تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء7%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 405783 / تحميل: 5165
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

باطلة ؛ لأنّ مَنْ بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد في الخصومات ، والكفيل فرع المكفول ببدنه ، فإذا لم يجب عليه الحضور ، لا يمكن إيجاب الإحضار على الكفيل(١) .

وهو حسن.

مسألة ٥٧٠ : كلّ مَنْ يستحقّ عليه الحضور إلى مجلس الشرع تجوز كفالته‌ ، فتصحّ كفالة مَن ادّعى عليه وإن لم تقم البيّنة عليه بالدَّيْن وإن جحد ؛ لاستحقاق الحضور عليه.

والأصل فيه : أنّ المنكر يجب عليه فصل الخصومة ، فإذا رضي بتأخيرها ، صحّت الكفالة عليه وإن كانت الكفالة في نفسها ليست لازمةً إذا طلب الفصل في الحال.

وأمّا كفالة الحقّ فالحقّ الذي يُدّعى على المكفول ببدنه إن ثبت بإقراره أو بالبيّنة ، فلا خلاف في صحّة الكفالة ببدنه.

وإن(٢) لم يثبت لكن ادّعى المدّعي عليه ، فإن لم ينكر ولم يصدِّق بل سكت ، صحّت الكفالة أيضاً.

وإن أنكر ، صحّت الكفالة أيضاً ؛ لأنّ الحضور مستحقّ(٣) عليه ، فجاز [ التزام ](٤) إحضاره ، ومعظم الكفالات إنّما تتّفق قبل ثبوت الحقوق ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : البطلان ؛ لأنّ الأصل براءة ذمّة المكفول ، وقد تأيّد ذلك بصريح الإنكار ، والكفالة ببدن مَنْ لا حقّ عليه باطلة(٥)

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧.

(٢) في « ث ، ر » : « فإن ».

(٣) في الطبعة الحجريّة : « يستحقّ ».

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إلزام ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧.

٤٠١

والأوّل أقوى.

إذا عرفت هذا ، فإنّ الكفالة وإن صحّت لكن ليس للمدّعي قبل ثبوت دعواه إلزام الغريم بكفيلٍ على الحضور ، كما ليس له إلزامه بكفيلٍ على المال ، لكن لو كفله شخص على الحضور قبل ثبوت الدعوى ، صحّ.

إذا ثبت هذا ، فإنّ الكفالة تصحّ ببدن الغائب والمحبوس وإن تعذّر تحصيل الغرض في الحال ، كما يجوز من المعسر ضمان المال ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أبو حنيفة : لا تجوز(٢) .

وتصحّ كفالة مَنْ يُدّعى(٣) عليه الكفالة ، وكذا مَنْ يُدّعى عليه القصاص والحدّ ؛ لأنّ الحدّ وإن لم تصحّ الكفالة عليه فإنّه تصحّ الكفالة ببدن مَنْ يُدّعى عليه الحدّ ؛ لوجوب حضوره عند الحاكم ليثبت المدّعي عليه حقّه بالبيّنة أو الإقرار.

مسألة ٥٧١ : إذا عيّن الكفيل في كفالته مكانَ التسليم ، تعيّن ، ولم يجب عليه تسليمه في غير ذلك المكان‌ ، سواء كان أرفق له أو لا.

ولو طلب ذلك المكفولُ له ، لم تجب له إجابته.

وإن أطلق ، فالأقرب : وجوب تسليمه في موضع العقد ؛ لأنّه المفهوم عند الإطلاق.

وقال بعض الشافعيّة : إنّ فيه قولين ، كما لو أطلق السَّلَم ولم يعيّن‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٩.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « ادّعي » بدل « يدّعى ».

٤٠٢

مكان التسليم(١) .

وقال الجويني : يُحمل على مكان الكفالة ، ولا يجي‌ء فيه ذلك الخلاف(٢) .

وعلى كلّ تقدير فالأقوى جواز الإطلاق ، وحمله على مكان العقد ، وقد بيّنّا أنّه إذا عيّن المكان أو أطلق وحملنا الإطلاق على موضع العقد فأحضره في غيره ، لم يلزمه تسلّمه ، سواء كان عليه مئونة أو مشقّة في حمله إلى المعيّن أو لا.

وقال الشافعي : إن كان عليه مؤونة أو مشقّة في حمله إلى الموضع الذي عيّنه ، لم يلزمه تسلّمه ، وإن لم يكن عليه في ذلك ضرر ، لزمه قبوله(٣) .

وحكى أبو العباس ابن سريج فيه وجهين(٤) .

والحقّ ما قلناه من أنّه لا يبرأ بالتسليم في غير المعيّن ، وبه قال أبو يوسف ومحمّد(٥) .

وقال بعض العامّة : إن أحضره بمكانٍ آخَر من البلد وسلّمه ، برئ من الكفالة(٦) .

وقال بعضهم : متى أحضره في أيّ مكانٍ كان وفي ذلك الموضع‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٨٠.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٨١.

(٥) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٤٥ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٢ ، المبسوط - للسرخسي - ١٩ : ١٦٦ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٢ ، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٥٧ ، المغني ٥ : ٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٣.

(٦) المغني ٥ : ٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٣.

٤٠٣

سلطان ، برئ من الكفالة ؛ لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحكم ، ويمكن إثبات الحجّة فيه(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه سلّم ما شرط تسليمه في مكانٍ في غير ذلك المكان ، فلم يبرأ بهذا التسليم ، كما لو أحضر المُسْلَم فيه في غير المكان المشترط. ولأنّه قد سلّمه في موضعٍ لا يقدر على إثبات الحجّة فيه إمّا لغيبة شهوده ، أو لعدم(٢) معرفة الحاكم وأهل بلده بحالهم(٣) أو غير ذلك ، وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه.

إذا عرفت هذا ، فإنّ الكفيل إذا أتى بالمكفول [ به ] في غير الموضع ، لم يلزم المكفول له قبوله ، لكن يجوز له قبوله ، وله أن يمتنع وإن لم يكن له غرض ، خلافاً للشافعي(٤) ، كما تقدّم ، أو كان(٥) بأن كان قد عيّن مجلس الحكم أو بقعة يجد فيها مَنْ يعينه على خصمه.

مسألة ٥٧٢ : إذا دفع الكفيلُ المكفولَ ببدنه إلى المكفول له من غير حائلٍ من يد سلطان أو شبهه ، بل تسليماً تامّاً ، لزمه قبوله‌ ، أو إبراء ذمّة الكفيل من الكفالة ، فإن امتنع ، دَفَعه إلى الحاكم وسلّمه إليه ليبرأ. وإن لم يجد حاكماً ، أشهد عَدْلين بإحضاره إلى المكفول له وامتناع المكفول له.

والأقوى : أنّه يكفي الإشهاد على الامتناع ، وأنّه سلّمه إليه فلم يتسلّمه ، ولا يجب دفعه إلى الحاكم ؛ لأنّ مع وجود صاحب الحقّ لا يلزمه دَفْعه إلى مَنْ ينوب عنه من حاكمٍ أو غيره.

____________________

(١) المغني ٥ : ٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٣.

(٢) في « ث ، ج » : « عدم ».

(٣) أي : حال الشهود.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٩.

(٥) أي : كان له غرض.

٤٠٤

وللشافعيّة القولان(١) .

ويبرأ الكفيل بتسليم المكفول [ به ] في المكان الذي وجب التسليم فيه ، سواء طلبه المستحقّ أو لم يطلبه بل أتاه به ، بشرط أن لا يكون هناك حائل من يد سلطانٍ ومتغلّبٍ وحبسٍ بغير حقٍّ لينتفع بتسليمه ويطالب الخصم.

ولو كان المكفول [ به ] محبوساً في حبس ظالمٍ ، لم يكن له أن يسلّمه إليه محبوساً ، ولا يبرأ بذلك ، ولا يلزمه أن يتسلّمه محبوساً ؛ لأنّ ذلك الحبس يمنعه من استيفاء حقّه(٢) .

