تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406449 / تحميل: 5181
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(١) .

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (٢) .

«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض ، إلّا أنّه يستعمل غالبا في الجدّ والمثابرة ، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشرّ!

والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول : وان ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل بل يقول : إلّا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه ، فالعبرة بالنيّة ، فإذا نوى خيرا أعطاه الله ثوابه ، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.

أمّا الآية التالية فتقول :( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فالإنسان لا يرى غدا نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) .

كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (٧) و٨) :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ! أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول :( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) (٣) .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

__________________

(١) أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اخرى.

(٢) كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.

(٣) نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى يقول الزمخشري في الكشّاف : يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يجزى العبد سعيه إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله ، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.

٢٦١

لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات ، لا يبدو صحيحا ، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة ، بل الكلام فيها أساسا على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!

* * *

بحوث

١ ـ ثلاثة اصول إسلامية مهمّة

أشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الأصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ ـ كلّ إنسان مسئول عن ذنبه ووزره.

ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلّا سعيه.

ج ـ يجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!

والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائدا ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين ، وهو أنّ الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.

وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاءون ، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الأمور باطلة.

٢٦٢

ومنطق العقل أيضا يقتضي أنّ كلّا مسئول عن عمله ، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.

وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله ، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية ، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!

وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار ، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.

وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضا أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الاجتماعية ، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبدا.

ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا ، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي ، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!

٢ ـ سوء الاستفادة من مفاد الآية :

كما بيّنا آنفا ، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة ، إلّا أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لأمور الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الاشتراكية فيقول : إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب ، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!

٢٦٣

والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضا مع أنّ مسألة الإرث من الأصول الإسلامية القطعية ، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما ، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.

وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل ، إلّا أنّه غالبا ما يوجد استثناء أمام كلّ أصل ، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي ، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حرم حقّ الإرث.

وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه ، هذا هو الأصل ، إلّا أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين ، وهو أصل قرآني(١) كذلك ، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية ، كما صرّح به القرآن الكريم.

٣ ـ الجواب على سؤالين

يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها :

أوّلا : إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه ، فما معنى الشفاعة إذا؟!

والثّاني : إنّنا نقرأ في الآية (٢١) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة :( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار ، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضا.

والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان

__________________

(١) جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (٢٧).

٢٦٤

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله ، إلّا أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعما أخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.

فالاستحقاق شيء ، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحيانا.

ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست اعتباطا ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا ، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين ، فإنّ القرآن يقول أيضا :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) !.

٤ ـ صحف إبراهيم وموسى

«الصحف» جمع صحيفة ، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه ، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.

فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.

ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.

يسأل أبو ذرّ النّبي : يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟

فيجيبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.

فيسأله ثانية عن الرسل منهم : كم المرسلون؟

فيجيبه النبي : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوما».

ويسأل أبو ذرّ مرّة اخرى : كان آدم نبيّا؟!

فيجيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده.

فيسأله أبو ذرّ : كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي : مائة وأربعة كتب أنزل الله

٢٦٥

منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(١) .

٥ ـ المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين

الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه :

«الجاني الذي يذنب سيموت ، والابن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب ابنه»(٢) .

وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.

«لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء ، فكلّ يقتل بذنبه»(٣) .

وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد ، وإلّا لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦ وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(٢) كتاب حزقيل ، الفصل ١٨ ص ٢٠.

(٣) التوراة ، سفر التثنية ، باب ٢٤ الرقم ١٦.

٢٦٦

الآيات

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) )

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه :

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضا.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن :( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيرا فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها

٢٦٧

منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(١) .

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّنا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء امور هذا العالم إليه فيقول :( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) !

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(٣) .

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال :

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٠.

(٢) هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلّا أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام (فلاحظوا بدقّة).

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٢.

٢٦٨

انّ فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان ، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاخر أو نادرتان جدّا.

أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّا ، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال ، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان ، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الأمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول :( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) .

«النشأة» : معناها الإيجاد والتربية ، و «النشأة الاخرى» ليست شيئا سوى القيامة!

والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم ، اقتضت حكمته أن تكون نشأة اخرى للتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة ، فلا بدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع ، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

٢٦٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما على نفسه ، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاده غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

«وأغنى» : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

«وأقنى» : فعل مشتقّ من قنية على وزن جزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(١) .

فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعدّ أكبر «رأس مال» دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى ، وهو أنّه ما يقابل أغنى ، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته ، نظير ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهدا» على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) .

والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعانا ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، مادّة قني.

٢٧٠

تماما هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفة من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضا» إلّا أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.

* * *

بحوث

١ ـ كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة ، بدءا من مسألة الموت والحياة ، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها ، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه اخرى ، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاخرى بأمره أيضا ، لأنّها حياة جديدة وامتداد لهذه الحياة واستمرارها.

هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة ومن ـ جهة اخرى ـ خطّ المعاد ، لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.

٢٧١

وبتعبير آخر ، إنّ جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

٢ ـ عجائب نجم الشعرى :

«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفا من أشدّ النجوم في السماء لمعانا وإشراقا وهو معروف بنجم الشعرى اليماني ، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية ، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه «باليماني»!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها ، لئلّا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ ـ طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ ١٢٠ ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز ٦٥٠٠ درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريبا ، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّا على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

٢٧٢

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب ، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!

ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلّا أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفا من كوكب الشمس ، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية ٣٠٠ ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «مترا» في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلّا بعد عشر سنين ، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من اكتشفه عالم يدعى بسل Besell عام ١٨٤٤ م إلّا أنّه رؤي عام ١٨٦٢ بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في ٥٠ عاما(١) .

