تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406169 / تحميل: 5175
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمرا عجيبا ولا يمكن تصوّره وقبوله ، في حين أنّ الأمرين متماثلان : «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة ، فتارة عن طريق علم الله ، وأخرى عن طريق قدرته ، ثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات ، وأخيرا عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عدنا إلى آيات القرآن الاخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة أخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة ، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والأسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمرا ملتويا وعسيرا.

* * *

٢١

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) )

التّفسير

كتابه جميع الأقوال :

يثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) .

كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده

٢٢

وأعماله وأقواله ، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر ، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة ، ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا ، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ ارتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».

أجل ، هو الخالق ، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن ، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(١)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب ، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته ، وكوننا في قبضة قدرته ، فإنّ تكليفنا واضح ، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٤.

٢٣

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادقعليه‌السلام يوما فقال : رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلّا أنّه لم ينههم عن ذلك ، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادقعليه‌السلام ادعوا لي ولدي موسى فدعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا : إنّ الذي كنت اصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول اللهعزوجل :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فاحتضنه الإمام الصادق وقال : بأبي أنت وأمّي يا مستودع الأسرار(١) .

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده ، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب! إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسبا ، ولا سيّما إذا لا حظنا الآية ٢٤ من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة «الوريد» ـ ضمنا ـ مأخوذة من الورود ، ومعناه الذهاب نحو الماء ، وحيث إنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان ، وبالعكس ـ هذا الاصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٨.

٢٤

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) (١) .

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه ، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله ، وهما معه دائما ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر ، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم ، و «المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس»(٢) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان ، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله ، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارة ، واخرى في حال الجلوس ، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصّدان أعماله.

ويحتمل أيضا أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر ، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائما ويسجّلان أعماله ، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج ٥٩ ص ١٨٦ رقم الرّواية ٣٢».

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب

__________________

(١) كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين ، إلّا أنّ جماعة اخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلّا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و «إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ باستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالأخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

(٢) كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفا وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

٢٥

الحسنات ، وملك الشمال كاتب السيّئات ، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل الإنسان حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات ، فإذا استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعد موت المؤمن : ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(١) .

وفي رواية اخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلّا أمر الله تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي» ثمّ أضافصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»(٢) .

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضا فتقول :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٣) .

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان ، وفي هذه الآية اهتمام بخصوص ألفاظه ، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس ، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٥ ذيل الآيات محل البحث ، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٨٧ في الرّوايتين ٣٤ و٣٥».

(٣) الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائدا على الذي يلفظ القول ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب.

٢٦

نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم ويرون أنفسهم أحرارا في الكلام مع أنّ أكثر الأمور تأثيرا وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناء على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة «الرقيب» معناها المراقب و «العتيد» معناها المتهيئ للعمل ، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئا أو يدّخره بأنّه عتيد ، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الادّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد اسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد» ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر ، إلّا أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم ، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه ، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلّا أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ رواية عن الإمام الصادق يقول فيها : «إنّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي : ألم يقل الله تعالى( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )

٢٧

فيجيب الإمامعليه‌السلام : إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى»(١) .

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) احتراما وإكراما له ، إلّا أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار ، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية ٧٨ من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

* * *

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة : كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك ، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّا لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّا أو اقتربنا منها كثيرا فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك : «يا من هو اختفى لفرط نوره»!

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه ، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الاولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا

__________________

(١) اصول الكافي طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

٢٨

بمزايلة».

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيها آخر ، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الاسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك : حين نقول : توجّه إلى الكعبة ، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها ، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة ، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلّا تبعا للمفهوم الاسمي ، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة ، إذ دون ارتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.

* * *

٢٩

الآيات

( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) )

التّفسير

القيامة ـ والبصر الحديد ـ

تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلّق بيوم المعاد : «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر»!

فتقول أوّلا :( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) .

سكرة الموت : هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والانقلاب والتبدّل ، وربّما استولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة انتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة ، وأن يخطو في

٣٠

عالم جديد عليه مليء بالأسرار ، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت ، وهنا تتملّكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سكرا وليس بسكر(١) .

حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب ، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال ، كما قد ورد في حالات انتقال روح النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول :( لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) ثمّ يقول : إن للموت سكرات(٢) .

وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها»(٣) .

كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول : «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب»(٤) .

__________________

(١) السّكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء ، والسكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود ، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزا وسدّا بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسكر على زنة الشكر.

(٢) روح المعاني ، ج ٩ ، ص ١١٨

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٠.

٣١

ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا :( ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (١) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم.

أيّا كان فهم منه يهربون ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه ، ولا بدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.

وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.

والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات أخر كما هو في الآية (٧٨) من سورة النساء إذ يقول :( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) !.

وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بامّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجة يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد :( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ ) .

ولكن سواء أقسم أم لم يقسم ، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) .

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، لأنّه كما نوّهنا آنفا فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين : فالنفخة الاولى تدعى بنفخة الفزع أو الصعق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي ، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية

__________________

(١) كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه.

٣٢

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

«النفخ» معناه معروف ، و «النفخة» بمعنى المرّة منه ، و «الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادة لجمع الجنود أو تفريقهم أو الاستعداد أو الذهاب للراحة والنوم ، واستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية ٦٨ من سورة الزمر».

وعلى كلّ حال ، فمع الالتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والصالحين نحو جهنّم ، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.

ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما ، هناك تفاسير متعدّدة.

قال بعضهم : إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات ، و «الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات ، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و «الشهيد» رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.