وإن كان محبوساً عند الحاكم فسلّمه إليه محبوساً ، لزمه تسلّمه ، وبرئ الكفيل من الكفالة ؛ لأنّ حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقّه ، لإمكان إحضاره ومطالبته بالحقّ ، فإذا طالَب الحاكم بإحضاره ، أحضره بمجلسه ، وحَكَم بينهما ، فإذا فرغت الحكومة ، ردّه إلى الحبس بالحقّ الأوّل.

وإن توجّه عليه حقّ المكفول له ، حَبَسه بالحقّ الأوّل وحقّ المكفول له ، ومن أيّهما خلص بقي محبوساً على الآخَر.

فروع :

أ - لو ارتدّ المكفول به ولحق بدار الحرب ، لزم الكفيل إحضاره إن تمكّن منه ، وإلّا فلا‌. وكذا المحبوس عند غير الحاكم.

ب - لا يُشترط تسليم المكفول به من الكفيل في براءة ذمّة الكفيل‌ ،

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٧٩.

(٢) في « ث ، خ ، ر » والطبعة الحجريّة : « من الاستيفاء بحقّه ».

٤٠٥

بل لو جاء المكفول به وسلّم نفسه إلى المكفول له تسليماً تامّاً ، برئ الكفيل من الكفالة ؛ لأنّ القصد ردّه إلى المكفول له ، فلا فرق بين حصوله في يده بالكفيل أو بغيره نائباً عنه.

ج - لو أخذ المكفولُ له المكفولَ به إمّا طوعاً أو كرهاً وأحضره مجلس الحكم‌ ، برئ الكفيل من الكفالة ؛ لما تقدّم.

د - لو حضر المكفول به وقال : سلّمت نفسي إليك عن جهة الكفيل ، برئ الكفيل‌ ، كما يبرأ الضامنُ بأداء الأصيل الدَّيْنَ.

ولو لم يُسلّمه نَفْسَه عن جهة الكفيل ، لم(١) يبرأ الكفيل ؛ لأنّه لم يسلّمه إليه ولا أحد من جهته ، حتى قال بعض الشافعيّة : لو ظفر به المكفول له في مجلس الحكم وادّعى عليه ، لم يبرأ الكفيل(٢) .

وليس بجيّد ، والوجه : ما قلناه أوّلاً.

ه- لو سلّمه أجنبيّ لا عن جهة الكفيل ، لم يبرأ الكفيل.

ولو(٣) سلّمه عن جهة الكفيل ، فإن كان بإذنه ، فهو كما لو سلّمه بنفسه ؛ إذ لا تُشترط المباشرة. وإن كان بغير إذنه ، لم يجب على المكفول له القبولُ ؛ إذ لا يجب عليه قبض الحقّ إلاّ ممّن عليه. لكن لو قَبِل ، برئ الكفيل.

مسألة ٥٧٣ : لو تكفّل واحد ببدن رجلٍ لاثنين فسلّمه(٤) إلى أحدهما ، لم يبرأ من كفالة الآخَر‌ ، فإنّ العقد مع اثنين بمنزلة العقدين ، فهو كما لو‌

____________________

(١) في « ج ، ر » والطبعة الحجريّة : « لا » بدل « لم ».

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٨ - ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٣ - ١٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٩.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « وإن » بدل « ولو ».

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فسلّم ». والظاهر ما أثبتناه.

٤٠٦

تكفّل لكلّ واحدٍ منهما به على الانفراد ، وكما لو ضمن دَيْنين لشخصين فأدّى دَيْن أحدهما ، لم يبرأ من دَيْن الآخَر.

ولو كفل رجلان برجلٍ لرجلٍ ، صحّت الكفالة ، كما يصحّ أن يضمن اثنان واحداً. فإن ردّه أحدهما إلى المكفول له ، فهل يبرأ الآخَر؟ الأقرب : البراءة ، كما لو أدّى الدَّيْنَ أحدُ الضمناء ، برئ الباقون ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني لهم : أنّهما إن كفلا على الترتيب ، وقع تسليمه عن المُسلِّم دون صاحبه ، سواء قال : سلّمتُ عن صاحبي ، أم لم يقل(١) .

وإن كفلا معاً ، فوجهان.

قال المزني : يبرأ المسلِّم والآخَر أيضاً ، كالضامنين إذا أدّى أحدهما.

وقال ابن سريج والأكثر : لا يبرأ ، كما لو كان بالدَّيْن رهنان فانفكّ أحدهما ، لا ينفكّ الآخَر ، بخلاف ما إذا أدّى أحد الضامنين الدَّيْنَ ، فإنّه يوجب براءة الأصيل ، وإذا برئ الأصيل برئ كلّ ضامنٍ ، وهنا سقطت الوثيقة عن أحدهما مع بقاء الحقّ(٢) .

ولو كفل اثنان بواحدٍ وكفل كلٌّ من الكفيلين ببدن صاحبه ، صحّت الكفالات كلّها ؛ لأنّ كلّ مكفولٍ هنا عليه حقٌّ. فعلى ما قلناه إذا أحضر أحدُهما المكفولَ به وسلّمه ، يبرأ كلّ واحدٍ منهما عن كفالة صاحبه وكفالة الذي كفلا به.

وعلى قول ابن سريج وجهان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٩ - ٤٩٠.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٧٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٠.

٤٠٧

أحدهما : يبرأ الأصيل والكفيل.

والثاني : أنّ الذي أحضره تسقط كفالته بالمكفول به ، وتسقط عن الآخَر كفالته بالكفيل الذي أحضره ، وبقي عليه وجوب إحضار المكفول به(١) .

مسألة ٥٧٤ : يصحّ ترامي الكفالات‌ ، فلو تكفّل رجل ببدن مَنْ عليه الحقُّ ثمّ تكفّل آخَر ببدن الكفيل وتكفّل ثالثٌ ببدن الكفيل الثاني ، جاز ، كالضمان يصحّ أن يضمن الضامن الحقَّ ويضمن ثانٍ عن الضامن ويضمن عن ضامن الضامن ضامنٌ آخَر ، وهكذا.

فإذا أحضر الكفيلُ الأوّل مَنْ عليه الحقُّ ، برئ وبرئ الكفيلان الآخَران ؛ لأنّهما فرعاه.

وإن أحضر الكفيل الثاني الكفيلَ الأوّل ، برئ وبرئ الثالث ؛ لأنّه فرعه ، ولم يبرأ الأوّل ولا مَنْ عليه الحقُّ.

فإن مات مَنْ عليه الحقُّ ، فعندنا وعند الشافعي(٢) يبرأ الكفلاء الثلاثة ، ولا شي‌ء عليهم.

وإن مات الكفيل الأوّل ، برئ الكفيلان الآخَران.

وإن مات الثاني ، برئ الثالث ، دون الأوّل.

وإن مات الثالث ، لم يبرأ الأوّلان.

مسألة ٥٧٥ : إذا مات المكفول به ، بطلت الكفالة ، ولم يلزم الكفيل شي‌ء‌ ، عند علمائنا - وبه قال شريح والشعبي وحمّاد بن أبي سليمان وأبو حنيفة والشافعي وأحمد(٣) - لأنّه تكفّل ببدنه على أن يُحضره ، وقد‌

____________________

(١) لاحظ : العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٤ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٩٠.

(٢) في « ث » : « الشافعيّة ». ولاحظ الهامش التالي.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٧٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٥ ، المغني ٥ : ١٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٤.

٤٠٨

سقط الحضور عن المكفول [ به ] فيبرأ الكفيل ، كما لو برئ من الدَّيْن. ولأنّ ما التزم به من أجله يسقط عن الأصل(١) فيبرأ الفرع ، كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدَّيْنَ أو أُبرئ منه عندهم(٢) . ولأنّه تكفّل ببدنه ، فلا يلزمه ما في ذمّته ، كما لو غاب غيبةً منقطعة. ولأنّه لا يلزمه بذل نفسه فما في ذمّته أولى.

وقال مالك والحكم والليث : يجب على الكفيل المال الذي كان في ذمّته - وبه قال ابن سريج من الشافعيّة - لأنّ الكفيل وثيقة على الحقّ ، فإذا تعذّر استيفاء الحقّ ممّن هو عليه ، استوفي من الوثيقة كالرهن(٣) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ الرهن تعلّق بالمال ، فاستوفى منه.

