في النكاح ، كذا هنا.

وقال أبو حنيفة : إنّه يكون مأذوناً له في التجارة بمجرّد السكوت(٣) .

مسألة ٧٠ : لو ركبت المأذونَ الديونُ ، لم يزل ملك سيّده عمّا في يده ، فلو تصرّف فيه المولى ببيعٍ أو هبةٍ أو إعتاقٍ بإذن المأذون والغرماء ، جاز ، فيكون الدَّيْن في ذمّة العبد.

فإن أذن العبد دون الغرماء ، لم يجز عند الشافعي(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٢) الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ١١ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ١١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٨ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

٦٩

وإن أذن الغرماء دون العبد ، فللشافعيّة وجهان(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا ركبته الديون ، يزول ملك السيّد عمّا في يده ، ولا يدخل في ملك الغرماء(٢) .

وهو يستلزم المحال ، وهو وجود ملكٍ لا مالك له.

والأقرب : أنّ ما في يده لمولاه ، ويصحّ تصرّفه فيه بجميع أنواع التصرّفات ، ولا اعتراض للمولى ولا الغرماء.

مسألة ٧١ : لو أقرّ العبد المأذون بديون المعاملة ، ففي قبوله إشكال ينشأ من أنّه يملك ذلك فيملك الإقرار به ، ومن أنّه إقرار في حقّ المولى.

والمعتمد : الثاني.

وقالت الشافعيّة : إنّه يُقبل ، ولا فرق بين أن يُقرّ بها لأجنبيّ أو لولده أو لأبيه(٣) .

وقال أبو حنيفة : لا يُقبل إقراره لهما(٤) .

أمّا لو أقرّ بغير دَيْن المعاملة فإنّه غير نافذ ، وكذا لو أقرّ المأذون ؛ لأنّه إقرار في حقّ المولى.

مسألة ٧٢ : إذا أقرّ العبد بجناية توجب القصاص أو الدية ، أو أقرّ بحدٍّ أو تعزير ، لم يُقبل إقراره في حقّ مولاه بمعنى أنّه لا يقتصّ منه ما دام مملوكاً ، ولا يطالب بالمال ولا بالحدّ ولا بالتعزير ، سواء كان مأذوناً له في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٣ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٣) الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ٨٠ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

٧٠

التجارة والاستدانة أو لا - وبه قال زفر والمزني وداوُد الظاهري وابن جرير الطبري(١) لأنّه إقرار في حقّ المولى. ولأنّه يسقط حقّ السيّد به ، فأشبه إقراره بالخطأ.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك : يُقبل إقراره بما يوجب القصاص ، ويكون للمقرّ له استيفاؤه؛ لأنّ ما لا يُقبل فيه إقرار السيّد على العبد يُقبل إقرار العبد فيه كالطلاق ، بخلاف جناية الخطأ ؛ لأنّ العبد تلحقه التهمة في ذلك ، ولهذا يُقبل إقرار السيّد بها ، وفي مسألتنا لا تلحقه التهمة ؛ لأنّه يتلف بذلك نفسه ، ولهذا يُقبل إقرار المرأة بالقتل وإن تضمّن إبطال حقّ الزوج ، ولا يُقبل بما يحرمها عليه مع سلامتها(٢) .

ونمنع عموميّة أنّ ما لا يُقبل فيه إقرار السيّد يُقبل فيه إقرار العبد. والتمسّك بالإطلاق تمسّكٌ بأمرٍ جزئيّ لا يدلّ على الحكم الكلّي.

وقال أحمد : يُقبل إقراره فيما دون النفس ، ولا يُقبل في النفس ؛ لما روي عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أنّه قطع عبداً بإقراره(٣) .

____________________

(١) المغني ٤ : ٣٢٣ ، و ٥ : ٢٧٣ ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٤ : ٢٩٩ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٦٩ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٢) المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٦٩ ، المبسوط للسرخسي ٩ : ١٠٠ ، الام ٦ : ٢١٧ ، المهذّب للشيرازي ٢ : ٣٤٤ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، و ٨ : ٣٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٥٨٢ ، التفريع ٢ : ٢٣١.

(٣) المغني ٤ : ٣٢٣ ، و ٥ : ٢٧٣ ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٩ ٢٨٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٤ : ٢٩٩ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧.

٧١

ونحن نمنع ذلك ، وإنّما قطعه بالبيّنة.

إذا ثبت هذا ، فإن اُعتق نفذ إقراره ، وطُولب بمقتضاه.