٣٣

وقال بعضهم : «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و «الشهيد» عمل الإنسان.

كما قيل أنّ «السائق» ملك و «الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.

ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد ، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لاختلاف الوصفين ، أي أنّ مع الإنسان ملكا يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضا.

إلّا أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية ، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان ، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.

ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اخرى لبعض الشهود في يوم القيامة ، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن ، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.

وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار ، والملك الثاني يمنع عن الإنكار ، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبدا.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فردا فردا) فيقال :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

أجل ، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة ، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال ، وما كان مستورا وراء حجاب الغيب يبدو ظاهرا اليوم ، لأنّ هذا اليوم يوم البروز

٣٤

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!

ولذلك فقد وجدت عينا حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.

أجل ، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفيا ولا لثام على جمال الحبيب ، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.

إلّا أنّ الغرق في بحر الطبيعة والابتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة ، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة ، وأساسا فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!

حتّى في هذه الدنيا استطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصرا حديدا يرون به الحقائق ، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمدية ، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء ، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة ، بل بصر العقل والقلب.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في أولياء الله في أرضه : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة ١٤٧.

٣٥

بحوث

١ ـ حقيقة الموت

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء ، إلّا أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبدا.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي ، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر ، ولذلك عبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ «توفّي» ويعني تسلّم الروح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) هو إشارة إلى هذا المعنى(١) أيضا ، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ) (الملك ـ ٢).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية ، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل : ما الموت؟ فقال :عليه‌السلام : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب».

وسئل الإمام محمّد بن عليّعليه‌السلام السؤال الآنف ذاته فقال : «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة»(٢) .

وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق ، وبعضهم «كالشهداء في سبيل الله

__________________

(١) في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك احتمالات عديدة ، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت ، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت ، وقيل أنّ الباء للملابسة ، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٥ [ويظهر أنّ المراد من الإمام محمّد بن علي هو الإمام التاسع محمّد الجوادعليه‌السلام ].

٣٦

والمؤمنين الراسخين» ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم!

وقد بيّن الإمام الحسينعليه‌السلام لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند اشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال : «صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يكلّم أحدا ، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر : يا بن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟

فقالعليه‌السلام : «الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد»(٢) .

٢ ـ سكرات الموت

كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت ، وقلنا أنّ «السكرات» جمع سكرة ، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر اشتداد حالة الإنسان اضطرب منها فيرى سكرا وليس بسكر!

صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية انتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٨٩ باب معنى الموت الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق.

٣٧

الله ، إلّا أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الانتقالية ليست سهلة لأي إنسان ، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وارتبطت به.

ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن سبب اضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب : لأنّه نما عليها البدن(١) .

وهذا يشبه تماما حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة ، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالألم إلّا أنّه يشعر بالراحة بعدئذ.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام ، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه ، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت ، ويوم القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) (٢) ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام ، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!.

وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون انتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألما ومرارة!.

٣ ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين ، إذ نقرأ في الآية (٩٩) من

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٦.

(٢) المصدر نفسه مع شيء من التلخيص : نقرأ في سورة مريم الآية ١٥ في شأن يحيى :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) .

٣٨

سورة الحجر( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) . وفي الآية (٤٧) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضا.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لا بدّ أن يطرق بابه ، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيرا.

والالتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يعدّ إنذارا لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال : إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره ، فأمر عمر به فحبس ، فبلغ ذلك علياعليه‌السلام فقال : يا عمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال : ولم؟ فقال علي : إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) (٢) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر(٣) .

* * *

__________________

(١) التغابن ، الآية ١٥.

(٢) سورة ق ، الآية ١٩.

(٣) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١١٨.

٣٩

الآيات

( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) )

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين :

مرّة اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد ، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاولى من هذه الآيات : يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ولو أسلم المكفول له ، برئ الجميع ، وكذا إن أسلم المكفول به.

وإن أسلم الكفيل وحده ، برئ من الكفالة ؛ لامتناع وجوب الخمر عليه وهو مسلم.

ولو كان ضماناً ، فإنّه لا يسقط بإسلام المضمون عنه.

وفي رجوع الضامنِ المأذونِ عليه بالقيمة نظر.

مسألة ٥٨٧ : لو قال : أعط فلاناً ألفاً ، ففَعَل ، لم يرجع على الآمر ، ولم يكن ذلك كفالةً ولا ضمانَ مالٍ ، إلّا أن يقول : أعطه عنّي.

وقال أبو حنيفة : يرجع عليه إذا كان خليطاً له ؛ لجريان العادة بالاستقراض من الخليط(١) .

ولو تسلّط الظالم عليه فأخذ منه شيئاً ، لم يتسلّط المظلوم على الآمر ، ولم يكن له الرجوعُ بما أخذه الظالم وإن كان سبباً ؛ لأنّ الحوالة مع اجتماع المباشر والسبب على المباشر. أمّا لو قبض وسلّم إلى الظالم ، فإنّه يطالب قطعاً.

مسألة ٥٨٨ : إذا كانت سفينة في البحر وفيها متاع فخِيف عليها الغرق‌ فألقى بعض الركبان متاعَه في البحر لتسلم السفينة ومَنْ فيها ، لم يكن له الرجوعُ على أحدٍ ، سواء ألقاه بنيّة الرجوع على الركبان أو لا بنيّة الرجوع ؛ لأنّه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمانٍ.

ولو قال له بعض الركبان : ألق متاعك ، فألقاه ، لم يرجع أيضاً على أحدٍ ؛ لأنّه لم يكرهه على إلقائه ، ولا ضمن له.

