تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406159 / تحميل: 5175
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بغير تفريطٍ ثمّ ظهر أنّ العين مستحقّة ، رجع(١) بالدرك على المفلس ؛ لأنّها بِيعت عليه.

ونقل المزني عن الشافعي أنّ المشتري يأخذ الثمن من مال المفلس(٢) .

وروى غيره أنّه يضرب بالثمن مع الغرماء(٣) .

واختلف أصحابه على طريقين ، منهم مَنْ قال : على قولين ، ومنهم مَنْ قال : على اختلاف حالين(٤) .

والوكيل والوليّ كالأب والجدّ وأمين الحاكم إذا باعوا مال غيرهم ثمّ استحقّ المال على المشتري ، كانت العهدة على مَنْ بِيع عليه.

وقد تقدّم الكلام على ذلك في الرهن ، فإنّ أبا حنيفة يقول : على الوكيل ، بخلاف الأب والجدّ ، وقد سبق(٥) .

وإذا جنى عبد المفلس ، تعلّق الأرش برقبته ، وكان ذلك مقدَّماً على حقوق الغرماء ؛ لأنّ الجناية لا محلّ لها سوى رقبة الجاني ، وديون الغرماء متعلّقة بذمّة المفلس ، فيُقدّم الحقّ المختصّ بالعين ، كما يُقدّم حقّ الجناية على حقّ الرهن.

إذا ثبت هذا ، فإنّه يُباع العبد في الجناية ، فإن كان وفق الجناية ، فلا بحث. وإن زادت قيمته ، رُدّ الباقي إلى الغرماء. وإن كانت أقلّ ،

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة : « يرجع ».

(٢ و ٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٠ - ٣٣١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١.

(٥) في ج ١٣ ، ص ٢٧٧ و ٢٧٨ ، المسألة ١٩٠.

١٨١

لم يثبت للمجنيّ عليه سوى ذلك.

مسألة ٣٩٦ : قد بيّنّا أنّه إذا ظهر غريمٌ آخَر ، نقض الحاكم القسمة ، أو يرجع على كلّ واحدٍ بحصّةٍ يقتضيها الحساب.

ومع نقض القسمة لو كان قد حصل نماء متجدّد بعد القسمة هل يتشارك الغرماء فيه؟ الأقرب : ذلك ؛ لظهور بطلان القسمة.

وكذا لو قُسّم التركة ثمّ ظهر بطلان القسمة وحصل النماء.

أمّا لو ظهر دَيْنٌ على الميّت وأبطلت القسمة ، فإن قلنا : النماء للوارث ، فلا بحث ، وإلّا تبع التركة.

ولو تلف المال بعد القبض ، ففي احتسابه على الغرماء إشكال.

* * *

١٨٢

١٨٣

المقصد الرابع : في الحجر‌

الحجر في اللغة : المنع والتضييق. ومنه سُمّي الحرام حَجْراً ؛ لما فيه من المنع.

قال الله تعالى :( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (١) أي حراماً محرّماً.

وسُمّي العقل حِجْراً ؛ لأنّه يمنع صاحبه من ارتكاب القبائح وما يضرّ عاقبته ، قال الله تعالى :( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) (٢) .

واعلم أنّ المحجور عليه نوعان :

أحدهما : مَنْ حُجر عليه لمصلحة الغير.

والثاني : مَنْ حُجر عليه لمصلحة نفسه.

وأقسام الأوّل خمسة :

أ : حجر المفلس لحقّ الغرماء.

ب : حجر الراهن لحقّ المرتهن.

ج : حجر المريض لحقّ الورثة.

د : حجر العبد لحقّ السيّد ، والمكاتَب لحقّ السيّد وحقّ الله تعالى.

ه- : حجر المرتدّ لحقّ المسلمين.

وهذه الأقسام خاصّة لا تعمّ جميع التصرّفات ، بل يصحّ منهم [ الإقرار‌

____________________

(١) الفرقان : ٢٢.

(٢) الفجر : (٥)

١٨٤

بالعقوبات ](١) وكثير من التصرّفات ، ولها أبواب مختصّة بها.

وأقسام الثاني ثلاثة :

أ : حجر المجنون.

ب : حجر الصبي.

ج : حجر السفيه.

والمذكور في هذا المقصد ثلاثة : الصغير ، والمجنون ، والسفيه. والحجر على هؤلاء عامّ ؛ لأنّهم يُمنعون من التصرّف في أموالهم وذممهم ، فهنا فصول :

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « العقوبات ». والظاهر ما أثبتناه.

١٨٥

[ الفصل ] الأوّل : الصغير‌

وهو محجور عليه بالنصّ والإجماع - سواء كان مميّزاً أو لا - في جميع التصرّفات ، إلّا ما يستثنى ، كعباداته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ووصيّته وإيصاله الهديّة وإذنه في دخول الدار على خلافٍ في ذلك.

قال الله تعالى :( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (١) شرط في تصرّفهم الرشدَ والبلوغَ ، وعبّر عن البلوغ بالنكاح ؛ لأنّه يشتهى بالبلوغ.

وقال الله تعالى :( فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) (٢) .

قيل : السفيه : المبذّر. والضعيف : الصبي ؛ لأنّ العرب تُسمّي كلّ قليل العقل ضعيفاً. والذي لا يستطيع أن يملّ : المغلوب على عقله(٣) .

مسألة ٣٩٧ : الحجر بالصبا يزول بزوال الصبا ، وهو البلوغ. وله أسباب :

منها : ما هو مشترك بين الذكور والإناث.

ومنها ما هو مختصّ بالنساء.

____________________

(١) النساء : (٦)

(٢) البقرة : ٢٨٢.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٠ - ٣٤١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٢٥ ، وكما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٧.

