تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: 400

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125393 / تحميل: 5207
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٨٩-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وفرقٌ بينهما ؛ لأنّ الدَّيْن ثبت فيه باختيار السيّد ، وفي صورة النزاع إنّما أذن له في التجارة ، ولم يأذن له في تأخير الثمن في ذمّته.

ويخالف أيضاً النفقة في النكاح حيث تعلّقت بكسبه ؛ لأنّ إذن السيّد في النكاح يتضمّنها ، وهُنا لا يتضمّن إذنه ، وإنّما أذن له في التجارة وطلب الفائدة ، دون المداينة والخسران.

وقال أحمد بن حنبل : يتعلّق بذمّة السيّد ، لأنّه أذن له في التجارة ، فقد غرّ الناس بمعاملة ، وأذن له فيها ، فصار ضامناً(١) .

وليس بصحيح ؛ لأنّ السيّد لم يضمن عن عبده ، ولا في ذلك غرر ، وإنّما أذن له في التجارة، وهذا لا يتضمّن تعديله ولا إثبات وفائه ، ويبطل بمن باع رجلاً معسراً وعامَلَه ، فإنّه قد غرّ الناس ولا يضمن.

النظر الثالث : في قضاء ديونه.

مسألة ٨٢ : ديون معاملات المأذون تؤخذ ممّا في يده من مال التجارة ، سواء فيه الأرباح الحاصلة بتجاراته ورأس المال.

ولو أدّاه السيّد ، جاز.

وهل تؤدّى من كسبه بغير طريق التجارة ، كالاصطياد والاحتطاب؟ مقتضى مذهبنا ذلك ؛ لأنّ جميع ذلك ملك السيّد.

والشافعيّة وجهان ‌:

هذا أحدهما ، كما يتعلّق به المهر ومُؤن النكاح ، إلّا أنّ الشافعيّة قالوا : ما فضل من ذلك يكون في ذمّته إلى أن يعتق.

____________________

(١) المغني ٤ : ٣٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢.

٨١

والثاني : لا ، كسائر أموال السيّد(١) .

وعلى الأوّل هل يتعلّق بما كسبه بعد الحجر؟ وجهان للشافعيّة ، أصحّهما عندهم : أنّها(٢) لا تتعلّق برقبته ، كما لو استقرض بغير إذن السيّد.

وخالف فيه أبو حنيفة.

وأمّا أنّها لا تتعلّق بذمّة السيّد : فلأنّ ما لزم بمعاوضة معقودة(٣) بإذنه وجب أن تكون متعلّقةً بكسب العبد ، كالنفقة في النكاح(٤) .

مسألة ٨٣ : لو أذن المولى لجاريته في التجارة فَعَلاها ديونٌ ، لم تتعلّق الديون بأولادها ، سواء وُلدوا قبل الإذن في التجارة أو بعدها ، وبه قال الشافعي(٥) .

وقال أبو حنيفة : إن وُلدوا بعد الإذن في التجارة ، تعلّق الدَّيْن بهم ، وإلّا فلا(٦) .

ولو أتلف السيّد ما في يد المأذون من أموال التجارة ، فعليه ما أتلف بقدر الدَّيْن.

ولو أنّه قتل المأذون وليس في يده مال ، لم يلزمه قضاء الديون ، إلّا‌ أن تكون في مصلحة التجارة.

ولو تصرّف فيما في يد المأذون ببيعٍ أو هبة أو إعتاق ولا دَيْن على

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٨.

(٢) أي الديون.

(٣) في العزيز شرح الوجيز : « مقصودة » بدل « معقودة ».

(٤ و ٥ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٨.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧١.

٨٢

العبد ، كان تصرّفه ماضياً.

وفي وجهٍ للشافعيّة : يشترط أن يتقدّم عليه حَجْر(١) .

وإن كان عليه دَيْنٌ(٢) .

مسألة ٨٤ : إذا باع المأذونَ أو أعتقه ، صار محجوراً عليه ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) .

وفي قضاء ديونه ممّا يكسبه في يد المشتري الخلافُ المذكور فيما يكسبه بعد الحجر عليه.