ولو قال له : ألق متاعك وعلَيَّ ضمانه ، فألقاه ، فعلى القائل ضمانُه‌

____________________

(١) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٦٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٠ : ٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٥ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠٧.

٤٢١

وإن كان ضمانَ ما لم يجب ؛ للحاجة الداعية إلى ذلك.

ولو قيل بأنّه جعالة ، خلصنا من الإلزام.

ولو قال : ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ، ففَعَل ، فالأقرب أن نقول : إن كان ضمانَ اشتراكٍ ، فليس عليه إلّا ضمان حصّته ؛ لأنّه لم يضمن الجميع ، إنّما ضمن حصّته ، وأخبر عن سائر الركبان بضمان الباقي ، ولم يُقبل قوله في حقّ الباقين.

وإن كان ضمانَ اشتراكٍ وانفرادٍ بأن يقول : كلّ واحدٍ منّا ضامنٌ لك متاعك أو قيمته ، لزم القائل ضمان الجميع ، وسواء قال هذا والباقون يسمعون وسكتوا ، أو قالوا : لا نضمن شيئاً ، أو لم يسمعوا ؛ لأنّ سكوتهم لا يلزمهم به حقّ.

وقال بعض العامّة : يضمنه القائل وحده ، إلّا أن يتطوّع بقيّتهم(١) .

ولو قال : ألقه وعلَيَّ ضمانه وعلى الركبان فقد أذنوا لي ، فأنكروا بعد الإلقاء ، ضمن الجميع بعد اليمين على إشكالٍ ينشأ : من استناد التفريط إلى المالك حيث متاعه قبل الاستيثاق.

ولو لم يكن خوف ، فالأقرب : بطلان الضمان.

وكذا يبطل لو قال : مزّق ثوبك وعلَيَّ ضمانه ، أو اجرح نفسك وعلَيَّ ضمانه ؛ لعدم الحاجة ، فلا يصحّ الضمان ولا الجعالة إن ألحقنا مثل هذا بالجعالة ؛ لأنّها ليست على عملٍ مقصود.

أمّا لو قال : طلّق زوجتك وعلَيَّ كذا ، أو أعتق عبدك وعلَيَّ كذا ، ففَعَل ، لزمه ذلك ؛ لإمكان أن يعلم التحريم بينهما فطلب التفرقة بالعوض أو طلب ثواب العتق.

مسألة ٥٨٩ : لو انتقل الحقّ عن المستحقّ ببيعٍ أو إحالةٍ أو غيرهما ،

____________________

(١) المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠٨.

٤٢٢

برئ الكفيل من الكفالة ؛ لأنّه إنّما كفل له ، لا لغيره ، وقد انتقل المال عنه ، فلا يتعدّى حقّ الكفالة إلى مَن انتقل إليه المال.

وكذا لو أحال المكفول به المكفول له بالمال الذي عليه وقَبِل المحتال والمحال عليه ، برئ الكفيل أيضاً ؛ لأنّ الحوالة كالقضاء إذا كان المحال عليه مليّاً.

أمّا لو كان معسراً أو لم يعلم المحتال ، فالأقوى : عدم البراءة ، إلاّ أن يرضى بالحوالة على المعسر.

ولو أدّى الكفيل لتعذّر إحضار المكفول ببدنه ، كان له مطالبة المكفول بما أدّاه عنه ، سواء كفل بإذنه أو لا.

ولو ظهر بعد الأداء سبق موت المكفول ، رجع الكفيل على المكفول له بما قبضه ؛ للعلم ببطلان الكفالة.

ولو مات المحال عليه الموسر ولم يترك شيئاً ، برئ الكفيل ، وسقط دَيْن المحتال.

مسألة ٥٩٠ : قد بيّنّا أنّ الميّت تحلّ عليه الديون المؤجَّلة عليه ، عند علمائنا أجمع‌ - وعليه عامّة الفقهاء ، وبه قال الشعبي والنخعي وسعيد بن المسيّب وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لأنّ هذا الدَّيْن إمّا أن يبقى في ذمّة الميّت أو ذمّة الورثة أو متعلّقاً بالمال.

والأوّل محال ؛ لأنّ الميّت خرجت ذمّته ، وتعذّرت مطالبته.

____________________

(١) المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٣٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٨٩ / ٩٨٧ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٤ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٩ ، المغني ٤ : ٥٢٦ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٠٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٤ - ٥٤٥.

٤٢٣

والثاني باطل ؛ لأنّ صاحب الدَّيْن لم يرض بذمّتهم ، والذمم تختلف وتتباين. وأيضاً فإنّهم لم يلتزموا به.

والثالث باطل ؛ إذ لا يجوز تعلّقه بالأعيان وتأجيله ؛ لما فيه من الإضرار بالميّت وصاحب الدَّيْن ، ولا منفعة للورثة فيه ، بل ربما استضرّوا به.

أمّا الميّت : فلقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الميّت مرتهن بدَيْنه حتى يقضى عنه »(١) .

وأمّا صاحبه : فقد تتلف الأعيان فيسقط حقّه.

ولا منفعة للورثة ؛ فإنّهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرّفون فيها. وإن تصوّر في ذلك منفعة لهم ، فلا يسقط حقّ الميّت وصاحب الدَّيْن ليحصل لهم منفعة.

وقال ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبو عبيد وطاوُوس وأبو بكر بن محمّد والزهري وسعيد بن إبراهيم والحسن البصري وأحمد في الرواية الأُخرى : لا تحلّ ؛ لأنّه لو كان له دَيْنٌ مؤجَّل لم يحل ، فكذلك ما عليه ، كالحيّ. ولأنّ الموت ما جُعل مُبطلاً للحقوق ، إنّما هو علامة على الوراثة ، وقد قالعليه‌السلام : « مَنْ ترك حقّاً أو مالاً فلورثته »(٢) (٣) .