١٨٦

أمّا المشترك : فثلاثة : الإنبات للشعر ، والاحتلام ، والسنّ.

والمختصّ أمران : الحيض ، والحبل. وهُما للنساء خاصّة.

فهنا مباحث :

الأوّل : الإنبات.

والإنبات مختصّ بشعر العانة الخشن ، ولا اعتبار بالزغب(١) والشعرِ الضعيف الذي قد يوجد في الصغر ، بل بالخشن الذي يحتاج في إزالته إلى الحلق حول ذكر الرجل أو فرج المرأة.

ونبات هذا الشعر الخشن يقتضي الحكم بالبلوغ.

والأقرب : أنّه دلالة على البلوغ ؛ فإنّا نعلم سبق البلوغ عليه ؛ لحصوله على التدريج.

وللشافعي قولان :

أحدهما : أنّه بلوغ.

والثاني : أنّه دليل على البلوغ(٢) .

وقال أبو حنيفة : الإنبات ليس بلوغاً ولا دليلاً عليه ؛ لأنّه إنبات شعر ، فأشبه شعر الرأس وسائر البدن(٣) .

والفرق ظاهرٌ ؛ فإنّ التجربة قاضية بأنّ هذا الشعر لا ينبت إلّا بعد البلوغ ، بخلاف غيره من الشعور التي في البدن والرأس.

____________________

(١) الزغب : أوّل ما يبدو من شعر الصبي. لسان العرب ١ : ٤٥٠ « زغب ».

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٣ ، التنبيه : ١٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٧ - ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢ ، المغني ٤ : ٥٥٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٧.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، المغني ٤ : ٥٥٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٧.

١٨٧

ولما روى العامّة أنّ سعد بن معاذ حكم على بني قريظة بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم ، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين ، فمَنْ أنبت منهم قُتل ، ومَنْ لم ينبت جُعل في الذراري(١) .

وعن عطية القرظي قال : عُرضنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم قريظة وكان مَنْ أنبت قُتل ، ومَنْ لم ينبت خُلّي سبيله ، فكنتُ في مَنْ لم ينبت ، فخلّى سبيلي(٢) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه حفص بن البختري(٣) عن الصادق عن الباقرعليهما‌السلام ، قال : قال : « [ إنّ ](٤) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عرضهم يومئذٍ على(٥) العانات ، فمَنْ وجده أنبت قَتَله ، ومَنْ لم يجده أنبت ألحقه بالذراري »(٦) .

ولأنّه خارج ملازم للبلوغ غالباً ، ويستوي فيه الذكر والأُنثى ، فكان عَلَماً على البلوغ. ولأنّ الخارج ضربان : متّصل ومنفصل ، فلمّا كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ ، كذا المتّصل.

مسألة ٣٩٨ : نبات هذا الشعر دليلٌ على البلوغ في حقّ المسلمين والكفّار‌ ، عند علمائنا أجمع - وبه قال مالك وأحمد والشافعي في أحد القولين(٧) - لأنّ ما كان عَلَماً على البلوغ في حقّ المشركين كان عَلَماً في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، المغني ٤ : ٥٥٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٧.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٤٩ / ٢٥٤١ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٤١ / ٤٤٠٤ ، سنن البيهقي ٦ : ٥٨ ، مسند أحمد ٥ : ٥١٩ / ١٨٩٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ - ٧٠.

(٣) في المصدر : « أبو البختري » بدل « حفص بن البختري ».

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عن » بدل « على ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٦) التهذيب ٦ : ١٧٣ / ٣٣٩.

(٧) المعونة ٢ : ١١٧٤ ، المغني ٤ : ٥٥٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٧ ، الحاوي الكبير ٦ : =

١٨٨

حقّ المسلمين ، كالحمل.

وفي الثاني : أنّه لا يكون عَلَماً على البلوغ في المسلمين ، ويكون دليلاً في حقّ الكفّار.

هذا إذا قال : إنّه دليل على البلوغ ، وإن قال : إنّه بلوغ ، كان بلوغاً في حقّ المسلمين والكفّار(١) .

ووجه أنّه بلوغٌ حقيقةً : قياسه على سائر الأسباب.

ووجه أنّه دليلٌ عليه - وهو أظهر القولين عندنا - : أنّ البلوغ غير مكتسب ، والإنبات شي‌ء يُستعجل بالمعالجة.

وإنّما فرّق بين المسلمين والكفّار إذا قلنا : إنّه دليل على البلوغ بأن جعله دليلاً في حقّ الكفّار خاصّةً ؛ لأنّه يمكن الرجوع إلى المسلمين في معرفة البلوغ ، ومراجعة الآباء من المسلمين والاعتماد على إخبارهم عن تواريخ المواليد سهل ، بخلاف الكفّار ، فإنّه لا اعتماد على قولهم.

ولأنّ التهمة تلحق هذه العلامة في المسلمين ، دون الكفّار - لأنّ المسلم يحصل له الكمال في الأحكام بذلك واستفادة الولايات - فربما استعجلوا بالمعالجة ، بخلاف الكفّار ، فإنّهم لا يتّهمون بمثله ؛ لأنّهم حينئذٍ يُقتلون ، أو تُضرب عليهم الجزية ، والتهمة بالاستعجال قد لا تحصل في المسلمين ؛ لما روي أنّ غلاماً من الأنصار شبَّب بامرأة في شعره ، فرُفع إلى‌

____________________

= : ٣٤٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٠.

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٠ ، المغني ٤ : ٥٥٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٧.

١٨٩

عمر بن الخطّاب ، فلم يجده أنبت ، فقال : لو أنبتَّ الشعرَ لجلدتُك(١) .

