تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406165 / تحميل: 5175
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمرا عجيبا ولا يمكن تصوّره وقبوله ، في حين أنّ الأمرين متماثلان : «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة ، فتارة عن طريق علم الله ، وأخرى عن طريق قدرته ، ثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات ، وأخيرا عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عدنا إلى آيات القرآن الاخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة أخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة ، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والأسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمرا ملتويا وعسيرا.

* * *

٢١

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) )

التّفسير

كتابه جميع الأقوال :

يثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) .

كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده

٢٢

وأعماله وأقواله ، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر ، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة ، ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا ، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ ارتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».

أجل ، هو الخالق ، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن ، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(١)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب ، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته ، وكوننا في قبضة قدرته ، فإنّ تكليفنا واضح ، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٤.

٢٣

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادقعليه‌السلام يوما فقال : رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلّا أنّه لم ينههم عن ذلك ، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادقعليه‌السلام ادعوا لي ولدي موسى فدعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا : إنّ الذي كنت اصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول اللهعزوجل :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فاحتضنه الإمام الصادق وقال : بأبي أنت وأمّي يا مستودع الأسرار(١) .

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده ، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب! إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسبا ، ولا سيّما إذا لا حظنا الآية ٢٤ من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة «الوريد» ـ ضمنا ـ مأخوذة من الورود ، ومعناه الذهاب نحو الماء ، وحيث إنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان ، وبالعكس ـ هذا الاصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٨.

٢٤

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) (١) .

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه ، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله ، وهما معه دائما ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر ، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم ، و «المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس»(٢) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان ، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله ، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارة ، واخرى في حال الجلوس ، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصّدان أعماله.

ويحتمل أيضا أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر ، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائما ويسجّلان أعماله ، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج ٥٩ ص ١٨٦ رقم الرّواية ٣٢».

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب

__________________

(١) كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين ، إلّا أنّ جماعة اخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلّا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و «إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ باستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالأخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

(٢) كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفا وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

٢٥

الحسنات ، وملك الشمال كاتب السيّئات ، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل الإنسان حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات ، فإذا استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعد موت المؤمن : ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(١) .

وفي رواية اخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلّا أمر الله تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي» ثمّ أضافصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»(٢) .

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضا فتقول :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٣) .

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان ، وفي هذه الآية اهتمام بخصوص ألفاظه ، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس ، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٥ ذيل الآيات محل البحث ، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٨٧ في الرّوايتين ٣٤ و٣٥».

(٣) الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائدا على الذي يلفظ القول ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب.

٢٦

نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم ويرون أنفسهم أحرارا في الكلام مع أنّ أكثر الأمور تأثيرا وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناء على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة «الرقيب» معناها المراقب و «العتيد» معناها المتهيئ للعمل ، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئا أو يدّخره بأنّه عتيد ، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الادّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد اسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد» ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر ، إلّا أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم ، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه ، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلّا أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ رواية عن الإمام الصادق يقول فيها : «إنّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي : ألم يقل الله تعالى( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )

٢٧

فيجيب الإمامعليه‌السلام : إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى»(١) .

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) احتراما وإكراما له ، إلّا أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار ، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية ٧٨ من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

* * *

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة : كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك ، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّا لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّا أو اقتربنا منها كثيرا فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك : «يا من هو اختفى لفرط نوره»!

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه ، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الاولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا

__________________

(١) اصول الكافي طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

٢٨

بمزايلة».

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيها آخر ، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الاسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك : حين نقول : توجّه إلى الكعبة ، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها ، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة ، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلّا تبعا للمفهوم الاسمي ، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة ، إذ دون ارتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.

* * *

٢٩

الآيات

( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) )

التّفسير

القيامة ـ والبصر الحديد ـ

تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلّق بيوم المعاد : «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر»!

فتقول أوّلا :( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) .

سكرة الموت : هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والانقلاب والتبدّل ، وربّما استولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة انتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة ، وأن يخطو في

٣٠

عالم جديد عليه مليء بالأسرار ، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت ، وهنا تتملّكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سكرا وليس بسكر(١) .

حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب ، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال ، كما قد ورد في حالات انتقال روح النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول :( لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) ثمّ يقول : إن للموت سكرات(٢) .

وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها»(٣) .

كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول : «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب»(٤) .

__________________

(١) السّكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء ، والسكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود ، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزا وسدّا بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسكر على زنة الشكر.

(٢) روح المعاني ، ج ٩ ، ص ١١٨

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٠.

٣١

ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا :( ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (١) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم.

أيّا كان فهم منه يهربون ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه ، ولا بدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.

وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.

والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات أخر كما هو في الآية (٧٨) من سورة النساء إذ يقول :( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) !.

وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بامّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجة يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد :( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ ) .

ولكن سواء أقسم أم لم يقسم ، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) .

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، لأنّه كما نوّهنا آنفا فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين : فالنفخة الاولى تدعى بنفخة الفزع أو الصعق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي ، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية

__________________

(١) كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه.

٣٢

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

«النفخ» معناه معروف ، و «النفخة» بمعنى المرّة منه ، و «الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادة لجمع الجنود أو تفريقهم أو الاستعداد أو الذهاب للراحة والنوم ، واستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية ٦٨ من سورة الزمر».

وعلى كلّ حال ، فمع الالتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والصالحين نحو جهنّم ، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.

ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما ، هناك تفاسير متعدّدة.

قال بعضهم : إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات ، و «الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات ، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و «الشهيد» رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.

٣٣

وقال بعضهم : «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و «الشهيد» عمل الإنسان.

كما قيل أنّ «السائق» ملك و «الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.

ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد ، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لاختلاف الوصفين ، أي أنّ مع الإنسان ملكا يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضا.

إلّا أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية ، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان ، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.

ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اخرى لبعض الشهود في يوم القيامة ، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن ، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.

وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار ، والملك الثاني يمنع عن الإنكار ، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبدا.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فردا فردا) فيقال :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

أجل ، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة ، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال ، وما كان مستورا وراء حجاب الغيب يبدو ظاهرا اليوم ، لأنّ هذا اليوم يوم البروز

٣٤

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!

ولذلك فقد وجدت عينا حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.

أجل ، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفيا ولا لثام على جمال الحبيب ، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.

إلّا أنّ الغرق في بحر الطبيعة والابتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة ، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة ، وأساسا فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!

حتّى في هذه الدنيا استطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصرا حديدا يرون به الحقائق ، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمدية ، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء ، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة ، بل بصر العقل والقلب.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في أولياء الله في أرضه : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة ١٤٧.

٣٥

بحوث

١ ـ حقيقة الموت

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء ، إلّا أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبدا.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي ، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر ، ولذلك عبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ «توفّي» ويعني تسلّم الروح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) هو إشارة إلى هذا المعنى(١) أيضا ، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ) (الملك ـ ٢).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية ، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل : ما الموت؟ فقال :عليه‌السلام : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب».

وسئل الإمام محمّد بن عليّعليه‌السلام السؤال الآنف ذاته فقال : «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة»(٢) .

وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق ، وبعضهم «كالشهداء في سبيل الله

__________________

(١) في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك احتمالات عديدة ، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت ، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت ، وقيل أنّ الباء للملابسة ، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٥ [ويظهر أنّ المراد من الإمام محمّد بن علي هو الإمام التاسع محمّد الجوادعليه‌السلام ].

٣٦

والمؤمنين الراسخين» ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم!

وقد بيّن الإمام الحسينعليه‌السلام لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند اشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال : «صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يكلّم أحدا ، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر : يا بن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟

فقالعليه‌السلام : «الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد»(٢) .

٢ ـ سكرات الموت

كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت ، وقلنا أنّ «السكرات» جمع سكرة ، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر اشتداد حالة الإنسان اضطرب منها فيرى سكرا وليس بسكر!

صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية انتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٨٩ باب معنى الموت الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق.

٣٧

الله ، إلّا أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الانتقالية ليست سهلة لأي إنسان ، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وارتبطت به.

ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن سبب اضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب : لأنّه نما عليها البدن(١) .

وهذا يشبه تماما حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة ، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالألم إلّا أنّه يشعر بالراحة بعدئذ.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام ، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه ، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت ، ويوم القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) (٢) ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام ، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!.

وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون انتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألما ومرارة!.

٣ ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين ، إذ نقرأ في الآية (٩٩) من

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٦.

(٢) المصدر نفسه مع شيء من التلخيص : نقرأ في سورة مريم الآية ١٥ في شأن يحيى :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) .

٣٨

سورة الحجر( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) . وفي الآية (٤٧) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضا.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لا بدّ أن يطرق بابه ، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيرا.

والالتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يعدّ إنذارا لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال : إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره ، فأمر عمر به فحبس ، فبلغ ذلك علياعليه‌السلام فقال : يا عمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال : ولم؟ فقال علي : إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) (٢) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر(٣) .

* * *

__________________

(١) التغابن ، الآية ١٥.

(٢) سورة ق ، الآية ١٩.

(٣) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١١٨.

٣٩

الآيات

( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) )

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين :

مرّة اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد ، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاولى من هذه الآيات : يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهذا الوجه(١) عند الشافعيّة أظهر حتى أنّ بعضهم قطع به(٢) .

تذنيب : إذا كان الضمان بحيث يقتضي الرجوع - كما إذا ضمن بسؤاله - فإنّه يرجع بالحيوان.

وللشافعيّة خلاف كما وقع في اقتراض الحيوان(٣) .

وهل يصحّ ضمان الدية على العاقلة قبل تمام السنة؟ الأقرب : جوازه ؛ لأنّ سبب الوجوب ثابت.

وقالت الشافعيّة : لا يجوز ؛ لأنّها غير ثابتة بَعْدُ(٤) .

مسألة ٥١٠ : إذا ضمن عيناً لمالكها وهي في يد غيره‌ ، فإن كانت أمانةً لم يتعدّ فيها الأمين ، لم يصح الضمان ، كالوديعة والعارية غير المضمونة ومال الشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى الصانع والمال في يد الوكيل والوصي والحاكم وأمينه إذا لم يقع منهم تعدٍّ أو تفريط ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(٥) - لأنّها غير مضمونة العين ولا مضمونة الردّ ، وإنّما الذي يجب على الأمين مجرّد التخلية ، وإذا لم تكن مضمونةً على ذي اليد فكذا على ضامنه.

ولو ضمنها إن تعدّى فيها ، لم يصح ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب ولم يثبت في الذمّة ، فيكون باطلاً ، كما لو ضمن عنه ما يدفعه إليه غداً قرضاً.

