تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406241 / تحميل: 5178
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهذا الوجه(١) عند الشافعيّة أظهر حتى أنّ بعضهم قطع به(٢) .

تذنيب : إذا كان الضمان بحيث يقتضي الرجوع - كما إذا ضمن بسؤاله - فإنّه يرجع بالحيوان.

وللشافعيّة خلاف كما وقع في اقتراض الحيوان(٣) .

وهل يصحّ ضمان الدية على العاقلة قبل تمام السنة؟ الأقرب : جوازه ؛ لأنّ سبب الوجوب ثابت.

وقالت الشافعيّة : لا يجوز ؛ لأنّها غير ثابتة بَعْدُ(٤) .

مسألة ٥١٠ : إذا ضمن عيناً لمالكها وهي في يد غيره‌ ، فإن كانت أمانةً لم يتعدّ فيها الأمين ، لم يصح الضمان ، كالوديعة والعارية غير المضمونة ومال الشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى الصانع والمال في يد الوكيل والوصي والحاكم وأمينه إذا لم يقع منهم تعدٍّ أو تفريط ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(٥) - لأنّها غير مضمونة العين ولا مضمونة الردّ ، وإنّما الذي يجب على الأمين مجرّد التخلية ، وإذا لم تكن مضمونةً على ذي اليد فكذا على ضامنه.

ولو ضمنها إن تعدّى فيها ، لم يصح ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب ولم يثبت في الذمّة ، فيكون باطلاً ، كما لو ضمن عنه ما يدفعه إليه غداً قرضاً.

وقال أحمد : يصحّ ضمانه ، فعلى هذا إن تلفت بغير تعدٍّ من القابض ولا تفريط ، لم يلزم الضامن شي‌ء ؛ لأنّه فرع المضمون عنه ، والمضمون عنه‌

____________________

(١) أي الوجه الثاني.

(٢ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

٣٢١

لا يلزمه شي‌ء. وإن تلفت بتعدٍّ أو تفريط ، يلزمه ضمانها ، ولزم الضامن ذلك ؛ لأنّها مضمونة على مَنْ هي في يده ، فلزم ضامنه ، كالمغصوب(١) .

وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب ، وقد بيّنّا بطلانه.

مسألة ٥١١ : الأعيان المضمونة - كالمغصوب والمستعار مع التضمين أو كونه أحد النقدين والمستام والأمانات - إذا خان فيها أو تعدّى ، فله صورتان :

الأُولى : أن يضمن ردّ أعيانها‌. وهو جائز ؛ لأنّه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد(٢) .

والمشهور عند الشافعيّة تخريجه على [ قولي ](٣) كفالة الأبدان(٤) .

ومنهم مَنْ قطع بالجواز مع إثبات الخلاف في كفالة الأبدان. والفرق : أنّ حضور الخصم ليس مقصوداً في نفسه ، وإنّما هو ذريعة إلى تحصيل المال ، فالتزام المقصود أولى بالصحّة من التزام الذريعة(٥) .

إذا ثبت هذا ، فإن ردّها الضامن أو الغاصب ، برئ من الضمان.

وإن تلفت وتعذّر الردّ ، فهل عليه قيمتها؟ فيه للشافعيّة وجهان ،

____________________

(١) الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١ ، المغني ٥ : ٧٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٦.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٤٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٦ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣٠ ، المغني ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قول ». والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

٣٢٢

كالوجهين في وجوب الغُرْم على الكفيل إن [ مات المكفول ببدنه(١) .

فإن أوجبنا فيجب في المغصوب أقصى القِيَم أم قيمته يوم التلف ؛ لأنّ الكفيل ](٢) لم يكن متعدّياً؟ حكى الجويني فيه وجهين(٣) .

ولو ضمن تسليم المبيع وهو في يد البائع ، جرى الخلاف في الضمان ، فإن صحّحناه وتلف ، انفسخ البيع ، فإن لم يوفّر المشتري [ الثمن ](٤) لم يطالب الضامن بشي‌ء.

وإن كان قد وفّره ، عاد الوجهان في أنّ الضامن هل يغرم؟

فإن أغرمناه ، فيغرم الثمن أو أقلّ الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؟

للشافعيّة وجهان ، أظهرهما عندهم : الأوّل(٥) .

الثانية : أن يضمن قيمتها لو تلفت.

والأقوى عندي : الصحّة ؛ لأنّ ذلك ثابت في ذمّة الغاصب ، فصحّ الضمان.