مسألة ٣٩٩ : ولا اعتبار بشعر الإبط عندنا.

وللشافعي وجهان ، هذا أصحّهما ؛ إذ لو كان معتبراً في البلوغ ، لما كشفوا عن المؤتزر ؛ لحصول الغرض من غير كشف العورة.

والثاني : أنّه نبات كنبات شعر العانة ؛ لأنّ إنبات العانة يقع في أوّل تحريك الطبيعة في الشهوة ، ونبات الإبط يتراخى عن البلوغ في الغالب ، فكان أولى بالدلالة على حصول البلوغ(٢) .

وأمّا نبات اللحية والشارب فإنّه أيضاً لا أثر لهما في البلوغ ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّهما يلحقان بشعر العانة(٣) .

وبعض الشافعيّة ألحق شعر الإبط بشعر العانة ، ولم يلحق اللحية والشارب بالعانة(٤) .

وأمّا ثقل الصوت ونهود الثدي ونتوء طرف الحلقوم وانفراق الأرنبة فلا أثر له ، كما لا أثر لاخضرار الشارب ، وهو أحد قولي الشافعيّة(٥) .

والثاني : أنّه ملحق بشعر العانة(٦) .

ولا بأس به عندي بناءً على العادة القاضية بتأخّر ذلك عن البلوغ.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٨ ، المغني ٤ : ٥٥٦ - ٥٥٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٠ ، وفيها : « لحددتك » بدل « لجلدتك ». ونحوه في سنن البيهقي ٦ : ٥٨.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٠ - ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢.

(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٣.

١٩٠

البحث الثاني : في الاحتلام

مسألة ٤٠٠ : الاحتلام - وهو خروج المني ، وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد - بلوغٌ في الرجل والمرأة‌ ، عند علمائنا أجمع ، ولا نعلم فيه خلافاً في الذكر.

قال الله تعالى :( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) (١) وقال تعالى :( وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « رُفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم - وروي : حتى يبلغ الحلم - وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه »(٣) .

وقالعليه‌السلام لمعاذ : « خُذْ من كلّ حالمٍ ديناراً »(٤) .

وقد أجمع العلماء كافّة على أنّ الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل(٥) .

مسألة ٤٠١ : ولا فرق في إفادة خروج المني البلوغَ بين الرجال والنساء كما في الشعر ، عند عامّة أهل العلم.

وللشافعي قول : إنّ خروج المني من النساء لا يوجب بلوغهنّ ؛ لأنّه نادر فيهنّ ، ساقط العبرة(٦) .

____________________

(١) النور : ٥٩.

(٢) النور : ٥٨.

(٣) سنن أبي داوُد ٤ : ١٤٠ - ١٤١ / ٤٣٩٩ - ٤٤٠٣ بتفاوت يسير.

(٤) راجع الهامش (٤) من ص ٢٩١ في ج ٩ من هذا الكتاب.

(٥) كما في المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٥٦.

(٦) الوسيط ٤ : ٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢.

١٩١

وعلى هذا قال الجويني : الذي يتّجه عندي أن لا يلزمها الغسل ؛ لأنّه لو لزم لكان حكماً بأنّ الخارج منيّ ، والجمع بين الحكم بأنّه منيّ وبين الحكم بأنّه لا يحصل البلوغ به متناقض(١) .

قال بعض الشافعيّة : إن كان التناقض مأخوذاً من تعذّر التكليف بالغسل مع القول بعدم البلوغ ، فنحن لا نعني بلزوم الغسل سوى ما نعنيه بلزوم الوضوء على الصبي إذا أحدث ، فبالمعنى الذي أطلقنا ذلك ولا تكليف نطلق هذا. وإن كان غير ذلك ، فلا بدّ من بيانه(٢) .

وعلى هذا القول تصير أسباب البلوغ ثلاثة أقسام : قسم مشترك بين الرجال والنساء ، وقسم مختصّ بالنساء ، وقسم مختصّ بالرجال ، وهو خروج المنيّ ، لكن إطباق أكثر العلماء على خلاف هذا(٣) .

قالت أُمّ سلمة : سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا رأت ذلك فلتغتسل »(٤) .

مسألة ٤٠٢ : الحلم هو خروج المني من الذكر أو قُبُل المرأة مطلقاً ، سواء كان بشهوة أو غير شهوة ، وسواء كان بجماع أو غير جماع ، وسواء كان في نومٍ أو يقظة.

ولا يختصّ بالاحتلام ، بل هو منوط بمطلق الخروج مع إمكانه باستكمال تسع سنين مطلقاً عند الشافعي(٥) ، وعندنا في المرأة خاصّة ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩.

(٣) لاحظ العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، والمغني ٤ : ٥٥٦ ، والشرح الكبير ٤ : ٥٥٥.

(٤) نقله الشيخ الطوسي - كما في المتن - في المبسوط ٢ : ٢٨٢. وفي صحيح مسلم ١ : ٢٥٠ / ٣١١ ، وسنن البيهقي ١ : ١٦٩ ، ومسند أحمد ٤ : ١٩٧ / ١٣٥٩٨ عن أُمّ سليم.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢.

١٩٢

ولا عبرة بما ينفصل قبل ذلك.

وفيه للشافعيّة وجهان آخَران ذكرهما الجويني :

أحدهما : أنّ إمكان الاحتلام يدخل بمضيّ ستّة أشهر من السنة العاشرة.

والثاني : أنّه يدخل بتمام العاشرة(١) .

وهذه الوجوه عندهم كالوجوه في أقلّ سني الحيض ، لكنّ العاشرة هنا بمثابة التاسعة هناك ؛ لأنّ في النساء حدّةً في الطبيعة وتسارعاً إلى الإدراك(٢) .