وقال بعض الشافعيّة : لا تبطل الكفالة ، ولا ينقطع طلب الإحضار عن الكفيل - وهو أصحّ قولَي الشافعيّة عندهم - بل عليه إحضاره ما لم يُدفن - وقلنا بتحريم النبش لأخذ المال - إذا أراد المكفول له إقامة الشهادة على صورته ، كما لو تكفّل ابتداءً ببدن الميّت(٤) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ الكفالة على الإحضار إنّما يُفهم منها إحضاره حالَ الحياة ، وهو المتعارف بين الناس والذي يخطر بالبال ، فيُحمل الإطلاق عليه.

وعلى قول ابن سريج ومالك هل يطالَب بالدَّيْن أو بالأقلّ من الدَّيْن‌

____________________

(١) فيما عدا « ج » من النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الأصيل ».

(٢) المغني ٥ : ١٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٤.

(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ٣٩٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩١ ، المغني ٥ : ١٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩١.

٤٠٩

ودية المقتول؟ وجهان مبنيّان على القولين في أنّ السيّد يفدي العبد الجاني بالأرش أو بالأقلّ من الأرش وقيمة العبد؟(١) .

البحث الثالث : في الأحكام.

مسألة ٥٧٦ : إذا كانت الكفالة حالّةً أو مؤجَّلةً وحلّ أجلها ، فإن كان المكفول به حاضراً ، وجب على الكفيل إحضاره‌ إذا طلبه المكفول له ، فإن أحضره ، وإلّا حُبس. وإن كان غائباً فإن كان موضعه معلوماً يمكنه ردّه منه ، أُمهل الكفيل بقدر ذهابه ومجيئه ، فإذا مضى قدر ذلك ولم يأت به من غير عذرٍ ، حُبس ، ولا يُحبس في الحال ، وبه قال عامّة أهل العلم.

وقال ابن شبرمة : يُحبس في الحال ؛ لأنّ الحقّ قد توجّه عليه(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الحقّ وإن كان قد حلّ فإنّه يُعتبر فيه إمكان التسليم ، وإنّما يجب عليه إحضار الغائب عند إمكان ذلك.

وإن كان غائباً غيبةً منقطعة - والمراد منها أن لا يُعرف موضعه وينقطع خبره - لم يكلَّف الكفيل إحضاره ؛ لعدم الإمكان ، ولا شي‌ء عليه ؛ لأنّه لم يكفل المال ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أحمد : يجب عليه المال(٤) ، مع أنّه قال : إذا مات المكفول برئ الكفيل ، ولا شي‌ء عليه(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩١.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٨٠ ، المغني ٥ : ٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٠.

(٤) المغني ٥ : ٩٨ - ٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

(٥) المغني ٥ : ١٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٤.

٤١٠

فروع :

أ - لو عرف موضعه ، فقد بيّنّا أنّه يجب عليه إحضاره‌ ، سواء كان على أزيد من مسافة القصر أو أنقص.

وقال بعض الشافعيّة : إن كان دون مسافة القصر ، فعليه إحضاره ويُمهَل مدّة الذهاب والإياب ليتبعه. وإن كان على مسافة القصر ، فوجهان :

أظهرهما عندهم : أنّه كما لو كان دون مسافة القصر ، كما لو كان المديون غائباً إلى هذه المسافة ، يؤمر بإحضاره.

والثاني : أنّه لا يُطالَب بإحضاره ، إلحاقاً لهذه الغيبة بالغيبة المنقطعة ، كما لو غاب [ الولي ](١) أو شاهدا(٢) الأصل إلى مسافة القصر ، يكون كما لو غاب غيبةً منقطعة(٣) .

ب - لو كان غائباً حين كفل‌ ، فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد الكفالة.

ج - لو كانت الكفالة مؤجَّلةً ، لم يكن للمكفول له مطالبة الكفيل بالإحضار قبل الأجل‌ ، سواء كان عليه مئونة في التقديم أو لا.

ولو دَفَعه قبل الأجل ، لم يجب على المكفول له أخذه ، سواء كان عليه ضرر في أخذه ، أو انتفى الضرر.

وقال بعض العامّة : إذا انتفى الضرر ، وجب عليه أخذه(٤) .

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « المولى ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في « ث ، ج ، ر » : « شاهد ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٠.

(٤) المغني ٥ : ٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٣ - ١٠٤.

٤١١

وليس بمعتمد.

د - لو فرّط الكفيل في تحصيله بأن طالَبه المكفول له بإحضاره وكان متمكّناً منه‌

فهرّبه أو ماطَل بإحضاره حتى غاب غيبةً منقطعة ولم يُعرف له خبر ، فإن أوجبنا المال ، وجب هنا ، وإلّا فإشكال.

مسألة ٥٧٧ : قال الشيخرحمه‌الله : ومَنْ ضمن لغيره نفسَ إنسان إلى أجلٍ معلوم بشرط ضمان النفس ثمّ لم يأت به عند الأجل ، كان للمضمون له حبسه حتى يُحضِر المضمونَ‌ ، أو يخرج إليه ممّا عليه(١) .

وهذا يقتضي وجوب أحد الأمرين على الكفيل : الإحضار ، أو الأداء.

فإن طلب المكفول له الإحضار لا غير ، فالأقرب عندي : إلزامه به ؛ لأنّه قد يكون له غرض لا يتعلّق بالأداء ، وقد يرغب المكفول له في القبض من غير الغريم.

وعلى ظاهر كلام الشيخ يبرأ الكفيل بأداء المال.

إذا عرفت هذا ، فإذا أدّى الكفيل المالَ فإن كان قد كفل بإذنه أو أدّى بإذنه ، كان له الرجوع عليه ، بخلاف ما قلنا في الضمان : إنّه لو ضمن متبرّعاً وأدّى بالإذن ، لم يكن له الرجوع ؛ لأنّ الكفالة ليست بالمال ، فيكون حكمه حكمَ الأجنبيّ إذا أدّى بإذن مَنْ عليه الدَّيْنُ ، كان له الرجوع - على ما تقدّم - إن شرط الرجوع ، أو مطلقاً على الخلاف.

وإنّما أوجبنا الرجوع هنا فيما إذا كفل بإذنه ؛ لأنّ الإذن في الكفالة إذنٌ في لوازمها ، ومن لوازمها الأداء مع عدم الإحضار.

إذا ثبت هذا ، فإن تمكّن من الإحضار وأدّى المال من غير حبسٍ أو‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٥.

٤١٢

معه ، فالأقرب : أنّه لا يرجع وإن كفل بإذنه ؛ لأنّ الواجب في الكفالة الإحضار مع المكنة ، وقد أمكنه الإحضار ، فيكون في أداء المال متبرّعاً.

مسألة ٥٧٨ : قد بيّنّا أنّه لا يُعتبر رضا المكفول به عندنا ، وهو أحد قولَي الشافعي. وفي الثاني : يشترط‌(١) .

وإذا كفل بإذن المكفول به فأراد الكفيل إحضاره إمّا لطلب المكفول له أو ابتداءً ليخرج عن العهدة ، فعليه الإجابة ، ومئونة الإحضار على الكفيل.

وإن كفل بغير إذنه عندنا أو على قوله بالصحّة فطالَبه المكفول له بالإحضار ، فللكفيل مطالبته بالحضور على جهة التوكيل من المضمون له.

ولو قال : أُخرج من حقّي ، للشافعيّة وجهان :

أحدهما : قال ابن سريج : لم يكن له مطالبة المكفول به بالإحضار ، كما لو ضمن بغير إذنه مالاً وطالَب المضمون له الضامنَ ، فإنّه لا يطالب الأصيل.

والثاني : نعم ؛ لتضمّنه التوكيلَ في الإحضار(٢) .

مسألة ٥٧٩ : لو مات المكفول له ، انتقل حقّه من الكفالة إلى ورثته ، وتكون الكفالة باقيةً ، وتقوم ورثته مقامه ، كما لو ضمن له المال ، وهو أظهر وجوه الشافعيّة.

والثاني : أنّ الكفالة تنقطع ؛ لأنّها ضعيفة ، فلا يُحكم بتوريثها.