وأكثر المسائل الخلافيّة في المأذون يبنى على أنّه يتصرّف لنفسه أو لسيّده؟ فعند أبي حنيفة أنّه يتصرّف لنفسه(٤) . وعندنا وعند الشافعي(٥) لسيّده ، فلذلك نقول : ليس له أن يبيع نسيئةً ولا بدون ثمن المثل ، ولا يسافر بمال التجارة إلّا بإذن السيّد ، ولا يتمكّن من عزل نفسه ، بخلاف الوكيل.

ولو أذن لعبده في التجارة مطلقاً ولم يعيّن مالاً ، قال بعض الشافعيّة‌ لا يصحّ هذا الإذن(٦) .

وقال بعضهم : يصحّ ، وله التصرّف في أنواع الأموال(٧) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٨.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ؛ حيث إنّ الشرط بلا جزاء ، وقد ورد الجزاء في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٢ ، وروضة الطالبين ٣ : ٢٢٨ هكذا : « فقد سبق حكم تصرّفه » وقد تقدّم حكم تصرّفه في هذا الكتاب ص ٣٩ ، المسألة ٧٠ ، فراجع.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٨.

(٤ و ٥ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٢.

(٦ و ٧ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٨.

٨٣

مسألة ٨٥ : لو أذن السيّد لعبده في أنّه يضمن عن إنسان مالاً ، فضمنه ، تعلّق المال بذمّة العبد ؛ لأنّه ثبت برضا مَنْ له الحقّ ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : يتعلّق بكسبه ، ويكون بمنزلة المهر والنفقة ؛ لأنّه أذن في سببه(١) .

مسألة ٨٦ : قد بيّنّا أنّه لا يُقبل إقرار العبد - سواء كان مأذوناً له أو لا - بقصاصٍ ولا حدٍّ ولا في مالٍ في حقّ سيّده.

وقال الشافعي : يُقبل في الجناية والحدّ(٢) .

وعندنا أخ صدّقه السيّد الأقرب : القبول.

فإذا ثبت القبول مطلقاً أو بتصديق السيّد ، فوليّ الجناية مخيّر بين القصاص والعفو مطلقاً.

وعند الشافعي على مال(٣) .

ونحن إنّما نثبت له العفو على المال مع رضا الجاني.

قال بعض الشافعيّة : على القول بأنّ الجناية توجب أحد الأمرين إذا‌ اختار الملك ، كان فيه وجهان بناءً على القولين في المسروق.

لا يقال : لا يثبت العفو على مال ؛ لأنّه يوجب التهمة ، لإمكان أن يواطئ العبد مَنْ يقرّ له بالعمد ليعفو عنه.

لأنّا نقول : إنّه أقرّ بالعمد الموجب للقصاص ، وذلك لا تهمة فيه ؛

____________________

(١) الوجيز ١ :١٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٧ - ١٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٦.

(٢) الاُم ٦ : ٢١٧ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٦٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، و ٨ : ٣٢٦ ، و ٨ : ٣٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

٨٤

لأنّه لا يأمن استيفاءه منه ، والعاقل لا يغرّر بنفسه(١) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ المواطاة تنفي ذلك.

إذا ثبت هذا ، فإنّ قيمته إذا كانت أقلّ من أرش الجناية ، لم يكن للوليّ إلّا ذلك ؛ لأنّ الجاني هو العبد ، فلا يجب على غيره شي‌ء. وإن كانت قيمة العبد أكثر ، كان الفضل للسيّد ؛ إذ ليس لصاحب الجناية أكثر من حقّه.

وإن أراد السيّد أن يفديه ، ففيه قولان لعلمائنا ، وللشافعي(٢) أيضاً كالقولين :

أحدهما : بأقلّ الأمرين من قيمته أو أرش جنايته ؛ لأنّ أرش الجناية إن كان أكثر ، فلا يتعلّق بغير العبد الجاني ، وإنّما تجب قيمته ؛ إذ لا شي‌ء له أزيد منها. وإن كان الأرش أقلّ لم يجب بالجناية إلّا هو.

والثاني : أنّه يفديه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ ؛ لأنّه يجوز أن يشتري بأكثر من قيمته بأن يرغب فيه راغب أو يزيد فيه زائد.