وإن أقرّ بجناية الخطأ ، فعندنا لا يُقبل إقراره في حقّ مولاه على ما تقدّم.

وقال الشافعي(١) هنا بقولنا.

ويتعلّق الإقرار بذمّته يتبع به إذا اُعتق وأيسر ، بخلاف المحجور عليه للسفه إذا أقرّ بالجناية ، فإنّه لا يلزم لا حال الحجر ولا بعد فكّه ؛ لأنّا أبطلنا إقراره لسفهه فلا نلزمه إيّاه ؛ لأنّ ذلك تضييع لماله الذي حفظناه بالحجر ، والعبد رشيد ، وإنّما رددنا إقراره لحقّ سيّده ، فإذا زال حقّه وملك المال ، ألزمناه حقّ إقراره.

مسألة ٧٣ : لو أقرّ العبد بسرقة سواء كان مأذوناً أو لا ، لم ينفذ إقراره في حقّ مولاه ؛ لأنّه إقرار على الغير ، فإن اُعتق ، اُلزم بمقتضاه ، سواء كانت السرقة ممّا توجب القطع أو لا ، كالسرقة من غير حرز أو لما دون النصاب ويكون المقرّ به في ذمّته تالفاً أو باقياً ؛ لأنّه متّهم في إقراره.

وقال الشافعي : إن كانت السرقة لا توجب القطع ، لم يُقبل في حقّ المولى ، ويتبع العبد بها بعد العتق. وإن أوجبت القطع ، صحّ إقراره في وجوب القطع عليه ، كما يصّح فيما يوجب القصاص(٢) .

وأمّا المسروق فإن كان تالفاً ، فهل يصّح إقراره ويتعلّق برقبته ، أو‌ يكون في ذمّته؟ للشافعيّة قولان(٣) :

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٨ : =

٧٢

أحدهما : أنّه يصحّ ، ويتعلّق برقبته ؛ لأنّ إقراره متضمّن للعقوبة ، فلا تهمة فيه ، كما لو أقرّ بجناية العمد ، فإنّه يصحّ ، وإن كان الوليّ إذا عفا وجب المال في رقبته.

والثاني : لا يجب في رقبته ، وإنّما يتعلّق بذمّته ؛ لأنّه إقرار بالمال ، فأشبه ما لا يجب به القطع. ويفارق الإقرار بالقصاص ؛ لإقراره بالعقوبة ، وإنّما يصير مالاً بعفو الولي واختياره ، وهنا يُقر(١) بالمال. ألا ترى أنّه إذا أقام المسروق منه شاهداً وامرأتين ، ثبت المال دون القطع ، ولو شهد بقتل العمد شاهد وامرأتان ، لم تثبت العقوبة ولا الدية ، فإن رجع عن إقراره ، سقط القطع ، ويتعلّق المسروق بذمّته قولاً واحداً ؛ لأنّ التهمة تلحقه الآن.

وإن كانت العين المسروقة قائمةً ، فإن كانت في يد السيّد وأنكر السيّد ، قُدّم قوله مع اليمين ، وأوجب إقرار العبد القطع ، ولا يجب به ردّ العين ، وإنّما يثبت بدلها في ذمّته ، كالحُرّ إذا أقرّ بسرقة عين في يد مَنْ يدّعيها لنفسه ، فإنّه يُقطع ولا يردّ ويغرمها.

وإن كانت في يد العبد ، اختلفوا في ذلك على طريقين :

قال ابن سريج في ردّ ذلك قولين ، كما لو كانت العين تالفةً(٢) .

وقال غيره : لا تردّ العين قولاً واحداً ؛ لأنّ يده كيد سيّده ، ولو كانت في يد سيّده لم تردّ. ولأنّ هذا يؤدّي إلى أن يُقبل إقراره في أكثر من قيمته ، وهو أن تكون العين أكثر منه قيمةً(٣) .

وهذا كلّه عندنا بالطل ، وإنّ إقراره لا ينفذ لا في المال ولا في القطع.

____________________

= ٣٢٦ ٣٢٧ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ - ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(١) في « س ، ي » : « أقرّ ».

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

(٣) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

٧٣

إذا ثبت هذا ، فإنّ الشافعيّة قالوا : إنّه يُقطع ، ولا تردّ العين ، وبه قال مالك وأحمد(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يُقطع ولا تردّ العين - وهو مذهبنا - لأنّ العين يُحكم بأنّها للسيّد ، ولا يجوز أن يُقطع في ملك سيّده(٢) .