وقالت الشافعيّة : يبنى ذلك على أنّ المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم الكفيل الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، صحّ ضمان القيمة لو تلفت العين ، وإلّا لم يصح ، وهو الأصحّ عندهم(٦) .

ولو تكفّل ببدن العبد الجاني جنايةً توجب المال ، فهو كما لو ضمن عيناً من الأعيان.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ - ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٢) ما بين المعقوفين من « العزيز شرح الوجيز » و« روضة الطالبين ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

٣٢٣

وجزم بعض الشافعيّة بالمنع هنا. وفرّق بأنّ العين المضمونة مستحقّة ونفس العبد ليست مستحقّةً ، وإنّما المقصود تحصيل الأرش من بدله ، وبدله مجهول(١) .

ولو باع شيئاً بثوب أو دراهم معيّنة فضمن ضامن عهدة المبيع حتى إذا خرج مستحقّاً ردّ عليه الثمن وهو قائم في يد البائع ، فهذا من صور ضمان الأعيان ، فإن تلف في يد البائع فضمن قيمته ، فهو كما لو كان الثمن في الذمّة وضمن العهدة.

ولو رهن ثوباً من إنسان ولم يقبضه ، فضمن رجل تسليمه ، لم يصح ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب.

إذا عرفت هذا ، فقد اختلف قول الشافعيّة في صحّة ضمان الأعيان المضمونة ، كالغصب وشبهه.

فقال بعضهم : يصحّ ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد على ما تقدّم(٢) ؛ لأنّها مضمونة على مَنْ هي في يده ، فهي كالديون الثابتة في الذمّة.

والثاني(٣) : لا يصحّ ضمانها ؛ لأنّها غير ثابتة في الذمّة ، وإنّما يصحّ ضمان ما كان ثابتاً في الذمّة ، ووصفنا إيّاها بأنّها مضمونة معناه أنّه يلزمه قيمتها بتلفها ، والقيمة مجهولة ، وضمان المجهولة لا يجوز(٤) .

مسألة ٥١٢ : للشيخرحمه‌الله قولان في ضمان المجهول.

قال في الخلاف : لا يصحّ(٥) ، وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والليث‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٨.

(٢) في ص ٣٢١ ، المسألة ٥١١.

(٣) أي القول الثاني للشافعيّة.

(٤) المغني ٥ : ٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٧ ، وأيضاً راجع المصادر في الهامش (٤) من ص ٣٢١.

(٥) الخلاف ٣ : ٣١٩ ، المسألة ١٣.

٣٢٤

وأحمد(١) ؛ لأنّه إثبات مال في الذمّة بعقدٍ لآدمي ، فلم يصح في المجهول ، كالبيع وكما لو قال : ضمنت لك بعض مالك على فلان.

وقال في النهاية : لو قال : أنا أضمن لك ما يثبت لك عليه إن لم يأت به إلى وقت كذا ، ثمّ لم يُحضره ، وجب عليه ما قامت به البيّنة للمضمون عنه ، ولا يلزمه ما لم تقم به البيّنة ممّا يخرج به الحساب في دفتر أو كتاب ، وإنّما يلزمه ما قامت له به البيّنة ، أو يحلف خصمه عليه ، فإن حلف على ما يدّعيه واختار هو ذلك ، وجب عليه الخروج منه(٢) . وهذا يشعر بجواز ضمان المجهول ، وبه قال أبو حنيفة ومالك(٣) .

وعن أحمد روايتان(٤) .

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه على قولين : القديم : أنّه يصحّ. والجديد : المنع.

والثاني : القطع بالمنع(٥) .

واحتجّ المجوّزون بقوله تعالى :( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٥٦ ، المغني ٥ : ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٠ ، وفي الأخيرين وكذا في الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣١ صحّة ضمان المجهول ، على العكس ممّا نُسب إلى أحمد في المتن.

(٢) النهاية : ٣١٥ - ٣١٦.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ١٩ : ١٧٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٢ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٦٦ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، المغني ٥ : ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٠.

(٤) لاحظ المصادر في الهامش (١)

(٥) الوسيط ٣ : ٢٣٨ ، الوجيز ١ : ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٣.

٣٢٥

زَعِيمٌ ) (١) وحِمْل البعير مجهول ، ويختلف باختلاف الأجناس.

ولعموم قولهعليه‌السلام : « الزعيم غارم »(٢) .

