تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406110 / تحميل: 5175
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ولأنّه لم يغرم سواها.

وبه قال أحمد(١) .

والثاني : أنّه يرجع بالألف ؛ لأنّه قد حصّل براءة ذمّته بما فَعَل ، ومسامحة ربّ الدَّيْن جرت معه(٢) .

ولو باع العبد بألف وتقاصّا ، احتُمل الرجوع بالألف ؛ لأنّه ثبت في ذمّته ألف ، وقيمةِ العبد ؛ لأنّ الضمان وُضع للارتفاق.

والشافعيّة على الأوّل خاصّة(٣) .

مسألة ٥٣٩ : لا فرق بين أن يدفع الأقلّ أو الأكثر في القدر أو الوصف فيما ذكرنا‌ ، فلو ضمن ألفاً مكسّرة ودفع ألفاً صحيحة ، لم يكن له الرجوع إلّا بالمكسّرة ؛ لأنّه تبرّع بالزيادة ، فلا يرجع بها.

ولو انعكس الفرض ، فضمن ألفاً صحيحة وأدّى ألفاً مكسّرة ، لم يكن له الرجوع بالصحيحة إلّا بالمكسّرة ؛ لأنّه إنّما يرجع بما غرم وبالأقلّ من المغروم والمال.

وللشافعيّة فيما إذا أدّى الضامن [ غير ](٤) الأجود قولان :

أحدهما : أنّ فيه الخلاف المذكور في اختلاف الجنس.

والثاني : القطع بأنّه يرجع بما أدّى(٥) .

____________________

(١) المغني والشرح الكبير ٥ : ٨٩ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٣٢.

(٢) نفس المصادر في الهامش (٢) من ص ٣٥٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٠.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصدر له ، حيث إنّ القولين للشافعيّة في الأداء من غير الأجود.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٠.

٣٦١

والفرق أنّ غير الجنس يقع عوضاً ، والمكسّرة لا تقع عوضاً عن الصحاح ، ولا يبقى إلّا رعاية حكم الإيفاء والاستيفاء.

مسألة ٥٤٠ : لو ضمن ألفاً ودفع إليه عبداً قيمته ستمائة ، فقال للمضمون له : بعتُ منك هذا العبد بما ضمنته لك عن فلان ، ففي صحّة البيع وجهان للشافعيّة‌(١) . فإن صحّحنا البيع ، رجع بالأقلّ - عندنا - من المال المضمون ومن قيمة العبد ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

وفي الثاني : يرجع بما ضمنه(٢) .

ولو لم يضمن ، بل أذن له المديون في الأداء بشرط الرجوع لو صالَح ربّ الدَّيْن على غير جنسه ، فهل له الرجوع أو لا؟ للشافعيّة ثلاثة أوجُه :

أصحّها عندهم : أنّ له الرجوعَ ؛ لأنّ مقصوده أن يبرئ ذمَّتَه وقد فَعَل.

وثانيها : ليس له الرجوع ؛ لأنّه إنّما أذن في الأداء دون المصالحة.

وثالثها : الفرق بين أن يقول : أدِّ ما علَيَّ من الدنانير - مثلاً - فلا يرجع ، وبين أن يقتصر على قوله : أدِّ دَيْني ، أو ما علَيَّ ، فيرجع ، ويرجع بما سبق في الضامن(٣) .

مسألة ٥٤١ : لو ضمن عشرة وأدّى خمسة وأبرأه ربُّ المال عن الباقي ، لم يرجع الضامن إلّا بالخمسة التي غرمها‌ ، وتسقط الخمسة الأُخرى عن الأصيل عندنا ؛ لأنّ إبراء الضامن يستلزم إبراء المضمون عنه ، خلافاً للجمهور ؛ فإنّهم قالوا : تبقى الخمسة في ذمّة الأصيل يطالب بها المضمون له ؛ لأنّ إبراء الضامن لا يوجب براءة الأصيل(٤) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٠.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠١.

٣٦٢

ولو صالحه من العشرة على خمسة ، لم يرجع إلّا بالخمسة أيضاً ، لكن يبرأ الضامن والأصيل عن الباقي وإن كان صلح الحطيطة إبراءً في الحقيقة عند الشافعيّة ؛ لأنّ لفظ الصلح يشعر برضا المستحقّ بالقليل عن الكثير ، بخلاف ما إذا صرّح بلفظ الإبراء عندهم(١) .

واعترض بعض الشافعيّة : بأنّ [ لفظ ](٢) الصلح يتضمّن الرضا بالقليل ممّن يجري الصلح معه ، أم على الإطلاق؟ الأوّل مسلَّم ، والثاني ممنوع ، ولم يتّضح لهم الجواب(٣) .

ولو أدّى الضامن جميع الدَّيْن ولم يُبرئه المضمون له من شي‌ء منه ، لكن وهبه الدَّيْن بعد دفعه(٤) إليه ، فالأقرب : أنّ له الرجوع.

وفيه للشافعيّة وجهان مبنيّان على القولين [ فيما لو وهبت المرأة ](٥) الصداق من الزوج ثمّ طلّقها قبل الدخول(٦) . وسيأتي إن شاء الله تعالى.

مسألة ٥٤٢ : لو ضمن ذمّيٌّ لذمّيٍّ دَيْناً عن مسلمٍ ثمّ تصالحا على خمر ، فهل يبرأ المسلم أم لا؟ يحتمل البراءة‌ ؛ لأنّ المصالحة بين الذمّيّين ، وأن لا يبرأ ، كما لو دفع الخمر بنفسه.