والفرق : أنّ الحيّ له ذمّة ، وما لَه يمكن حفظه ، بخلاف ما عليه ، فإنّ‌

____________________

(١) جامع المسانيد - للخوارزمي - ٢ : ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٥.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٢٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٧ / ٢٤١٦ ، سنن النسائي ٤ : ٦٦ ، سنن البيهقي ٣ : ٢١٤ ، و ٦ : ٢١٤ ، مسند أبي داوُد الطيالسي : ١٥٦ - ١٥٧ / ١١٥٠ ، مسند أحمد ٤ : ٢٢٢ / ١٣٧٤٤ و ١٣٧٤٥ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ٢٨٩ - ٢٩٠ / ١٥٢٥٧ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٢٠ : ٢٦٤ - ٢٦٦ / ٦٢٥ - ٦٢٨ ، وفي الجميع : « مَنْ ترك مالاً فلورثته ».

(٣) حلية العلماء ٤ : ٥١٩ ، المغني ٤ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٤ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٠٥.

٤٢٤

المديون يتضرّر بترك الحقّ متعلّقاً بالعين. ولأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا امتنع من الصلاة على المديون حتى ضمن الدَّيْنَ عليٌّعليه‌السلام تارةً وأبو قتادة أُخرى(١) لم يسأل هل كان الدَّيْن مؤجَّلاً؟ فلا تجوز مطالبته في الحال لو لم يحل ولم يكن هناك مانع من الصلاة ، أو كان حالّاً؟ وترك الاستفصال يدلّ على العموم.

وما رواه السكوني عن الصادق عن الباقرعليهما‌السلام ، قال : « إذا كان على الرجل دَيْنٌ إلى أجلٍ ومات الرجل حلّ الدَّيْن »(٢) .

وعن الحسين بن سعيد قال : سألته عن رجل أقرض رجلاً دراهم إلى أجلٍ مسمّى ثمّ مات المستقرض ، أيحلّ مال القارض عند موت المستقرض منه ، أو لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال : « إذا مات فقد حلّ مال القارض »(٣) .

مسألة ٥٩١ : لو مات مَنْ له الدَّيْن المؤجَّل ، قال أكثر علمائنا(٤) : لا يحلّ دَيْنه بموته‌ - وهو قول أهل العلم(٥) - لعدم دليل الحلول ، وأصالة الاستصحاب ، وبراءة ذمّة مَنْ عليه الدَّيْن من الحلول.

وقال الشيخرحمه‌الله في النهاية : إذا مات وله دَيْنٌ مؤجَّل ، حلّ أجل ما لَه ، وجاز للورثة المطالبة به في الحال(٦) .

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٨١ ، الهامش ( ٥ و ٦ ).

(٢) التهذيب ٦ : ١٩٠ / ٤٠٨.

(٣) التهذيب ٦ : ١٩٠ / ٤٠٩.

(٤) منهم : الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٢٧١ ، ضمن المسألة ١٤ ، وابن إدريس في السرائر ٢ : ٥٣ ، والمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ٩٣.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « قول أكثر أهل العلم ».

(٦) النهاية : ٣١٠.

٤٢٥

لما رواه أبو بصير عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال : « إذا مات الميّت(١) حلّ ما لَه وما عليه من الدَّيْن »(٢) .

ولأنّه دَيْنٌ ، فحلّ بموت صاحبه ، كما يحلّ بموت مَنْ هو عليه.

والرواية مقطوعة السند ، على أنّها غير دالّةٍ على المطلوب بالنصوصيّة ؛ إذ لم تشتمل على ذكر الأجل.

والفرق بين موت صاحب الدَّيْن والمديون ظاهرٌ ؛ فإنّ الميّت لا ذمّة له ، فلا يبقى للدَّيْن محلٌّ ، ومَنْ له الدَّيْن ينتقل حقّه بعد موته إلى الورثة ، وإنّما كان له دَيْنٌ مؤجَّل ، فلا يثبت للوارث ما ليس له.

مسألة ٥٩٢ : قد بيّنّا أنّ الدَّيْن المؤجَّل يحلّ بموت مَنْ عليه وأنّ أحمد قد خالف فيه في إحدى الروايتين‌(٣) .

فعلى قوله يبقى الدَّيْن في ذمّة الميّت كما كان ، ويتعلّق بعين ماله ، كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه ، فإن أحبّ الورثة أداء الدَّيْن والتزامه للغريم ويتصرّفون في المال ، لم يكن لهم ذلك ، إلّا أن يرضى الغريم ، أو يوفوا الحقّ بضمينٍ ملي‌ء ، أو برهنٍ يثق به لوفاء حقّه ، فإنّ الوارث قد لا يكون أميناً وقد لا يرضى به الغريم ، فيؤدّي إلى فوات حقّه(٤) .

وقال بعض العامّة : إنّ الحقّ ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورّثهم من غير أن يشترط التزامهم له ، ولا ينبغي أن يلزم الإنسان دَيْن لم يتعاط له ،

____________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر : « الرجل » بدل « الميّت ».

(٢) الكافي ٥ : ٩٩ ( باب أنّه إذا مات الرجل حلّ دَيْنه ) ح ١ ، التهذيب ٦ : ١٩٠ / ٤٠٧.

(٣) راجع المصادر في الهامش (٣) من ص ٤٢٣.

(٤) المغني ٤ : ٥٢٦ - ٥٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٥.

٤٢٦

ولو لزمهم ذلك بموت مورّثهم للزمهم وإن لم يخلّف وفاءً(١) .