مسألة ٤٠٣ : الخنثى المشكل إذا خرج المني من أحد فرجيه ، لم يُحكم ببلوغه‌ ؛ لجواز أن يكون الذي خرج منه المني خلقةً زائدة.

وإن خرج المني من الفرجين جميعاً ، حُكم ببلوغه.

وإن خرج الدم من فرج النساء ، والمني من الذكر ، حُكم ببلوغه ؛ لأنّه إن كان رجلاً ، فخروج الماء بلوغه. وإن كان أُنثى ، فخروج دم الحيض بلوغه.

هذا هو المشهور عند علمائنا وعند الشافعي(٣) .

وللشافعي قولٌ : إنّه إذا أمنى وحاض ؛ لم يُحكم ببلوغه(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٩.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٨ ، الوسيط ٤ : ٤١ - ٤٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٣ ، المغني ٤ : ٥٥٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٨.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٨ ، الوسيط ٤ : ٤١ - ٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٣.

١٩٣

وتأوّله أصحابه بوجهين :

أحدهما : أنّه يريد بذلك أنّه : أمنى وحاض من فرجٍ واحد.

والثاني : أنّه أراد إن حاض [ أو ](١) أمنى ، لم أحكم ببلوغه ؛ لما ذكرناه(٢) .

إذا ثبت هذا ، فإذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني ومن فرجه ما هو بصفة الحيض ، ففي الحكم ببلوغه عند الشافعيّة وجهان :

أصحّهما عندهم : أنّه يُحكم به ؛ لأنّه إمّا ذكر وقد أمنى ، وإمّا أُنثى وقد حاضت.

والثاني : لا ؛ لتعارض الخارجين ، وإسقاط كلّ واحدٍ منهما حكمَ الآخَر ، ولهذا لا يُحكم - والحال هذه - بالذكورة ولا بالأُنوثة(٣) . وهو ظاهر قول الشافعي(٤) .

وإن وُجد أحد الأمرين دون الآخَر أو أمنى وحاض من الفرج ، فعامّة الشافعيّة أنّه لا يُحكم ببلوغه ؛ لجواز أن يظهر من الفرج الآخَر ما يعارضه(٥) .

وقال الجويني : ينبغي أن يُحكم بالبلوغ بأحدهما ، كما يُحكم بالذكورة والأُنوثة ، ثمّ إن ظهر خلافه ، غيّرنا الحكمَ ، وكيف ينتظم منّا أن نحكم بأنّه ذكر أمنى(٦) ولا نحكم بأنّه قد بلغ!؟(٧) .

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « و». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٣.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٣.

(٦) في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ : « أو أُنثى » بدل « أمنى ».

(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٣.

١٩٤

قال أكثر الحنابلة : إن خرج المني من ذكر الخنثى المشكل [ فهو ] عَلَم [ على ] بلوغه وأنّه ذكر. وإن خرج من فرج المرأة أو حاض ، فهو عَلَمٌ على بلوغه وكونه أُنثى ؛ لأنّ خروج البول من [ أحد ] الفرجين دليل على كونه رجلاً [ أو ](١) امرأةً ، فخروج المني أو الحيض أولى ، وإذا ثبت كونه رجلاً خرج المني من ذكره أو امرأةً خرج الحيض من فرجها ، لزم وجود البلوغ. ولأنّ خروج منيّ الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل ، فكان دليلاً على التعيين ، فإذا ثبت التعيين ، لزم كونه دليلاً على البلوغ ، كما لو تعيّن قبل خروجه. ولأنّه منيٌّ خارج من ذكر أو حيض خارج من فرج ، فكان عَلَماً على البلوغ ، كالمنيّ الخارج من الغلام ، والحيضِ الخارج من الجارية. ولأنّ خروجهما معاً دليل على البلوغ ، فخروج أحدهما أولى ؛ لأنّ خروجهما معاً يفضي إلى تعارضهما ، وإسقاط دلالتهما ؛ إذ لا يتصوّر أن يجتمع حيضٌ صحيح ومنيّ رجل ، فوجب أن يكون أحدهما فضلةً خارجة من غير محلّها ، وليس أحدهما بذلك أولى من الآخَر ، فتبطل دلالتهما ، كالبيّنتين إذا تعارضتا ، وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعاً ، بخلاف ما إذا وُجد أحدهما منفرداً ، فإنّ الله تعالى أجرى العادة أنّ الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ، ومنيّ الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه ، فإذا وُجد ذلك من غير معارضٍ ، وجب أن يثبت حكمه ، ويقضى بثبوت حكم دلالته ، كالحكم بكونه رجلاً بخروج البول من ذكره ، وبكونه امرأةً بخروجه من فرجها ، والحكمِ للغلام ببلوغه مع [ خروج ] المني من ذكره ، وللجارية بخروج الحيض من فرجها ، فعلى هذا إن خرجا جميعاً ، لم يثبت كونه‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « و». وما أثبتناه من المصدر.

١٩٥

رجلاً ولا امرأةً ؛ لأنّ الدليلين تعارضا ، فأشبه ما لو خرج البول من الفرجين(١) .

وهذا لا بأس به عندي.

تذنيب : إذا خرج المنيّ من الذكر والحيضُ من الفرج ، فقد بيّنّا أنّهما تعارضا في الحكم بالذكورة أو بالأُنوثة‌ ، وسقط اعتبارهما فيهما.

وهل تثبت دلالتهما على البلوغ؟ الأقرب : ذلك - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّه إمّا رجل فقد خرج المني من ذكره ، وإمّا امرأة فقد حاضت.