وفيه للشافعيّة وجهان ، فإن قالوا بالأوّل ، ففي رجوع الضامن على‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧.

(٤) في « ث ، ج ، ر » : « الدفع » بدل « دفعه ».

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « كما لو وهب ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصادر.

(٦) الحاوي الكبير ٦ : ٤٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، الوسيط ٣ : ٢٤٨ ، حلية العلماء ٥ : ٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ - ١٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٢.

٣٦٣

المسلم وجهان ، إن اعتبروا بما أدّى ، لم يرجع بشي‌ء ، وإن اعتبروا بما أسقط ، يرجع بالدَّيْن(١) .

والوجه عندي : أنّ المضمون عنه يؤدّي أقلّ الأمرين من قيمة الخمر عند مستحلّيه ، ومن الدَّيْن الذي ضمنه.

مسألة ٥٤٣ : لو ضمن الضامنَ ضامنٌ آخَر ، انتقل المال من ذمّة الضامن الأوّل إلى ذمّة الثاني‌ ، وسقطت مطالبة المضمون له عن الأصيل والضامن الأوّل عند علمائنا وجماعةٍ تقدّم(٢) ذكرهم.

وقال أكثر العامّة : لا ينتقل ، بل تبقى الذمم الثلاث مشتركة ، ويصحّ الضمان ؛ لأنّ الحقّ ثابت في ذمّة الضامن ، كما هو ثابت في ذمّة الأصيل ، فإذا جاز أن يضمن عن الأصيل جاز أن يضمن عن الضامن(٣) .

لا يقال : الضمان وثيقة على الحقّ ، فلا يجوز أن يكون له وثيقة ، كما لا يجوز أن يأخذ رهناً بالرهن.

لأنّا نقول : الفرق : أنّ الضمان حقٌّ ثابت في الذمّة ، والرهن حقٌّ متعلّق بالعين ، والرهن لا يصحّ بحقٍّ متعلّقٍ بالعين ، فافترقا.

فإن أدّى الثاني ، فرجوعه على الضامن الأوّل كرجوع الضامن الأوّل على الأصيل ، فيراعى الإذن وعدمه.

وإذا لم يكن له الرجوع على الأوّل ، لم يثبت بأدائه الرجوع للأوّل على الأصيل ؛ لأنّ الضامن إنّما يرجع بما أدّى وغرم ، والضامن الأوّل لم يغرم شيئاً ، فلا يكون له مطالبته بشي‌ء.

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٢٥٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠١.

(٢) في ص ٣٤٢ ، النظر الأوّل من البحث الرابع : في أحكام الضمان.

(٣) المغني ٥ : ٨٣ - ٨٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٨٢ ، وراجع الهامش (٢) من ص ٣٤٤.

٣٦٤

ولو ثبت له الرجوع على الأوّل فرجع عليه ، كان للأوّل الرجوع على الأصيل إذا وجد شرط الرجوع.

ولو أراد الثاني أن يرجع على الأصيل ويترك الأوّل ، فإن كان الأصيل قد قال له : اضمن عن ضامني ، ففي رجوعه عليه للشافعيّة وجهان(١) ، كما لو قال الإنسان : أدِّ دَيْني ، فأدّى ، وليس هذا كقول القائل لغيره : اقض دَيْن فلان ، ففَعَل ، حيث لا يرجع على الآمر ؛ لأنّ الحقّ لم يتعلّق بذمّته.

وإن لم يقل له : اضمن عن ضامني ، فإن كان الحال بحيث لا يقتضي رجوع الأوّل على الأصيل ، لم يرجع الثاني عليه.

وإن كان يقتضيه ، فكذلك على أصحّ الوجهين عندهم ؛ لأنّه لم يضمن عن الأصيل(٢) .

والوجه عندي : أنّه ليس للثاني أن يرجع على الأصيل على كلّ تقدير ، إلّا أن يقول : اضمن عن ضامني ولك الرجوع علَيَّ.

ولو ضمن الثاني عن الأصيل أيضاً ، لم يصح الضمان عندنا إن ضمن للمضمون له ؛ إذ لا مطالبة للمضمون له ، فيكون في الحقيقة ضمان ما لم يجب ، ولا يتحقّق سبب الوجوب. وإن ضمن للضامن ، فالأقوى : الجواز ؛ لوجود سبب الوجوب.

وعند أكثر العامّة يصحّ ضمان الثاني عن الأصيل ؛ لشغل ذمّته وذمّة الضامن الأوّل معاً ، فتتشارك الذمم الثلاث في الشغل ، فحينئذٍ لا يرجع أحد الضامنين على الآخَر ، وإنّما يرجع المؤدّي على الأصيل(٣) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠١.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٦٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠١ ، المغني ٥ : ٨٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٧٣.

٣٦٥

ولو ضمن عن الأوّل والأصيل جميعاً ، لم يصح ضمانه عن الأصيل عندنا.

وعندهم يصحّ ، فإن أدّى ، كان له أن يرجع على أيّهما شاء ، وأن يرجع بالبعض على هذا وبالبعض على ذاك. ثمّ للأوّل الرجوع على الأصيل بما غرم إذا وجد شرط الرجوع(١) .