وهذا كلّه ساقط عندنا ، إلّا أن يرضى الغريم بتذمّم الورثة بالدَّيْن ، ويصير عليهم تبرّعاً منه.

وعلى قولنا بحلول الدَّيْن بموت المديون يتخيّر الوارث بين الدفع من عين التركة ومن غيرها ؛ لانتقال المال إليهم ، فإن امتنعوا من الأداء من عين التركة ومن غيرها ، باع الحاكم من التركة ما يقضى به الدَّيْن.

مسألة ٥٩٣ : مَنْ مات وعليه دَيْنٌ لم يمنع الدَّيْن من نقل التركة إلى الورثة على أشهر قولَي أصحابنا‌ ؛ لأنّ مستحقّ التركة إمّا الميّت ، وهو محال ؛ إذ ليس هو أهلاً للتملّك ، أو الغريم ، وهو محال ؛ لأنّه لو أبرأه لم يكن له في التركة شي‌ء ، أو لا لمالكٍ ، وهو محال ، فلم يبق إلّا الورثة. ولأنّ تعلّق الدَّيْن بالمال لا يزيل الملك في حقّ الجاني [ والراهن ](٢) والمفلس ، فلم يمنع نقله هنا.

وإن تصرّف الورّاث(٣) في التركة ببيعٍ أو غيره ، صحّ تصرّفهم ، ولزمهم أداء الدَّيْن ، فإن تعذّر وفاؤه ، فسخ تصرّفهم ، كما لو باع السيّد عبده الجاني أو النصاب الذي وجبت فيه الزكاة.

وقال بعض علمائنا : إنّ التركة لا تنتقل(٤) - وعن أحمد روايتان(٥) - لقوله تعالى :( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٦) فجَعَل التركة للوارث‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٥٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٥ - ٥٤٦.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الرهن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الوارث » بدل « الورّاث ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٤) شرائع الإسلام ٤ : ١٦.

(٥) المغني ٤ : ٥٢٧ - ٥٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٦.

(٦) النساء : ١١.

٤٢٧

من بعد الدَّيْن والوصيّة ، فلا يثبت لهم الملك قبلهما ، فعلى هذا لو تصرّف الورثة ، لم يصح تصرّفهم - لأنّهم تصرّفوا في غير ملكهم - إلّا بإذن الغرماء. ولو تصرّف الغرماء ، لم يصح ، إلّا بإذن الورثة.

والحقّ : الأوّل ؛ لأنّ المراد زوال الحجر عن التركة بعد الوصيّة والدَّيْن.

* * *

٤٢٨

٤٢٩

الفصل الثالث : في الحوالة‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في ماهيّتها ومشروعيّتها.

الحوالة مشتقّة من تحويل الحقّ من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ. وهي عقد وُضع للإرفاق ، منفرد بنفسه ، وليست بيعاً ولا محمولةً عليه عند علمائنا أجمع ، وهو قول أكثر العلماء(١) ، وإلّا لما صحّت ؛ لأنّها بيع دَيْنٍ بدَيْنٍ ، وذلك منهيّ عنه(٢) ، والحوالة مأمور بها ، فتغايرا.

ولأنّها لو كانت بيعاً ، لما جاز التفرّق قبل القبض ؛ لأنّه بيع مال الربا بجنسه ، فلا يجوز مع التأخير والتفرّق قبل القبض ، ولجازت بلفظ البيع ، ولجازت من جنسين ، كالبيع.

ولأنّ لفظها يشعر بالتحويل لا بالبيع. فعلى هذا لا يدخلها خيار المجلس ، وفي خيار الشرط ما تقدّم(٣) ، وتلزم بمجرّد العقد.

وقد قيل : إنّها بيع ، فإنّ المحيل يشتري ما في ذمّته بما لَه في ذمّة المحال عليه ، وجاز تأخير القبض رخصةً ؛ لأنّه موضوع على الرفق ، فيدخلها حينئذٍ خيارُ المجلس لذلك(٤) .

والصحيح ما تقدّم ؛ فإنّ البيع مختصّ بألفاظ ولوازم منفيّة عن هذا‌

____________________

(١) راجع المغني والشرح الكبير ٥ : ٥٤.

(٢) الكافي ٥ : ١٠٠ ( باب بيع الدَّين بالدَّيْن ) ح ١ ، التهذيب ٦ : ١٨٩ / ٤٠٠.

(٣) في ج ١١ ، ص ٦٤ ، ضمن المسألة ٢٥١.

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ٥٤.

٤٣٠

العقد.

مسألة ٥٩٤ : الحوالة عقد جائز بالنصّ والإجماع.

روى العامّة عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَطْل الغني ظلم ، وإذا أُتبع أحدكم على ملي‌ء فليتبع »(١) .

وفي لفظٍ آخَر : « وإذا أُحيل أحدكم بحقٍّ على ملي‌ء فليحتل »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه منصور بن حازم عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يحيل على الرجل الدراهم أيرجع عليه؟ قال : « لا يرجع عليه أبداً إلّا أن يكون قد أفلس قبل ذلك »(٣) .

وقد أجمع كلّ مَنْ يُحفظ عنه العلم على جواز الحوالة في الجملة.

إذا عرفت هذا ، فمعنى « أُتبع » هو معنى « أُحيل ».

قال صاحب الصحاح : يقال : أُتبع فلان بفلان ، إذا أُحيل له عليه ، والتبيع : الذي لك عليه مال(٤) .

والأشهر في الرواية الثانية : « وإذا أُحيل أحدكم » بالواو. ويُروى : « فإذا » بالفاء.