والثالث : إن كان له وصيٌّ أو عليه دَيْنٌ ، بقيت الكفالة ؛ لأنّ الوصيّ نائبه ، وتمسّ حاجته إلى قضاء الدَّيْن ، فإن لم يكن وصيٌّ ولا دَيْنٌ ، انقطعت الكفالة(٣) .

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٩٣ ، الهامش ( ٢ و ٥ ).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٩٤ ، الهامش (١)

(٣) الوسيط ٣ : ٢٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٢.

٤١٣

والصحيح عندنا : الأوّل ؛ لأنّه حقٌّ للميّت ، فانتقل عنه إلى ورثته ، كغيره من الحقوق.

ونمنع ضعفها. سلّمنا ، لكن تُنتقل إلى الوارث ضعيفةً.

والثالث لا وجه له ؛ لأنّ الكفالة إمّا أن تورث وتكون حقّاً متروكاً للميّت ، أو لا ، فإن كانت ، وُرثت على التقديرين. وإن لم تكن ، لم يُصيّرها الدَّيْن والوصيّ حقّاً موروثاً.

مسألة ٥٨٠ : إذا تكفّل برجلٍ إلى أجلٍ إن جاء به ، وإلّا لزمه ما عليه ، فإن قدّم كفالة النفس بأن قال : إن لم أُحضره كان علَيَّ كذا ، لم يلزمه إلّا الإحضار ، عند علمائنا ؛ لأنّ الضمان لا يقبل التعليق بخطر ، فإنّه لا يصحّ لو علّقه بقدوم زيدٍ ، فلهذا بطل ضمان المال ، ووجب عليه الإحضار بالكفالة ، ولا يضرّ ضميمة الضمان الباطل ؛ لأنّه قصد بالضمان تأكيد الحجّة عليه بالإحضار وتقوية حقّ الإحضار عليه.

وإن قدّم ضمانَ المال ، فقال : علَيَّ كذا إلى كذا إن لم أُحضره ، ولم يُحضره ، وجب عليه ما ذكره من المال ؛ لما رواه الخاصّة عن أبي العباس عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يكفل بنفس الرجل إلى أجل فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا درهماً ، قال : « إن جاء به إلى أجلٍ فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبداً إلّا أن يبدأ بالدراهم ، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن إن لم يأت [ به ] إلى الأجل الذي أجّله »(١) .

وعن أبي العباس أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : رجل كفل لرجلٍ بنفس رجلٍ ، فقال : إن جئتُ به وإلّا فعلَيَّ خمسمائة درهم ، قال : « عليه نفسه ،

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٩ - ٢١٠ / ٤٨٨ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤١٤

ولا شي‌ء عليه من الدراهم » فإن قال : علَيّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، فقال : « تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه »(١) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ الشافعي ومحمّد بن الحسن قالا : إذا تكفّل برجلٍ إلى أجلٍ إن جاء به فيه وإلّا لزمه ما عليه ، لا تصحّ الكفالة ، ولا يلزمه ما عليه. وكذا لو قال : متى لم أُحضره كان علَيَّ كذا وكذا ؛ لأنّ هذا خطر ، ولا يجوز تعليق الضمان به ، كما لو قال : إن جاء المطر فأنا ضامن ، لم يصح(٢) .

وقال أبو يوسف وأبو حنيفة وأحمد : تصحّ الكفالة ، فإن جاء به في الوقت وإلّا لزمه ما عليه ؛ لأنّ هذا موجَب الكفالة ومقتضاها ، فصحّ اشتراطه ، كما لو قال : إن جئتُ به في وقت كذا وإلّا فلك حبسي(٣) .

ولا بأس به عندي.

أمّا لو قال : إن جئتُ به في وقت كذا وإلّا فأنا كفيل ببدن فلان ، أو : فأنا ضامن ما لك على فلان ، أو قال : إذا جاء زيد فأنا ضامن ما عليه ، أو : إذا قدم الحاج فأنا كفيل فلان ، أو قال : أنا كفيل بهذا شهراً ، على إشكالٍ في الأخير ، لم تصح الكفالة - وبه قال الشافعي ومحمّد بن الحسن(٤) - لأنّ الضمان خطر ، فلا يجوز تعليقه على شرطٍ ، كالهبة.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : فتصحّ ؛ لأنّه أضاف الضمان إلى سبب‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢١٠ / ٤٩٣.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٩ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠١.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٩ ، حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، المغني ٥ : ١٠٠ - ١٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٩ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠١.

٤١٥

الوجوب ، فتصحّ ، كضمان الدرك(١) .

وقال بعض العامّة : إذا قال : كفلتُ بفلان إن جئتُ به في وقت كذا وإلّا فأنا كفيل بفلان ، أو ضامنٌ المالَ الذي على فلان ، يصحّ(٢) .

والحقّ : البطلان ؛ لأنّ الأوّل موقوف ، والثاني معلَّق على شرط.

مسألة ٥٨١ : لو قال : كفلتُ ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل ، أو على أن تبرئه من الكفالة ، فالأقوى عندي : الصحّة‌ ؛ عملاً بقوله تعالى :

( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) وبقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٤) وهذا شرط تمسّ الحاجة إليه ، ولا وجه لفساده ؛ لأنّه شرط تحوّل الوثيقة التي على الكفيل إليه.

وقالت الشافعيّة : لا تصحّ الكفالة ؛ لأنّه شرط فيها شرطاً لا يلزمه الوفاء به ، فيكون فاسداً ، فتفسد به الكفالة(٥) .

ونمنع من عدم لزومه مع الشرط.

وقال ابن سريج كما قلناه ؛ لأنّه طلب تحويل الحقّ في الكفالة إليه(٦) .

فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلاّ أن يُبرئ المكفول له الكفيلَ الأوّل من‌

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٩ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠١.

(٢) المغني ٥ : ١٠١ - ١٠٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠١.

(٣) المائدة : ١.

(٤) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ - ٧٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٠ - ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٦ ، ولاحظ : المغني ٥ : ١٠٢ ، والشرح الكبير ٥ : ١٠١.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥١ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ - ٧٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٦.

٤١٦

الكفالة ؛ لأنّه إنّما كفل بهذا الشرط ، فلا تثبت كفالته بدون شرطه.

ولو قال : كفلتُ لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان ، أو : ضمنتُ لك هذا الدَّيْن بشرط أن تُبرئني من ضمان الدَّيْن الآخَر ، أو : على أن تُبرئني من الكفالة بفلان ، خرج فيه الوجهان.

والأولى عندي : الصحّة.

وقال بعض العامّة : لا تصحّ ؛ لأنّه شرط فسخ عقدٍ في عقدٍ ، فلم تصح ، كالبيع بشرط فسخ بيعٍ آخَر(١) .

ونمنع ثبوت الحكم في الأصل.

ولو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفّل المكفول له أو المكفول به بآخَر أو يضمن دَيْناً عنه أو يبيعه شيئاً أو يؤجره داره ، فالأقرب : الصحّة ، خلافاً لبعض العامّة(٢) .

مسألة ٥٨٢ : تصحّ الكفالة ببدن المحبوس والغائب‌ ؛ لأنّ كلّ وثيقة صحّت مع الحضور صحّت مع الغيبة والحبس ، كالرهن والضمان. ولأنّ الحبس لا يمنع من التسليم ؛ لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر مَنْ حَبَسه ثمّ يعيده إلى الحبس بالحقّين جميعاً ، والغائب يمضي إليه فيُحضره إن كانت الغيبة غيرَ منقطعة. وإن لم يعلم خبره ، لزمه ما عليه عند بعض العامّة(٣) .

وقال أبو حنيفة : لا تصحّ(٤) .

____________________

(١) المغني ٥ : ١٠٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠١.

(٢) المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠٢.

(٣) المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٩.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٩.

٤١٧

مسألة ٥٨٣ : إذا دفع الكفيلُ المكفولَ به إلى المكفول له في وقته ومكانه وسلّمه تسليماً تامّاً ، برئ من الكفالة عند أكثر أهل العلم‌؛ لأنّه عقد على عملٍ ، فيبرأ منه بعمل المعقود عليه ، كالإجارة(١) .

وقال ابن أبي موسى : لا يبرأ حتى يقول : قد برئت يدي منه ، أو : قد سلّمتُه إليك ، أو : قد أخرجتُ نفسي من كفالته(٢) .