وقال محمّد : يُقطع وتردّ العين ؛ لأنّه إنّما أقرّ بسرقة العين ، فإذا أوجبنا القطع فيها وجب ردّها(٣) .

واحتجّ الشافعي بأنّه أقرّ بسرقة عينٍ هي ملكٌ لغيره في الظاهر ، فوجب أن يُقبل إقراره في القطع دون العين ، كما لو أقرّ الحُرّ بسرقة مال في يد غيره(٤) .

ونمنع أنّها ملك الغير ، بل هي ملك السيّد.

تذنيب : لو صدّق المولى العبد في إقراره بما يوجب القصاص أو الحدّ ، قُبِل ، واستوفي من العبد ما يقتضيه إقراره.

مسألة ٧٤ : مَنْ عامَل المأذونَ وهو لا يعرف رقّه ، صحّ تصرّفه ، ولا يشترط علمه بحاله.

ولو عرف رقّه ، لم يجز له معاملته ، إلّا أن يعرف إذن السيّد.

ولا يكفي قول العبد : أنا مأذون ؛ لأنّ الأصل عدم الإذن ، فأشبه ما إذا‌ زعم الراهن إذن المرتهن في بيع المرهون. ولأنّه مدّعٍ لنفسه ، فلا تُقبل دعواه إلّا ببيّنة ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، المغني ٤ : ٣٢٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٥٨٢.

(٢) المغني ٤ : ٣٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

(٣) اُنظر : الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٤.

(٤) المغني ٤ : ٣٢٤.

(٥) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٤

وقال أبو حنيفة : يكفي قول العبد ، كما يكفي قول الوكيل(١) .

قالت الشافعيّة : بينهما فرق ؛ لأنّ في الوكيل لا حاجة إلى دعوى الوكالة ، بل تجوز معاملته بناءً على ظاهر الحال وإن لم يدّع شيئاً ، وهنا بخلافه(٢) .

وإنّما يُعرف كونه مأذوناً إمّا بسماع الإذن من السيّد أو ببيّنة تقوم عليه.

ولو شاع في الناس كونه مأذوناً ، فوجهان ، أصحّهما عندهم : يكتفى به(٣) أيضاً ؛ لأنّ إقامة البيّنة لكلّ معاملٍ ممّا يعسر(٤) .

والوجه عندي : عدم الاكتفاء ، والعسر يندفع بإثبات ذلك عند الحاكم.

ولو عرف كونه مأذوناً ثمّ قال العبد : حجر عليَّ السيّد ، لم يعامل.

فإن قال السيّد : لم أحجر عليه ، فوجهان للشافعيّة:

أصحّهما عندهم : أنّه لا يعامل أيضاً ؛ لأنّه العاقد ، والعقد باطل بزعمه.

والثاني : أنّه يجوز معاملته - وهو مذهبنا ، وبه قال أبو حنيفة - اعتماداً‌ على قول السيّد(٥) .

مسألة ٧٥ : لو عامل المأذونَ مَنْ عرف رقَّه ولم يعرف إذنه ثمّ بانَ كونه مأذوناً ، صحّت المعاملة ؛ لظهور الإذن المقتضي لصحّتها ، وليس العلم

____________________

(١) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه » بدل « به ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦ ، منهاج الطالبين ٣ : ١٠٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٥

به شرطاً في الصحّة ، بل في العلم بها.

وقالت الشافعيّة : إنّه يلحق بما إذا باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ فبانَ ميّتاً(١) .

ويقرب منه قولان للشافعيّة فيما إذا كذب مدّعي الوكالة ثمّ عاملة ثمّ ظهر صدق دعوى الوكيل في الوكالة(٢) .

وكلّ هذا عندنا يقع صحيحاً ؛ لما قلناه من أنّ العلم شرط في العلم.

ولو عرف كونه مأذوناً فعامَلَه ثمّ امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهاد على الإذن ، فله ذلك ، خوفاً من خطر إنكار السيّد ، كما لو صدق مدّعي الوكالة بقبض الحقّ ثمّ امتنع من التسليم حتى يشهد الموكّل على الوكالة.

وهل يجوز معاملة مَنْ لا يعرف رقّه وحُرّيّته؟ الأقرب ذلك ؛ لأنّ الأصل الحُرّيّة وعدم الحجر ، وهو أحد قولي الشافعيّة. والثاني : المنع ؛ لأنّ الأصل بقاء الحجر الثابت عليه بالصغر(٣) .