ولأنّه التزام حقٍّ في الذمّة عن معاوضة ، فصحّ مع الجهالة ، كالنذر والإقرار. ولأنّه يصحّ تعليقه بغرر وخطر ، وهو ضمان العهدة ، وكما إذا قال لغيره : ألق متاعك في البحر وعلَيَّ ضمانه ، أو قال : ادفع ثيابك إلى هذا [ الرفّاء ](٣) وعلَيَّ ضمانها ، فصحّ في المجهول ، كالعتق والطلاق(٤) .

تذنيب : إن قلنا بصحّة ضمان المجهول فإنّما يصحّ في صورة يمكن العلم فيها بعد ذلك‌ ، كما لو قال : أنا ضامن للدَّيْن الذي عليك ، أو أنا ضامن لثمن ما بعت من فلان ، وهو جاهل بالدَّيْن والثمن ؛ لأنّ معرفته ممكنة ، والخروج عن العهدة مقدور عليه ، أمّا لو لم يمكن الاستعلام ، فإنّ الضمان فيه لا يصحّ قولاً واحداً ، كما لو قال : ضمنت لك شيئاً ممّا لك على فلان.

مسألة ٥١٣ : الإبراء - عندنا - من المجهول يصحّ‌ ؛ لأنّه إسقاط عمّا في الذمّة ، بل هو أولى من ضمان المجهول ؛ لأنّ الضمان التزام ، والإبراء إسقاط.

والخلاف المذكور للشافعيّة في ضمان المجهول آتٍ لهم في الإبراء(٥) .

____________________

(١) يوسف : ٧٢.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٤ / ٢٤٠٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٥ / ١٢٦٥ ، سنن الدارقطني ٤ : ٧٠ / ٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٧٢ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨ / ٢١٧٩٢.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) المغني ٥ : ٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٠ - ٨١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

٣٢٦

وذكروا للخلاف في الإبراء مأخذين :

أحدهما : الخلاف في صحّة شرط البراءة من العيوب ، فإنّ العيوب مجهولة الأنواع والأقدار.

والثاني : أنّ الإبراء محض إسقاطٍ ، كالإعتاق ، أو هو تمليك للمديون ما في ذمّته ، ثمّ إذا ملكه يسقط.

وفيه قولان إن قلنا : إنّه إسقاط ، صحّ الإبراء عن المجهول - كما ذهبنا نحن إليه - وبه قال أبو حنيفة ومالك. وإن قلنا : تمليك ، لم يصح ، وهو ظاهر مذهب الشافعي(١) .

وخرّجوا على هذا الأصل مسائل :

أ : لو عرف المبرى ء قدر الدَّيْن ولم يعرفه المبرأ عنه ، هل يصحّ أم لا؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الوكالة.

ب : لو كان له دَيْنٌ على اثنين ، فقال : أبرأت أحدكما ، إن قلنا : إنّه إسقاط ، صحّ ، وطُولب بالبيان. وإن قلنا : تمليك ، لم يصح ، كما لو كان في يد كلّ واحدٍ منهما ثوب ، فقال : ملّكت أحدكما الثوب الذي في يده.

ج : لو كان للأب دَيْنٌ على شخصٍ فأبرأه الولد وهو لا يعلم موت أبيه ، إن قلنا : إنّه إسقاط ، صحّ ، كما لو قال لعبد أبيه : أعتقتك ، وهو لا يعلم موت الأب. وإن قلنا : إنّه تمليك ، فهو كما لو باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ وهو ميّت‌

د : الإبراء إذا كان إسقاطاً ، لم يحتج إلى القبول ، وهو ظاهر مذهب الشافعي. وإن قلنا : إنّه تمليك ، لم يحتج إليه أيضاً ؛ لأنّه وإن كان تمليكاً‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٦ - ١٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

٣٢٧

فالمقصود منه الإسقاط. فإن اعتبرنا القبول ، ارتدّ بالردّ. وإن لم نعتبره ، ففي ارتداده بالردّ وجهان للشافعيّة(١) .

وعندنا أنّه لا يرتدّ.

واحتجّ بعض الشافعيّة على أنّ الإبراء تمليك : بأنّه لو قال للمديون : ملّكتك ما في ذمّتك ، صحّ وبرئت ذمّته من غير نيّة وقرينة ، ولو لا أنّه تمليك لافتقر إلى نيّة أو قرينة ، كما إذا قال لعبده : ملّكتك رقبتك ، أو لزوجته : ملّكتكِ نفسكِ ، فإنّه يحتاج عندهم إلى النيّة(٢) .