وإذا أبرأ المكفول له الكفيلَ من الكفالة أو اعترف بذلك بأن يقول : أبرأتُه ، أو : برئ إليَّ ، أو : ردّ إليَّ المكفول به ، برئ من الكفالة ، وإذا أُبرئ الكفيل ، لم يبرأ المكفول به من الدَّيْن ، بخلاف الضمان.

ولو أُبرئ المكفول به من الحقّ الذي كفل الكفيل عليه ، برئ الكفيل أيضاً.

ولو ادّعى الكفيل أنّ المكفول به برئ من الحقّ وأنّ الكفالة سقطت عنه ، وأنكر ذلك المكفولُ له ، فالقول قوله مع يمينه إذا لم تكن للكفيل بيّنة ، فإذا حلف برئ من دعوى الكفيل ، فإن جاء المكفول به فادّعى الإبراء ، لم يكتف باليمين التي حلفها للكفيل ، بل كان عليه يمينٌ أُخرى.

ولو نكل في دعوى الكفيل ، حلف الكفيل ، وبرئ من الكفالة ، ولا يبرأ المكفول به من الحقّ ؛ لأنّه لا يجوز أن يبرأ بيمين غيره.

ولو نكل عن يمين المكفول به ، حلف المكفول به ، وبرئ هو والكفيل وإن كان قد حلف على عدم الإبراء له.

ولو قال : تكفّلتُ لك به ولا حقّ لك عليه ، أو ضمنتُ ما عليه ولا شي‌ء عليه ، فالقول قول المكفول له ؛ لأنّ الظاهر صحّة الكفالة والضمان.

____________________

(١ و ٢) المغني ٥ : ٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٢.

٤١٨

وهل يحلف؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : لا يحلف ؛ لأنّ دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.

والثاني : يحلف ؛ لأنّ ما يدّعيه ممكن(١) .

فإن حلف ، فلا كلام. وإن نكل ، رددنا اليمين على الكفيل ؛ لجواز أن يعلم أنّه لا حقّ له عليه بقول المكفول له : إنّه لا حقّ لي عليه.

فإن قال : تكفّلتُ به بشرط الخيار ، لم يُقبل منه في قوله : « بشرط الخيار » وحُكم عليه بالكفالة ، سواء قلنا : إنّه يدخلها الخيار أو لا ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني : يسقط إقراره(٢) .

والأصل فيه أنّه إذا عقّب إقراره بما يُبطله ، هل يبطل الإقرار أو المُبطل؟

ولو قال رجل لآخَر : إنّ فلاناً يلازم فلاناً ويضايقه على حقّه فاذهب وتكفّل به ، ففَعَل ، كانت الكفالة لازمةً للمباشر دون الآمر ؛ لأنّ المباشر فَعَل باختياره ، والأمر بذلك حثّ وإرشاد.

مسألة ٥٨٤ : مَنْ خلّى غريماً من يد صاحبه قهراً وإجباراً ، ضمن إحضاره‌ أو أداء ما عليه ؛ لأنّه غصب اليد المستولية المستحقّة من صاحبها ، فكان عليه إعادتها أو أداء الحقّ الذي بسببه تثبت اليد عليه.

ولو خلّى قاتلاً من يد الوليّ ، لزمه إحضاره أو الدية وإن كان القتل عمداً ، ولا نوجب عليه عين حقّ القصاص ؛ إذ لا يجب إلّا على المباشر ، فلمّا تعذّر استيفاؤه وجبت الدية ، كما لو هرب القاتل عمداً أو مات ، فإن‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ - ١٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥ - ٤٩٦.

٤١٩

دفع الدية ثمّ حضر القاتل ، تسلّط الوارث على قتله ، ويدفع ما أخذه من المخلّص ؛ لأنّ الدية إنّما أخذها لمكان الحيلولة وقد زالت.

وإن لم يقتل وتمكّن من استيفاء القصاص ، وجب دفع المال أيضاً إلى صاحبه ، ولا يتسلّط الكفيل لو رضي هو والوارث بالمدفوع بديةٍ ولا قصاص.

ولو تعذّر عليه استيفاء الحقّ من قصاصٍ أو مالٍ وأخذنا المال أو الدية من الكفيل ، كان للكفيل الرجوعُ على الغريم الذي خلّصه قصاصاً.

مسألة ٥٨٥ : إذا كفل بدن شخصٍ ادّعي عليه مال ثمّ قال الكفيل : لا حقّ لك عليه ، قُدّم قول المكفول له‌ ؛ لاستدعاء الكفالة ثبوت المال.

فإن تعذّر إحضاره ، فهل يجب عليه أداء المال من غير بيّنةٍ؟ إشكال أقربه : عدم الوجوب.

وإن أوجبناه فدفع المال ، لم يكن له الرجوعُ على المكفول به ؛ لأنّه اعترف ببراءة ذمّته وأنّه مظلوم في أخذ المال منه ، والمظلوم إنّما يرجع على مَنْ ظَلَمه.

مسألة ٥٨٦ : لو كان لذمّيٍّ على ذمّيٍّ خمرٌ وتكفّل به ذمّيٌّ آخَر ، فأسلم المكفول له أو المكفول عنه ، برئ الكفيل والمكفول عنه.

وقال أبو حنيفة : إذا أسلم المكفول عنه ، لم يبرأ واحد منهما ، ويلزمهما قيمة الخمر ؛ لأنّه كان واجباً ، ولم يوجد إسقاط ولا استيفاء ، ولا وُجد من المكفول له ما أسقط حقّه ، فبقي بحاله(١) .

وهو غلط ؛ لأنّ المكفول به مسلم ، فلم يجب عليه الخمر ، كما لو كان مسلماً قبل الكفالة ، وإذا برئ المكفول به ، برئ كفيله ، كما لو أدّى الدَّيْن أو أُبرئ منه.

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٢٠ : ٢٤ ، اختلاف الفقهاء : ٢٦٩ ، المغني ٥ : ١٠٧.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

المصلحة وناجماً عن سوء تدبيره، وبالتالي كان ذنباً ومعصية، أو أنّ الآية خرجت لبيان أمر آخر ؟ والصحيح هو الثاني وإليك البيان:

إنّ دراسة الموضوع توقفنا على أنّ إذن رسول الله كان مقروناً بالمصلحة إذ لولاه فلا يخلوا حالهم بين أن يكونوا مطيعين أو عاصين، فلو أطاعوه وساهموا المسلمين لكان ضررهم أكثر من نفعهم لقوله سبحانه:( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلّا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( التوبة / ٤٧ ).

ولأجل أنّ ضررهم كان أكثر من نفعهم، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يشاركهم في الجهاد ولو طلبوا منه، قال سبحانه:( فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة / ٨٣ ).

ولو خالفوا واثّاقلوا إلى الأرض لكان الفساد أعظم، لأنّ المخالفة الواضحة توجب تهبيط عظمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الأعين وربّما تتّخذ خطة عادية للمنافقين في مجالات اُخر.

ولأجل هذا لـمّا استأذنوا أذن لهم وما هذا إلّا دفعاً للفاسد أو الأفسد.

وبعبارة اُخرى: أنّهم كانوا عازمين على عدم الخروج مع المؤمنين لغزو الروم، بل كان لهم في غياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تخطيط ومؤآمرة أبطله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتخليف عليّعليه‌السلام مكانه كما هو مذكور في السيرة، قال سبحانه:( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / ٤٦ ).

والآية صريحة في أنّهم كانوا عازمين على ترك الخروج وكان الإستئذان نوع تغطية لقبح عملهم فما كانوا يخرجون إلى الجهاد سواء أذن النبي ( صلى الله عليه وآله

٤٦١

وسلم ) أم لم يأذن، لكنصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذنه حفظ مكانته ومنزلته بين المسلمين.

نعم، إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذنه فوّت مصلحة اُخرىٰ وهو التعرّف على المؤمن وتمييزه عن المنافق، وتمحيص المطيع عن المتمرّد ولولاه لم يعرف الصديق من العدو عاجلاً.