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير ، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

٣ ـ حديث عميق المحتوى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون فقال : لو تعلمون

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية مادّة ، شعرى.

٢٧٣

ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال : إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال : ائت هؤلاء ، فقل لهم : إنّ الله أضحك وأبكى(١) .

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما ، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب ، والضحك في محلّه مطلوب أيضا ، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان ، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعند ما نقرأ في الآية ٨٢ من سورة التوبة قوله تعالى :( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فهذا الأمر وارد في المنافقين ، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول :( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصحّ عبادة الشعرى ، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضا ، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

* * *

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٠.

٢٧٤

الآيات

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) )

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظرا إلى مسئولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا ، كلّها بدأت بأنّ : فأوّلها جاء

٢٧٥

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وصف عاد بـ «الاولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هودعليه‌السلام تدعى بـ «عاد الاولى»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) .

ويقول في شأن قوم نوح :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .

لأنّ نبيّهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّا قليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم واستكبار هم وإيذائهم نبيّهم نوحا وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الأمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى :( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقا لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميرا( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) (٢) .

أجل لقد أمطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط ، إلّا

__________________

في الآية ٣٨ ألا تزر وازرة وزر اخرى وآخرها وأنّه أهلك عادا الاولى.

(١) مجمع البيان وروح المعاني ، وتفسير الرازي.

(٢) «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

٢٧٦

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٩ من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات ، وقد احتمل بعضهم أنّه هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء ، إلّا أنّ آيات القرآن الاخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (٨٢) من سورة هود :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) !

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول : يا أهل البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام عليعليه‌السلام هو من باب التطبيق والمصداق ، لا التّفسير ، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) ؟

فهل تشّك وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد ، وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكّ بهذه النعمة ، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الأمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

٢٧٧

«تتمارى»(١) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع : ألأ ، أو إلي ـ على وزن فعل ـ والألئ معناها النعمة وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة إلّا أنّه من جهة كونه درسا للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن اعتبار ذلك نعمة عظيمة.

* * *

__________________

(١) بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على اشتراك طرفين في الفعل ، إلّا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد ، وهو أمّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد «فلاحظوا بدقّة».

٢٧٨

الآيات

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

التّفسير

اسجدوا له جميعا

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين ، والكفّار ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتخاطبهم بالقول :( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله أمما بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من( هذا نَذِيرٌ ) هو الإشارة إلى الإخبار

٢٧٩

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الأمم السالفة ، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضا ، إلّا أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا :( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) .

أجل ، فقد اقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب ، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الاقتراب أيضا

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث ، واردة في الآية ١٨ من سورة غافر أيضا وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاولى)( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، وعلى كلّ حال فإنّ اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) (١) .

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلّا أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة ، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهرا.

وعلى كلّ حال ، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه ، فإذا أردت النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) .

__________________

(١) الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة ، لأنّها صفة للنفس المحذوفة ، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وعلى هذا يتعلّق بما يكسبه من بعدُ ، أم به وبما في يده من الربح الحاصل ، أم بهما وبرأس المال؟ فيه وجوه ثلاثة أشبهها عندهم : الثالث(١) .

وعلى رأيٍ لبعض الشافعيّة : إذا كان مأذوناً له في الضمان ، تعلّق بكسبه ، وإلّا لم يتعلّق إلّا بالذمّة(٢) .

مسألة ٤٨٩ : إذا قال السيّد لعبده : اضمن واقضه ممّا تكتسبه ، صحّ ضمانه ، وتعلّق المال بكسبه.

وكذا لو قال للمأذون له في التجارة : اضمن واقض من المال الذي في يدك ، قضى منه. وكذا إن عيّن مالاً وأمره بالقضاء منه.

وحيث قلنا : يؤدّي ممّا في يده لو كان عليه ديون ، فإنّ المضمون له يشارك الغرماء ؛ لأنّه دَيْنٌ لزم بإذن المولى ، فأشبه سائر الديون ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني لهم : أنّ الضمان لا يتعلّق بما في يده أصلاً ؛ لأنّه كالمرهون بحقوق الغرماء.

والثالث : أنّه يتعلّق بما فضل عن حقوقهم رعايةً للجانبين(٣) .

هذا إذا لم يحجر عليه الحاكم.

ويُحتمل عندي أنّ مال الضمان يُقدَّم على ديون الغرماء ؛ لأنّ مولاه عيّنه فيه.

أمّا لو حجر عليه الحاكم باستدعاء الغرماء ثمّ ضمن بإذن مولاه وجعل الضمان ممّا في يده ، لم يتعلّق الضمان بما في يده ؛ لتعلّق حقوق الغرماء به‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٧.

٣٠١

بمقتضى حَجْر الحاكم عليه.

ولو عيّن السيّد مال الضمان من رقبته ، تعيّن ، كما لو ضمن الحُرّ على أن يؤدّي من مالٍ معيّن ، فإنّ مال الضمان يتعلّق بذلك المال المعيّن ، كذا هنا ؛ لأنّ الحقوق تتعلّق بأعيان الأموال كالرهن ، وأمّا تعلّق الضمان بعين ماله دون ذمّته فلا يصحّ ، وصحّ هذا في حقّ العبد ؛ لأنّ له ذمّةً.

ولو أذن للعبد في التجارة وفي الضمان ولم يعيّن المال من أين يؤدّى ، فقد قلنا : إنّ الأقوى تعلّقه بذمّة العبد. ويُحتمل بكسبه وبذمّة المولى.

وقال الشافعي : يتعلّق بما في يده من أموال التجارة ، فيقضيه منها على الوجه الذي يتعلّق بكسبه(١) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه إنّما أذن له في الضمان بالإطلاق ، فهو ينصرف إلى ذمّته أو كسبه أو ذمّة مولاه.