وقال أحمد : يصحّ ضمانه ، فعلى هذا إن تلفت بغير تعدٍّ من القابض ولا تفريط ، لم يلزم الضامن شي‌ء ؛ لأنّه فرع المضمون عنه ، والمضمون عنه‌

____________________

(١) أي الوجه الثاني.

(٢ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

٣٢١

لا يلزمه شي‌ء. وإن تلفت بتعدٍّ أو تفريط ، يلزمه ضمانها ، ولزم الضامن ذلك ؛ لأنّها مضمونة على مَنْ هي في يده ، فلزم ضامنه ، كالمغصوب(١) .

وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب ، وقد بيّنّا بطلانه.

مسألة ٥١١ : الأعيان المضمونة - كالمغصوب والمستعار مع التضمين أو كونه أحد النقدين والمستام والأمانات - إذا خان فيها أو تعدّى ، فله صورتان :

الأُولى : أن يضمن ردّ أعيانها‌. وهو جائز ؛ لأنّه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد(٢) .

والمشهور عند الشافعيّة تخريجه على [ قولي ](٣) كفالة الأبدان(٤) .

ومنهم مَنْ قطع بالجواز مع إثبات الخلاف في كفالة الأبدان. والفرق : أنّ حضور الخصم ليس مقصوداً في نفسه ، وإنّما هو ذريعة إلى تحصيل المال ، فالتزام المقصود أولى بالصحّة من التزام الذريعة(٥) .

إذا ثبت هذا ، فإن ردّها الضامن أو الغاصب ، برئ من الضمان.

وإن تلفت وتعذّر الردّ ، فهل عليه قيمتها؟ فيه للشافعيّة وجهان ،

____________________

(١) الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١ ، المغني ٥ : ٧٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٦.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٤٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٦ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣٠ ، المغني ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قول ». والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

٣٢٢

كالوجهين في وجوب الغُرْم على الكفيل إن [ مات المكفول ببدنه(١) .

فإن أوجبنا فيجب في المغصوب أقصى القِيَم أم قيمته يوم التلف ؛ لأنّ الكفيل ](٢) لم يكن متعدّياً؟ حكى الجويني فيه وجهين(٣) .

ولو ضمن تسليم المبيع وهو في يد البائع ، جرى الخلاف في الضمان ، فإن صحّحناه وتلف ، انفسخ البيع ، فإن لم يوفّر المشتري [ الثمن ](٤) لم يطالب الضامن بشي‌ء.

وإن كان قد وفّره ، عاد الوجهان في أنّ الضامن هل يغرم؟

فإن أغرمناه ، فيغرم الثمن أو أقلّ الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؟

للشافعيّة وجهان ، أظهرهما عندهم : الأوّل(٥) .

الثانية : أن يضمن قيمتها لو تلفت.

والأقوى عندي : الصحّة ؛ لأنّ ذلك ثابت في ذمّة الغاصب ، فصحّ الضمان.

وقالت الشافعيّة : يبنى ذلك على أنّ المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم الكفيل الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، صحّ ضمان القيمة لو تلفت العين ، وإلّا لم يصح ، وهو الأصحّ عندهم(٦) .

ولو تكفّل ببدن العبد الجاني جنايةً توجب المال ، فهو كما لو ضمن عيناً من الأعيان.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ - ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٢) ما بين المعقوفين من « العزيز شرح الوجيز » و« روضة الطالبين ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

٣٢٣

وجزم بعض الشافعيّة بالمنع هنا. وفرّق بأنّ العين المضمونة مستحقّة ونفس العبد ليست مستحقّةً ، وإنّما المقصود تحصيل الأرش من بدله ، وبدله مجهول(١) .

ولو باع شيئاً بثوب أو دراهم معيّنة فضمن ضامن عهدة المبيع حتى إذا خرج مستحقّاً ردّ عليه الثمن وهو قائم في يد البائع ، فهذا من صور ضمان الأعيان ، فإن تلف في يد البائع فضمن قيمته ، فهو كما لو كان الثمن في الذمّة وضمن العهدة.

ولو رهن ثوباً من إنسان ولم يقبضه ، فضمن رجل تسليمه ، لم يصح ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب.

إذا عرفت هذا ، فقد اختلف قول الشافعيّة في صحّة ضمان الأعيان المضمونة ، كالغصب وشبهه.

فقال بعضهم : يصحّ ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد على ما تقدّم(٢) ؛ لأنّها مضمونة على مَنْ هي في يده ، فهي كالديون الثابتة في الذمّة.

والثاني(٣) : لا يصحّ ضمانها ؛ لأنّها غير ثابتة في الذمّة ، وإنّما يصحّ ضمان ما كان ثابتاً في الذمّة ، ووصفنا إيّاها بأنّها مضمونة معناه أنّه يلزمه قيمتها بتلفها ، والقيمة مجهولة ، وضمان المجهولة لا يجوز(٤) .

مسألة ٥١٢ : للشيخرحمه‌الله قولان في ضمان المجهول.

قال في الخلاف : لا يصحّ(٥) ، وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والليث‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٢) في ص ٣٢١ ، المسألة ٥١١.

(٣) أي القول الثاني للشافعيّة.

(٤) المغني ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧ ، وأيضاً راجع المصادر في الهامش (٤) من ص ٣٢١.

(٥) الخلاف ٣ : ٣١٩ ، المسألة ١٣.

٣٢٤

وأحمد(١) ؛ لأنّه إثبات مال في الذمّة بعقدٍ لآدمي ، فلم يصح في المجهول ، كالبيع وكما لو قال : ضمنت لك بعض مالك على فلان.