مسألة ٨٧ : قد عرفت أنّه إذا أقرّ العبد - سواء كان مأذوناً له في التجارة أو لا - بدَيْن ، لم يُقبل ؛ لأنّه في الحقيقة إقرار في حقّ السيّد ، سواء كان قد تلف المال في يده أو لا.

وللشافعي(٣) فيما إذا تلف في يده وجهان(٤) .

وقال ابن سريج : إذا كان المال في يده ، فقولان(٥) .

____________________

(١) التهذيب ٣ : ٥٦٠ و ٥٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٢١٥ ، التهذيب - للبغوي - ٧ : ١٧٤ ، حلية العلماء ٧ : ٦٠١ ، الوسيط ٦ : ٣٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ١٠ : ٤٩٨ ، روضة الطالبين ٧ : ٢١٢.

(٣) كذا ، والظاهر : « للشافعيّة ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ - ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

٨٥

ومنهم مَنْ قال : يُقبل قولاً واحداً(١) .

والحقّ قلنا.

نعم ، يُقبل إقراره بكلّ ذلك في ذمّته يتبع به بعد العتق.

تمّ الجزء الثامن(٢) من كتابتذكرة الفقهاء بعون الله تعالى ويتلوه في الجزء التاسع(٣) بتوفيق الله تعالى : المقصد الثاني في الرهن ، وفيه فصول على يد مصنّفه العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي ، غفر الله تعالى له ولوالديه ولكافّة المؤمنين ، ببلدة السلطانيّة في سادس جمادى الاُولى سنة أربع عشرة وسبعمائة.

والحمد لله وحده ، وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد النبيّ وآله الطاهرين(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٢ و٣ ) حسب تجزئة المصنّفقدس‌سره .

(٤) ورد في آخر نسخة « س » : وكان الفراغ منه على يد كاتبه العبد الفقير إلى الله الغني زين العابدين بن محي الدّين بن علي بن كرامة ، حامداً مصلّياً مسلّماً ، نهار الجمعة ثاني عشر شهر رمضان المعظّم خُتم بالخير والكرام ، سنة اثنين وسبعين وتسعمائة ، والحمد لله وحده ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين.

٨٦

٨٧

بسم الله الرحمن الرحيم‌

المقصد الثاني : في الرهن‌

وفيه مقدّمة وفصول‌

أما المقدّمة : ففيها بحثان :

الأوّل : في ماهيّته :

الرهن عقد شُرّع للاستيثاق على الدَّيْن.

وفي اللغة : وُضع للثبوت والدوام. يقال : رهن الشي‌ء : إذا ثبت. والنعمة الراهنة هي الثابتة الدائمة.

وقيل : جَعْل الشي‌ء محبوساً(١) ، أي شي‌ء كان بأيّ سبب كان.

قال الله تعالى :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (٢) أي : محبوسة بوبال ما كسبت من المعاصي.

ويقال : رهنت الشي‌ء فهو مرهون. ولا يقال « أرهنت » إلّا في الشواذّ من اللغة. يقال : رهن فهو مرهون وارتهنته فهو مرهن. ويقال : أرهن في الشي‌ء : إذا عدل فيه. وأرهن ابنه : إذا جعله رهينةً وخاطَر به.

____________________

(١) الصحاح ٥ : ٢١٢٨ « رهن » ، لسان العرب ٣ : ١٨٩ « رهن » ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٩٧.

(٢) المدّثّر : ٣٨.

٨٨

وجمع الرهن رهون ورهان.

وأمّا الرُّهُن فقال الفرّاء : إنّه جمع الجمع(١) .

قال الزجّاج : يحتمل أن يكون جمع رهن ، كما يقال : سَقف وسُقُف(٢) .

الثاني : الرهن سائغ بالنصّ والإجماع.

قال الله تعالى :( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (٣) .

وروى العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يغلق المرتهن الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غُنْمه وعليه غُرمه »(٤) .

وعن الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام : « أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي »(٥) .

وعن عائشة : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رهن درعه عند يهوديّ وأخذ منه شعيراً لأهله(٦) .

ويقال : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عدل عن الرهن عند المسلمين إلى اليهوديّ خوفاً من أن يحابوه أو يُبرؤوه من القرض.