مسألة ٥٤٤ : لو كان لرجلٍ على اثنين عشرةٌ على كلّ واحدٍ منهما خمسةٌ فضمن كلّ واحدٍ منهما صاحبَه‌ ، فإن أجاز المضمون له الضمانَ ، لم يُفد الضمان شيئاً عندنا في باب المطالبة ؛ لأنّ الضمان عندنا ناقل ، فإذا ضمن كلّ واحدٍ منهما الآخَر ، فقد انتقل ما على كلّ واحدٍ منهما إلى الآخَر وكانا في الدَّيْن كما كانا قبل الضمان ، إلّا أنّه يستفاد بالضمان صيرورة المال الأصلي في ذمّة كلّ واحدٍ منهما منتقلاً إلى ذمّة الآخَر.

ولا نقول : إنّه يبطل الضمان من أصله ؛ لأنّه قد يستفاد منه فائدة ، وهي : لو أدّى أحد الضامنين عن مال الضمان بعضَه ثمّ أبرأه صاحب الدَّيْن من الباقي ، لم يكن له الرجوع على المضمون عنه إلّا بما أدّاه.

وإن لم يأذن لهما المضمون له بالضمان فضمنا ، فإن رضي بضمان أحدهما خاصّةً ، كان الدَّيْنان معاً عليه ، ولم يبق له مطالبة الآخَر ، لكنّ الضامن يرجع على الآخَر إن ضمن بإذنه ، وإلّا فلا.

وعند أكثر العامّة يصحّ ضمان كلٍّ منهما عن صاحبه ، ويبقى كلّ الدَّيْن مشتركاً في ذمّتهما معاً على ما هو أصلهم ، فلربّ المال - عندهم - أن يطالبهما معاً ومَنْ شاء منهما بالعشرة ، فإن أدّى أحدهما جميعَ العشرة ، برئا‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠١ - ٥٠٢.

٣٦٦

معاً ، وللمؤدّي الرجوع بخمسة إن وجد شرط الرجوع. وإن أدّى كلّ واحدٍ منهما خمسةً عمّا عليه ، فلا رجوع ، فإن أدّاها عن الآخَر ، فلكلّ واحدٍ الرجوعُ على الآخَر. ويجي‌ء خلاف التقاصّ.

وإن أدّى أحدهما خمسةً ولم يؤدّ الآخَر شيئاً ، فإن أدّاها عن نفسه ، برئ المؤدّي عمّا كان عليه وصاحبُه عن ضمانه ، وبقي على صاحبه ما كان عليه ، والمؤدّي ضامن له.

وإن أدّاها عن صاحبه ، رجع عليه بالمغروم ، وبقي عليه ما كان عليه(١) ، وصاحبه ضامن له.

وإن أدّاها عنهما ، فلكلٍّ نصفُ حكمه(٢) .

وإن أدّى ولم يقصد شيئاً ، فوجهان عندهم(٣) : التقسيط عليهما ؛ لأنّه لو عيّنه عن كلّ واحدٍ منهما ، وَقَع ، فإذا أطلق اقتضى أن يكون بينهما ؛ لاستوائهما فيه. وأن يقال : اصرفه إلى ما شئت ، كما لو أعتق عبده عن كفّارته وكان عليه كفّارتان ، كان له تعيين العتق عن أيّهما شاء. وكذا في زكاة المالَيْن.

ومن فوائده أن يكون بنصيب أحدهما رهنٌ ، فإذا قلنا : له صرفه إلى ما شاء ، فصَرَفه إلى نصيبه ، انفكّ الرهن ، وإلّا فلا.

ولو اختلفا فقال المؤدّي : أدّيتُ عمّا علَيَّ ، فقال ربّ المال : بل أدّيتَ عن صاحبك ، فالقول قول المؤدّي مع يمينه ، وإنّما أحلفناه ؛ لأنّه قد‌

____________________

(١) كلمة « عليه » لم ترد في « ر ، ث ».

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٢ - ٥٠٣.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٣.

٣٦٧

يتعلّق بهذا فوائد ، وإن كان قد يستحقّ المطالبة بالكلّ ؛ لأنّه قد يكون ثمناً ، فإذا أفلس ، رجع في المبيع ، ويسقط أيضاً عن صاحبه ، فإذا حلف ، برئ عمّا كان عليه ، ولربّ المال مطالبته بخمسة ؛ لأنّه إن كان صادقاً ، فالأصل باقٍ عليه. وإن كان كاذباً ، فالضمان باقٍ.

وقال بعض الشافعيّة : لا مطالبة له ؛ لأنّه إمّا أن يطالب عن جهة الأصالة وقد حكم الشرع بتصديق المؤدّي في البراءة عنها ، أو عن جهة الضمان وقد اعترف ربّ المال بأنّه أدّى عنها.

هذا حكم الأداء ، أمّا لو أبرأ ربّ الدَّيْن أحدهما عن جميع العشرة ، برئ أصلاً وضماناً عندهم ، وبرئ الآخَر عن الضمان دون الأصيل عندهم ؛ لأنّ الدَّيْن عندهم لا يسقط عن المضمون عنه بسقوطه عن الضامن.

وعندنا يسقط.

ولو أبرأ أحدهما عن خمسة ، فإن أبرأه عن الأصيل ، برئ عنه وبرئ صاحبه عن ضمانه ، وبقي عليه ضمان ما على صاحبه. وإن أبرأه عن الضمان ، برئ عنه ، وبقي عليه الأصلُ ، وبقي على صاحبه الأصلُ والضمان.