وقال في النهاية : لو قال : أنا أضمن لك ما يثبت لك عليه إن لم يأت به إلى وقت كذا ، ثمّ لم يُحضره ، وجب عليه ما قامت به البيّنة للمضمون عنه ، ولا يلزمه ما لم تقم به البيّنة ممّا يخرج به الحساب في دفتر أو كتاب ، وإنّما يلزمه ما قامت له به البيّنة ، أو يحلف خصمه عليه ، فإن حلف على ما يدّعيه واختار هو ذلك ، وجب عليه الخروج منه(٢) . وهذا يشعر بجواز ضمان المجهول ، وبه قال أبو حنيفة ومالك(٣) .

وعن أحمد روايتان(٤) .

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه على قولين : القديم : أنّه يصحّ. والجديد : المنع.

والثاني : القطع بالمنع(٥) .

واحتجّ المجوّزون بقوله تعالى :( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٥٦ ، المغني ٥ : ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٠ ، وفي الأخيرين وكذا في الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١ صحّة ضمان المجهول ، على العكس ممّا نُسب إلى أحمد في المتن.

(٢) النهاية : ٣١٥ - ٣١٦.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ١٩ : ١٧٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٢ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٦٦ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، المغني ٥ : ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٠.

(٤) لاحظ المصادر في الهامش (١)

(٥) الوسيط ٣ : ٢٣٨ ، الوجيز ١ : ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٣.

٣٢٥

زَعِيمٌ ) (١) وحِمْل البعير مجهول ، ويختلف باختلاف الأجناس.

ولعموم قولهعليه‌السلام : « الزعيم غارم »(٢) .

ولأنّه التزام حقٍّ في الذمّة عن معاوضة ، فصحّ مع الجهالة ، كالنذر والإقرار. ولأنّه يصحّ تعليقه بغرر وخطر ، وهو ضمان العهدة ، وكما إذا قال لغيره : ألق متاعك في البحر وعلَيَّ ضمانه ، أو قال : ادفع ثيابك إلى هذا [ الرفّاء ](٣) وعلَيَّ ضمانها ، فصحّ في المجهول ، كالعتق والطلاق(٤) .

تذنيب : إن قلنا بصحّة ضمان المجهول فإنّما يصحّ في صورة يمكن العلم فيها بعد ذلك‌ ، كما لو قال : أنا ضامن للدَّيْن الذي عليك ، أو أنا ضامن لثمن ما بعت من فلان ، وهو جاهل بالدَّيْن والثمن ؛ لأنّ معرفته ممكنة ، والخروج عن العهدة مقدور عليه ، أمّا لو لم يمكن الاستعلام ، فإنّ الضمان فيه لا يصحّ قولاً واحداً ، كما لو قال : ضمنت لك شيئاً ممّا لك على فلان.

مسألة ٥١٣ : الإبراء - عندنا - من المجهول يصحّ‌ ؛ لأنّه إسقاط عمّا في الذمّة ، بل هو أولى من ضمان المجهول ؛ لأنّ الضمان التزام ، والإبراء إسقاط.

والخلاف المذكور للشافعيّة في ضمان المجهول آتٍ لهم في الإبراء(٥) .

____________________

(١) يوسف : ٧٢.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٤ / ٢٤٠٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٥ / ١٢٦٥ ، سنن الدارقطني ٤ : ٧٠ / ٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٧٢ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨ / ٢١٧٩٢.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) المغني ٥ : ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٠ - ٨١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

٣٢٦

وذكروا للخلاف في الإبراء مأخذين :

أحدهما : الخلاف في صحّة شرط البراءة من العيوب ، فإنّ العيوب مجهولة الأنواع والأقدار.

والثاني : أنّ الإبراء محض إسقاطٍ ، كالإعتاق ، أو هو تمليك للمديون ما في ذمّته ، ثمّ إذا ملكه يسقط.

وفيه قولان إن قلنا : إنّه إسقاط ، صحّ الإبراء عن المجهول - كما ذهبنا نحن إليه - وبه قال أبو حنيفة ومالك. وإن قلنا : تمليك ، لم يصح ، وهو ظاهر مذهب الشافعي(١) .

وخرّجوا على هذا الأصل مسائل :

أ : لو عرف المبرى ء قدر الدَّيْن ولم يعرفه المبرأ عنه ، هل يصحّ أم لا؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الوكالة.

ب : لو كان له دَيْنٌ على اثنين ، فقال : أبرأت أحدكما ، إن قلنا : إنّه إسقاط ، صحّ ، وطُولب بالبيان. وإن قلنا : تمليك ، لم يصح ، كما لو كان في يد كلّ واحدٍ منهما ثوب ، فقال : ملّكت أحدكما الثوب الذي في يده.

ج : لو كان للأب دَيْنٌ على شخصٍ فأبرأه الولد وهو لا يعلم موت أبيه ، إن قلنا : إنّه إسقاط ، صحّ ، كما لو قال لعبد أبيه : أعتقتك ، وهو لا يعلم موت الأب. وإن قلنا : إنّه تمليك ، فهو كما لو باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ وهو ميّت‌

د : الإبراء إذا كان إسقاطاً ، لم يحتج إلى القبول ، وهو ظاهر مذهب الشافعي. وإن قلنا : إنّه تمليك ، لم يحتج إليه أيضاً ؛ لأنّه وإن كان تمليكاً‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ - ١٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

٣٢٧

فالمقصود منه الإسقاط. فإن اعتبرنا القبول ، ارتدّ بالردّ. وإن لم نعتبره ، ففي ارتداده بالردّ وجهان للشافعيّة(١) .