____________________

(١) حكاه عنه الزجّاج في معاني القرآن ١ : ٣٦٧ ، وابن قدامة في المغني ٤ : ٣٩٧ ، وانظر معاني القرآن - للفرّاء - ١ : ١٨٨.

(٢) حكاه عنه ابن قدامة في المغني ٤ : ٣٩٧ ، وانظر : معاني القرآن - للزجّاج - ١ : ٣٦٧.

(٣) البقرة : ٢٨٣.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ٣٩ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣.

(٥) سنن البيهقي ٦ : ٣٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤.

(٦) سنن البيهقي ٦ : ٣٦.

٨٩

ومن طريق الخاصّة : ما رواه أبو حمزة قال : سألته عن الرهن والكفيل‌ في بيع النسيئة ، قال : « لا بأس به »(١) .

وعن معاوية بن عمّار قال : سألتُ الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يسلم في الحيوان والطعام ويرتهن الرجل ، قال : « لا بأس ، تستوثق من مالك »(٢) .

والأخبار في ذلك كثيرة لا تُحصى.

وقد أجمعت الاُمّة كافّةً على جواز الرهن في الجملة ، وليس واجباً إجماعاً.

وقوله تعالى :( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (٣) المراد منه الإرشاد دون الأمر الموجب.

وهو عقدٌ لازمٌ من طرف الراهن ، جائزٌ من جهة المرتهن إجماعاً ، فليس للراهن فسخ الرهن ، ويجوز للمرتهن فسخه.

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٣٣ ( باب الرهن ) ح ١ ، التهذيب ٧ : ١٦٨ / ٧٤٤ ، والحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام .

(٢) الكافي ٥ : ٢٣٣ / ٣ ، التهذيب ٧ : ١٦٨ / ٧٤٦.

(٣) البقرة ٢٨٣.

٩٠

٩١

الفصل الأوّل : في الأركان‌

وهي أربعة تشتمل عليها أربعة مباحث :

البحث الأوّل : في الصيغة.

الرهن كالبيع في افتقاره إلى صيغة تدلّ عليه.

والأصل فيه أنّ المعاملات لا بدّ فيها من التراضي بين المتعاملين ، والرضا من الاُمور الباطنة الخفيّة عنّا ، ولا يمكن التوصّل إلى معرفته إلّا بالصِّيَغ الدالّة عليه.

والخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب والإيجاب عليه المذكورة في البيع بجملته آتٍ هاهنا.

واعلم أنّ الرهنإمّا أن يكون مبتدأً متبرَّعاً به ، وهو الذي لا يقع شرطاً في عقدٍ ، بل يقول الراهن : رهنت هذا الشي‌ء عندك على الدَّيْن الذي علَيَّ ، فيقول المرتهن : قبلت.وإمّا أن يقع شرطاً في عقدٍ ، كبيع أو إجارة أو نكاح أو غير ذلك ، فيقول : بعتك هذا الشي‌ء بشرط أن ترهنني عبدك ، فيقول : اشتريت ورهنت ، أو زوّجتك نفسي على مهرٍ قدره كذا بشرط أن ترهنني دابّتك(١) على المهر ، فيقول الزوج. قبلت ورهنت.

فالقسم الأوّل لا بدّ فيه من الإيجاب والقبول عند من اشترطهما ، ولم يُكتف بالمعاطاة.

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « دابّتك » بدل « دارك ».

٩٢

وأمّا القسم الثاني : فقد اختلفوا فيه.

فقال بعض الشافعيّة : إذ قال البائع : بعتك كذا بشرط أن ترهنني كذا ، فقال المشتري : اشتريت ورهنت ، لا بدّ وأن يقول البائع بعد ذلك : قبلت الرهن. وكذا إذا قالت المرأة : زوّجتك نفسي بكذا بشرط أن ترهنني كذا ، فقال الزوج : قبلت النكاح ورهنتك كذا ، فلا بُدّ وأن تقول المرأة بعد ذلك : قبلت الرهن ؛ لأنّه لم يوجد في الرهن سوى مجرّد الإيجاب ، وهو بمفرده غير كافٍ في إتمام العقد(١) .