مسألة ٧٦ : إذا أطلق له الإذن في الشراء ، انصرف إلى النقد ، فإن أذن له في النسيئة ، جاز ، فيثبت الثمن في ذمّة المولى ، وليس له الاستدانة إلّا مع ضرورة التجارة المأذون له فيها ، فيلزم الدَّيْن المولى ؛ لأنّ الإذن في الشي‌ء يستلزم الإذن فيما لا يتمّ ذلك الشي‌ء إلّا به.

أمّا لو استدان لغير مصلحة التجارة ، فإنّه لا يلزم المولى ، بل يتبع به بعد العتق ، فإن اُعتق اُخذ منه ، وإلّا ضاع.

ولا يستسعى على رأي ؛ لأنّ في ذلك إضراراً بالمولى ، فكان المؤدّي المولى.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

(٢ و٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٦

النظر الثاني : في العهدة.

مسألة ٧٧ : إذا باع المأذون سلعةً وقبض الثمن فظهرت السلعة مستحقّةً وقد تلف الثمن في يد العبد ، فللمشتري الرجوع ببدله على السيّد ؛ لأنّ العقد له والعبد نائب عنه وعبارته مستعارة ، فكأنّه البائع والقابض للثمن ، وهو أحد قولي الشافعيّة. وفي الثاني : يرجع المشتري على العبد ببدله ؛ لأنّه المباشر للعقد(١) .

ولم قولان آخَران :

أحدهما : أنّه لا يرجع على العبد ولا السيّد ؛ لأنّ السيّد بالإذن قد أعطاه استقلالاً ، فشرط من معاملة قصر الطمع عن يده وذمّته(٢) .

والثاني : أنّه إن كان في يد العبد وفاء ، فلا يطالَب السيّد ؛ لحصول غرض المشتري ، وإلّا طُولب السيّد(٣) .

وقال ابن سريج : إن كان السيّد قد دفع إليه عين ماله وقال : بِعْها وخُذْ ثمنها واتّجر فيه ، أو قال : اشتر هذه السلعة وبِعْها واتّجر في ثمنها ، ففَعَل ثمّ‌ ظهر الاستحقاق وطالَبه المشتري بالثمن ، فله أن يطالب السيّد بقضاء الدَّيْن عنه ؛ لأنّه أوقعه في هذه الغرامة. وإن اشترى باختياره سلعةً وباعها ثمّ ظهر الاستحقاق ، فلا(٤) .

مسألة ٧٨ : المأذون له في التجارة إذا اشترى شيئاً للتجارة ، طُولب

____________________

(١) الوسيط ٣ : ١٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦ - ٢٢٧.

(٢) كذا ، في العزيز شرح الوجيز : « فشرط من يعامله قصر الطمع على يده وذمّته ».

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٧

السيّد بالثمن ؛ لأنّه نائب عنه ووكيل له.

وللشافعيّة الأوجُه الثلاثة(١) السابقة في المسألة السابقة.

والوجه الأوّل والثاني جاريان في عامل القراض مع ربّ المال ؛ لتنزيل ربّ المال العهدة على المال المعيّن(٢) .

ولو دفع شخص إلى وكيله مالاً وقال : اشتر لي عبداً وأدِّ هذا في ثمنه ، فاشترى الوكيل ، ففي مطالبة الموكّل بالثمن عند الشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه يطالَب ، ولا حكم لهذا التعيين مع الوكيل ؛ لأنّ الوكيل سفير محض ، والمأذون مملوكه يلزمه الامتثال والتزام(٣) ما يلزمه السيّد ذمّته.

وأحسنهما عندهم : طرد القولين فيه(٤) .

والوجه : أن نقول : إن كان الموكّل قد عيّن المدفوع في الثمنيّة في العقد فاشترى الوكيل به ، لم يطالَب الموكّل. وإن لم يدفعه ، بطل الشراء إن سمّى الموكّل ؛ لمخالفته أمره ، وإن لم يسمّه ، وقع الشراء له ، وكان عليه الثمن ، فلا يطالَب الموكّل. وإن لم يكن قد عيّن المدفوع في الثمنيّة في‌ العقد ، كان للبائع مطالبة الموكّل.