وعندنا أنّه لا يرتدّ.

واحتجّ بعض الشافعيّة على أنّ الإبراء تمليك : بأنّه لو قال للمديون : ملّكتك ما في ذمّتك ، صحّ وبرئت ذمّته من غير نيّة وقرينة ، ولو لا أنّه تمليك لافتقر إلى نيّة أو قرينة ، كما إذا قال لعبده : ملّكتك رقبتك ، أو لزوجته : ملّكتكِ نفسكِ ، فإنّه يحتاج عندهم إلى النيّة(٢) .

ولا يتأتّى ذلك على مذهبنا ؛ لأنّ العتق والطلاق لا يقعان بالكناية ، وإنّ الإبراء عندنا إسقاط محض ، ولا يعتبر فيه رضا المبرى ، ولا أثر لردّه.

تذنيب : لو اغتاب شخصٌ غيرَه ثمّ جاء إليه فقال : إنّي اغتبتك فاجعلني في حلٍّ‌ ، ففَعَل وهو لا يدري بِمَ اغتابه ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ ؛ لأنّ هذا إسقاط محض ، فصار كما لو عرف أنّ عبداً قطع عضواً من عبده ولم يعرف عين العضو المقطوع فعفا عن القصاص ، يصحّ.

والثاني : لا يصحّ ؛ لأنّ المقصود حصول رضاه ، والرضا بالمجهول لا يمكن ، بخلاف مسألة القصاص ؛ لأنّ العفو عن القصاص مبنيّ على التغليب والسراية ، وإسقاط المظالم غير مبنيّ عليه(٣) .

مسألة ٥١٤ : إذا منعنا من ضمان المجهول ، فلو قال : ضمنت ما لك على فلان من درهم إلى عشرة ، فالأقوى : الصحّة‌ ؛ لأنّ ضمان المجهول إذا أبطلناه فإنّما كان باطلاً ؛ لما فيه من الغرر ، ومع بيان الغاية ينتفي الغرر ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٧ - ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

٣٢٨

فينتفي المقتضي للفساد ، فيبقى أصل الصحّة سليماً عن المبطل ، وحيث وطّن نفسه على تلك الغاية فأيّ غرر يبقى فيه؟ وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني : لا يصحّ ؛ لما فيه من الجهالة(١) .

فإذا قلنا بالصحّة وكان له عليه عشرة أو أكثر ، فيلزمه العشرة ؛ إدخالاً للطرفين في الملتزم ، وهو المتعارف ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : أنّه يلزمه ثمانية ؛ إخراجاً للطرفين.

والثالث : تسعة ؛ إدخالاً للطرف الأوّل ؛ لأنّه مبدأ الالتزام(٢) .

وما اخترناه أصحّهما عندهم(٣) .

أمّا لو قال : ضمنت لك ما بين درهم وعشرة ، فإن عرف أنّ دَيْنه لا ينقص عن عشرة ، صحّ ضمانه ، وكان ضامناً لثمانية.

وإن لم يعرف ، ففي صحّته في الثمانية للشافعيّة قولان(٤) .

ولو قال : ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان ، وقلنا ببطلان ضمان المجهول وهو لا يعرف قدرها ، احتُمل صحّة ضمان ثلاثة ؛ لدخولها قطعاً في اللفظ على كلّ حال ، كما لو قال : آجرتك كلّ شهر بدرهم ، هل يصحّ في الشهر الأوّل؟ للشافعيّة وجهان(٥) .

وكلّ هذه المسائل آتية في الإبراء.

تذنيب : هل يجوز ضمان الزكاة عمّن هي عليه؟ الأقوى عندي : الجواز‌ ؛ لأنّها دَيْنٌ ثابت لله تعالى ، فجاز ضمانها.

والمضمون له هنا الحاكم أو المستحقّ؟ إشكال.

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

٣٢٩

وللشافعيّة وجه يمنع الضمان ؛ لأنّها حقّ الله تعالى ، فأشبه الكفالة ببدن الشاهد لأداء الشهادة(١) .

وعلى ما اخترناه هل يعتبر الإذن عند الأداء؟ للشافعيّة وجهان أظهرهما : الاعتبار(٢) .

تذنيب : يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمم ، كالأموال‌ ؛ لأنّها مستحقّة في ذمّة المضمون عنه معلومة ، فلا مانع من صحّة ضمانها كالأموال.

البحث الثالث : في ضمان العهدة.

مسألة ٥١٥ : مَنْ باع شيئاً فخرج المبيع مستحقّاً لغير البائع ، وجب على البائع ردّ الثمن ، ولا حاجة فيه إلى شرطٍ والتزام.

قال بعض(٣) العلماء : من الحماقة اشتراط ذلك في القبالات.

وإن ضمن عنه ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج مستحقّاً ، فهو ضمان العهدة ، ويُسمّى أيضاً ضمان الدرك.

وسُمّي ضمان العهدة ؛ لالتزام الضامن ما في عهدة البائع ردّه ، أو لما ذكره صاحب الصحاح ، فقال : يقال : في الأمر عُهدة بالضمّ ، أي : لم يُحكم بَعْدُ ، وفي عقله عُهدة ، أي ضعف(٤) ، فكأنّ الضامن ضمن ضعف العقد ، والتزم ما يحتاج إليه فيه من غُرْم ، أو أنّ الضامن التزم رجعة المشتري عليه‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

(٣) هو القفّال من الشافعيّة ، كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

(٤) الصحاح ٢ : ٥١٥ « عهد ».

٣٣٠

عند الحاجة.

وأمّا الدرك فقال في الصحاح : الدرك : التبعة(١) .