مسألة ٤٩٠ : المدبَّر وأُمّ الولد والمكاتَب المشروط كالقِنّ في الضمان لا يصحّ إلّا بإذن سيّده‌ ؛ لأنّه تبرّع بالتزام مالٍ ، فأشبه نذر الصدقة ، أو نقول : يصحّ ويتبع به بعد العتق على الخلاف الذي سبق كما قلناه في العبد القِنّ.

ولو ضمن بإذن سيّده ، صحّ ، كما لو أذن للعبد ، ولأنّ الحقّ للمكاتب أو للسيّد لا يخرج عنهما ، وقد اتّفقا على الضمان ، فلا مانع.

ويُحتمل أن لا يصحّ ؛ لأنّ فيه تفويتَ الحُرّيّة.

والوجه عندي : الصحّة إن استعقب ضمانه الرجوع ، كما لو أذن له المضمون عنه في الضمان ، ويكون الضمان مصلحةً لا مفسدة فيه ، كما لو كان المضمون عنه معسراً ، فإنّه لا يصحّ ، وكما لو تبرّع ؛ لأنّ للسيّد منعه من‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٥٠.

٣٠٢

التصرّف بغير الاكتساب.

وأمّا المكاتب المطلق فليس للسيّد منعه من الضمان مطلقاً كيف شاء ؛ لانقطاع تصرّفات المولى عنه.

ولو كان بعض العبد حُرّاً وبعضه رقّاً ولا مهايأة بينه وبين السيّد ، لم يكن له الضمان إلّا بإذنه ؛ لتعلّق حقّ السيّد برقبته وتصرّفه.

وكذا لو كان بينهما مهايأة وضمن في أيّام السيّد.

ولو ضمن في أيّام نفسه ، فالأقرب : الجواز.

قال بعض الشافعيّة : يجوز أن يخرج ضمان الـمُعتَق بعضُه على الخلاف في الاكتسابات النادرة هل يدخل في المهايأة أم لا؟(١) .

وضمان المكاتب - عند الشافعيّة - بغير إذن السيّد كضمان القِنّ ، وبالإذن مبنيّ على الخلاف في تبرّعاته(٢) .

مسألة ٤٩١ : إذا أذن السيّد لعبده في الضمان ، صحّ ، وانتقل المال إلى ذمّة العبد أو ذمّة السيّد أو مال العبد الذي في يده لمولاه على الخلاف.

فإن أدّى مال الضمان حالة الرقّ ، فحقّ الرجوع للسيّد ؛ لأنّ الأداء من مال السيّد ، سواء كان من رقبة العبد أو ممّا في يده أو من كسبه.

وإن أدّاه بعد عتقه ، فحقّ الرجوع للعبد ؛ لأنّه أدّاه من ماله.

ولو قلنا : إنّه إذا ضمن بإذن سيّده ، تعلّق الضمان بذمّة السيّد أو بكسب العبد ، فالأقرب : أنّ حقّ الرجوع للسيّد أيضاً.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أدّى بعد العتق :

أصحّهما : أنّ حقّ الرجوع للعبد.

والثاني : أنّه للسيّد ؛ لأنّ مال الضمان كالمستثنى عن اكتسابه ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٧.

٣٠٣

فلا يستحقّها بالعتق(١) .

ولو ضمن العبد لسيّده عن أجنبيّ ، لم يصح ؛ لأنّه يؤدّيه من كسبِه ، وكسبُه لسيّده ، فهو كما لو ضمن المستحقّ لنفسه.

ولو ضمن لأجنبيّ عن سيّده ، فإن لم يأذن السيّد ، فهو كما لو ضمن عن أجنبيّ. وإن ضمن بإذنه ، صحّ.

ثمّ إن أدّى قبل العتق ، فلا رجوع له. وإن أدّى بعده ، ففي رجوعه على السيّد احتمال.

وللشافعيّة فيه وجهان مبنيّان على الوجهين فيما لو آجر(٢) عبده مدّة ثمّ أعتقه في ابتدائها أو(٣) في أثنائها هل يرجع بأُجرة المثل لبقيّة المدّة أو لا؟(٤) .

مسألة ٤٩٢ : يصحّ ضمان المرأة ، ولا نعلم فيه خلافاً‌ ، كما يصحّ ضمان الرجل ؛ لأنّ الضمان عقد يقصد به المال ، فيصحّ من المرأة ، كالبيع. ولأنّها حُرّة عاقلة مالكة لأمرها نافذة التصرّف في مالها تصحّ منها الاستدانة وغيرها من التصرّفات ، فيصحّ منها الضمان ، كالرجل.

ولا فرق في صحّة ضمانها بين أن تكون خليّةً من بَعْل أو تكون ذات بعل.

ولا تحتاج إلى إذن الزوج ، كما في سائر تصرّفاتها ، وبه قال أكثر أهل العلم من العامّة والخاصّة.

وقال مالك : إنّه لا بدّ من إذن الزوج(٥) . وليس بمعتمد.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٧.

(٢) في « ث ، ر » والطبعة الحجريّة : « آجره ».

(٣) كذا قوله : « في ابتدائها أو ». والجملة لم ترد في المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٧.

(٥) الوجيز ١ : ١٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٧.

٣٠٤

مسألة ٤٩٣ : المريض يصحّ ضمانه ، ولا نعلم فيه خلافاً‌ ، سواء كان مرض الموت أو لا ، لكن إن لم يكن مرض الموت وعُوفي من مرضه ، صحّ ضمانه مطلقاً.

وإن كان مرض الموت ، فإن تبرّع بالضمان ، نفذ من الثلث عند كلّ مَنْ أثبت تبرّعاته من الثلث. ومَنْ جَعَل منجّزاته من الأصل أمضاه هنا من الأصل.

وإن لم يتبرّع بالضمان ، بل ضمن بسؤال المضمون عنه ، كان حكمه حكم ما لو باع نسيئةً.

والوجه : أنّه إن علم تعذّر الرجوع لفقر المديون بحيث يعلم عدم وصول مالٍ إليه ، كان ماضياً من الثلث ، كما لو تبرّع ، وإلّا مضى من الأصل.