ولا يتأتّى ذلك على مذهبنا ؛ لأنّ العتق والطلاق لا يقعان بالكناية ، وإنّ الإبراء عندنا إسقاط محض ، ولا يعتبر فيه رضا المبرى ، ولا أثر لردّه.

تذنيب : لو اغتاب شخصٌ غيرَه ثمّ جاء إليه فقال : إنّي اغتبتك فاجعلني في حلٍّ‌ ، ففَعَل وهو لا يدري بِمَ اغتابه ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ ؛ لأنّ هذا إسقاط محض ، فصار كما لو عرف أنّ عبداً قطع عضواً من عبده ولم يعرف عين العضو المقطوع فعفا عن القصاص ، يصحّ.

والثاني : لا يصحّ ؛ لأنّ المقصود حصول رضاه ، والرضا بالمجهول لا يمكن ، بخلاف مسألة القصاص ؛ لأنّ العفو عن القصاص مبنيّ على التغليب والسراية ، وإسقاط المظالم غير مبنيّ عليه(٣) .

مسألة ٥١٤ : إذا منعنا من ضمان المجهول ، فلو قال : ضمنت ما لك على فلان من درهم إلى عشرة ، فالأقوى : الصحّة‌ ؛ لأنّ ضمان المجهول إذا أبطلناه فإنّما كان باطلاً ؛ لما فيه من الغرر ، ومع بيان الغاية ينتفي الغرر ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٧ - ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٤.

٣٢٨

فينتفي المقتضي للفساد ، فيبقى أصل الصحّة سليماً عن المبطل ، وحيث وطّن نفسه على تلك الغاية فأيّ غرر يبقى فيه؟ وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني : لا يصحّ ؛ لما فيه من الجهالة(١) .

فإذا قلنا بالصحّة وكان له عليه عشرة أو أكثر ، فيلزمه العشرة ؛ إدخالاً للطرفين في الملتزم ، وهو المتعارف ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : أنّه يلزمه ثمانية ؛ إخراجاً للطرفين.

والثالث : تسعة ؛ إدخالاً للطرف الأوّل ؛ لأنّه مبدأ الالتزام(٢) .

وما اخترناه أصحّهما عندهم(٣) .

أمّا لو قال : ضمنت لك ما بين درهم وعشرة ، فإن عرف أنّ دَيْنه لا ينقص عن عشرة ، صحّ ضمانه ، وكان ضامناً لثمانية.

وإن لم يعرف ، ففي صحّته في الثمانية للشافعيّة قولان(٤) .

ولو قال : ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان ، وقلنا ببطلان ضمان المجهول وهو لا يعرف قدرها ، احتُمل صحّة ضمان ثلاثة ؛ لدخولها قطعاً في اللفظ على كلّ حال ، كما لو قال : آجرتك كلّ شهر بدرهم ، هل يصحّ في الشهر الأوّل؟ للشافعيّة وجهان(٥) .

وكلّ هذه المسائل آتية في الإبراء.

تذنيب : هل يجوز ضمان الزكاة عمّن هي عليه؟ الأقوى عندي : الجواز‌ ؛ لأنّها دَيْنٌ ثابت لله تعالى ، فجاز ضمانها.

والمضمون له هنا الحاكم أو المستحقّ؟ إشكال.

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

٣٢٩

وللشافعيّة وجه يمنع الضمان ؛ لأنّها حقّ الله تعالى ، فأشبه الكفالة ببدن الشاهد لأداء الشهادة(١) .

وعلى ما اخترناه هل يعتبر الإذن عند الأداء؟ للشافعيّة وجهان أظهرهما : الاعتبار(٢) .

تذنيب : يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمم ، كالأموال‌ ؛ لأنّها مستحقّة في ذمّة المضمون عنه معلومة ، فلا مانع من صحّة ضمانها كالأموال.

البحث الثالث : في ضمان العهدة.

مسألة ٥١٥ : مَنْ باع شيئاً فخرج المبيع مستحقّاً لغير البائع ، وجب على البائع ردّ الثمن ، ولا حاجة فيه إلى شرطٍ والتزام.

قال بعض(٣) العلماء : من الحماقة اشتراط ذلك في القبالات.

وإن ضمن عنه ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج مستحقّاً ، فهو ضمان العهدة ، ويُسمّى أيضاً ضمان الدرك.