فعلى الأوّل هو مع قوله : « مطل الغني ظلم » جملتان لا تعلّق للثانية‌

____________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٢٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٩٧ / ١٥٦٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٣ / ٢٤٠٣ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٤٧ / ٣٣٤٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٠٠ / ١٣٠٨ ، سنن النسائي ٧ : ٣١٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٧٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٦١ ، الموطّأ ٢ : ٦٧٤ / ٨٤ ، مسند أحمد ٣ : ٧٨ / ٨٧١٥.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ٧٠ ، مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٥ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٥٤ بتفاوت يسير.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٢١٢ / ٤٩٨.

(٤) الصحاح ٣ : ١١٩٠ « تبع ».

٤٣١

بالأُولى ، ويصير كقولهعليه‌السلام : « العارية مردودة ، والزعيم غارم »(١) .

وعلى الثاني يجوز أن يكون المعنى في الترتيب أنّه إذا كان المطل ظلماً من الغني ، فليقبل مَنْ أُحيل بدَيْنه عليه ، فإنّ الظاهر أنّه يحترز عن الظلم والمطل.

وهل الأمر بالاحتيال على الإيجاب أو الاستحباب؟ الأقوى عندنا :

الثاني - وبه قال الشافعي(٢) - لأصالة البراءة.

وعن أحمد أنّه للوجوب(٣) ؛ قضيّةً لمطلق الأمر.

مسألة ٥٩٥ : مدار الحوالة على ستّة أشياء : أشخاص ثلاثة : محيل ومحال عليه ومحتال ، ودَيْنان ومعاملة‌ ، فإذا كان لزيدٍ عليك عشرة ، ولك على عمرو مثلها ، فأحلت زيداً على عمرو ، فأنت محيل ، وزيد محتال ، وعمرو محال عليه ، وقد كان لزيدٍ عليك دَيْنٌ ، ولك على عمرو دَيْنٌ ، وجرت بينك وبين زيد مراضاة بها ، انتقل حقّه إلى عمرو ، فهذه ستّة أُمور لا بدَّ منها في وجود الحوالة ، إلّا الخامس ؛ فإنّ فيه خلافاً يأتي إن شاء الله تعالى.

ويُشترط في صحّتها أُمور ، منها ما يرجع إلى الدَّيْنين ، ومنها ما يتعلّق بالأشخاص الثلاثة.

مسألة ٥٩٦ : الحوالة عقد لازم ، فلا بُدّ فيها من إيجابٍ وقبول ، كغيرها من العقود.

والإيجاب كلّ لفظٍ يدلّ على النقل والتحويل ، مثل : أحلتك ،

____________________

(١) ورد نصّه في العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٥ - ١٢٦ ، وفي سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ - ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، ومسند أحمد ٦ : ٣٥٨ / ٢١٧٩١ بتفاوت يسير.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

٤٣٢

وقَبَلتك ، وأتبعتك.

والقبول ما يدلّ على الرضا ، نحو : رضيت ، وقَبِلت.

ولا تقع معلّقةً بشرطٍ ولا صفة ، بل من شرطها التنجيز ، فلو قال : إذا جاء رأس الشهر ، أو : إن قدم زيد فقد أحلتك عليه ، لم تصح ؛ لأصالة البراءة ، وعدم الانتقال.

ولا يدخلها خيار المجلس ؛ لأنّه مختصّ بالبيع ، وليست بيعاً عندنا.

وهل يدخلها خيار الشرط؟ مَنَع منه أكثر العامّة(١) .

والحقّ : جواز دخوله ؛ لقولهمعليهم‌السلام : « كلّ شرطٍ لا يخالف الكتاب والسنّة فإنّه جائز »(٢) .

ولو قال : أحلني على فلان ، فقال : أحلتك ، افتُقر إلى القبول ، ولا يكفي الاستيجاب.

والخلاف المذكور في البيع في الاستيجاب والإيجاب آتٍ هنا.

وقطع بعض الشافعيّة بالانعقاد هنا ؛ لأنّ الحوالة أُجيزت رفقاً بالناس ، فيسامح فيها بما لا يسامح في غيرها(٣) .

والمعتمد ما قلناه.

مسألة ٥٩٧ : اختلف العامّة في أنّ الحوالة هل هي استيفاء حقٍّ ، أو بيع واعتياض؟ فللشافعي قولان :

أحدهما - وهو الأقوى عندي - : أنّها استيفاء حقٍّ كأنّ المحتال‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ٣٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التنبيه : ١٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٩٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١١١.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٩ / ١ ، الفقيه ٣ : ١٢٧ / ٥٥٣ ، التهذيب ٧ : ٢٢ / ٩٤ ، الخلاف ٣ : ٢٥٥ ، المسألة ٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٣٣

استوفى ما كان له على المحيل وأقرضه المحال عليه ؛ لأنّها لو كانت معاوضةً ، لجاز أن يحيل بالشي‌ء على أكثر منه أو أقلّ.

وأظهرهما عندهم : أنّها بيع ؛ لأنّها تبديل مالٍ بمالٍ ، فإنّ كلّ واحدٍ من المحيل والمحتال يملك بها ما لم يملكه قبلها ، وهذا هو حقيقة المعاوضة ، وليس فيها استيفاء ولا إقراض محقّق ، فلا يقدّران(١) .

وقد بيّنّا عندنا ما في هذا القول.

وعلى تقديره هي بيع ما ذا بأيّ شي‌ء؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّها بيع عينٍ بعينٍ ، وإلّا لبطلت ؛ للنهي عن بيع الدَّيْن بالدَّيْن.

وكأنّ هذا القائل نزّل الدَّيْن على الشخص منزلة استحقاق منفعةٍ تتعلّق بعينه ، كالمنافع في إجارات الأعيان. وهذا غير معقول.

والثاني - وهو المعقول - : أنّها بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فإنّ حقّ الدَّيْن لا يستوفى من عين الشخص ، ولغيره أن يؤدّيه عنه.