وقيل : سُمّي ضمان الدرك ؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله(٢) .

وهذا الضمان عندنا صحيح إن كان البائع قد قبض الثمن ، وإن لم يكن قد قبض ، لم يصح.

وللشافعي في صحّة ضمان العهدة طريقان :

أظهرهما : أنّه على قولين :

أحدهما : أنّه لا يصحّ ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب. ولأنّه لا يجوز الرهن به فكذا الضمين.

وأصحّهما - وهو قول الشافعي في كتاب الإقرار - أنّه صحيح - وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد - لإطباق الناس عليه ، وإيداعه الصكوك في جميع الأعصار. ولأنّ الحاجة تمسّ إلى معاملة مَنْ لا يعرف من الغرماء ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو ظهر الاستحقاق ، فيحتاج إلى التوثيق.

والثاني : القطع بالصحّة(٣) .

ونمنع كون ضمان العهدة ضمان ما لم يجب ؛ لأنّه إذا ظهر عدم‌

____________________

(١) الصحاح ٤ : ١٥٨٢ « درك ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، الوسيط ٣ : ٢٣٦ ، حلية العلماء ٥ : ٦٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٨٠ ، الذخيرة ٩ : ٢١٢ ، المغني ٥ : ٧٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٤.

٣٣١

استحقاق البائع للعين ، ظهر استحقاق الثمن عليه ، وثبوته في ذمّته ، وأنّه يجب عليه ردّ الثمن إلى المشتري ، إلّا أنّا لم نكن نعرف ذلك لخفاء الاستحقاق عندنا.

ونمنع عدم جواز الرهن عليه وقد روى داوُد بن سرحان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الكفيل والرهن في بيع النسيئة ، قال : « لا بأس »(١) .

سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهرٌ ؛ لأنّ تجويز الرهن يؤدّي إلى أن تبقى العين مرهونةً أبداً.

مسألة ٥١٦ : قد بيّنّا أنّ الضمان في عهدة الثمن ودركه إن كان بعد قبض البائع الثمنَ ، صحّ‌ ، وبه قال الشافعي في أصحّ القولين عنده(٢) .

وإن كان قبله ، فوجهان عنده :

أصحّهما : البطلان - كما قلناه نحن - لأنّ الضامن إنّما يضمن ما دخل في ضمان البائع ولزمه ردّه ، وقبل القبض لم يتحقّق ذلك.

والثاني : الجواز ؛ لأنّ الحاجة تمسّ إليه والضرورة تقود إليه ؛ إذ ربما لا يثق المشتري بتسليم الثمن إلّا بعد الاستيثاق(٣) .

واعلم أ نّ ضمان العهدة في المبيع يصحّ عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع ، أمّا ضمانه عن البائع للمشتري فهو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقّاً أو رُدّ بعيبٍ ، أو أرش العيب. وأمّا ضمانه عن المشتري للبائع فهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن‌

____________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٥ / ١٨٨ ، التهذيب ٦ : ٢١٠ / ٤٩١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، حلية العلماء ٥ : ٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

٣٣٢

ظهر فيه عيب أو استحقّ ، رجع بذلك على الضامن ، فضمان العهدة في الموضعين ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخَر.

وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ، ويذكر فيه الثمن فغرمه عن الثمن الذي يضمنه.

مسألة ٥١٧ : وكما يصحّ ضمان العهدة للمشتري يصحّ ضمان نقصان الصنجة للبائع‌ ، فإذا جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن ، فاتّهمه البائع فيها ، فضمن ضامنٌ النقصانَ إن كانت الصنجة ناقصةً ، صحّ الضمان ؛ لأنّه من ضمان العهدة.

وكذا لو ضمن رداءة الثمن إذا شكّ البائع في أنّ الثمن الذي دفعه المشتري إليه هل هو من الضرب الذي يستحقّه ، صحّ ، فإذا خرج ناقصاً ، طالَب البائعُ الضامنَ بالنقصان.

وكذا لو خرج رديئاً من غير الجنس الذي يستحقّه المشتري ، فردّه على البائع ، طالَب المشتري الضامنَ بالضرب المستحقّ له.

ولو اختلف المتبايعان في نقصان الصنجة ، فالقول قول البائع مع يمينه ؛ لأصالة عدم القبض ، فإذا حلف طالَب المشتري بالنقصان ، ولا يطالب الضامن ، على أقيس الوجهين للشافعيّة ؛ لأنّ الأصل براءة ذمّته ، فلا يطالب إلّا إذا اعترف بالنقصان أو قامت عليه البيّنة(١) .

ولو اختلف البائع والضامن في نقصان الصنجة ، صُدّق الضامن - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّ الأصل براءة ذمّته ، بخلاف المشتري ، فإنّ ذمّته كانت مشغولةً بحقّ البائع ، فالأصل(٣) بقاء الشغل.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٣) كذا ، والظاهر : « والأصل ».

٣٣٣

ويُحتمل تقديم قول البائع ؛ لاعتضاده بالأصل.

ولو باع وشرط كون المبيع من نوع كذا ، فخرج المبيع من نوع أردأ ، ثبت للمشتري الخيار والرجوع بالثمن ، فإذا ضمن ضامنٌ ، كان له الرجوع على الضامن أيضاً.

وفيه نظر عندي ؛ إذ الثمن هنا لم يكن واجباً على البائع ، وإنّما وجب بفسخ المشتري البيع.

ولو شرط كون المبيع كذا رطلاً ، فخرج دونه ، فإن قلنا ببطلان البيع - كما هو أحد قولي الشافعي(١) - كان للمشتري الرجوع على ضامن الصنجة عن البائع.