وسُمّي ضمان العهدة ؛ لالتزام الضامن ما في عهدة البائع ردّه ، أو لما ذكره صاحب الصحاح ، فقال : يقال : في الأمر عُهدة بالضمّ ، أي : لم يُحكم بَعْدُ ، وفي عقله عُهدة ، أي ضعف(٤) ، فكأنّ الضامن ضمن ضعف العقد ، والتزم ما يحتاج إليه فيه من غُرْم ، أو أنّ الضامن التزم رجعة المشتري عليه‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٥.

(٣) هو القفّال من الشافعيّة ، كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

(٤) الصحاح ٢ : ٥١٥ « عهد ».

٣٣٠

عند الحاجة.

وأمّا الدرك فقال في الصحاح : الدرك : التبعة(١) .

وقيل : سُمّي ضمان الدرك ؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله(٢) .

وهذا الضمان عندنا صحيح إن كان البائع قد قبض الثمن ، وإن لم يكن قد قبض ، لم يصح.

وللشافعي في صحّة ضمان العهدة طريقان :

أظهرهما : أنّه على قولين :

أحدهما : أنّه لا يصحّ ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب. ولأنّه لا يجوز الرهن به فكذا الضمين.

وأصحّهما - وهو قول الشافعي في كتاب الإقرار - أنّه صحيح - وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد - لإطباق الناس عليه ، وإيداعه الصكوك في جميع الأعصار. ولأنّ الحاجة تمسّ إلى معاملة مَنْ لا يعرف من الغرماء ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو ظهر الاستحقاق ، فيحتاج إلى التوثيق.

والثاني : القطع بالصحّة(٣) .

ونمنع كون ضمان العهدة ضمان ما لم يجب ؛ لأنّه إذا ظهر عدم‌

____________________

(١) الصحاح ٤ : ١٥٨٢ « درك ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، الوسيط ٣ : ٢٣٦ ، حلية العلماء ٥ : ٦٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٨٠ ، الذخيرة ٩ : ٢١٢ ، المغني ٥ : ٧٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٤.

٣٣١

استحقاق البائع للعين ، ظهر استحقاق الثمن عليه ، وثبوته في ذمّته ، وأنّه يجب عليه ردّ الثمن إلى المشتري ، إلّا أنّا لم نكن نعرف ذلك لخفاء الاستحقاق عندنا.

ونمنع عدم جواز الرهن عليه وقد روى داوُد بن سرحان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الكفيل والرهن في بيع النسيئة ، قال : « لا بأس »(١) .

سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهرٌ ؛ لأنّ تجويز الرهن يؤدّي إلى أن تبقى العين مرهونةً أبداً.

مسألة ٥١٦ : قد بيّنّا أنّ الضمان في عهدة الثمن ودركه إن كان بعد قبض البائع الثمنَ ، صحّ‌ ، وبه قال الشافعي في أصحّ القولين عنده(٢) .

وإن كان قبله ، فوجهان عنده :

أصحّهما : البطلان - كما قلناه نحن - لأنّ الضامن إنّما يضمن ما دخل في ضمان البائع ولزمه ردّه ، وقبل القبض لم يتحقّق ذلك.

والثاني : الجواز ؛ لأنّ الحاجة تمسّ إليه والضرورة تقود إليه ؛ إذ ربما لا يثق المشتري بتسليم الثمن إلّا بعد الاستيثاق(٣) .

واعلم أ نّ ضمان العهدة في المبيع يصحّ عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع ، أمّا ضمانه عن البائع للمشتري فهو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقّاً أو رُدّ بعيبٍ ، أو أرش العيب. وأمّا ضمانه عن المشتري للبائع فهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن‌

____________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٥ / ١٨٨ ، التهذيب ٦ : ٢١٠ / ٤٩١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٧٩.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، حلية العلماء ٥ : ٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

٣٣٢

ظهر فيه عيب أو استحقّ ، رجع بذلك على الضامن ، فضمان العهدة في الموضعين ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخَر.

وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ، ويذكر فيه الثمن فغرمه عن الثمن الذي يضمنه.

مسألة ٥١٧ : وكما يصحّ ضمان العهدة للمشتري يصحّ ضمان نقصان الصنجة للبائع‌ ، فإذا جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن ، فاتّهمه البائع فيها ، فضمن ضامنٌ النقصانَ إن كانت الصنجة ناقصةً ، صحّ الضمان ؛ لأنّه من ضمان العهدة.