وقال بعض الجمهور : لا يثبت البلوغ ؛ لأنّه يجوز أن لا يكون هذا حيضاً ولا منيّاً ، ولا يكون فيه دلالة ، وقد دلّ تعارضهما على ذلك ، فانتفت دلالتهما على البلوغ ، كانتفاء دلالتهما على الذكوريّة والأُنوثيّة(٣) .

البحث الثالث : في السنّ.

مسألة ٤٠٤ : السنّ عندنا دليل على البلوغ - وبه قال جماهير العامّة ، كالشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل(٤) - لما رواه العامّة عن ابن عمر قال : عُرضت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جيش يوم بدر وأنا ابن ثلاث عشرة سنة ، فردّني ، وعُرضت عليه يوم أُحد وأنا ابن أربع‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٥٥٨ - ٥٥٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٨ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) راجع المصادر في الهامش (٣) من ص ١٩٢.

(٣) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٧ ، التنبيه : ١٠٣ ، الوجيز ١ : ١٧٦ ، الوسيط ٤ : ٣٩ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣١ و ١٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٤ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٢ ، المغني ٤ : ٥٥٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٦.

١٩٦

عشرة سنة ، فردّني ولم يرني بلغت ، وعُرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني وأخذني في المقاتلة(١) .

وعن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كُتب ما لَه وما عليه ، وأُخذت منه الحدود »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : رواية أبي حمزة الثمالي عن الباقرعليه‌السلام ، قال : قلت له : جُعلت فداك في كَمْ تجري الأحكام على الصبيان؟ قال : « في ثلاث عشرة سنة وأربع عشرة سنة » قلت : فإنّه لم يحتلم(٣) ، قال : « وإن لم يحتلم ، فإنّ الأحكام تجري عليه »(٤) .

وقال مالك : ليس السنّ دليلاً على البلوغ ولا بلوغاً في نفسه ، ولا حدّ للسنّ في البلوغ ، بل يُعلم البلوغ بغلظ الصوت وشقّ الغضروف ، وهو رأس الأنف(٥) .

وقال داوُد : لا حدّ للبلوغ من السنّ ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « رُفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم »(٦) فلا يحصل البلوغ بدون الاحتلام وإن طعن في السن(٧) . ‌

____________________

(١) الطبقات الكبرى - لابن سعد - ٤ : ١٤٣ ، تاريخ دمشق ٣١ : ٩٥ ، سنن البيهقي ٦ : ٥٥ ، مسند الطيالسي : ٢٥٤ / ١٨٥٩.

(٢) المغني ٤ : ٥٥٧ - ٥٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٨.

(٣) كذا ، وفي المصدر : « فإن لم يحتلم فيها ».

(٤) التهذيب ٦ : ٣١٠ / ٨٥٦.

(٥) المعونة ٢ : ١١٧٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٨ ، المغني ٤ : ٥٥٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٦.

(٦) سنن أبي داوُد ٤ : ١٤١ / ٤٤٠٣ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٣٩ / ١٧٣ ، سنن البيهقي ٦ : ٢٠٦ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٥٩ ، مسند أحمد ٧ : ١٤٥ - ١٤٦ / ٢٤١٧٣.

(٧) حلية العلماء ٤ : ٥٣٢ ، المغني ٤ : ٥٥٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٦.

١٩٧

ولا دلالة في الخبر على امتناع إثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل.

مسألة ٤٠٥ : الذكر والمرأة مختلفان في السنّ‌ ، فالذكر يُعلم بلوغه بمضيّ خمس عشرة سنة ، والأُنثى بمضيّ تسع سنين ، عند علمائنا.

ومَنْ خالَف بين الذكر والأُنثى أبو حنيفة. وسوّى بينهما الشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل ومحمّد وأبو يوسف.

إذا عرفت هذا ، فإنّ الشافعي والأوزاعي وأبا ثور وأحمد وأبا يوسف ومحمّد قالوا : حدّ بلوغ الذكر والأُنثى بلوغ خمس عشرة سنة كاملة(١) .

وقال أبو حنيفة : حدّ بلوغ المرأة سبع عشرة سنة بكلّ حال.

وله في الذَّكَر روايتان :

إحداهما : سبع عشرة أيضاً.

والأُخرى : ثماني عشرة سنة كاملة(٢) .

وقال أصحاب مالك : حدّ البلوغ في الغلام والمرأة سبع عشرة سنة و(٣) ثماني عشرة سنة(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٤ ، التنبيه : ١٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٧ ، الوجيز ١ : ١٧٦ ، الوسيط ٤ : ٣٩ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣١ و ١٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٤ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٢ ، المغني ٤ : ٥٥٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٦.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٤٩ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٤٤ ، الوسيط ٤ : ٤٠ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٨.

(٣) في أغلب المصادر : « أو » بدل « و».

(٤) التلقين ٢ : ٤٢٣ ، الذخيرة ٨ : ٢٣٧ ، المعونة ٢ : ١١٧٤ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، المغني ٤ : ٥٥٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٦.

١٩٨

وما قلناه أولى ؛ لأنّ الغالب في منيّ الرجل أنّه يحصل ببلوغ خمس عشرة سنة ، والمرأة قد تحيض ببلوغ تسع سنين ، فإذا توافقت العلامات ، دلّ على حصول البلوغ بذلك.

وقول أبي حنيفة ومالك وداوُد(١) يدفعه ما تقدّم(٢) في خبر ابن عمر وغيره.

تذنيب : لا يحصل البلوغ بنفس الطعن في السنّ الخامسة عشر إذا لم يستكملها‌ ؛ عملاً بالاستصحاب وفتوى الأصحاب ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي(٣) .