وإن قلنا بأنّ البيع صحيح وثبت للمشتري الخيار فإذا فسخ رجع على الضامن أيضاً.

وفيه النظر الذي قلناه.

مسألة ٥١٨ : لو ضمن رجل عهدة الثمن لو خرج مستحقّاً - كما قلناه في طرف المبيع - فإذا خرج الثمن مستحقّاً ، كان للبائع مطالبة الضامن‌ بالعين التي دفعها إلى المشتري إن كان ذلك بعد الدفع ، وفيما قبله قولان للشافعي تقدّما(٢) .

ولو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع مستحقّاً ، فلا شكّ في صحّته كما سبق(٣) ، إلّا من بعض الشافعيّة(٤) ، وقد بيّنّا خطأهم فيه.

أمّا لو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع معيباً وردّه أو بانَ فساد البيع‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢.

(٢) في ص ٣٣١ ، المسألة ٥١٦.

(٣) في ص ٣٣٠ ، ضمن المسألة ٥١٥.

(٤) راجع : الهامش (٣) من ص ٣٣٠.

٣٣٤

بسبب غير الاستحقاق ، كتخلّف شرطٍ معتبر في المبيع أو اقتران شرطٍ فاسد به ، فالأقوى عندي : عدم الجواز في الصورة التي خرج المبيع فيها معيباً ؛ لأنّ وجوب ردّ الثمن على البائع بسببٍ حادث ، وهو الفسخ ، والضمان سابق عليه ، فيكون ضمان ما لم يجب ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

وأمّا إذا ظهر فساد البيع بسبب غير الاستحقاق من تخلّف شرطٍ معتبر أو اقتران شرطٍ فاسد به ، فالأقوى عندي : صحّة الضمان ؛ لأنّ الثمن يجب ردّه على البائع ، فأشبه ما لو بانَ الفساد بالاستحقاق ، وهو أحد قولَي الشافعي.

وفي الثاني : لا يصحّ الضمان ؛ لأنّ هذا الضمان إنّما جُوّز للحاجة ، وإنّما تظهر الحاجة في الاستحقاق ؛ لأنّ التحرّز عن ظهور الاستحقاق لا يمكن ، والتحرّز عن سائر أسباب الفساد ممكن ، بخلاف حالة ظهور الاستحقاق(٢) .

ونمنع إمكان التحرّز عن جميع أسباب الفساد.

فإن قلنا بالصحّة لو ضمن ذلك صريحاً ، قالت الشافعيّة : فيه وجهان في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة(٣) .

مسألة ٥١٩ : ألفاظ ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري : ضمنت لك عهدته ، أو ثمنه ، أو دركه ، أو خلّصتك منه.

ولو قال : ضمنت لك خلاص المبيع والعهدة ، لم يصح ضمان الخلاص ؛ لأنّه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقّاً.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢ - ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

٣٣٥

وفي العهدة قولا تفريق الصفقة للشافعيّة(١) .

وقال أبو يوسف : العهدة كتاب الابتياع ، فإذا ضمن العهدة ، كان ضماناً للكتاب(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ العهدة صار في العرف عبارةً عن الدرك وضمان الثمن ، وإذا ثبت للاسم عرفٌ ، انصرف الإطلاق إليه.

ولو شرط في البيع كفيلاً بخلاص المبيع ، قال الشافعي : بطل ، بخلاف ما لو شرط كفيلاً بالثمن(٣) .

ويشترط أن يكون قدر الثمن معلوماً للضامن إن شرطنا العلم بالمال المضمون ، فإن لم يكن ، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن معلوماً في المرابحة.

ويصحّ ضمان الـمُسْلَم فيه للمُسْلَم إليه لو خرج رأس المال مستحقّاً بعد تسليم الـمُسْلَم فيه ، وقبله للشافعيّة وجهان ، أصحّهما عندهم : أنّه لا يصحّ(٤) .

ولا يجوز ضمان رأس المال للمُسْلِم لو خرج الـمُسْلَم فيه مستحقّاً ؛ لأنّ الـمُسْلَم فيه في الذمّة ، والاستحقاق لا يتصوّر فيه ، وإنّما يتصوّر في المقبوض ، وحينئذٍ يطالب بمثله لا برأس المال.

مسألة ٥٢٠ : ضمان المال - عندنا - ناقل للمال من ذمّة المديون إلى ذمّة الضامن على ما يأتي.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٦٦ ، وانظر : المغني ٥ : ٧٧ ، والشرح الكبير ٥ : ٨٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

٣٣٦

وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال أقربه عندي : جواز مطالبة كلٍّ من الضامن والمضمون عنه بالعين المغصوبة.

أمّا الضامن : فللضمان.

وأمّا المضمون عنه : فلوجود العين في يده أو تلفها فيه.

وفي العهدة إن شاء المشتري طالَب البائع ، وإن شاء طالَب الضامن ؛ لأنّ القصد هنا بالضمان التوثيق لا غير.

ولا فرق بين أن يخرج المبيع مغصوباً ، وبين أن يكون شقصاً قد ثبتت فيه الشفعة ببيعٍ سابق ، فأخذ الشفيع بذلك البيع.

ولو بانَ بطلان البيع بشرطٍ أو غيره ، ففي مطالبة الضامن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : يُطالب ، كما لو خرج مستحقّاً ، وهو الذي قلنا نحن به.

والثاني : لا يُطالب ؛ للاستغناء عنه بإمكان حبس المبيع إلى استرداد الثمن ، لأنّ السابق إلى الفهم من ضمان العهدة هو الرجوع بسبب الاستحقاق(١) .