وقال آخَرون : إنّ وجود الشرط من البائع والزوجة يقوم مقام القبول ؛ لدلالته عليه. وكذا الاستيجاب يقوم مقام القبول(٢) .

مسألة ٨٨ : قد بيّنّا أنّه لا بُدَّ في الرهن من إيجاب وقبول ، فالإيجاب كقوله : رهنتك ، أو : هذا وثيقة عندك على كذا ، أو : هو رهن عنك ، وما أدّى هذا المعنى من الألفاظ. والقبول كقوله : قبلت ، أو : رضيت ، وما أدّى معناه.

ولا بُدّ من الإتيان فيهما بلفظ الماضي ، فلو قال : أرهنك كذا ، أو : أنا أقبل ، لم يعتدّ به.

وكذا لا يقوم الاستيجاب مقام القبول ؛ لعدم دلالته على الجزم بالرضا.

وهل يشترط في الصيغة اللفظ العربي؟ الأقرب العدم.

ولا تكفي الإشارة ولا الكتابة إلّا مع العجز عن النطق ، فتكفي الإشارة الدالّة عليه. وكذا الكتابة مع الإشارة ، ولا تكفي الكتابة المجرّدة عن الإشارة الدالّة على الرضا.

مسألة ٨٩ : الرهن عقد قابل للشروط الصحيحة التي لا تقضي إلى

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٠.

٩٣

جهالة في بيان إن شُرط فيه ، عند علمائنا أجمع ؛ لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون(١) عند شروطهم »(٢) .

ولقوله تعالى :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) ومعنى الإيفاء(٤) العمل بمقتضاه ، فإذا كان مشروطاً ، دخل تحت هذا الأمر.

وقالت الشافعيّة : إن شرط في الرهن شرطاً ، فإمّا أن يكون من مقتضى عقد الرهن ، أو لا يكون من مقتضاه.

فإن كان الأوّل مثل أن يشرط كون الرهن في يد المرتهن أو عَدْلٍ ، أو يبيعه عند محلّ الدَّيْن ، أو يشرط منافعه للراهن ، أو على يباع الرهن في ديْنك عند الحاجة ، أو يتقدّم به عند تزاحم الغرماء ، أو لا أبيعه إلّا بإذنك ، فإنّ مثل هذه الشروط كلّها لا يضرّ التعرّض بها لا في رهن التبرع ولا في رهن المشروط في العقد ، وإنّما هو تصريح بمقتضى العقد وتأكيد لمقتضاه.

وإن كان الثاني فإمّا أن يتعلّق بمصلحة العقد ، كالإشهاد ، أو لا يتعلّق به غرض ، كقوله : بشرط أن لا يأكل إلّا اللحم ، أو ما عداهما(٥) .

والأوّلان ، فيهما قولان ، كما لو شرطا في البيع ، وقد سبق(٦) فيه

____________________

(١) في « ج » : و نسخة بدل في « ر » « المسلمون » بدل « المؤمنون » وكذا في صحيح البخاري ٣ : ١٢٠ ، وسنن الدارقطني ٣ : ٢٧ / ٩٨ و ٩٩ ، وسنن البيهقي ٧ : ٢٤٩ ، والمستدرك - للحاكم - ٢ : ٤٩ و ٥٠ ، والمصنّف - لأبي أبي شيبة - ٦ : ٥٦٨ / ٢٠٦٤ ، والمعجم الكبير - للطبراني - ٤ : ٢٧٥ / ٤٤٠٤.

(٢) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٣) المائدة : ١.

(٤) الضمير راجع إلى العقد. وكلمة « به » لم ترد في الطبعة الحجريّة.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠١.

(٦) في ج ١٠ ص ٢٤٦ ضمن « القسم الرابع : النهي عن بيع وشرط » ومن ٢٧٤ ، الفرع « كد » من المسألة ١٢٤.

٩٤

حكمهما.

والثالث - وهو أن يشترط ما عداهما - فإمّا أن ينفع المرتهن ويضرّ الراهن ، أو بالعكس.