وأطلق بعض العامّة احتسابَ ضمان المريض من الثلث ؛ لأنّه تبرّع بالتزام مالٍ لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضاً ، فأشبه الهبة(١) .

ونمنع التبرّع في المتنازع.

النظر الثالث : في المضمون عنه.

مسألة ٤٩٤ : المضمون عنه هو المديون ، وهو الأصيل.

ولا يشترط رضاه في صحّة الضمان بالإجماع ، كما يجوز أداء الدَّيْن عن الغير بغير إذنه ، فالتزامه في الذمّة أولى بالجواز. ولأنّه يصحّ الضمان عن الميّت بالإجماع. ولما تقدّم(٢) من امتناع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصلاة على الميّت حتى ضمنه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ومعلومٌ أنّه لا يتصوّر الرضا من‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٧٩ - ٨٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٧ - ٧٨.

(٢) في ص ٢٨١ ، ضمن المسألة ٤٧٣.

٣٠٥

الميّت.

مسألة ٤٩٥ : ولا يشترط حياة المضمون عنه ، بل يجوز الضمان عن الميّت‌ ، سواء خلّف الميّت وفاءً أو لا ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمّد(١) - لما تقدّم(٢) من أحاديث العامّة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام و [ أبي ] قتادة لمّا ضمنا الدَّيْن عن الميّت ، وما رواه الخاصّة أيضاً.

ولأنّ كلّ مَنْ يصحّ الضمان عنه إذا كان له ضامن صحّ وإن لم يكن له ضامن كما لو خلّف وفاءً أو كان حيّاً.

وقال أبو حنيفة والثوري : لا يصحّ الضمان عن الميّت إذا لم يخلّف وفاءً بمال أو ضمان ضامن ؛ لأنّ الموت مع عدم الوفاء يُسقط المطالبة بالحقّ والملازمة عليه ، فوجب أن يمنع صحّة الضمان ، كالإبراء(٣) .

وهو باطل ؛ لأنّ الإبراء إسقاط للحقّ ، ولهذا لا يصحّ بعده إبراء ، وهنا بخلافه.

وساعدنا أبو حنيفة فيما إذا ضمن عنه في حياته ثمّ مات معسراً أنّه‌

____________________

(١) الأُمّ ٣ : ٢٢٩ - ٢٣٠ ، و ٧ : ١١٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٥٤ ، المهذّب – للشيرازي - ١ : ٣٤٦ ، الوسيط ٣ : ٢٣٣ ، حلية العلماء ٥ : ٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٨ ، المعونة ٢ : ١٢٣٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٦ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٧ ، المحلّى ٨ : ١١٢ ، المغني ٥ : ٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٣.

(٢) في ص ٢٨١ و ٢٨٢ ، ضمن المسألة ٤٧٣.

(٣) بدائع الصنائع ٦ : ٦ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٧ ، الأُم ٧ : ١١٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٥٤ ، الوسيط ٣ : ٢٣٣ ، حلية العلماء ٥ : ٤٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٤ ، المحلّى ٨ : ١١٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٨ ، المعونة ٢ : ١٢٣٢ ، المغني ٥ : ٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٣.

٣٠٦

لا يبطل الضمان(١) .

مسألة ٤٩٦ : ولا تشترط معرفة المضمون عنه ، فلو ضمن الضامن عمّن لا يعرفه ، صحّ ضمانه‌ ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي في أصحّ القولين(٢) - لما تقدّم(٣) من أنّ عليّاًعليه‌السلام وأبا قتادة ضمنا عمّن لا يعرفانه. ولأنّ الواجب أداء الحقّ ، فلا حاجة إلى معرفة مَنْ يؤدّى عنه ؛ لأنّه لا معاملة بينهما في ذلك. ولأنّه لا يشترط رضاه فلا تشترط معرفته ، وبه قال أحمد(٤) أيضاً.

والثاني للشافعي : أنّه تشترط معرفته ليعرف حاله ، وأنّه هل يستحقّ اصطناع المعروف إليه أو لا؟(٥) .

وليس بشي‌ء.

إذا عرفت هذا ، فهل تشترط معرفة ما يميّزه عن غيره؟ الأقرب : العدم ، بل لو قال : ضمنت لك الدَّيْن الذي(٦) لك على مَنْ كان من الناس ، جاز على إشكالٍ.

نعم ، لا بدّ من معرفة المضمون عنه بوصفٍ يميّزه عند الضامن بما يمكن القصد معه إلى الضمان عنه لو لم يقصد الضمان عن أيّ مَنْ كان.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٤ ، وراجع : بدائع الصنائع ٦ : (٦)

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٣ ، المغني ٥ : ٧١ - ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٩.

(٣) في ص ٢٨١ ، ضمن المسألة ٤٧٣.

(٤) المغني ٥ : ٧١ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٩.

(٥) نفس المصادر في الهامش (٢)

(٦) في « ج ، ر » زيادة : « كان ».

٣٠٧

تذنيب : لو تبرّع الضامن بالضمان ورضي المضمون له بضمانه ، صحّ الضمان وانعقد وبرئت ذمّة المضمون عنه.

ولو أنكر المضمون عنه الضمانَ ، لم يبطل ضمانه ، وبه قال الشافعي(١) .

النظر الرابع : في المضمون له.

مسألة ٤٩٧ : المضمون له هو مستحقّ الدَّيْن.

وهل تشترط معرفته عند الضامن؟ إشكال ينشأ : من عدم التعرّض له والبحث عنه في ضمان(٢) عليّعليه‌السلام وأبي قتادة ، ولأنّ الواجب أداء الحقّ ، فلا حاجة إلى ما سوى ذلك. ومن أنّه لا بدّ وأن يعرفه الضامن ليأمن الغرر ، فإنّ الناس يتفاوتون في المعاملة والاقتضاء والاستيفاء تشديداً وتسهيلاً ، وتختلف الأغراض في ذلك ، فالضمان مع إهماله غرر وضرر من غير ضرورة.