وإن أبرأه من الخمسة عن الجهتين(١) جميعاً ، سقط عنه نصف الأصل ونصف الضمان ، وعن صاحبه نصفُ الضمان ، ويبقى عليه الأصلُ ونصفُ الضمان فيطالبه بسبعة ونصف ، ويطالب المبرأ عنه بخمسة.

وإن لم يَنْوِ عند الإبراء شيئاً ، فيُحمل على النصف ، أو يُخيّر ليصرف إلى ما شاء؟ فيه الوجهان.

ولو قال المبرئ : أبرأت عن الضمان ، وقال المبرأ عنه : بل عن الأصل ، فالقول قول المبرئ(٢) .

____________________

(١) أي : جهتا الأصالة والضمان.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٣.

٣٦٨

هذا كلّه على مذهب الشافعي ، وقد بيّنّا مذهبنا في صدر المسألة.

مسألة ٥٤٥ : لو كان على زيد عشرة فضمنها اثنان كلّ واحدٍ منهما خمسة ، وضمن أحدهما عن الآخَر وبالعكس ، فقد بيّنّا أنّه بمنزلة عدم الضمان‌ إذا أجاز المضمون له ضمانهما معاً.

وعند أكثر العامّة يصحّ ضمانهما معاً ، فلربّ المال - عندهم - مطالبة كلّ واحدٍ منهما بالعشرة نصفها عن الأصيل ونصفها عن الضامن الآخَر ، فإن أدّى أحدهما جميعَ العشرة ، رجع بالنصف على الأصيل وبالنصف على صاحبه.

وهل له الرجوع بالكلّ على الأصيل إذا كان لصاحبه الرجوعُ عليه إن غرم؟ فيه الوجهان عندهم.

وإن لم يؤدّ إلّا خمسة ، فإن أدّاها عن الأصيل أو عن صاحبه أو عنهما ، ثبت له الرجوع بخمسة(١) .

مسألة ٥٤٦ : لو باع شيئاً وضمن ضامنٌ الثمنَ فهلك المبيع قبل القبض‌ ، أو وجد به عيباً فردّه ، أو ضمن الصداق فارتدّت المرأة قبل الدخول ، أو فسخت بعيبٍ ، فإن كان ذلك قبل أن يؤدّي الضامن ، برئ الضامن والأصيل.

وإن كان بعده فإن كان بحيث يثبت له الرجوع ، رجع بالمغروم على الأصيل ، ورجع الأصيل على ربّ المال بما أخذ إن كان هالكاً ، وإن كان باقياً ، ردّ عينه.

وهل له إمساكه وردّ بدله؟ فيه خلاف مأخوذ ممّا إذا ردّ المبيع بعيبٍ‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٢.

٣٦٩

وعين الثمن عند البائع ، فأراد إمساكه وردّ مثله.

والأصحّ : المنع ، وبه قال الشافعي(١) .

ولو كان الذي دفعه الضامن أجود أو أزيد ، فالأقرب : أنّه ليس للأصيل أخذُ الزيادة.

وإنّما يغرم ربّ المال للأصيل دون الضامن ؛ لأنّ في ضمن الأداء عنه إقراضه وتمليكه إيّاه.

وإن كان بحيث لا يثبت له الرجوع ، فلا شي‌ء للضامن على الأصيل ، وعلى المضمون له ردّ ما أخَذَه.

وعلى مَنْ يردّ؟ فيه احتمال أن يردّه على الضامن ، أو على الأصيل. وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المتبرّع بالصداق إذا طلّق الزوج قبل الدخول.

مسألة ٥٤٧ : لو كان لرجلٍ على آخَر دَيْنٌ فادّعى صاحبُ الدَّيْن على آخَر بأنّه ضمنه له على المديون‌ ، فأنكر الضامن الضمانَ ، سقط حقّ ربّ المال عن الأصيل عندنا ؛ لانتقال المال عن ذمّته إلى ذمّة الضامن ، خلافاً لأكثر العامّة(٢) .

ثمّ مدّعي الضمان إن لم تكن له بيّنة فأحلف الضامن على أنّه لم يضمن ، سقط ما لَه ، أمّا عن الضامن : فلبراءته باليمين ، وأمّا عن الأصيل : فلاعترافه ببراءة ذمّته بالضمان.

وإن كان له بيّنة فأقامها على الضامن بالضمان ، ثبت له عليه المطالبة ، فإذا رجع عليه بالمال ، رجع الضامن على الأصيل وإن كان قد كذّب المدّعي‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٢.

(٢) راجع الهامش (٢) من ص ٣٤٤.

٣٧٠

للضمان ؛ لأنّ البيّنة أبطلت حكم إنكاره ، فكأنّه لم ينكره.

وهذا كما لو اشترى عيناً فادّعى آخَر أنّها ملكه وأنّ بائعها غصبها منه ، فقال المشتري في جوابه : إنّها ملك بائعي وليس لك فيها حقٌّ ، وإنّها اليوم ملكي ، فأقام المدّعي البيّنة ، فإنّ المشتري يرجع على البائع وإن أقرّ له بالملك.

وكذا لو باع عيناً على رجل وادّعى على آخَر أنّه ضمن الثمن عن المشتري وأقام على ذلك بيّنةً وأخذ الثمن من الضامن ، يرجع الضامن على الأصيل.