فالنوع الأوّل كما إذا رهن داره بشرط أن يرهن غيرها ، أو بشرط أن لا ينفكّ الرهن بعد أداء الدَّيْن شهراً ، أو أن تكون منافع المرهون أو زوائده للمرتهن ، أو أن لا يسلّمه إليه ، أو أن لا يبيعه عند محلّ الحقّ ، أو أن لا يبيعه إلّا بما يرضى به ، فهنا يبطل الشرط عند الشافعي(١) .

ثمّ إن كان الرهنُ رهنَ تبرّع ، فللشافعي قولان :

أصحّهما عنده : أنّ الرهن فاسد أيضاً ؛ لما فيه من تغيير قضيّة العقد.

والثاني : وبه قال أبو حنيفة - : أنّ الرهن لا يفسد بفساد الشرط ؛ لأنّ الرهن تبرّع من الراهن ، وهذا الشرط فيه تبرّعٌ آخَر ، وأحد التبرّعين لا يبطل ببطلان الثاني ، كما لو أقرضه الصحاح وشرط ردّ المكسور ، يلغو الشرط ويصحّ القرض(٢) .

وإن كان الرهن مشروطاً في بيع نُظر ، فإن لم يجرّ الشرط جهالة الثمن -كما إذا شرط في البيع رهناً على أن يبقى محبوساً عنده بعد أداء الثمن شهراً - ففي فساد الرهن القولان السابقان(٣) في رهن التبرّع.

فإن فسد ، ففي فساد البيع قولان في أنّ الرهن وسائر العقود المستقلّة‌ إذا شُرطت في البيع على نعت الفساد هل تُفسد البيع؟ قولان تقدّما(٤) . فإن قلنا بصحّة البيع ، فللبائع الخيار ، صحّ الرهن أو فسد ؛ لأنّه إن صحّ ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠١.

(٣) آنفاً.

(٤) في ج ١٠ ص ٢٤٩ ، ضمن المسألة ١١٧.

٩٥

لم يسلم له الشرط. وإن لم يصح ، لم يسلم له أصل الرهن.

وإن(١) جرّ الشرط جهالة الثمن - كما إذا شرط في البيع رهناً وشرط أن تكون منافعه وزوائده للمرتهن - فالبيع باطل ؛ لأنّ المشروط استحقاقُه يصير جزءاً من الثمن ، وهو مجهول ، وإذا بطل البيع ، بطل الرهن والشرط لا محالة.

هذا ما اتّفق عليه جماهيرهم(٢) ، ووراءه كلامان آخَران :

أحدهما : نقل المزني في المسألة أنّ للبائع الخيارَ في فسخ البيع وإثباته ، وتوهّم أنّه ذهب إلى تصحيح العقد إذا حذف منه الشرط الفاسد. واعترض عليه بأنّه خلاف أصله في أنّ الفاسد لا خيار فيه. وأصحابه خطّاؤه في قيله وتوهّمه(٣) .

والثاني : أنّ القاضي ابن كج حكى طريقةً اُخرى أنّ في فساد الرهن قولين. وإن فسد ، ففي فساد البيع قولان ، كما سبق(٤) .

وكلامٌ ثالث استحسنه بعضهم ، وهو : أنّ الحكم بالبطلان فيما إذا أطلق فقال : بعتك هذا العبد بألف لترهن به دارك وتكون منفعتها لي ، فأمّا إذا قيّد وقال : تكون منفعتها لي سنةً أو شهراً ، فهذا جمع بين البيع والإجارة‌ في صفقة واحدة(٥) ، وقد سبق حكمه في البيع(٦) .

والنوع الثاني ، وهو أن يكون الشرط ممّا ينفع الراهن ويضرّ

____________________

(١) في النسخة الخطّيّة و الحجريّة : « فإن » والظاهر ما أثبتناه.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤ ، وقد سبق آنفاً.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤

(٦) راجع : ج ١٠ ، ص ٢٥٢ ، الفرع « د » من المسالة ١١٨ ، و ص ٢٩٠ ، الفرع « يج » من المسالة ١٢٦.

٩٦

المرتهن ، كما لو قال : رهنتك بشرط أن لا تبيعه عند المحلّ أو : لا تبيعه بعد المحلّ إلّا إذا مضى شهر ، أو : إلّا بما أرضى ، أو : بأكثر من ثمن المثل ، فهو فاسد عندهم ، مفسد للرهن(١) .