وللشافعيّة وجهان ، أصحّهما : الثاني عندهم(٣) .

ولا بأس به ؛ لحصول المعاملة بين الضامن وبينه بالضمان ، فافتقر إلى معرفته للحاجة.

وقال الشيخرحمه‌الله في الخلاف : لا تشترط معرفة الضامن المضمونَ له ولا المضمونَ عنه. واستدلّ بضمان عليّعليه‌السلام وأبي قتادة(٤) .

____________________

(١) لم نعثر على قوله بحدود المصادر المتوفّرة لدينا.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٨١ ، الهامش ( ٥ و ٦ ) و ٢٨٢ ، الهامش (١)

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، التنبيه : ١٠٦ ، الوسيط ٣ : ٢٣٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤ ، منهاج الطالبين : ١٢٩.

(٤) الخلاف ٣ : ٣١٣ ، المسألة ١.

٣٠٨

مسألة ٤٩٨ : يشترط رضا المضمون له في صحّة الضمان‌ ، وهو قول أكثر علمائنا(١) - وبه قال أبو حنيفة ومحمّد والشافعي في أحد القولين(٢) - لأنّه إثبات مالٍ لآدميّ ، وتجدّد سلطنة وولاية لم تكن ، فلا يثبت إلّا برضاه أو مَنْ ينوب عنه ، كالبيع والشراء ، ويبعد أن يتملّك الإنسان بتمليك الغير شيئاً من غير رضاه.

والقول الثاني للشافعي : إنّه لا يشترط رضاه(٣) ، وهو قول الشيخ(٤) رحمه‌الله ؛ لأنّ عليّاًعليه‌السلام وأبا قتادة ضمنا الدَّيْن عن الميّت(٥) والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسأل عن رضا المضمون له.

ثمّ قال الشيخرحمه‌الله : ولو قيل : إنّ من شرطه رضا المضمون له ، كان أولى ؛ بدلالة أنّه إثبات حقٍّ في الذمّة ، فلا بدّ من اعتبار رضاه ، كسائر الحقوق.

ثمّ قال : والأوّل أليق بمذهبنا ؛ لأنّ الثاني قياس(٦) .

إذا عرفت هذا ، فقد قال أبو يوسف بالقول الثاني للشافعي أيضاً ؛ لأنّ‌

____________________

(١) منهم : ابن حمزة في الوسيلة : ٢٨٠ ، والمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ١٠٨ ، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٣٠١.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤ ، المغني ٥ : ٧١ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٩.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤ ، المغني ٥ : ٧١ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٩.

(٤) الخلاف ٣ : ٣١٣ ، المسألة ٢

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٢٨١ ، الهامش ( ٥ و ٦ ) و ٢٨٢ ، الهامش (١)

(٦) الخلاف ٣ : ٣١٣ - ٣١٤ المسألة ٢

٣٠٩

الضمان محض التزامٍ ، وليس موضوعاً على قواعد المعاملات(١) .

تذنيب : أبو حنيفة وافقنا على اشتراط رضا المضمون له في الضمان‌ إلّا في مسألة واحدة استثناها ، وهي : أنّ المريض لو التمس من الورثة أن يضمنوا دَيْنه فأجابوا ، صحّ وإن لم يرض المضمون له(٢) .

مسألة ٤٩٩ : نحن وأبو حنيفة والشافعي - في أحد القولين – لـمّا اشترطنا في صحّة الضمان رضا المضمون له تفرّع عندنا فرع‌ ، وهو : أنّه هل يُشترط قبول(٣) المضمون له ، أو لا ، بل يكفي في صحّة الضمان الرضا؟ إشكال ينشأ : من أنّه تملّك في مقابلة تمليك الضامن ، فيعتبر فيه القبول ، كسائر التمليكات والتملّكات. ومن أصالة عدم الاشتراط ، مع قيام الفرق بينه وبين سائر التملّكات ؛ فإنّ الضمان لا يُثبت ملكَ شي‌ء جديد ، وإنّما يتوثّق به الدَّيْن الذي كان مملوكاً.

ويُنتقض بالرهن ؛ فإنّه لا يفيد إلّا التوثيق ، ويُعتبر فيه القبول.

وللشافعيّة قولان - كالاحتمالين - لكنّ الأصحّ عندهم : الثاني(٤) .

والأقرب عندي : الأوّل ؛ لأنّه عقد ، فلا بدّ من القبول.

قال بعض الشافعيّة : يقرب هذا الخلاف من الخلاف في اشتراط القبول في الوكالة ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهم يُجدّد سلطنةً لم تكن ، فإن شرطنا القبول فليكن بينه وبين الضمان من التواصل ما بين الإيجاب والقبول في‌

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٦ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٧ ، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥.

(٣) أي القبول لفظاً.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٤ - ٤٣٥ ، الوسيط ٣ : ٢٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤ ، منهاج الطالبين : ١٢٩.

٣١٠

سائر العقود. وإن لم نشترط ، فيجوز أن يتقدّم(١) (٢) .

وقد فرّع الجويني على عدم اشتراط رضا المضمون له ، فقال : إذا ضمن من غير رضاه ، نُظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه ، فالمضمون له بالخيار إن شاء طالَب الضامن ، وإن شاء تركه. وإن كان الضمان بإذنه ، فحيث قلنا : يرجع الضامن على المضمون عنه [ يُجبر ](٣) المضمون له على قبوله ؛ لأنّ ما يؤدّيه في حكم ملك المضمون عنه. وحيث قلنا : لا يرجع ، فهو كما لو قال لغيره : أدِّ دَيْني عنّي ، ولم يشترط الرجوع وقلنا : إنّه لا يرجع(٤) .

وهل يستحقّ المدين والحال هذه أن يمتنع من القبول؟ فيه وجهان بناءً على أنّ المؤدّى يقع فداءً أو موهوباً ممّن عليه الدَّيْن؟ إن قلنا بالثاني ، لم يكن له الامتناع ، وهو الأشهر عندهم(٥) .