واعترض بعض الشافعيّة : بأنّ البيّنة إنّما تُقام عند الإنكار ، وإذا أنكر كان مكذّباً للبيّنة زاعماً أنّ صاحب المال ظالم فيما أخذ منه ، فكيف يرجع على الأصيل بما ظلمه به والمظلوم إنّما يرجع على ظالمه!؟(١) .

والجواب : نمنع أنّ البيّنة إنّما تُقام عند الإنكار ، بل يجوز أن يُقرّ الضامن وتقام البيّنة للإثبات على الأصيل.

سلّمنا أنّه لم يُقرّ ، لكنّ البيّنة لا تستدعي الإنكار بخصوصه ، بل يكفي الإنكار وما يقوم مقامه كالسكوت ، فربما كان ساكتاً.

سلّمنا استدعاءها الإنكار ، لكنّها لا تستدعي الإنكار منه بخصوصه ، بل يكفي صدور الإنكار من وكيله في الخصومات ، فلعلّ البيّنة أُقيمت في وجه وكيله المنكر.

سلّمنا أنّه أنكر ، لكنّه ربما أنكر الضمان وسلّم البيع ، وهذا الإنكار لو مَنَع لكان مانعاً للرجوع بجهة غرامة المضمون.

وجائزٌ أن يكون هذا الرجوع باعتبار أنّ المدّعي ظَلَمه بأخذ ما على الأصيل منه ، وللظالم مثل المأخوذ على الغائب ، فيأخذ حقّه ممّا عنده.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٠.

٣٧١

أمّا لو وجد منه التكذيب القاطع لكلّ الاحتمالات ، فأصحّ وجهي الشافعيّة أنّه يمنع من الرجوع(١) .

وقيل : لا يمنع(٢) على ما اخترناه أوّلاً.

البحث الخامس : في اللواحق.

مسألة ٥٤٨ : كلّ موضعٍ قلنا فيه بأنّ المأذون له في الأداء أو الضامن يرجع على الآذن والمضمون عنه بما غرم‌ فإنّما هو مفروض فيما إذا أشهد المؤدّي أو الضامن على الأداء شهادةً يثبت بها الحكم ، سواء أشهد رجلين أو رجلاً وامرأتين.

ولو أشهد واحداً اعتماداً على أن يحلف معه ، فالوجه : الاكتفاء ؛ لأنّ الشاهد مع اليمين حجّة في نظر الشرع ، كافية لإثبات الأداء ، عند أكثر العلماء(٣) ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّه لا يكفي ؛ لأنّهما قد يترافعان إلى حنفيٍّ لا يقضي بالشاهد واليمين ، فكان ذلك ضرباً من التقصير(٤) .

وإنّما تنفع الشهادة ما إذا أشهد عَدْلين أو عَدْلاً وامرأتين ثقتين أو عَدْلاً واحداً على الخلاف.

ولو أشهد فاسقين مشهورين بالفسق ، لم يكف ، وكان مقصّراً.

ولو أشهد مستورين فبانا فاسقين ، فالأقرب : الاكتفاء ؛ إذ يمتنع الاطّلاع على البواطن ، فكان معذوراً ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٠.

(٣) المغني ١٢ : ١١ ، الشرح الكبير ١٢ : ٩٤.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٥٠ ، الوسيط ٣ : ٢٥٣ ، حلية العلماء ٥ : ٨٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٠ - ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

٣٧٢

وفي الثاني : لا يكفي ، ويكون بمنزلة مَنْ لم يُشهد ؛ لأنّ الحقّ لا يثبت بشهادتهما(١) .

وهو غلط ، كما لو فسقا بعد الإشهاد والأداء.

ولا تكفي شهادة مَنْ يُعرف ظعنه(٢) عن قريبٍ ؛ لأنّه لا يفضي إلى المقصود.

أمّا إذا أدّى من غير إشهادٍ ، فإن كان الأداء في غيبة الأصيل ، فهو مقصّر بترك الإشهاد ؛ إذ كان من حقّه الاحتياط وتمهيد طريق الإثبات. وإن كان بحضوره ، فلا تقصير.

مسألة ٥٤٩ : لو جحد ربّ الدَّيْن أداء الضامن إليه ، وادّعاه الضامن ، ولا بيّنة ، فإن كذّب الأصيل الضامنَ في الدفع ، لم يرجع عليه‌ ، فإذا حلف ربّ الدَّيْن ، أخذ من الضامن ثانياً ، ويرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه ثانياً ، إلّا أن يكون الذي أدّاه أوّلاً أقلَّ مقداراً أو أقلَّ صفةً وادّعى رضاه به ، فإنّه يرجع بما أدّاه أوّلاً.

وإن صدّقه الأصيل ، فالأقوى : رجوع الضامن عليه بما أدّاه أوّلاً إن ساوى الحقّ أو قصر عنه ، لا بما يؤدّيه ثانياً بحلف المضمون له ، ويؤدّي الضامن إلى المضمون له ثانياً لحلفه.

وللشافعيّة فيه وجهان ، هذا أحدهما.

والثاني : أنّه ليس له الرجوع بما أدّاه أوّلاً وصدّقه عليه ؛ لأنّه لم يؤدّ بحيث ينتفع به الأصيل ، فإنّ ربّ المال منكر ، والمطالبة بحالها(٣) .