وقال بعضهم : يجي‌ء في إفساده الرهنَ القولان المذكوران في النوع الأوّل(٢) .

واستغربه بعضهم(٣) .

والفرق على ظاهر مذهبهم أنّ ما ينفع المرتهن(٤) يزيد في الوثيقة ، ويؤكّد ما وضع العقد له ، وما يضرّ يخلّ به.

فإن كان الرهن مشروطاً في بيع ، عاد القولان في فساده بفساد الرهن المشروط ، فإن لم يفسد ، فللبائع الخيار(٥) .

واعلم أنّ بعض الشافعيّة قسّم فقال : إن شرط ما هو من مقتضى عقد الرهن - مثل : كون الرهن في يد المرتهن أو في يد عَدْلٍ - صحّ الشرط.

وإن شرط ما ينافي مقتضى العقد - مثل أن يشرط أن لا يسلّمه إليه ، أو : أن لا يبيعه عند محلّ الدَّيْن ، أو كون المنافع للمرتهن فسد الشرط ، لمنافاته مقتضى عقد الرهن.

وهل يفسد الرهن؟ يُنظر فإن كان(٦) نقصاناً من حقّ المرتهن ، بطل عقد الرهن قولاً واحداً. وإن كان زيادةً في حقّ المرتهن ، فقولان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠١ - ٣٠٢.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٢.

(٤) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « الراهن » بدل « المرتهن » والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤.

(٦) أي الشرط.

٩٧

أحدهما : يفسد ؛ لأنّ هذا شرط فاسد فأفسده ، كما لو كان نقصاناً من حقّ المرتهن.

والثاني : لا يفسد ؛ لأنّ الرهن قد تمّ ، وإنّما شرط له زيادة لا يقتضيها ، فسقطت الزيادة ، وبقي عقد الرهن. ويفارق إذا كان نقصاناً من حقّ المرتهن ؛ لأنّ الرهن لم يتمّ.

فإن قلنا : العقد فاسد ، ففي فساد البيع إذا شرط فيه قولان :

أحدهما : يفسد - وبه قال أبو حنيفة - لأنّ الشرط الفاسد إذا اقترن بالعقد أفسده ؛ لأنّ سقوطه يقتضي ردّ جزء من الثمن تُرك لأجله ، وذلك مجهول.

والثاني : لا يفسد البيع ؛ لأنّ الرهن ينعقد منفرداً عن البيع ، فلم يفسد بفساده ، كالصداق مع النكاح(١) .

إذا ثبت هذا ، فإنّ أبا حنيفة قال : لا يفسد الرهن بالشروط الفاسدة ؛ لأنّه عقد يفتقر إلى القبض ، فلا يبطل بالشرط الفاسد ، كالهبة ، فإنّ العُمْري يشترط فيها رجوع الموهوب إليه ولا تفسد(٢) .

واحتجّت الشافعيّة على الفساد بأنّ هذا شرط فاسد قارن عقد الرهن ، فوجب أن يفسده ، كما لو قال : رهنتك على أن يكون يوماً في يدك ويوماً‌ في يدي. ومنعوا الهبة. والعُمْري تُقبل إذا قال : أعمرتك حياة فلان ، فأمّا إذا قال : حياتك ، ففيه قولان. وإن سُلّم فالفرق أنّه لم يشرط زوال ملكه ، وإنّما شرط عودها إليه بعد موته ، وذلك شرط على ورثته ، فلم يؤثّر ،

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠١ ، المغني ٤ : ٤٦٤. و يأتي هذا التفضيل في ص ٢٥٥ ذيل المسألة ١٧٥.

(٢) لم نعثر عليه في مظانّه من المصادر المتوفّرة لدينا ، وانظر : المغني ٤ : ٤٦٥ ، والشرح الكبير ٤ : ٤٥٧.

٩٨

بخلاف مسألتنا فإنّه شرط على العاقد معه ما ينافي العقد ففسد(١) .

والأقرب عندي : جواز اشتراط كلّ مباح في عقد الرهن إذا لم يناف مقتضاه ، فأمّا إذا نافاه ، لم يصح ، مثل أن يشترط في الرهن عدم بيع الرهن مطلقاً ، فإنّه ينافي التوثيق على الدَّيْن.