وقد ظهر من هذا أنّ للشافعيّة في اشتراط معرفة المضمون له والمضمون عنه ثلاثة أقوال :

قال بعضهم : لا تشترط معرفتهما.

وقال آخَرون : تشترط معرفتهما.

وقال قوم : تشترط معرفة المضمون له دون المضمون عنه ؛ إذ لا معاملة معه(٦) .

____________________

(١) أي : يتقدّم الرضا على الضمان ، كما في المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من « روضة الطالبين ». وبدلها في « العزيز شرح الوجيز » : « يتخيّر ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥ - ١٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤.

(٦) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢ - =

٣١١

وزاد الجويني قولاً رابعاً ، وهو : اشتراط معرفة المضمون عنه دون المضمون له(١) .

النظر الخامس : في الحقّ المضمون به.

مسألة ٥٠٠ : يشترط في الحقّ المضمون به أمران :

الأوّل : الماليّة ، فلا يصحّ ضمان ما ليس بمال. والضابط فيه أن يكون ممّا يصحّ تملّكه وبيعه ، وكما لا يصحّ بيع المحرَّمات والربويّات وغيرهما ممّا تقدّم ، كذا لا يصحّ ضمانها.

الثاني : الثبوت في الذمّة ، فلو ضمن دَيْناً لم يجب بَعْدُ وسيجب بقرضٍ أو بيعٍ أو شبههما ، لم يصح.

ولو قال لغيره : ما أعطيت فلاناً فهو علَيَّ ، لم يصح أيضاً عند علمائنا أجمع - وبه قال أحمد(٢) - لأنّ الضمان ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ في التزام الدَّيْن ، فإذا لم يكن على المضمون عنه شي‌ء فلا ضمّ فيه ولا يكون ضماناً. ولأنّ الضمان شُرّع لوثيقة الحقّ ، فلا يسبق وجوب الحقّ كالشهادة.

وللشافعيّة هنا طريقان :

أحدهما : قال ابن سريج : المسألة على قولين :

القديم : أنّه يصحّ ضمان ما لم يثبت في الذمّة ولم يجب ؛ لأنّ الحاجة قد تمسّ إليه ، كما أنّه في القديم جوّز ضمان نفقة المستقبل. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.

والجديد : المنع ، وبه قال أحمد.

____________________

= ٥٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٥ - ١٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤ ، المغني ٥ : ٧١ - ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٩.

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٩.

٣١٢

والثاني : القطع بالمنع ، ويخالف ضمان النفقة ؛ لأنّ النفقة - على القديم - تجب بالعقد ، فضمانها ضمان ما وجب لا ما لا يجب(١) .

مسألة ٥٠١ : لو قال : ضمنت لك ما تبيعه من فلان ، فباع الشي‌ء بعد الشي‌ء ، لم يصح هذا الضمان عندنا‌ ، وهو أحد قولي الشافعي(٢) .

وفي القديم : يصحّ ، ويكون ضامناً للكلّ ؛ لأنّ « ما » من أدوات الشرط فتقتضي التعميم(٣) .

ولو قال : إذا بعت من فلان فأنا ضامن ، فإنّه يضمن الأوّل لا غير ؛ لأنّ « إذا » ليست من أدوات الشرط.

وقال أبو حنيفة : إذا قال لغيره : إذا بعت فلاناً شيئاً فهو عَلَيَّ ، فباعه شيئاً ثمّ باعه شيئاً آخَر ، لزم الضامن المال الأوّل خاصّةً. ولو قال : ما بعته اليوم فهو علَيَّ ، لزمه ما يبيعه اليوم. ولو قال : مَنْ باع فلاناً اليوم فهو عَلَيَّ ، فباعه رجل ، لا يلزم الضامن(٤) .

مسألة ٥٠٢ : إذا شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدَّيْن ، فهنا - أي في صورة ضمان ما لم يجب - أولى.

وإن لم نشترط ، فللشافعيّة وجهان(٥) .

وكذا معرفة المضمون عنه.

وإذا ضمن ما لم يجب ، فلا يطالب الضامن ما لم يلزم الدَّيْن على الأصيل ، فيطالب حينئذٍ عند مَنْ جوّزه ، وأمّا عندنا فلا.

قال مجوّزوه : إذا ضمن ما لم يجب ثمّ رجع عن الضمان ، فإن كان‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٨.

(٤) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٦٠.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٨.

٣١٣

بعد لزوم المال ، لم يكن له الرجوع.

وإن كان قبله ، فعن ابن سريج من الشافعيّة : أنّ له أن يرجع(١) .

وقال غيره من الشافعيّة : لا يرجع ؛ لأنّ وضع الضمان على اللزوم(٢) .

وعلى قولنا ببطلان ضمان ما لم يثبت لو قال : اقرض فلاناً كذا وعلَيَّ ضمانه ، فأقرضه ، قال بعض الشافعيّة : المذهب أنّه لا يجوز(٣) .

وقال ابن سريج : إنّه يجوز ؛ لأنّه ضمانٌ مقرون بالقبض(٤) .

مسألة ٥٠٣ : يصحّ ضمان النفقة الماضية للزوجة‌ ، سواء كانت نفقة الموسرين أو نفقة المعسرين ، وكذا ضمان الإدام ونفقة الخادم وسائر المؤن ؛ لأنّها تثبت في الذمّة واستقرّت بمضيّ الزمان.

وكذا يصحّ ضمان نفقة اليوم الحاضر ؛ لأنّها تجب بطلوع الفجر.

وأمّا النفقة المستقبلة - كنفقة الغد والشهر المستقبل والسنة المستقبلة - فإنّها غير واجبة في الذمّة ، فلا يصحّ ضمانها ؛ لأنّ النفقة عندنا إنّما تجب بالعقد والتمكين ، والتمكين في المستقبل لم يحصل ، فلم تجب النفقة إلّا مع حصوله ، فيكون ضمانها ضمان ما لم يجب ، وهو القول الجديد للشافعي.