واستثني هذا العقد عن النهي ؛ لحاجة الناس إليه مسامحةً وإرفاقاً ، ولهذا المعنى لم يُعتبر فيه التقابض ، كما في القرض ، ولم يجز فيه الزيادة والنقصان ؛ لأنّه ليس بعقد مماكسة ، كالقرض(٢) .

وقال الجويني وشيخُه : لا خلاف في اشتمال الحوالة على المعنيين : الاستيفاء ، والاعتياض ، والخلاف في أيّهما أغلب؟(٣) .

وكلّ هذه تمحّلات لا فائدة تحتها ، ولا دليل عليها.

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٣٤

البحث الثاني : في الشرائط.

وهي أربعة تشتمل عليها أربعة أنظار :

الأوّل : كماليّة الثلاثة‌ ، أعني المحيل والمحتال والمحال عليه ؛ لأنّ رضاهم شرط على ما يأتي.

وإنّما يُعتبر الرضا ممّن له أهليّة التصرّف ، فلا تصحّ من الصبي وإن كان مميّزاً ، أذن له الولي أو لا ، ولا المجنون ، سواء كانا محيلين أو محتالين أو محالاً عليهما.

وكذا يُشترط رفع الحجر في الثلاثة.

أمّا المحيل : فلما فيه من التصرّف المالي ، والسفيه والمفلس ممنوعان منه.

وأمّا المحتال : فكذلك أيضاً ؛ لما فيه من الاعتياض عن ماله بماله.

وأمّا المحال عليه : فلأنّه التزام بالمال.

مسألة ٥٩٨ : يُشترط ملاءة المحال عليه وقت الحوالة‌ ، كالضمان ، أو علم المحتال بإعسار المحال عليه ، فلو كان معسراً واحتال عليه مع جهله بإعساره ، كان له فسخ الحوالة ، ومطالبة المحيل بالمال ، سواء شرط التساوي أو أطلق ، عند علمائنا ؛ لما فيه من الضرر والتغرير به.

ولما رواه منصور بن حازم عن الصادقعليه‌السلام أنّه سأله عن الرجل يحيل على الرجل الدراهم أيرجع عليه؟ قال : « لا يرجع عليه أبداً إلّا أن يكون قد أفلس قبل ذلك »(١) وهو نصٌّ في الباب.

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٣٠ ، الهامش (٣)

٤٣٥

ولا يُشترط استمرار الملاءة ، بل لو كان المحال عليه مليّاً وقت الحوالة ورضي المحتال ثمّ تجدّد إعسار المحال عليه بالمال بعد الحوالة ، لم يكن للمحتال الرجوعُ على المحيل ؛ لأنّ الحوالة لزمت أوّلاً ، وانتقل الحقّ عن ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، فلا يعود إلّا بسببٍ ناقلٍ للمال.

ولو رضي المحتال بالحوالة على المعسر ، لم يكن له بعد ذلك الفسخُ ، ولا الرجوع على المحيل بشي‌ء ، بل لو مات المحال عليه معسراً ، ضاع ماله.

إذا ثبت هذا ، فقد وافقنا - على أنّ المحتال يرجع إلى ذمّة المحيل إذا ظهر إفلاسه ولم يشترط للمحال [ عليه ] الملاءة ولم يعلم المحتال بإفلاسه - مالكُ وأحمد في إحدى الروايتين وجماعة من أصحابه ؛ لأنّ الفلس عيب في المحال عليه ، لأنّ الظاهر سلامة الذمّة ، وقد ظهر أنّها معيبة ، فكان له الرجوعُ ، كما لو اشترى سلعةً فوجدها معيبةً. ولأنّ المحيل غرّه ، فكان له الرجوعُ ، كما لو دلّس المبيع(١) .

وقال الليث والشافعي وأبو عبيد وأحمد - في الرواية الأُخرى - وابن المنذر : ليس له الرجوعُ ، سواء أمكن استيفاء الحقّ أو تعذّر بمَطْلٍ أو فَلْسٍ أو موتٍ أو غير ذلك ؛ لأنّ هذا الإعسار لو حدث قبل قبضه لم يثبت له الخيار ، فكذا حال العقد(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المتجدّد لا يمكن الاحتراز منه ، ولا غرر فيه ،

____________________

(١) المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٢٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٢٥.

٤٣٦

بخلاف المقارن.

مسألة ٥٩٩ : قد بيّنّا أنّ الحوالة تقتضي نقل الحقّ من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، عند علمائنا أجمع‌ ، وبه قال عامّة الفقهاء ، إلّا ما يُحكى عن زفر ، فإنّه قال : لا ينتقل الحقّ ، وأجراها مجرى الضمان(١) .

وهو خطأ ؛ لأنّ الحوالة مشتقّة من تحوّل الحقّ ، بخلاف الضمان عندهم(٢) ، فإنّه مشتقّ من ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ ، فعلّق على كلّ واحدٍ منهما ما يقتضيه لفظه.

وأمّا عندنا فإنّ الضمان أيضاً ناقل على ما تقدّم(٣) بيانه.

مسألة ٦٠٠ : إذا تمّت الحوالة بأركانها وكان المحال عليه موسراً أو علم المحتال بإفلاسه ، انتقل الحقّ من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، ولم يكن للمحتال الرجوعُ على المحيل أبداً - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين(٤) - لما رواه العامّة : أنّ حزناً جدّ سعيد بن المسيّب كان له على عليّعليه‌السلام دَيْنٌ فأحاله به ، فمات المحال عليه فأخبره ، فقال : « اخترت علينا أبعدك الله تعالى »(٥) فأبعده بمجرّد احتياله ، ولم يُخبره أنّ له الرجوعَ ، ولو كان له الرجوعُ لأخبره بذلك.