وكذا لو ضمن رداءة الثمن إذا شكّ البائع في أنّ الثمن الذي دفعه المشتري إليه هل هو من الضرب الذي يستحقّه ، صحّ ، فإذا خرج ناقصاً ، طالَب البائعُ الضامنَ بالنقصان.

وكذا لو خرج رديئاً من غير الجنس الذي يستحقّه المشتري ، فردّه على البائع ، طالَب المشتري الضامنَ بالضرب المستحقّ له.

ولو اختلف المتبايعان في نقصان الصنجة ، فالقول قول البائع مع يمينه ؛ لأصالة عدم القبض ، فإذا حلف طالَب المشتري بالنقصان ، ولا يطالب الضامن ، على أقيس الوجهين للشافعيّة ؛ لأنّ الأصل براءة ذمّته ، فلا يطالب إلّا إذا اعترف بالنقصان أو قامت عليه البيّنة(١) .

ولو اختلف البائع والضامن في نقصان الصنجة ، صُدّق الضامن - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّ الأصل براءة ذمّته ، بخلاف المشتري ، فإنّ ذمّته كانت مشغولةً بحقّ البائع ، فالأصل(٣) بقاء الشغل.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٣) كذا ، والظاهر : « والأصل ».

٣٣٣

ويُحتمل تقديم قول البائع ؛ لاعتضاده بالأصل.

ولو باع وشرط كون المبيع من نوع كذا ، فخرج المبيع من نوع أردأ ، ثبت للمشتري الخيار والرجوع بالثمن ، فإذا ضمن ضامنٌ ، كان له الرجوع على الضامن أيضاً.

وفيه نظر عندي ؛ إذ الثمن هنا لم يكن واجباً على البائع ، وإنّما وجب بفسخ المشتري البيع.

ولو شرط كون المبيع كذا رطلاً ، فخرج دونه ، فإن قلنا ببطلان البيع - كما هو أحد قولي الشافعي(١) - كان للمشتري الرجوع على ضامن الصنجة عن البائع.

وإن قلنا بأنّ البيع صحيح وثبت للمشتري الخيار فإذا فسخ رجع على الضامن أيضاً.

وفيه النظر الذي قلناه.

مسألة ٥١٨ : لو ضمن رجل عهدة الثمن لو خرج مستحقّاً - كما قلناه في طرف المبيع - فإذا خرج الثمن مستحقّاً ، كان للبائع مطالبة الضامن‌ بالعين التي دفعها إلى المشتري إن كان ذلك بعد الدفع ، وفيما قبله قولان للشافعي تقدّما(٢) .

ولو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع مستحقّاً ، فلا شكّ في صحّته كما سبق(٣) ، إلّا من بعض الشافعيّة(٤) ، وقد بيّنّا خطأهم فيه.

أمّا لو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع معيباً وردّه أو بانَ فساد البيع‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢.

(٢) في ص ٣٣١ ، المسألة ٥١٦.

(٣) في ص ٣٣٠ ، ضمن المسألة ٥١٥.

(٤) راجع : الهامش (٣) من ص ٣٣٠.

٣٣٤

بسبب غير الاستحقاق ، كتخلّف شرطٍ معتبر في المبيع أو اقتران شرطٍ فاسد به ، فالأقوى عندي : عدم الجواز في الصورة التي خرج المبيع فيها معيباً ؛ لأنّ وجوب ردّ الثمن على البائع بسببٍ حادث ، وهو الفسخ ، والضمان سابق عليه ، فيكون ضمان ما لم يجب ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

وأمّا إذا ظهر فساد البيع بسبب غير الاستحقاق من تخلّف شرطٍ معتبر أو اقتران شرطٍ فاسد به ، فالأقوى عندي : صحّة الضمان ؛ لأنّ الثمن يجب ردّه على البائع ، فأشبه ما لو بانَ الفساد بالاستحقاق ، وهو أحد قولَي الشافعي.

وفي الثاني : لا يصحّ الضمان ؛ لأنّ هذا الضمان إنّما جُوّز للحاجة ، وإنّما تظهر الحاجة في الاستحقاق ؛ لأنّ التحرّز عن ظهور الاستحقاق لا يمكن ، والتحرّز عن سائر أسباب الفساد ممكن ، بخلاف حالة ظهور الاستحقاق(٢) .