وقال في القديم : يصحّ(٥) .

وهو مبنيّ على أنّ النفقة تجب بالعقد خاصّةً ، والأوّل مبنيّ على أنّها تجب بالعقد والتمكين.

وقال الجويني : إن قلنا بالقديم ، صحّ الضمان. وإن قلنا بالثاني ، فالأصحّ : البطلان(٦) .

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٨.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٨ - ٤٧٩.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

٣١٤

وفيه قولٌ آخَر مع تفريعنا على أنّ ضمان ما لم يجب باطل ؛ لأنّ سبب وجوب النفقة ناجز ، وهو النكاح(١) .

وفيه إشكال ؛ لأنّ سبب وجوب النفقة إمّا النكاح أو التمكين في النكاح ، فإن كان الأوّل ، فالنفقة واجبة ، فكيف قال : ولم تجب!؟ وإن كان الثاني ، فالسبب غير موجود.

مسألة ٥٠٤ : قد بيّنّا أنّ ضمان نفقة المدّة المستقبلة للزوجة باطل.

وعلى قول الشافعي بالجواز يُشترط أمران :

أحدهما : أن يقدّر المدّة ، فلو أطلق لم يصح فيما بعد الغد. وفي الغد وجهان أخذاً من الخلاف فيما إذا قال : آجرتك كلّ شهر بدرهم ، ولم يقدّر ، هل يصحّ في الشهر الأوّل؟ قولان.

الثاني : أن يكون المضمون نفقة المعسرين وإن كان المضمون عنه موسراً أو متوسّطاً ؛ لأنّه ربما يعسر ، فالزائد على نفقة المعسر غير ثابتٍ ؛ لأنّه يسقط بالعسر(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : إنّه يجوز ضمان نفقة الموسرين والمتوسّطين ؛ لأنّ الظاهر استمرار حاله(٣) .

وأمّا نفقة القريب للمدّة المستقبلة فإنّها عندنا أولى بالبطلان ؛ لعدم وجوبها ، وبه قال الشافعي(٤) .

أمّا نفقة اليوم ، فالأقرب : جواز ضمانها ؛ لوجوبها بطلوع الفجر.

وللشافعي وجهان ، أحدهما : أنّه لا يصحّ(٥) .

والفرق بينها وبين نفقة الزوجة : أنّ سبيل هذه النفقة سبيل البرّ والصلة ، لا سبيل الديون ، ولهذا تسقط بمضيّ الزمان وضيافة الغير ، ونفقة الزوجة نفقة معاوضة ، فسبيلها سبيل الديون.

____________________

(١ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

٣١٥

مسألة ٥٠٥ : لا يشترط في المال اللزوم‌ ، بل مطلق الثبوت ، سواء كان مستقرّاً لازماً ، كثمن المبيع إذا كان في الذمّة ، أو متزلزلاً ، كضمان الثمن في مدّة الخيار ، فإنّه يصحّ ضمانه - وهو أصحّ وجهي الشافعي(١) - لأنّه ينتهي إلى اللزوم بنفسه ، فيحتاج فيه إلى التوثيق ، وأصل وضع البيع اللزوم.

والثاني : لا يصحّ ضمانه ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

ويُمنع اشتراط اللزوم.

وهذا الخلاف بين قولي الشافعي إنّما هو فيما إذا كان الخيار للمشتري أو لهما ، أمّا إذا كان الخيار مختصّاً بالبائع ، فإنّه يصحّ ضمانه بلا خلافٍ ؛ لأنّ الدَّيْن لازم في حقّ مَنْ هو عليه(٣) .

وهو ممنوع.

وقال الجويني : تصحيح الضمان في بيع الخيار مبنيّ على أنّ الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع ، أمّا إذا منعه فهو ضمان ما لم يثبت بَعْدُ(٤) .

مسألة ٥٠٦ : الحقوق على أربعة أضرب :

[ الأوّل ] : حقٌّ لازم مستقرّ‌ ، كالثمن بعد قبض المبيع ، والأُجرة بعد انقضاء المدّة ، والمهر بعد الدخول ، وهذا يصحّ ضمانه إجماعاً.

الثاني : لازمٌ غير مستقرّ‌ ، كالثمن قبل القبض ، والمهر قبل الدخول ، والأُجرة قبل انقضاء المدّة ، فهذا يصحّ ضمانه أيضاً ؛ لأنّه لازمٌ في الحال وإن جاز أن يسقط ، كما يسقط المستقرّ بالقضاء والإبراء وبالردّ بالعيب وغير ذلك.

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٣.

٣١٦

وكذا(١) السَّلَم يصحّ ضمانه عندنا وعند الشافعي(٢) ؛ لأنّه دَيْنٌ لازمٌ ، فصحّ ضمانه ، كالقرض.

وقال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين : إنّه لا يصحّ ضمانه ؛ لأنّه يؤدّي إلى استيفاء الـمُسْلَم فيه من غير المُسْلَم إليه ، فلا يجوز ، كالحوالة به(٣) .

والفرق أنّه في الحوالة يطالب ببدل الحقّ ، وفي الضمان يطالب بنفس الحقّ.

الثالث : ما ليس بلازمٍ ولا يؤول إلى اللزوم‌ ، كالكتابة عند بعض(٤) علمائنا.

الرابع : ما ليس بلازمٍ ولكن يؤول إلى اللزوم‌ ، كمال الجعالة.

مسألة ٥٠٧ : الأقرب عندي : أنّه يصحّ ضمان مال الكتابة‌ - وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في وجهٍ(٥) ، وخرّجه ابن سريج على ضمان ما لم يجب ووُجد سبب وجوبه(٦) . وقال بعضهم : إنّه مأخوذ من تجويز ضمان الجُعْل في الجعالة على إحدى الروايتين(٧) - لأنّه دَيْنٌ على المكاتب ، فصحّ ضمانه ، كسائر الديون عليه وعلى غيره.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة : « كذلك ».