وليس لحن الآية في مجال تفويت هذه المصلحة لحن العتاب والإعتراض، بل اُسلوبه اُسلوب عطف وحنان، وأشبه بإعتراض الولي الحميم على الصديق الوفي، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولينة، فيقول بلسان الإعتراض: « لماذا أذنت له ولم تقابله بخشونة حتّى تعرف عدوّك من صديقك ومن وفّي لك ممّن خانك. على أنّه وإن فات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معرفة المنافق من هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرّح به القرآن في غير هذا المورد، فإن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف المنافق وغيره من المؤمن من طريقين آخرين.

١ ـ كيفيّة الكلام، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول وذلك إنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » وفي ذلك يقول سبحانه:( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد / ٣٠ ).

٢ ـ التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه، قال:( مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / ١٧٩ ) والدقّة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيّب.

وعلى ذلك فلم يفت النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله شيء وإن فاتته

٤٦٢

معرفة المنافق من هذا الطريق ولكنّه وقف عليها من الطريقين الآخرين.

وعلى كل تقدير فاستئذان اُولوا الطول منهم لترك الخروج آية النفاق، كما أنّ مساهمتهم آية الإيمان، يقول سبحانه:( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ *رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ *لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة / ٨٦ ـ ٨٩ ).

نعم استثنىٰ سبحانه ذوي الأعذار وهم الضعفاء، والمرضى والفقراء، فإنّ هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب، قال سبحانه:( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَىٰ وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا إلّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ *إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / ٩١ ـ ٩٣ ).

الاعتذار بالخوف من نساء الروم

ثمّ إنّ بعضهم اعتذر بأنّه يخشىٰ من نساء بني الأصفر فقال: يا رسول الله: « إئذن لي ولا تفتني فو الله لقد عرف قومي أنّه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء منّي وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر » فأعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لقد أذنت لك، فنزلت في حقّه هذه الآية:( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٤٩ ).

٤٦٣

والمراد أنّه انّما خشي الفتنة من نسائهم ولكن ما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلّفه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجزاؤه جهنّم(١) .

ثمّ خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المدينة وضرب عسكره على ثنية الوداع وخلّف عليّ بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلّفه إلّا إستثقالاً له وتخفّفاً منه، فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ عليّ بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي، فقال: كذّبوا، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليُّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبي بعدي، فرجع عليٌّ إلى المدينة، ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على سفره(٢) .

حديث تخلّف الثلاثة

ثمّ إنّه تخلّف بعضهم لا عن نفاق بل عن توان وهم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن اُميّة. فلمّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم، فهجرهم الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم ؟ فقال: لا ولكن لا يقربوكنّ، فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً، فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ٢ ص ٥١٦.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٥٢٠.

٤٦٤

يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى، فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية(١) :

( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبه / ١١٨ ).

والذي يستفاد من هذا القرار الحاسم الذي أصدره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن اُولئك، أنّ الدواء الناجع لعلاج كل تصدّع يطرأ على الجبهة الإسلامية يتمثّل في فرض الحصار وتضييق الخناق على العدوّ ليستأصل كلّياً قبل استفحال أواره، ، واشتداد شوكته.

وبعبارة اُخرى: نستخلص درساً هامّاً لحياتنا في مستقبلها المصيري من موقف النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا وهو أنّه كلّما شعرت القيادة الإسلامية بخطر يترقّب من أقلّية تسكن داخل البلاد الإسلامية، فإنّه يجب عليها أن تفرض عليها الحصار الإقتصادي وتستنهض عزائم المسلمين للمجابهة الصارمة مع اُولئك ليرتدعوا عن بكرة أبيهم عمّا كانوا عليه من شطط وإيذاء للمسلمين.

نرى في البلاد الإسلامية أقلّيات مذهبية من غير المسلمين وقد بلغوا الذروة في الثروة وجمع المال وامتصّوا دماء المسلمين في عقر دارهم، واستنفدوا قواهم وسخّروهم لصالح منافعهم الخاصّة على غفلة من أمرهم، وما هذه الظاهرة إلّا لأنّ الأكثرية صارت دمية بيد اُولئك لتشتّت المسلمين وإنقسامهم على أمرهم، فلو قام المسلمون بأعمال السياسة التي قام بها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام التاسع من الهجرة وضربوا الحصار على تلك الأقلّية بأن يقطعوا الأواصر الإقتصادية مع هؤلاء، لدحضت مخطّطاتهم ولردّ كيدهم إلى نحورهم.

__________________

(١) ونقله القمّي في تفسيره بصورة مفصّلة، ومن أراد فليرجع إلى ج ٢ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٠، لاحظ مجمع البيان: ج ٣ ص ٧٩.

٤٦٥

هذا ما يرجع إلى الأقلّيات المذهبية في داخل البلاد الإسلامية وأمّا القوى الكافرة الخارجة عنها فيجب كبح جماحهم بشكل آخر وهو:

إنّ المسلمين اليوم يملكون زمام الطاقة الحياتية المتمثّلة في النفط والتي تمثّل عصب الحضارة الحديثة، فلو أنّهم امتنعوا عن إعطاء ثروتهم النفطية للقوى الكبرى، لتوقّفت واُصيبت الحياة الصناعية والإقتصادية بشكل رهيب. واضطرّت على أثرها للرضوخ للواقع والإعتراف بحقوق المسلمين المشروعة.

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) والتفصيل موكول إلى محل آخر.

مسجد ضرار

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على جناح السفر إلى تبوك إذ وفد جماعة من بني غنم ابن عوف وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلّي في مسجدهم الذي بنوه في حيّهم وقالوا: إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعوا بالبركة، فقال لهم: إنّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله.

فلمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك وأراد الصلاة فيه نزلت عليه آية في شأن المسجد وهي:

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إلّا الحُسْنَىٰ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ *أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٤٦٦

الظَّالِمِينَ *لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / ١٠٧ ـ ١٠٩ ).

وفي حقيقة الأمر كان إنشاء هذا البناء لأجل غاية خبيثة وأهداف مستبطنة منها بثّ الفرقة والشقاق بين صفوف المسلمين، ومنها جعل هذا المكان ملجأً لأبي عامر الراهب وهو من أشد محاربي الله ورسوله وكان من قصّته أنّه قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح، فلمّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ثمَّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة اُحد وكان جنباً فغسّلته الملائكة.

وسمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا عامر: « الفاسق »، وقد كان أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واخرج محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة، فكان المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر، فبنوا هذا المسجد لتلك الغاية.

فلمّا نزلت الآية أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم بهدم المسجد وتحريقه، وروي أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشي أن يحرقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقىٰ فيها الجيف.

وهذه المؤامرة لم تكن الاُولى في تاريخ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ القوى الكافرة ما برحت تبذل جهودها في البلاد الإسلامية من خلال إنشاء المشاريع الخيرية كالكنائس والمستشفيات وملاجئ الأيتام ومعاهد التربية والتعليم لتأصيل بذور عوامل الإختلاف بين المسلمين، وتضعيف عقائدهم وافسادهم إلى حد تبلغ بهم فيه إلى مسخ شخصيتهم الإسلامية.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ المشاريع الخيرية أفضل وسيلة للنفوذ إلى أوساط المسلمين وتنفيذ مآربهم العدائية المحاكة ضدّهم.

٤٦٧

وفي الواقع أنّ الخطّة التي تنتهجها القوىٰ الكافرة غالباً للقضاء على الإسلام والمسلمين تكمن في إستغلال الصبغة الدينية التي تدين بها الشعوب الإسلامية لضرب الإسلام والإنسانية باسم الإسلام نفسه وتحت شعارات دينية تنبع من أهدافه في ظاهر أمرها.

وقعة تبوك:

فلمّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك أتاه صاحب أيله(١) وأهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، فكتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم كتاباً، فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك بضعة عشر ليلة ولم يجد من العدو فيها أثراً فرجع إلى المدينة قافلاً.

تآمر المنافقين على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى المفسّرون أنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم، وعمّار كان يقود دابّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحذيفة يسوقها، فقال حذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحّاهم، فلمّا نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم ؟ قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال: أكره أن تقول العرب لـمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم(٢) .