____________________

(١) مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٧١ / ١٩٩٣ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٤٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، المغني ٥ : ٥٨ - ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٤٤.

(٣) في ص ٣٤٢ ( النظر الأوّل ).

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٩ ، المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢١ ، المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٣٧

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « لا يرجع عليه أبداً » وقد تقدّم(١) .

وعن عقبة بن جعفر عن أبي الحسنعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يحيل الرجل بمالٍ على الصيرفي ثمّ يتغيّر حال الصيرفي أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضي(٢) ؟ قال : « لا »(٣) .

ولأنّ الحوالة براءة من دَيْنٍ ليس فيها قبض ممّن عليه ، فلا يكون فيها رجوعٌ عليه ، كما لو أبرأه من الدَّيْن.

وقال شريح والشعبي والنخعي : متى(٤) أفلس أو مات رجع على صاحبه(٥) .

وقال أبو حنيفة : يرجع عليه في حالتين : إذا مات المحال عليه مفلساً ، وإذا جحد وحلف عليه عند الحاكم.

وقال أبو يوسف ومحمّد : يرجع عليه في هاتين الحالتين وفي حال أُخرى : إذا أفلس وحُجر عليه.

لما روي أنّ عثمان سئل عن رجل أُحيل بحقّه فمات المحال عليه مفلساً ، فقال : يرجع بحقّه لا يزرأ(٦) على مال مسلمٍ(٧) .

ولأنّه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاقدين ، فكان له‌

____________________

(١) في ص ٤٣٠ و ٤٣٤.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « ورضي » : « وضمن ». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) التهذيب ٦ : ٢١٢ / ٥٠١.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « متى » : « مَنْ ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٥) المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٦) كذا قوله : « لا يزرأ » في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وبدلها في الحاوي الكبير والمغني والشرح الكبير : « لا توى » أي الهلاك. والإزراء : التهاون بالشي‌ء ، يقال : أزريت به ، إذا قصّرت به. الصحاح ٦ : ٢٣٦٨ « زرى ».

(٧) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢١ ، المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٣٨

الفسخ ، كما لو اعتاض بثوبٍ فلم يسلّمه إليه.

ولأنّه نَقْلُ حقٍّ من ذمّةٍ إلى غيرها ، فإذا لم يسلم له ما نقل إليه ، كان له الرجوعُ بحقّه ، كما لو أخذ دَيْنه عيناً فتلفت(١) في يد مَنْ عليه الحقّ(٢) .

ورواية عثمان ضعيفة لم تصح يرويها خليد(٣) بن جعفر عن معاوية ابن قرة عن عثمان(٤) ، ولم يصح سماعه منه. وقد روي أنّه قال : في حوالة أو كفالة(٥) ، وهو يدلّ على شكّه وتردّده في الرواية ، فلا يجوز العمل بها.

على أنّ قول عثمان ليس بحجّة ، خصوصاً مع معارضته للحجّة ، وهو قول عليّعليه‌السلام (٦) .

ولا نسلّم أنّ الحوالة معاوضة ؛ لاشتمالها على بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، وهو منهيّ عنه(٧) .

والقياس على العين باطل ؛ لأنّه لا يشبه مسألتنا ؛ لأنّ في ذلك قبضاً يقف استقرار العقد عليه ، وهنا الحوالة بمنزلة العوض المقبوض ، وإلّا كان بيعَ دَيْنٍ بدَيْنٍ.

____________________

(١) في « ث ، خ » والطبعة الحجريّة : « وتلفت ».

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٤٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ - ١٠٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٧١ / ١٩٩٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٢١ ، الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٩ ، المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) في المغني ٥ : ٥٩ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٥ ، ونسختَي « ج ، خ » : « خالد ».

(٤) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٤٢١ ، والمغني ٥ : ٥٩ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٥) مختصر المزني : ١٠٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٢١ ، المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٦) المغني ٥ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٤٢٩ ، الهامش (٢)

٤٣٩

مسألة ٦٠١ : لو شرط المحتال ملاءة الـمُحال عليه فبانَ معسراً ، كان له الرجوعُ على المحيل‌ ؛ لما بيّنّا من أنّه يرجع عند الإطلاق فمع شرط الملاءة أولى - وهو قول ابن سريج(١) - لقولهعليه‌السلام : « المسلمون على شروطهم(٢) »(٣) .

ولأنّه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضةٍ ، فيثبت فيه الفسخ بفواته ، كما لو شرط صفة في المبيع ، وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد ، كما لو شرط صفة في المبيع.

وقال المزني - نقلاً عن الشافعي - : إنّه لا يرجع ؛ لأنّه قال : غرّه أو لم يغرّه لا يرجع(٤) .

قال ابن سريج : هذا الذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي ، والذي يُشبه أصلَه : أنّه يرجع كما إذا شرط صفة في المبيع فبانَ بخلافها(٥) .

قال بعض الشافعيّة : الصواب ما نَقَله المزني ؛ لأنّ الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط الملاءة مع كونه نقصاً ، فلو ثبت ذلك بالشرط لثبت بغير شرطٍ. ولأنّ الإعسار لو حدث لم يثبت له فسخ الحوالة ، بخلاف‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣.

(٢) في « ج ، ر » : « المؤمنون عند شروطهم ». وفي « ث ، خ » : « المسلمون عند شروطهم ».

(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٢٠ ، سنن الدارقطني ٣ : ٢٧ / ٩٦ و ٩٨ و ٩٩ ، و ٢٨ / ١٠٠ ، سنن البيهقي ٧ : ٢٤٩ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣ ، التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥.

(٤) مختصر المزني : ١٠٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510