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٣٩٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٤ ، المغني ٤ : ٣٧٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٧٨.

(٣) المغني ٤ : ٣٧٧ ، و ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٧٧ - ٣٧٨ ، و ٥ : ٨٨ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١.

(٤) الشيخ الطوسيرحمه‌الله في المبسوط ٢ : ٣٢٥.

(٥) المغني ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٦ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥.

٣١٧

والمشهور من مذهب الشافعي - وإليه مالَ الشيخ(١) رحمه‌الله وأحمد في الرواية الأُخرى - : أنّه لا يصحّ ؛ لأنّ مال الكتابة ليس بلازمٍ ولا يؤول إلى اللزوم ، فإنّ للمكاتَب أن يُعجّز نفسه ويمتنع من أدائه ، فإذا لم يلزم(٢) الأصيل فالضمين أولى(٣) .

ويُمنع عدم لزومه وأنّ للمكاتب تعجيز نفسه ، بل يجب عليه القيام في المال ؛ لأنّه قد صار دَيْناً عليه.

تذنيب : لو ضمن إنسان عن المكاتَب غير نجوم الكتابة‌ ، فإن كان الدَّيْن لأجنبيّ ، صحّ الضمان ، وإذا أدّى الضامن ، رجع على المكاتَب إن كان قد ضمن بإذنه.

وإن ضمنه لسيّده ، جاز أيضاً.

والشافعي بناه على أنّ ذلك الدَّيْن هل يسقط بعجزه؟ وهو على وجهين ، إن قلنا : نعم ، لم يصح ، كضمان النجوم ، وإلّا جاز(٤) .

مسألة ٥٠٨ : [ في ضمان ](٥) ما ليس بلازمٍ في الحال وله مصير إلى اللزوم ، والأصل في وضعه الجواز ، كمال الجعالة.

فنقول : إن ضمن قبل الشروع في العمل ، لم يصح الضمان ؛ لأنّه‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٣٦.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لم يلزمه ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢ ، المغني ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٦ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

(٥) ما بين المعقوفين أثبتناه كما استُظهر في هامش الطبعة الحجريّة ، ولم يرد في النسخ الخطّيّة.

٣١٨

ضمان ما لم يجب ؛ إذ العقد غير لازم ، والمال الثابت بالعقد غير ثابت في الذمّة فكيف يلزم فرعه!؟

وإن ضمن بعد فراغ العمل واستحقاقه للمال ، صحّ ضمانه قطعاً ؛ لأنّه ضمان ما قد ثبت وجوبه.

وإن ضمن بعد الشروع في العمل وقبل إتمامه ، فالأقرب : جواز الضمان ؛ لوجود سبب الوجوب ، ولانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم ، كالثمن في مدّة الخيار ، وهو أحد قولي الشافعي.

وأصحّهما عنده : المنع ؛ لأنّ الموجِب للجُعْل هو العمل ؛ إذ به يتمّ الموجَب ، فكأنّه لا ثبوت له قبل العمل(١) .

وقال بعض الشافعيّة : يمكن بناء الوجهين على الوجهين في جواز رجوع المالك بعد الشروع في العمل ، فنقول : إن لم نجوّز الرجوع ، فقد لزم الجُعْل من قِبَله. وإن جوّزناه ، لم يصح ضمانه(٢) .

وأمّا مال المسابقة والمناضلة فمبنيّ على أنّ عقدهما جعالة أو إجارة ، فإن كان إجارةً ، صحّ الضمان. وإن كان جعالةً ، فهو كضمان الجُعْل.

وقال الشيخ(٣) رحمه‌الله وأحمد : يصحّ ضمان مال الجعالة والمسابقة ؛ لأنّه يؤول إلى اللزوم. ولقوله تعالى :( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (٤) ولأنّه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل ، وإنّما الذي لا يلزم‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، و ٤ : ٤٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٣ ، المغني ٥ : ٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٠ ، و ٥ : ١٥٦.

(٣) الخلاف ٣ : ٣١٦ و ٣١٧ ، المسألتان ٧ و ٨ من كتاب الضمان ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢٥.

(٤) يوسف : ٧٢.

٣١٩

العملُ ، والمال يلزم لوجوده ، والضمان للمال دون العمل(١) .

وكلامه يشعر بجواز الضمان قبل الشروع في العمل.

مسألة ٥٠٩ : يصحّ ضمان أرش الجناية ، عند علمائنا‌ ، سواء كان من النقدين أو من الإبل وغيرها(٢) من الحيوانات - وبه قال أحمد(٣) - لأنّه ثابت مستقرّ في الذمّة ، فصحّ ضمانه ، كغيره من الحقوق الثابتة في الذمم ، وكغير الحيوانات من الأموال.

وقال أصحاب الشافعي : إذا لم نجوّز ضمان المجهول ففي ضمان إبل الدية وجهان ، ويقال قولان :

أحدهما : لا يصحّ ؛ لأنّه مجهول الصفة واللون.

والثاني : أنّه صحيح(٤) .

ونمنع بطلان ضمان المجهول.

سلّمنا ، لكن نمنع الجهالة ؛ فإنّ الإبل الواجبة في الذمّة عن النفس والأعضاء والجراحات معلومة العدد والسنّ ، وجهالة اللون وغيره من الصفات الباقية لا تضرّ ؛ لأنّ الذي يلزمه أدنى لون أو صفة أو غالب إبل البلد ، فتحصل معلومة. ولأنّ جَهْلَ ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام. ولأنّ الضمان تلو الإبراء ، والإبراء عنها صحيح فكذا الضمان.

____________________

(١) الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣٠ ، المغني ٥ : ٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧.

(٢) في الطبعة الحجريّة : « أو من غيرهما » بدل « وغيرها ».

(٣) الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣٠ ، المغني ٥ : ٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510