روى الواقدي: لـمّا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض

__________________

(١) مدينة في فلسطين.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٤٦.

٤٦٨

الطريق مكر به اُناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلمّا بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبرهم.

فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي فإنّه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العقبة وأمر عمّار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه، فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسير في العقبة إذ سمع حسيس القوم قد غشّوه، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع حذيفة إليهم وقد رأوا غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، وظنّ القوم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اطّلع على مكرهم فانحطّوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس.

وأقبل حذيفة حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فساق به، فلمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من العقبة نزل الناس فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا حذيفة هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم ؟ قال: يا رسول الله عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثّمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل، فنزلت في حقّهم هذه الآية:

( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ *وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) ( التوبة / ٦٤ ـ ٦٥ )(١) .

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٣.

٤٦٩
٤٧٠

(١١)

البراءة من المشركين

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكانت سنّة العرب في الحج أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له امساكها، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف، فكان من وافىٰ مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثمّ يردّه، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلّا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.

فجاءت امرأة من العرب حسناء جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده، فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها، فقالت: كيف أتصدّق وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة، وأشرف لها الناس، فوضعت احدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها، وقالت شعراً:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا أحلّه

فلما فرغت من الطواف، خطبها جماعة، فقالت: إنّ لي زوجاً. وكانت سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلّا من قاتله، ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحداً قد تنحّىٰ عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة، وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلّا الذين قد عاهدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة إلى مدّة، منهم: صفوان بن اُميّة وسهيل بن عمرو، فقال الله عزّ وجلّ:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعد.

٤٧١

هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة البراءة دفعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا محمّد لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام في طلب أبي بكر، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله أنزل الله فيّ شيئاً ؟ فقال: لا إنّ الله أمرني أن لا يؤدّي عني إلّا أنا أو رجل منّي(١) .

هذا مجمل ما روته الشيعة حول حادثة نزول السورة وهو بنفسه جاء في كتب أهل السنّة في مصادر جمّة من حديث وتفسير، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الطبري والسيوطي في تفسير الآية، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء على تلك الحادثة نبحث عن اُمور:

١ ـ لماذا لم يحجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه في هذا العام ؟

روى المفسّرون أنّه أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك فأراد الحج، فقيل له: إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فقال: لا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك(٢) .

ويؤيّد ذلك قصة المرأة التي طافت بالبيت الحرام عريانة كما عرفت.

__________________

(١) تفسير القمي: ج ١ ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٢) تفسير الطبري: ج ١١ ص ٤٤.

٤٧٢

٢ ـ اختلفت الرواية في عدد الآيات التي بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام بها ليقرأها يوم الحجّ الأكبر على المشركين ويرفع الأمان عنهم.

فقد روى الطبري عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا:

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع وبعث عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه بثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة فقرأها على الناس يؤجّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجّل المشركين عشرين من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر(١) .

وروى السيوطي في الدر المنثور قال: أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد السند وأبو الشيخ وابن مردويه عن عليٍّرضي‌الله‌عنه قال: لـمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه(٢) .

روى البحراني في تفسيره عن مصادر وثيقة، روايات تنتهي إلى أبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر وابن عباس ـ واللّفظ للأخير: إنّه لـمّا نزل( بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ ) إلى تسع آيات أنفذ النبي أبا بكر إلى مكّة لأدائها، فنزل جبرئيل وقال: إنّه لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك، فقال النبي لعليٍّ: إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر وخذ براءة منه(٣) .

والرواية الثانية والثالثة أوفق بمضمون الآيات وما يمس بالقضية لا يتجاوز الآية العاشرة وربّما تزيد قليلاً، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى فيها من الشذوذ ما لا يخفى، وسيوافيك أنّ عليّاًعليه‌السلام قد قرأ يوم النحر لا يوم عرفة وأنّه رفع الأمان عن

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) الدر المنثور: ج ١٠ ص ١٢٢.

(٣) تفسير البرهان: ج ٢ ص ١٠٥.

٤٧٣

المشركين منذ يوم التلاوة وكان يوم العاشر من ذي الحجة لا العشرين منه.

وإليك الآيات العشر الواردة في شأن تلك القصة نسوقها إليك لتقف عن كثب على مضمونها وما ورد فيها حول تلك الحادثة:

قال عزّ من قائل:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ *وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إلّاالَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ *فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ *كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إلّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ *كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ *اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( براءة / ١ ـ ١٠ ).

٣ ـ لماذا عزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر عن مهمّة التبليغ:

قد تضافرت النصوص على أنّه لـمّا نزلت عشر آيات من أوّل سورة براءة دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثّم دعا عليّاًعليه‌السلام فقال له: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم، فخرج عليٌّعليه‌السلام من المدينة فلحق أبا بكر في الجحفة وأخذ

٤٧٤

الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى المدينة مستاءً فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنزل فيّ شيء ؟ قال: لا، ولكن جبرئيل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك(١) .

وهناك صور اُخرى للحديث يقرب بعضها من بعض ويتّحد الكل في إفادة معنى واحد لمضمون القصّة.

قال البغوي في تفسيره: لـمّا كانت سنة تسع وأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحج قيل له: إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثمّ بعث بعده عليّاً ( كرم الله وجهه ) على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذّن بمكّة ومنىٰ وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمّة رسوله من كلّ مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت واُمّي أنزل في شأني شيء ؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلّا رجل من أهلي(٢) .

وعند الرجوع إلى طرق وأسانيد هذه القصة في المجامع الحديثية والتفسيرية المهمّة يظهر بجلاء وجود تواتر معنوي أو إجمالي لوقوع القصة أعني استرداد الآيات من أبي بكر وتشريف أمير المؤمنين بتبليغها ونزول الوحي المبيّن بأنه لا يبلّغ عنه إلّا هو أو رجل من أهل بيته وإن اشتملت القصة على بعض الخصوصيّات التي تفرّد بها بعض الطرق والمتون(٣) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣، ص ٢٠٩، كنز العمال: ج ١ ص ٢٤٧، تاريخ ابن كثير: ج ٥ ص ٣٨.

(٢) تفسير البغوي: ج ٢ ص ٢٦٧.

(٣) وقد جمع العلاّمة الأميني كافة صور الحديث بطرقه المختلفة المسندة منها والمرسلة في موسوعته الثمينة الغدير ونقله عن ثلاثة وسبعين محدّثاً ومفسّراً ومؤرّخاً لاحظ: ج ٦ ص ٣٣٨ ـ ٣٥٠.

٤٧٥

وإلى تلك الفضيلة يشير شمس الدين المالكي ( ت ٧٨٠ ه‍ ) في قصيدته:

وإنّ عليّاً كان سيف رسوله

وصاحبه السامي لمجد مشيّد

إلى أن قال:

وأرسله عنه الرسول مبلّغاً

وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عنّي ينبغي

لمن ليس عن بيتي من القوم فاقتد(١)

وحينئذ يأتي الكلام على الوازع الذي دفع الوحي الإلهي إلى عزل أبي بكر وتنصيب عليّعليه‌السلام مكانه فقد ذكرت في المقام وجوه نشير إليها:

١ ـ ما ذكره الآلوسي في روح المعاني بقوله: ليس في شيء من الروايات ما يدلّ على أنّ عليّاًعليه‌السلام هو الخليفة بعد رسول الله دون أبي بكر، وقوله: « لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي » سواء كان بوحي أو جار على عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد ونقضه إلّا رجل من الأقارب لتنقطع الحجّة بالكلّية(٢) .

ويؤاخذ عليه:

أوّلاً: بأنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله برّر عزل أبي بكر بأنّه نزل جبرئيل على « أنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك » ولو كانت لما ذكره القائل مسحة من الحق لكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول السنّة الجارية عند العرب هي أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته، مع إنّا نرى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذكره أبداً.

وثانياً: إنّ ابن كثير لم يذكر لتلك السنّة العربية مصدراً ولا خبراً عنها في أيّامهم ومغازيهم، ولو صحّت السنّة لكانت سنّة عربيّة جاهليّة فما وزنها في الإسلام ؟ وما

__________________

(١) نفح الطيب: ج ٤ ص ٦٠٣.