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٢٥٣ ، حلية العلماء ٥ : ٨٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

(٢) ظعن : سار. الصحاح ٦ : ٢١٥٩ « ظعن ». والمراد هنا السفر.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

٣٧٣

ولا بأس به عندي.

فعلى هذا القول لو كذّبه الأصيل هل يحلف؟ قال بعض الشافعيّة : يبنى على أنّه لو صدّقه هل يرجع عليه؟ إن قلنا : نعم ، حلّفه على نفي العلم بالأداء. وإن قلنا : لا يرجع ، يبنى على أنّ النكولَ وردَّ اليمين كالإقرار ، أو كالبيّنة؟ إن قلنا بالأوّل ، لم يحلّفه ؛ لأنّ غايته أن ينكل فيحلف الضامن ، فيكون كما لو صدّقه ، وذلك لا يفيد الرجوع. وإن قلنا بالثاني ، حلّفه طمعاً في أن ينكل فيحلف(١) ، فيكون كما لو أقام البيّنة(٢) .

ولو كذّبه الأصيل وصدّقه ربّ المال ، فالأقوى : أنّه يرجع على الأصيل ؛ لسقوط المطالبة بإقراره ، وإقراره أقوى من البيّنة مع إنكاره ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة.

والثاني : أنّه لا يرجع ، ولا ينهض قول ربّ المال حجّةً على الأصيل(٣) .

ولو أدّى في حضور الأصيل ، قال بعض الشافعيّة : إنّه لا يرجع(٤) ، كما لو ترك الإشهاد في غيبته(٥) .

وظاهر مذهب الشافعي : أنّه يرجع(٦) ؛ لأنّه حال الغيبة مستبدّ بالأمر ، فعليه الاحتياط والتوثيق بالإشهاد ، وإذا كان الأصيل حاضراً ، فهو أولى بالاحتياط ، والتقصير بترك الإشهاد في حضوره مستند إليه(٧) .

مسألة ٥٥٠ : إذا توافق الأصيل والضامن على أنّ الضامن أشهد بالأداء‌

____________________

(١) في « ج ، ر » والمصدر : « ويحلف ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إنّه يرجع ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أنّه لا يرجع ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

٣٧٤

ولكن مات الشهود أو غابوا ، ثبت له الرجوع على الأصيل ؛ لاعترافه بأنّ الضامن أتى بما عليه من الإشهاد والتوثيق ، والموت والغيبة ليسا إليه ، وهو قول الشافعي(١) .

ونَقَل الجويني وجهاً بعيداً : أنّه لا يرجع ؛ إذ لم ينتفع بأدائه ، فإنّ القولَ قولُ ربّ المال في نفي الاستيفاء(٢) .

ولو ادّعى الضامنُ الإشهادَ ، وأنكر الأصيلُ الإشهادَ ، فالقولُ قولُ الأصيل مع اليمين ؛ لأصالة عدم الإشهاد ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ القولَ قولُ الضامن ؛ لأنّ الأصل عدم التقصير. ولأنّه قد يكون صادقاً ، وعلى تقدير الصدق يكون منعه من الرجوع إضراراً ، فليصدَّق ؛ للضرورة ، كما يصدَّق الصبي في دعوى البلوغ ؛ إذ لا يُعرف إلاّ من جهته(٣) .

ولو قال : أشهدت فلاناً وفلاناً ، وكذّباه ، فهو كما لو لم يُشهد.

ولو قالا : لا ندري وربما نسيناه ، احتُمل تصديقه وتكذيبه.

ولو أقام بيّنةً على الشاهدين بأنّهما أقرّا بالشهادة ، فالأقوى : السماع.

وإذا لم يُقم بيّنةً على الأداء وحلف ربّ المال ، بقيت مطالبته بحالها ، فإن أخذ المال من الأصيل ، فذاك. وإن أخذه من الضامن مرّةً أُخرى ، لم يرجع بهما ؛ لأنّه مظلوم بإحداهما ، فلا يرجع إلّا على مَنْ ظَلَمه.

وفي قدر رجوعه للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه لا يرجع بشي‌ء ، أمّا بالأوّل(٤) : فلأنّه قصّر عند أدائه بترك الإشهاد. وأمّا بالثاني(٥) : فلاعترافه بأنّه مظلوم به.

والأظهر عندهم : أنّه يرجع ؛ لأنّه غرم لإبراء ذمّته(٦) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨١ - ١٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٤.

(٤ و ٥) أي : المبلغ الأوّل المبلغ الثاني.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٥.

٣٧٥

وعلى هذا [ هل ](١) يرجع بالأوّل ؛ لأنّه المبرئ للذمّة ، أو بالثاني ؛ لأنّه المسقط للمطالبة؟ فيه لهم وجهان(٢) .

مسألة ٥٥١ : إذا ضمن المريض في مرض موته ، فإن كان على وجهٍ يثبت له الرجوع ووجد الضامن مالاً يرجع فيه ، فالضمان صحيح‌ ، يُخرج من صلب المال ؛ لأنّه عقد شرعيّ ناقل للمال ولم يوجد تبرّعٌ من المريض ، فكان ماضياً من الأصل.