ونمنع إمكان التحرّز عن جميع أسباب الفساد.

فإن قلنا بالصحّة لو ضمن ذلك صريحاً ، قالت الشافعيّة : فيه وجهان في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة(٣) .

مسألة ٥١٩ : ألفاظ ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري : ضمنت لك عهدته ، أو ثمنه ، أو دركه ، أو خلّصتك منه.

ولو قال : ضمنت لك خلاص المبيع والعهدة ، لم يصح ضمان الخلاص ؛ لأنّه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقّاً.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٢ - ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

٣٣٥

وفي العهدة قولا تفريق الصفقة للشافعيّة(١) .

وقال أبو يوسف : العهدة كتاب الابتياع ، فإذا ضمن العهدة ، كان ضماناً للكتاب(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ العهدة صار في العرف عبارةً عن الدرك وضمان الثمن ، وإذا ثبت للاسم عرفٌ ، انصرف الإطلاق إليه.

ولو شرط في البيع كفيلاً بخلاص المبيع ، قال الشافعي : بطل ، بخلاف ما لو شرط كفيلاً بالثمن(٣) .

ويشترط أن يكون قدر الثمن معلوماً للضامن إن شرطنا العلم بالمال المضمون ، فإن لم يكن ، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن معلوماً في المرابحة.

ويصحّ ضمان الـمُسْلَم فيه للمُسْلَم إليه لو خرج رأس المال مستحقّاً بعد تسليم الـمُسْلَم فيه ، وقبله للشافعيّة وجهان ، أصحّهما عندهم : أنّه لا يصحّ(٤) .

ولا يجوز ضمان رأس المال للمُسْلِم لو خرج الـمُسْلَم فيه مستحقّاً ؛ لأنّ الـمُسْلَم فيه في الذمّة ، والاستحقاق لا يتصوّر فيه ، وإنّما يتصوّر في المقبوض ، وحينئذٍ يطالب بمثله لا برأس المال.

مسألة ٥٢٠ : ضمان المال - عندنا - ناقل للمال من ذمّة المديون إلى ذمّة الضامن على ما يأتي.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٦٦ ، وانظر : المغني ٥ : ٧٧ ، والشرح الكبير ٥ : ٨٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

٣٣٦

وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال أقربه عندي : جواز مطالبة كلٍّ من الضامن والمضمون عنه بالعين المغصوبة.

أمّا الضامن : فللضمان.

وأمّا المضمون عنه : فلوجود العين في يده أو تلفها فيه.

وفي العهدة إن شاء المشتري طالَب البائع ، وإن شاء طالَب الضامن ؛ لأنّ القصد هنا بالضمان التوثيق لا غير.

ولا فرق بين أن يخرج المبيع مغصوباً ، وبين أن يكون شقصاً قد ثبتت فيه الشفعة ببيعٍ سابق ، فأخذ الشفيع بذلك البيع.

ولو بانَ بطلان البيع بشرطٍ أو غيره ، ففي مطالبة الضامن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : يُطالب ، كما لو خرج مستحقّاً ، وهو الذي قلنا نحن به.

والثاني : لا يُطالب ؛ للاستغناء عنه بإمكان حبس المبيع إلى استرداد الثمن ، لأنّ السابق إلى الفهم من ضمان العهدة هو الرجوع بسبب الاستحقاق(١) .

وليس بجيّد ، بل بسبب الاستحقاق والفساد.

ولو خرج المبيع معيباً فردّه المشتري ، ففي مطالبة الضامن بالثمن عندي إشكال.

وللشافعيّة وجهان ، قالوا : وأولى بأن لا يطالب فيه ؛ لأنّ الردّ هنا بسببٍ حادث ، وهو [ مختار ](٢) فيه ، فأشبه ما إذا(٣) فسخ بخيار شرط أو مجلس ، أو تقايلا(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٣ - ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في « ر ، ث » : « لو » بدل « إذا ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

٣٣٧

وهذا إذا كان العيب مقروناً بالعقد ، أمّا لو حدث في يد البائع بعد العقد ، قال بعض الشافعيّة : لا يطالب الضامن - وهو المعتمد عندي - لأنّ سبب ردّ الثمن لم يكن مقروناً بالعقد ولم يوجد من البائع تفريط فيه ، وفي العيب الموجود عند البيع سبب الردّ مقرون بالعقد ، والبائع مفرط بالإخفاء ، فأُلحق بالاستحقاق(١) .

ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن وانفسخ العقد ، فهل يطالب الضامن بالثمن؟ إن قلنا : إنّ البيع ينفسخ من أصله ، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق. وإن قلنا : ينفسخ من حينه ، فكالردّ بالعيب.

مسألة ٥٢١ : لو خرج بعض المبيع مستحقّاً ، كان البيع في الباقي صحيحاً ، وللمشتري فسخه على ما تقدّم‌(٢) .

وللشافعي في صحّة البيع في الباقي قولا تفريق الصفقة(٣) .

فعلى ما اخترناه وعلى قوله بالصحّة في تفريق الصفقة إذا أجاز المشتري بالحصّة من الثمن ، طالَب المشتري الضامنَ بحصّة المستحقّ من الثمن. وإن أجاز بجميع الثمن ، لم يكن له مطالبة الضامن بشي‌ء.

وللشافعيّة قولان في أنّه هل يجيز بجميع الثمن أو بالحصّة؟(٤) .

والحكم على ما قلناه.

وإن فسخ ، طالَب الضامن بحصّة المستحقّ من الثمن ، وأمّا حصّة الباقي من الثمن فإنّه يطالبه بها البائع.

وهل له مطالبة الضامن؟ أمّا عندنا فلا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

(٢) في ج ١٢ ، ص ٦ ، ضمن المسألة ٥٥٠.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

٣٣٨

وللشافعي قولان(١) ، كما لو فسخ بالعيب.

وعلى القول الثاني للشافعي في بطلان البيع مع تفريق الصفقة فله طريقان :

أحدهما : أنّه كما لو بانَ فساد العقد بشرطٍ ونحوه.

والثاني : القطع بتوجيه المطالبة ؛ لاستناد الفساد إلى الاستحقاق ، لأنّ فسخ العقد ثبت له بسبب الاستحقاق ، وما ثبت له بسبب الاستحقاق يرجع به على ضامن العهدة ، كما لو كان الكلّ مستحقّاً(٢) .

هذا إذا ضمن بالصيغة المذكورة أوّلاً ، أمّا إذا كان قد عيّن جهة الاستحقاق ، فقال : ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقّاً ، لم يطالب بجهةٍ أُخرى.

وكذا لو عيّن جهةً أُخرى ، لا يطالب عند ظهور الاستحقاق.

مسألة ٥٢٢ : لو اشترى أرضاً وبنى فيها أو غرس ثمّ ظهر استحقاق الأرض ، وقَلَع المستحقّ البناء والغراس‌ ، فهل يجب على البائع أرش النقصان ، وهو ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً؟ فيه خلاف يأتي ، والظاهر وجوبه ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إن كان البائع حاضراً ، رجع المشتري بقيمة البناء والغراس عليه قائماً ، ثمّ المستحقّ إن شاء أعطى البائع قيمته مقلوعاً ، وإن شاء أمر بقلعه. وإن كان البائع غائباً ، قال المستحقّ للمشتري : إن شئت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨١ - ٤٨٢.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

٣٣٩

أعطيتك قيمته مقلوعاً ، وإلّا فاقلعه ، فإن قَلَعه ، رجع المشتري بقيمته على البائع مقلوعاً ؛ لأنّه سلّمه إليه مقلوعاً(١) .

وإذا قلنا بوجوب الأرش على البائع ، فلو ضمنه [ ضامن ](٢) ، فإن كان قبل ظهور الاستحقاق ، لم يصح عند الشافعي ؛ لأنّه مجهول. ولأنّه ضمان ما ليس بواجب.

وإن كان بعد الاستحقاق وقبل القلع ، فكمثله(٣) .

وقال أبو حنيفة : يصحّ في الصورتين(٤) .

فإن ضمنه بعد القلع وكان قدره معلوماً ، صحّ ، وإلّا فقولان.

وإن ضمن ضامنٌ عهدة الأرض وأرش [ نقص ](٥) البناء والغراس في عقدٍ واحد ، قال الشافعي : لم يصح في الأرش ، وفي العهدة قولا تفريق الصفة(٦) .

ولو كان البيع بشرط أن يعطيه كفيلاً بهما ، فهو كما لو شرط في البيع رهناً فاسداً عند الشافعي(٧) .

وقال جماعة من الشافعيّة : إنّ ضمان نقصان البناء والغراس كما‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٤ - ١٥٥.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « منه ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥.

(٥) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٦) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٣.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510