مسألة ٧٩ : إذا توجّهت المطالبة على العبد ، لم تسقط ، ولا تندفع عنه بعتقه ، لكن في رجوعه بالمغروم بعد العتق للشافعيّة وجهان :

أحدهما : يرجع ؛ لانقطاع استحقاق السيّد بالعتق.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إلزام ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٨

وأظهرهما عندهم : لا يرجع ؛ لأنّ المؤدّي بعد العتق كالمستحقّ بالتصرّف السابق على الرقّ ، وهذا كالخلاف في السيّد إذا أعتق العبد - الذي آجره - في أثناء مدّة الإجارة هل يرجع بأجرة مثله للمدّة الواقعة بعد العتق؟(١)

مسألة ٨٠ : لو سلّم إلى عبده ألفاً للتجارة فاشترى بالعين شيئاً ثمّ تلف الألف في يده ، انفسخ العقد ، كما لو تلف المبيع قبل القبض.

وإن اشترى في الذمّة على عزم صرف الألف في الثمن ، فالأقرب : أنّه لا يجب على السيّد دفع البدل ؛ لأنّه أذن بالمعاملة بما دفعه ، وهو ينصرف إلى الشراء بالعين ، لكنّ السيّد إن دفع ألفاً آخَر ، أمضى العقد ، وإلّا فللبائع فسخ العقد ، وهو أحد أقوال الشافعيّة.

والثاني : أنّه ينفسخ بالعقد ، كما لو اشترى بالعين ؛ لأنّ المولى حصر إذنه في التصرّف في ذلك الألف وقد فات محلّ الإذن ، فبطل البيع.

والثالث : أنّه يجب على السيّد ألفٌ آخَر ؛ لأنّ العقد وقع له ، والثمن غير متعيّن ، فعليه الوفاء بإتمامه(٢) .

ولا بأس به إن كان السيّد قد أطلق له ذلك ، بل هو المتعيّن حينئذٍ ، وإلّا فالوجه ما قلناه.

وللشافعيّة وجهٌ رابع ، وهو : أن يكون الثمن في كسب العبد(٣) .

وكذا لو دفع إلى عامل القراض ألفاً للقراض ، فاشترى العامل بمالٍ في الذمّة وتلف الألف عنده ، هل يجب على ربّ المال ألفٌ آخَر ، أو

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٢٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٩

ينقلب العقد إلى العامل؟ إن قلنا بالأوّل ، فعلى السيّد ألفٌ آخَر. وإن قلنا بالثاني ، انفسخ العقد.

وإذا قلنا على السيّد ألفٌ آخَر ، فهل للعبد أن يتصرّف فيه بالإذن السابق ، أم لا بدّ من إذنٍ جديد؟ فيه وجهان كالوجهين في أنّه إذا أخرج ألفاً آخَر في صورة القراض ، فرأس المال ألفٌ أو ألفان؟ إن قلنا : ألفٌ ، فلا بدّ من إذنٍ جديد. وإن قلنا : ألفان ، كفى الإذن السابق.

والألف الجديد إنّما يطالب به البائع دون العبد ، ولا شكّ أنّ العبد لا يمدّ يده إلى ألف من مال السيّد وأنّه لا يتصرّف فيما قبضه البائع ، وإنّما تظهر فائدة الخلاف فيما إذا ارتفع العقد بسببٍ من الأسباب ورجع الألف.

مسألة ٨١ : إذا اتّجر المأذون وحصل عليه ديون وفي يده مال وكان الذي استدانه في مصلحة التجارة ، قُضيت ديونه ممّا في يده ، وإن شاء المولى دفع من عنده. وإن لم يكن بقي في يده شي‌ء ، فإنّ الديون تكون(١) في ذمّته يُتبع بها إذا أُعتق وأيسر إن صرفها في غير مصلحة التجارة.

والشافعيّة أطلقوا وقالوا : لا يتعلّق برقبته وبه قال مالك لأنّه دَيْنٌ ثبت على العبد برضا مَنْ له الدَّيْن ، فوجب أن لا يتعلّق برقبته ، كما لو استقرض بغير إذن سيّده(٢) .

وقال أبو حنيفة : يُباع العبد فيه إذا طالَبه الغرماء ببيعه ؛ لأنّه دَيْنٌ تعلّق بالعبد بإذن سيّده ، فوجب أن يباع فيه ، كما لو رهنه(٣) .

____________________

(١) في « ي » : « تبقي » بدل « تكون ».

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٢ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧ - ٢٢٨ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٤٥ - ٢٥٦ ، المغني ٤ : ٣٢٢.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٩٠ ، المغني ٤ : ٣٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400