وإن كان الضمان متبرَّعاً به غير متضمّن للرجوع ، أو كان بالسؤال وله الرجوع ، لكن لم يجد مالاً يرجع فيه ، بأن يموت الأصيل معسراً ، فهذا الضمان من الثلث ؛ لأنّه تبرّعٌ محضٌ ، فلا ينفذ في أكثر من الثلث. فإذا ضمن المريض تسعين درهماً عن رجلٍ بأمره ، ولا مال للمريض سوى التسعين ومات الأصيل ولم يترك إلاّ نصف التسعين ومات الضامن ، دَخَلها الدور.

وتقريره أن نقول : إذا وفت التركة بثلثي الدَّيْن ، فلا دَوْر ؛ لأنّ صاحب الحقّ إن أخذ الحقَّ من تركة الضامن ، رجع ورثته بثلثي الدَّيْن في تركة الأصيل. وإن أخذ تركة الأصيل وبقي شي‌ء ، أخذه من تركة الضامن ، ويقع تبرّعاً ؛ لأنّ ورثة الضامن لا يجدون مرجعاً.

وإن لم تف التركة بالثلثين - كما في هذه الصورة - فقد ثبت الدَّوْر.

وتحقيقه أن نقول : صاحب الحقّ بالخيار إن شاء أخذ تركة الأصيل بتمامها ، وحينئذٍ فلا دَوْر أيضاً ، وله مطالبة ورثة الضامن بثلاثين درهماً ، ويقع تبرّعاً ؛ إذ لم يبق للأصيل تركة حتى يُفرض فيها رجوعٌ.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٥.

٣٧٦

فإن أراد الأخذ من تركة الضامن ، لزم الدَّوْر ؛ لأنّ ما يغرمه ورثة الضامن يرجع إليهم بعضُه من جهة أنّه يصير المغروم دَيْناً لهم على الأصيل يتضاربون به مع صاحب الحقّ في تركته ، ويلزم من رجوع بعضه زيادة التركة ، ومن زيادة التركة زيادة المغروم ، ومن زيادة المغروم زيادة الراجع.

وطريق معرفته أن يقال : يأخذ صاحب الحقّ من ورثة الضامن شيئاً ، ويرجع إليهم مثل نصفه ؛ لأنّ تركة الأصيل نصف تركة الضامن ، فيبقى عندهم تسعون إلّا نصف شي‌ء ، وهي تعدل مِثْلَي ما تلف بالضمان ، والتالف نصف شي‌ء ، فمِثْلاه شي‌ءٌ ، فإذَنْ تسعون إلّا نصف شي‌ء يعدل شيئاً ، فإذا جبرنا وقابلنا ، عدلت تسعون شيئاً ونصف شي‌ء ، فيكون الشي‌ء ستّين ، فبانَ لنا أنّ المأخوذ ستّون ، وحينئذٍ تكون الستّون دَيْناً لهم على الأصيل ، وقد بقي لصاحب الحقّ ثلاثون ، فيضاربون في تركته بسهمين وسهمٍ ، وتركته خمسة وأربعون يأخذ منها الورثة ثلاثين ، وصاحب الحقّ خمسةَ عشر ، ويعطّل باقي دَيْنه ، وهو خمسة عشر ، فيكون الحاصل للورثة ستّين ، ثلاثون بقيت عندهم ، وثلاثون أخذوها من تركة الأصيل ، وذلك مِثْلا ما تلف ووقع تبرّعاً ، وهو ثلاثون.

ولو كانت المسألة بحالها لكن تركة الأصيل ثلاثون ، قلنا : يأخذ صاحب الحقّ شيئاً ، ويرجع إلى ورثة الضامن مثل ثلثه ؛ لأنّ تركة الأصيل ثلث تركة الضامن ، فيبقى عندهم تسعون ناقصةً ثلثَي شي‌ء تعدل مثْلَي المتلف بالضمان ، وهو ثلثا شي‌ء ، فمِثْلاه شي‌ء وثلث ، فإذَنْ تسعون إلاّ ثلثَي شي‌ء تعدل شيئاً وثلثاً ، فيُجبر ويُقابل ، عدلت تسعون شيئين ، فالشي‌ء خمسة وأربعون ، وذلك ما أخذه صاحب الحقّ ، وصار دَيْناً لورثة الضامن على الأصيل ، وبقي لصاحب الحقّ عليه خمسة وأربعون أيضاً ، فيتضاربون‌

٣٧٧

في تركته بسهمٍ وسهمٍ ، فيجعل بينهما نصفين.

ولو كانت تركة الأصيل ستّين ، فلا دَوْر ، بل لصاحب الحقّ أخذ تركة الضامن كلّها بحقّ الرجوع ، ويقع الباقي تبرّعاً.

ولو كانت المسألة بحالها وكان قد ضمن عن الضامن ضامنٌ ثانٍ ومات الضامن الثاني ولم يترك إلّا تسعين درهماً أيضاً ، كان لصاحب الحقّ أن يطالب ورثة أيّهما شاء.

فإن طالَب به ورثة الضامن الأوّل ، قال بعض الشافعيّين : كان كالمسألة الأُولى يأخذ ستّين ، ومن ورثة مَنْ كان عليه أصل المال خمسةَ عشر ، ويرجع ورثة الضامن على ورثة الذي كان عليه الحقُّ بثلاثين(١) .

وإن طالَب ورثة الضامن الثاني ، أخذ منهم سبعين درهماً ، ومن ورثة مَنْ كان عليه الأصلُ خمسةَ عشر ، ويرجع ورثة الضامن الثاني على الضامن الأوّل بأربعين درهماً ، ويرجع الضامن الأوّل في مال مَنْ عليه أصلُ الحقّ بثلاثين.