(٢) روح المعاني: ج ١٠ ص ٤٥، وقد أخذه عن تفسير ابن كثير: ج ٢، ص ٣٣١.

٤٧٦

هي قيمتها عند النبي ؟ وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينسخ كل يوم سنّة جاهليّة وينقض كل حين عادة قوميّة، وقد قال يوم فتح مكّة: « ألا إنّ كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج »(١) .

وثالثاً: لو افترضنا أنّ هذه السنّة كانت سنّة عربيّة محمودة فهل كان رسول الله ذاهلاً عنها وناسياً لها حين سلّم الآيات بيد أبي بكر وأرسله وخرج إلى طريق مكّة ؟ فعندما كان في بعض الطريق ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما نسيه أو ذكّره بعض من كان عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان الواجب مراعاته، مع أنّ هذه السنّة لو كانت رائجة لما كان للنبي ولمن حوله أن يغفلوا عنها ثم يتذكّروها، فهل الذهول عنها إلّا كذهول المقاتل عن سلاحه والحارس عن حربته ؟

ورابعاً: إنّ عليّاًعليه‌السلام لم يبعث لمجرّد نقض العهد وحده، وإنّما بلّغ أحكاماً لم تكن داخلة في ضمن العهد، فقال: « يا أيّها الناس لا يحجّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدّته الخ »(٢) .

وبالجملة فلم تكن رسالة الإمام عليّعليه‌السلام مقصورة على مجرّد تلاوة طائفة من سورة براءة بل تعدّت إلى تبليغ أحكام قرآنية اُخرى نزل بها جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله حيث أخبر فيها بأنّه « لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك ».

هذا هو التبرير الذي إرتآه ابن كثير وجنح إليه الآلوسي في تفسيره.

وهناك زمزمة اُخرى تفوّه بها صاحب المنار واستحسنها شلتوت في تفسيره حيث قال الأوّل: « إنّ الصدّيق كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال وكان عليٌّ أسد الله ومظهر جلاله، ولأجل ذلك فوّض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر، فكان هناك عينين فوّارتين يفور من أحدهما صفة الجمال ومن

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٤١٢.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٥٤٦.

٤٧٧

الاُخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان أنموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر »(١) .

وصاحب المنار عندما ينقله عن بعض أهل السنّة يعود فينتقده بقوله: « ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي فإنّه علّل تبليغ عليٍّ، نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته وهو ينافي أن تكون النكتة المذكورة علّة، فهو لا يأبى أن تكون حكمة ».

وصاحب المنار وإن أتى ببعض الحقّ ولكن غفل عن البعض الآخر وهو أنّ أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا منحصرين في عليّ وحده، بل كانوا عدّة كثيرة كعمّه العباس وأبناء أبي طالب كطالب وعقيل وغيرهم، فلماذا ـ يا تري ـ اختار عليّاً وحده من دونهم ؟

والحق أن يقال: إنّ عزل أبا بكر ونصب عليّ مكانه لم يكن إلّا لأمر سياسى ودينى يتلخّص في الأمر التالي:

وهو أنّ نقض وإبرام المواثيق والعهود من الاُمور الحكومية التي يمارسها الحاكم المدني أو الشرعي ولا يحق لغيره التدخّل فيها، فالنبي الأكرم نوّه بعمله هذا إلى أنّ الإنسان اللائق بهذه المهام في حياته ـ وبطريق أولى بعد وفاته ـ هو عليٌّ بلا منازع، الذي هو منه(٢) فهو اللائق والمسؤول بحكم النيابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للتصدّي لشؤون الخلافة والحكومة ولا يختصّ شأن عليٍّ بالاُمور السياسية وحده بل هو المبلّغ لأحكام شرعيّة لم يبلّغه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل ظروف قاسية فهو الزعيم للاُمّة في الاُمور السياسية والشرعية.

ومن العجب العجاب ما يرى من تساهل الرواة والمؤرّخون في نقل هذه الفضيلة، ونسوق إليك بعض الصور المختلفة لهذه القصّة في كتب الحديث:

__________________

(١) تفسير المنار: ج ١٠ ص ١٩٣، تفسير القرآن المجيد للشيخ محمود شلتوت ص ٦١٥.

(٢) نظير ذلك ما ورد في آية المباهلة حيث قال سبحانه:( تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وابْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وانْفُسَنَا وانْفُسَكُمْ) ( آل عمران / ٦١ ).

٤٧٨

١ ـ ما يحكى أنّ عليّاً اختصّ بتأدية براءة واُخرى تدلّ على أنّ أبا بكر شاركه فيه، واُخرى تدلّ على أنّ أبا هريرة شاركه في التأدية، ورجال آخرون لم يسمّوا في الروايات.

٢ ـ ما يدل على أنّ الآيات كانت تسع آيات، واُخرى عشراً، واُخرى ستّة عشر، واُخرى ثلاثين، واُخرى ثلاثاً وثلاثين، واُخرى سبعاً وثلاثين، واُخرى أربعين، واُخرى سورة براءة.

٣ ـ ما يدلّ على أنّ أبا بكر ذهب لوجهه أميراً على الحاج، واُخرى على أنّه رجع وأوّله بعضهم كابن كثير أنّه رجع بعد إتمام الحج، وآخرون أنّه رجع ليسأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن سبب عزله، وفي رواية أنس أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر ببراءة ثمّ دعاه فأخذها منه.

٤ ـ ما يدل على أنّ الحجّة وقعت في ذي الحجّة وإنّ يوم الحجّ الأكبر تمام أيّام تلك الحجّة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك، واُخرى أنّ أبا بكر حجّ في تلك السنة في ذي القعدة.

٥ ـ ما يدل على أنّ أشهر السياحة تأخذ من شوال، واُخرى من ذي القعدة واُخرى من عاشر ذي الحجّة، واُخرى من الحادي عشر من ذي الحجّة وغير ذلك.

٦ ـ ما يدل على أنّ الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم من تلك السنة، واُخرى على أنّها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول(١) .

٤ ـ مبدأ أمد الهدنة:

إنّ الله سبحانه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد رفعا الأمان عن المشركين الناقضين للعهود إلّا أنّه تمّ إمهالهم مدّة أربعة أشهر وحيث قال سبحانه:

__________________

(١) الميزان: ج ٩ ص ١٧٥، ولاحظ تفسير الطبري: ج ٩ ص ٤٢.

٤٧٩

( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ *وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( براءة / ٢ و ٣ ).

وأمّا مبدأ هذه الهدنة هو يوم الحجّ الأكبر الذي هو يوم الإبلاغ والإنذار.

والأوفق بسماحة الإسلام أن يبتدأ أمدها من حين الإعلان والإنذار لا من حين إنشاء الحكم الذي ربّما يتقدّم على إعلامه.

فإذا فرضنا أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجّة كان آخر الأمد هو العاشر من ربيع الآخر.

وأمّا من جعل مبدأ الإنذار يوم العشرين من ذى القعدة فعليه تنتهي الهدنة بمرور عشرين يوماً من ربيع الأول يتوقف.

وعند ذلك يتوجّه سؤال وهو: أنّه إذا كان نهاية الأمد هو العاشر أو العشرين من ربيع الآخر فكان يجب على المسلمين الصبر حتّى ينتهي ذلك الأمر مع أنّه سبحانه يأمر بقتلهم عند انسلاخ الأشهر الحرم أي في نهاية محرّم الحرام وإطلالة شهر صفر، قال سبحانه:

( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ٥ ).

والجواب عن ذلك: إنّ المراد من الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة الواردة في الآية المتقدّمة التي حرّم الله سبحانه قتال المشركين فيها وتبتدئ من يوم النحر وتنتهي في يوم العاشر من ربيع الآخر، واللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري إشارة إلى الأربعة المذكورة في الآية المتقدّمة، وليس المراد منه الأشهر الحرم المعروفة التي حرّم فيها الحرب في الإسلام وما قبله بل تمتد جذوره إلى عهد الأنبياء السالفين لأنّه

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510