ولو شرط الانتفاع بالرهن أو عود منافعه إليه أو أن لا يبيعه المرتهن إلّا بحضور الراهن أو إلّا بعد شهر من حلول الدَّيْن ، أو شرط أن يرهن غير الرهن ، أو أن يشترط أن لا يسلّمه إلى المرتهن ، أو أن لا يبيعه إلّا بما يرضى الراهن ، أو حتى يبلغ كذا ، أو بعد محلّ الحقّ بشهر ، ونحو ذلك ، فإنّ ذلك كلّه جائز ؛ لأنّها شروط سائغة ، فيجب الوقوف عندها ؛ لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٢) .

ولا فرق في الرهن بين أن يكون تبرّعاً أو شرطاً في بيع وشبهه.

ولو شرط على المرتهن أن يرقنه عند غيره ، بطل ؛ لأنّه منافٍ لمقتضى الرهن. وإذا بطل الشرط بطل المشروط ؛ لأنّ الرضا بالعقد إنّما وقع على ذلك الشرط ، فإذا [ قلنا](٣) : لم يصح ، لم يصحّ العقد ؛ لأنّه بدون الشرط غير مرضيّ به.

مسألة ٩٠ : زوائد المرهون المتجدّدة بعد الرهن المتّصلة تدخل في الرهن ، كالسمن وتعلّم الصنعة وغيرها ، إجماعاً.

وأمّا المنفصلة فإنّها لا تدخل على ما يأتي عند الإطلاق ، لكن لو شرط دخولها - مثل أن يرهن الشجرة بشرط أن تحدث الثمرة مرهونةً ، أو الشاة بشرط أن يحدث النتاج مرهوناً - فإنّه يصحّ الشرط ، ويصير النماء

____________________

(١) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٢) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٣) ما بين المعقوفين نسخة بدل هامش الطبعة الحجريّة.

٩٩

المتجدّد مرهوناً ، كالأصل ؛ عملاً بالشرط ، وهو قول الشافعي في القديم والرهن اللطيف ، فإنّه قال : يصحّ الشرط ، ويتعدّى الرهن إلى الزوائد ؛ لأنّ الرهن عند الإطلاق إنّما لا يسري إلى الزوائد ؛ لضعفه ، فإذا قوي بالشرط سرى. ولأنّه بتملّك الثمرة ولا النتاج ، وإنّما هو وثيقة ، فيكون رهناً ، كالأصل ؛ لأنّه منه ، فأشبه السمن.

وقال في الاُمّ : لا يصحّ - وهو الأصحّ عندهم - لأنّ الزوائد حال العقد معدومة غير مملوكة ، فيكون قد رهنه قبل ملكه. ولأنّها مجهولة ، فلا يصحّ أيضاً رهنه(١) .

فعلى القول بالصحّة - وهو مذهبنا - يصحّ الرهن والبيع. وإن قلنا : لا يصحّ ، فهل يصحّ الرهن؟ قولان مبنيّان على أصلين :

أحدهما : أنّ الزيادة في حقّ المرتهن إذا فسدت هل تُفسد الرهن؟ قولان.

والثاني : أنّ الرهن إذا فسد في بعضه ، هل يفسد في الباقي؟ قولان على أحد الطريقين في تفريق الصفقة.

فإن قلنا : لا يصحّ الرهن ، فهل يفسد البيع؟ قولان.

فحصل في ذلك أربعة أقاويل ، أحدها : يصحّ الرهن والشرط والبيع. والثاني : يفسد الشرط والرهن والبيع. والثالث : يفسد الشرط والرهن والبيع. والثالث : يفسد الشرط والرهن ، ويصحّ البيع. والرابع : يفسد الشرط ، ويصحّ الرهن والبيع وهو الذي اختاره الشافعي ويثبت له الخيار في البيع ؛ لأنّه لم يسلم له ما شُرط(٢) .

____________________

(١) الاُمّ ٣ : ١٩٤ - ١٩٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٥٠ - ٢٥١ ، الوسيط ٣ : ٤٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٢.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٢٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400