وإنّما كانت هذه المسألة كالأُولى فيما إذا طالَب ورثة الضامن الأوّل ؛ لأنّه لا يأخذ منهم إلّا ستّين ، ويأخذ من تركة الأصيل خمسةَ عشر ، كما في الصورة السابقة ، لكن لا يتلف من ماله شي‌ء هنا ، بل يطالب بالباقي - وهو خمسة عشر - ورثة الضامن.

وأمّا إذا طالَب ورثة الضامن الثاني ، فقد غلّطه جماعة الشافعيّة في قوله من جهة أنّه أتلف من مال الثاني ثلاثين ؛ لأنّه أخذ منهم سبعين ، وأثبت لهم الرجوع بأربعين ، وكان الباقي عندهم عشرين ، فالمجموع ستّون ، ولم يتلف من مال الأوّل إلّا عشرة ؛ لأنّه أخذ منهم أربعين ، وأثبت لهم‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٣.

٣٧٨

الرجوع بثلاثين ، ومعلومٌ أنّ الضامن الثاني إنّما ضمن تسعين عمّن يملك تسعين ، والأوّل ضمن تسعين عمّن يملك خمسةً وأربعين ، فكيف يؤخذ من الثاني أكثر ممّا يؤخذ من الأوّل!؟(١) .

واختلفت الشافعيّة في الجواب.

فقال الأُستاذ أبو إسحاق(٢) : يأخذ صاحب الحقّ من ورثة الضامن خمسةً وسبعين ، ويرجعون بمثلها على ورثة الأوّل ، ويرجع [ ورثة ](٣) الأوّل على ورثة الأصيل بتركته ، وهي خمسة وأربعون ، فيكون جملة ما معهم ستّين : خمسة عشر من الأصل ، والباقي من العوض ، وذلك مِثْلا الثلاثين التالفة عليهم ، ولم يثبت لصاحب الحقّ مطالبة ورثة الثاني بكمال الدَّيْن(٤) .

وقال الأكثر : له مطالبة ورثة الثاني بجميع الدَّيْن ، ثمّ هُمْ يرجعون على ورثة الأوّل بخمسة وسبعين ، ويتلف عليهم خمسة عشر ؛ للضرورة ، ويرجع ورثة الأوّل على ورثة الأصيل بتركته ، كما ذكره الأُستاذ(٥) .

قال الجويني : كأنّ الأُستاذ اعتقد أنّ ضمان الأوّل لم يصح إلاّ في قدرٍ لو رجع معه في تركة الأصيل لما زاد التالف من تركته على ثلثها ، وإذا لم يصح ضمانه فيما زاد ، لم يصح ضمان الثاني عنه ، وإلّا دارَ(٦) .

قالوا : إنّما لا يؤخذ أكثر من الثلث لحقّ الورثة ، لكنّه صحيح في الجميع متعلّق بالذمّة ، فيكون ضمان الثاني عنه فيما زاد كالضمان عن المعسر(٧) ‌.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٤.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر : « أبو منصور ».

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤ - ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٤.

٣٧٩

ويجب أن يكون هذا الخلاف جارياً في مطالبتهم بتتمّة التسعين إذا طالب أوّلاً ورثة الضامن الأوّل وإن [ لم ](١) يُذكر ثَمَّ. وإن أخذ المستحقّ أوّلاً بتركة الأصيل ، برئ الضامنان عن نصف الدَّيْن.

ثمّ المستحقّ - على جواب الأكثرين - إن شاء أخذ من ورثة الأوّل ثلاثين ، ومن ورثة الثاني خمسةَ عشر ، وإن شاء أخذ الكلَّ من ورثة الثاني وهُمْ يرجعون على ورثة الأوّل بثلاثين ، فيصل إلى تمام حقّه بالطريقين.

وعلى جواب الأُستاذ ليس له من الباقي إلّا ثلاثون ، إن شاء أخذها من ورثة الأوّل ولا رجوع ، وإن شاء أخذها من ورثة الثاني ، وهُمْ يرجعون بها على ورثة الأوّل(٢) .

مسألة ٥٥٢ : يجوز ترامي الضمان لا إلى غايةٍ معيّنة.

وهل يجوز دَوْرُه بأن يضمن ضامن رجلاً على دَيْنٍ ثمّ يضمن الرجل المضمون الضامنَ على ذلك الدَّيْن بعينه؟ مَنَع منه الشافعيّة ؛ لأنّ الضامن فرع المضمون عنه ، فلا يجوز أن يكون أصلَه(٣) .

وفيه عندي نظر.

أمّا لو ضمن غيرَ ذلك الدَّيْن ، فإنّه يجوز قطعاً ؛ لأنّ الأصل في شي‌ءٍ قد يكون فرعاً لفرعه في شي‌ءٍ آخَر.

وكذا لو تبرّع الضامن بالضمان ، فإنّ الحقّ يثبت في ذمّته ، وتبرأ ذمّة المضمون عنه عندنا ، فيجوز حينئذٍ للمضمون عنه أن يضمن الضامنَ.

فلو كان له على اثنين عشرةٌ على كلّ واحدٍ منهم خمسةٌ ، فضمن كلّ واحدٍ صاحبَه فضمن ثالثٌ عن أحدهما العشرةَ وقضاها ، سقط الحقّ‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٤.

(٣) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٤.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510