وليس بجيّد ، بل بسبب الاستحقاق والفساد.

ولو خرج المبيع معيباً فردّه المشتري ، ففي مطالبة الضامن بالثمن عندي إشكال.

وللشافعيّة وجهان ، قالوا : وأولى بأن لا يطالب فيه ؛ لأنّ الردّ هنا بسببٍ حادث ، وهو [ مختار ](٢) فيه ، فأشبه ما إذا(٣) فسخ بخيار شرط أو مجلس ، أو تقايلا(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ - ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في « ر ، ث » : « لو » بدل « إذا ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

٣٣٧

وهذا إذا كان العيب مقروناً بالعقد ، أمّا لو حدث في يد البائع بعد العقد ، قال بعض الشافعيّة : لا يطالب الضامن - وهو المعتمد عندي - لأنّ سبب ردّ الثمن لم يكن مقروناً بالعقد ولم يوجد من البائع تفريط فيه ، وفي العيب الموجود عند البيع سبب الردّ مقرون بالعقد ، والبائع مفرط بالإخفاء ، فأُلحق بالاستحقاق(١) .

ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن وانفسخ العقد ، فهل يطالب الضامن بالثمن؟ إن قلنا : إنّ البيع ينفسخ من أصله ، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق. وإن قلنا : ينفسخ من حينه ، فكالردّ بالعيب.

مسألة ٥٢١ : لو خرج بعض المبيع مستحقّاً ، كان البيع في الباقي صحيحاً ، وللمشتري فسخه على ما تقدّم‌(٢) .

وللشافعي في صحّة البيع في الباقي قولا تفريق الصفقة(٣) .

فعلى ما اخترناه وعلى قوله بالصحّة في تفريق الصفقة إذا أجاز المشتري بالحصّة من الثمن ، طالَب المشتري الضامنَ بحصّة المستحقّ من الثمن. وإن أجاز بجميع الثمن ، لم يكن له مطالبة الضامن بشي‌ء.

وللشافعيّة قولان في أنّه هل يجيز بجميع الثمن أو بالحصّة؟(٤) .

والحكم على ما قلناه.

وإن فسخ ، طالَب الضامن بحصّة المستحقّ من الثمن ، وأمّا حصّة الباقي من الثمن فإنّه يطالبه بها البائع.

وهل له مطالبة الضامن؟ أمّا عندنا فلا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

(٢) في ج ١٢ ، ص ٦ ، ضمن المسألة ٥٥٠.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

٣٣٨

وللشافعي قولان(١) ، كما لو فسخ بالعيب.

وعلى القول الثاني للشافعي في بطلان البيع مع تفريق الصفقة فله طريقان :

أحدهما : أنّه كما لو بانَ فساد العقد بشرطٍ ونحوه.

والثاني : القطع بتوجيه المطالبة ؛ لاستناد الفساد إلى الاستحقاق ، لأنّ فسخ العقد ثبت له بسبب الاستحقاق ، وما ثبت له بسبب الاستحقاق يرجع به على ضامن العهدة ، كما لو كان الكلّ مستحقّاً(٢) .

هذا إذا ضمن بالصيغة المذكورة أوّلاً ، أمّا إذا كان قد عيّن جهة الاستحقاق ، فقال : ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقّاً ، لم يطالب بجهةٍ أُخرى.

وكذا لو عيّن جهةً أُخرى ، لا يطالب عند ظهور الاستحقاق.

مسألة ٥٢٢ : لو اشترى أرضاً وبنى فيها أو غرس ثمّ ظهر استحقاق الأرض ، وقَلَع المستحقّ البناء والغراس‌ ، فهل يجب على البائع أرش النقصان ، وهو ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً؟ فيه خلاف يأتي ، والظاهر وجوبه ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إن كان البائع حاضراً ، رجع المشتري بقيمة البناء والغراس عليه قائماً ، ثمّ المستحقّ إن شاء أعطى البائع قيمته مقلوعاً ، وإن شاء أمر بقلعه. وإن كان البائع غائباً ، قال المستحقّ للمشتري : إن شئت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١ - ٤٨٢.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

٣٣٩

أعطيتك قيمته مقلوعاً ، وإلّا فاقلعه ، فإن قَلَعه ، رجع المشتري بقيمته على البائع مقلوعاً ؛ لأنّه سلّمه إليه مقلوعاً(١) .

وإذا قلنا بوجوب الأرش على البائع ، فلو ضمنه [ ضامن ](٢) ، فإن كان قبل ظهور الاستحقاق ، لم يصح عند الشافعي ؛ لأنّه مجهول. ولأنّه ضمان ما ليس بواجب.

وإن كان بعد الاستحقاق وقبل القلع ، فكمثله(٣) .

وقال أبو حنيفة : يصحّ في الصورتين(٤) .

فإن ضمنه بعد القلع وكان قدره معلوماً ، صحّ ، وإلّا فقولان.

وإن ضمن ضامنٌ عهدة الأرض وأرش [ نقص ](٥) البناء والغراس في عقدٍ واحد ، قال الشافعي : لم يصح في الأرش ، وفي العهدة قولا تفريق الصفة(٦) .

ولو كان البيع بشرط أن يعطيه كفيلاً بهما ، فهو كما لو شرط في البيع رهناً فاسداً عند الشافعي(٧) .

وقال جماعة من الشافعيّة : إنّ ضمان نقصان البناء والغراس كما‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ - ١٥٥.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « منه ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥.

(٥) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٦) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٣.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510