وله وجهٌ آخَر : أنّ البلوغ يحصل بذلك ؛ لأنّه حينئذٍ يُسمّى ابن خمس عشرة سنة(٤) .

وهو ممنوع.

ورواية(٥) أبي حمزة عن الباقرعليه‌السلام في طريقها قولٌ ، على أنّ جريان الأحكام عليه بمعنى التحفّظ ، أو على سبيل الاحتياط حتى يكلّف العبادات للتمرين عليها والاعتقاد لها ، فلا يقع منه عند البلوغ الإخلال بشي‌ء منها.

البحث الرابع : في الحيض والحبل

مسألة ٤٠٦ : الحيض في وقت الإمكان دليل البلوغ ، ولا نعلم فيه خلافاً.

____________________

(١) تقدّم قول مالك وداوُد في ص ١٩٦ ، المسألة ٤٠٤.

(٢) في ص ١٩٥ - ١٩٦ ، المسألة ٤٠٤.

(٣ و ٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١١.

(٥) تقدّمت الرواية في ص ١٩٦.

١٩٩

والأصل فيه قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأسماء بنت أبي بكر : « إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلّا هذا » وأشار إلى الوجه والكفّين(١) ، علّق وجوب الستر بالحيض ، وذلك نوع تكليف ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تُقبل صلاة حائض إلّا بخمار »(٢) أشعر أنّها بالحيض كُلّفت الصلاة.

ولو اشتبه الخارج هل هو حيض أم لا ، لم يُحكم بالبلوغ - إلّا مع تيقّن أنّه حيض - عملاً بالاستصحاب.

مسألة ٤٠٧ : الحبل دليل البلوغ‌ ؛ لأنّه مسبوق بالإنزال ، لأنّ الله تعالى أجرى عادته بأنّ الولد لا يخلق إلّا من ماء الرجل وماء المرأة.

قال الله تعالى :( أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ) (٣) وقال تعالى :( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ ) (٤) .

لكنّ الولد لا يتيقّن إلّا بالوضع ، فإذا وضعت حكمنا بالبلوغ قبل الوضع بستّة أشهر وشي‌ء ؛ لأنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر.

ولا فرق بين أن يكون ما ولدته تامّاً أو غير تامّ إذا علم أنّه آدميّ أو مبدأ صورة آدميّ ، كعلقة تصوّرت ، فإن كانت مطلّقةً وأتت بولدٍ يلحق الزوجَ ، حكمنا ببلوغها لما قبل الطلاق.

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٤ : ٦٢ / ٤١٠٤ ، سنن البيهقي ٢ : ٢٢٦ ، و ٧ : ٨٦.

(٢) سنن الترمذي ٢ : ٢١٥ / ٣٧٧ ، سنن البيهقي ٢ : ٢٣٣ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٢٥١.

(٣) الإنسان : (٢)

(٤) الطارق : ٥ - ٧

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحث

ما يخلفه الإنسان بعد موته :

المستفاد من الرّوايات الشريفة ، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه ، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته ، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي ، فإن كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره ، وإن كانت شريرة فلا يجني منها سوى الهون والعذاب.

فعن الإمام الصادق ٧ ، أنّه قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثالث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي تعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له»(١) .

وفي رواية اخرى : «ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، مصحف يقرأ منه ، وقليب (بئر) يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجربه ، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده»(٢) .

فيما أكّدت بعض الرّوايات على (العلم) الذي يخلّفه بعده.(٣) وقد حذّرت كثير من الرّوايات من أن يسنّ الإنسان سنّة سيئة ، لأنّ الفاعل الأوّل ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.

وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة ، لينتفع الفاعل الأوّل لها بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.

وذكر العلّامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار إنّ سائلا قام على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل ، فسكت القوم ، ثمّ أنّ رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) منية المريد ، ص ١١.

٤٨١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استن خيرا فاستن به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه ، غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّا فاستن به فعليه وزره ، مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم» فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور ، هناك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ، وردّوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(٢) .

فتعكس هذه الآيات والرّوايات أبعاد مسئولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف السنين بعد موته!(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٦.

(٣) لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (٢٥) من سورة النحل.

٤٨٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) )

التّفسير

لا داعي للغرور :

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسئوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته ، وما لها من إكرام وأفضلية ، ثمّ جعله أمام «ربّ» «كريم» ، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب

٤٨٣

الإنسان لفضل كرمه

فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقّ لعاقل أن يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة ، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال : «غرّه جهله»(١) .

ومن هنا ، يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي ، وليس كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية ، على أنّه تلقين الإنسان عذره ، فيقول : غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض : «لو أقامك الله ويوم القيامة بين يديه ، فقال :( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة»(٢) .

فهذا ما يخالف تماما ، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته ، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه! «غرّك» : من (الغرور) ، و «الغرّة» : غفلة في اليقظة ، وبعبارة اخرى : غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة ، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور) : كلّ ما يغرّ الإنسان من مال ، جاه ، شهوة وشيطان ، وقد فسّر الغرور بالشيطان ، لأنّه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩ ؛ والدر المنثور ، وروح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي ، عند تفسير الآية المبحوثة.

(٢) المصدر السابق.

٤٨٤

وذكر في تفسير «الكريم» آراء كثيرة ، منها : إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسان ، وهو لا ينتظر منها أيّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها : هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها : هو من يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللهعزوجل ، فيكفي كرم الله جلالا أنّه لا يكتفي عن المذنبين ، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عند تلاوته لهذه الآية ، أنّه قال : (إن الإنسان) «أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنسك بهلكة نفسك؟

أمّا من دائك بلول (أي شفاء) ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا وبذكره آنسا ، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره ، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! ...»(١) .

وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان :( الَّذِي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٤٨٥

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما (١) شاءَ رَكَّبَكَ ) .

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة أصل الخلقة ، التسوية ، التعديل ، ومن ثمّ التركيب.

ففي مرحلة الاولى : يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.

وفي مرحلة الثّانية : مرحلة «التسوية والتنظيم» وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه ، عروقه وسائر أعضاءه ، وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية ، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف ، ولا زالوا في أوّل الطريق

وفي المرحلة الثّالثة : يكون التعديل بين «القوى» و «الأعضاء» وتحكيم الارتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين ، فـ اليدين ، الرجلين ، العينين ، الأذنين ، العظام ، العروق ، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر ، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس ، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء ، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلّا بعد أن يؤدّي كلّ من : الأسنان ، اللسان ، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به ، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء ، لينتج منه القوّة

__________________

(١) «ما» : زائدة ، واحتملها البعض (شرطية) ، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

٤٨٦

اللازمة للحركة والفعالية

وكلّ ما ذكر ، وغيره كثير ، قد جمع قصيرة رائعة( ... فَعَدَلَكَ ) .

وقيل : «عدلك» إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان ، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات ، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة : تكون عملية «التركيب» وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبة إلى بقية الموجودات.

نعم ، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات ، وأعطى الإنسان فطرة سليمة ، وركّبه بشكلّ يكون فيه مستعدا لتلقي كلّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٢) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) ، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

ومع الاختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات ، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته ، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمّنة.

وتلخص الآية (٤) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

والخلاصة : فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مرورا بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكلّ حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولا بدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته ،

٤٨٧

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة :( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) .

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(١)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين ، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية ، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد ، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

«الدين» : يراد به هنا ، الجزاء يوم الجزاء ، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات ، لأنّها تتحدث عن «المعاد».

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولا بدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) (٢) .

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم :( كِراماً كاتِبِينَ ) .

( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

و «الحافظين» : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٧) من سورة (ق) بالرقيب العتيد :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، كما وذكرتهم الآية (١٦) من نفس السورة :( إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) «كلا» حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم ، لكن أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك ، وأهمها ما ذكر أعلاه ، أي أن «كلا» جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط. وهو ما ورد بعد «بل» وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة : بل) ، وقال بعد ذكره للآية : قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

(٢) قيل : إن «الواو» هنا حالية ، كما في روح المعاني وروح البيان ، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

٤٨٨

الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) .

وثمّة آيات قرآنية اخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللهعزوجل على أعمال الإنسان ، ممّا لا شك فيه ، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيّ أحد ، وأدق من كلّ شيء ، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسئولية ما يؤديه ، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب ، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلّ جهة ، وذلك ذيل الآيتين (٢٠ و٢١) من سورة فصّلت ، ونوردها هنا إجمالا ، وهي على سبعة أقسام.

أوّلا : ذات الله المقدّسة ، كما في قوله تعالى :( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

ثانيا : الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، بدلالة قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ثالثا : أعضاء بدن الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

رابعا : جلد الإنسان وسمعه وبصره ، بدلالة قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

خامسا : الملائكة ، بدلالة قوله تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

(٣) النور ، الآية ٢٤.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

٤٨٩

وَشَهِيدٌ ) (١) ، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.

سادسا : الأرض المكان الذي يعيش عليه الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٢) .

سابعا : الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان ، بدلالة ما روي عن الإمام عليعليه‌السلام في وقوله : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد»(٣) .

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي : إنّ شخصا سأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللهعزوجل عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك يشهد ، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر اللهعزوجل »(٤) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (١) من سورة فاطر ـ فراجع).

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٢١.

(٢) الزلزال ، الآية ٤.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧٣٩ (مادة : يوم).

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٢.

٤٩٠

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم «كرام» ، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله ، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير ، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر «كاتبين» للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر :( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام ، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان ، وتشير إلى كونه مختارا ، وإلّا فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضا إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي ، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسئوليته ويعمل بدروه.

* * *

بحث

كتبة صحائف الأعمال :

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان ، والكاتبين لها بخيرها وشرّها ، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

١ ـ سؤال عبد الله بن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأبيه عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟».

٤٩١

قال : لا.

قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين ، قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»(١) .

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان ، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه ، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّا ، ولا يفوتهم شيئا إلّا وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضا ، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف : «إنّما الأعمال بالنيات» للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضا ، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل ، فلسانه القلم وريقه المداد!

٢ ـ وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة ، ومنها : «إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».(٢)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان ، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة فنيّته السيئة لا تسجل عليه ، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل ، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٢٩ ، باب «من يهمّ بالحسنة أو السيئة» الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١ ـ ٢.

٤٩٢

له وفق اللطف والتفضل الإلهي

٣ – وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «يهمّ العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن عملها اجّل سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإن اللهعزوجل يقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، أو الاستغفار فإنّ هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم»(١) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما»!(٢)

٥ – وفي خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى الله : «اعلموا عباد الله ، إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج «أي إحكام» ، وإنّ غدا من اليوم قريب»(٣) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٤.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ، الحديث ٢ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٩٣

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

التّفسير

«يوم لا تملك نفس لنفس شيئا» :

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كلّ من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) .

والثّانية :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .

«الأبرار» : جمع (بار) و «برّ» على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ، و (البرّ) بكسر الراء ـ كلّ عمل صالح والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم» : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا «الجنّة» ، وجاءت بصيغة

٤٩٤

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة ، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلّا الله سبحانه وتعالى ، واختيرت كلمة «نعيم» بصيغة الصفة المشبهة ، للتأكيد على بقاء واستمرار هذه النعمة ، لأنّ الصفة المشبهة عادة ما تتضمّن ذلك.

«الفجّار» : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل ، أيّ شقّه بنور الصباح ، و (الفخور) : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم» : من (الجحمة) ، وهي تأجج النّار ، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم) على جهنّم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّا ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار ، كما يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وقال بعض : المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي ، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية ، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

فالمعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، إلّا أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال ، والله العالم.

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار :( يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ) .

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حاليا ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون» : من (المصلى) على وزن (سعي) ، و «صلى النّار» : دخل فيها ، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع ، فإنّه يدل على الاستمرار

٤٩٥

والملازمة في ذلك الدخول.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية :( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

اعتبر كثير من المفسّرين كون الآية دليلا على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد بـ «الفجّار» هم «الكفّار» ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار» : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذيبهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ أولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا ، من كون هؤلاء يعيشون جهنّم حتّى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا( ... وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) ، فحياتهم بحدّ ذاتها جهنّما ، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث الشريف) ، وعليه فجهنّم القبر والبرزخ وجهنّم الآخرة كلّها مهيأة لهم.

كما وتبيّن الآية أيضا : إنّ عذاب أهل جهنّم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كلّ ما له من علم بـ القيامة ، المبدأ ، المعاد فكيف يا ترى حال الآخرين؟!!

والآيات قد بيّنت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة ، بحيث لا يصل لحدّها أيّ وصف أو بيان ، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنّة ، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة

٤٩٦

لحقيقة عذاب جهنّم ، وعموما لا يمكننا إدراك ما سيجري من حوادث في ذلك اليوم الرهيب المحتوم.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم ، وبجملة وجيزة ، لكنها متضمّنة لحقائق ومعان كثيرة :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) .

فستتجلّى حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهّار ، وستبان حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كلّ من تنكر لهذه الحقيقة الحقّة ، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميرا ورئيسا أو حاكما ، وسينهار أولئك البسطاء الذين اعتبروا أن قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

وتشهد على الحقيقة ـ بالإضافة إلى الآية المذكورة ـ الآية (١٦) من سورة المؤمن حيث تقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

وتشير الآية (٣٧) من سورة عبس إلى انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم دون كلّ الأشياء الاخرى ، ولو قدّر أن يمنح قدرا معينا من القدرة ، لما نفع بها أحد دون نفسه! ، حيث تقول الآية :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

حتّى روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه تناول ذلك الموقف بقوله : (إن الأمر يومئذ واليوم كله لله ، ...) وإذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلّا الله»(١)

وهنا يواجهنا السؤال التالي : هل يعني ذلك ، إنّ الآية تتعارض وشفاعة الأنبياء والأوصياء والملائكة؟

ويتّضح جواب السؤال المذكور من خلال البحوث التي قدمناها بخصوص موضوع (الشفاعة) فقد صرّح الحكيم في بيانه الكريم ، إنّ الشّفاعة لن تكون إلّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٠.

٤٩٧

بإذنه ، وإنّ الشّفاعة غير مطلقة ، حسب ما تشير إليه الآية (٢٨) من سورة الأنبياء( لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) اللهم! إنّ الخلائق تنتظر رحمتك ولطفك في ذلك اليوم الرهيب ، ونحن الآن نتوقع لطفك.

إلهنا! لا تحرمنا من الطافك وعناياتك في هذا العالم والعالم الآخر.

ربّنا! أنت الحاكم المطلق في كلّ مكان وزمان ، فاحفظنا من التورط في شباك الذنوب والسقوط في وادي الشرك واللجوء الى الغير

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الإنفطار

انتهى المجلد التاسع عشر

* * *

٤٩٨

الفهرس

سورة المعارج

محتوى السورة ٥

فضيلة هذه السورة ٦

تفسير الآيات : ١ ـ ٣ ٧

سبب النّزول ٧

العذاب العاجل ٩

ملاحظة

إشكالات المعاندين الواهية ١٠

تفسير الآيات : ٤ ـ ٧ ١٤

يوم مقداره خمسين ألف سنة ١٤

تفسير الآيات : ٨ ـ ١٨ ١٧

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٨ ٢١

أوصاف المؤمنين ٢١

تفسير الآيات : ٢٩ ـ ٣٥ ٢٧

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة ٢٧

تفسير الآيات : ٣٦ ـ ٤١ ٣٢

الطمع الواهي في الجنّة ٣٢

٤٩٩

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب ٣٥

تفسير الآيات : ٤٢ ـ ٤٤ ٣٧

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام ٣٧

«سورة نوح»

محتوى سورة ٤٣

فضيلة هذه السورة ٤٤

تفسير الآيات : ١ ـ ٤ ٤٥

رسالة نوح الأولى ٤٥

ملاحظة

العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر ٤٧

تفسير الآيات : ٥ ـ ٩ ٤٨

استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم ، ولكن ٤٨

ملاحظتان

١ ـ أسلوب الإبلاغ ومنهجه ٥١

٢ ـ لماذا الفرا من الحقيقة ٥١

تفسير الآيات : ١٠ ـ ١٤ ٥٣

ثمرة الإيمان في الدنيا ٥٣

ملاحظة

الرّابطة بين التقوى والعمران ٥٥

تفسير الآيات : ١٥ ـ ٢٠ ٥٨

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510