تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406107 / تحميل: 5175
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لم يكن للمفلس بيّنة وردَّ المدّعى عليه اليمينَ فلم يحلف المفلس ، ففي إحلاف الغرماء للشافعي قولان(١) .

وعندنا ليس لهم الحلف.

واعلم أنّ بعض الشافعيّة ذكر طريقين في إحلاف غرماء المفلس مع شاهده :

أحدهما : طرد القولين.

والثاني : القطع بالمنع هنا ، والخلاف في الميّت.

والفرق : أنّ الحقّ للمفلس ، فامتناعه عن اليمين يورث ريبةً ظاهرة ، وفي الصورة الأُولى صاحب الحقّ غير باقٍ ، وإنّما يحلف الوارث بناءً على معرفته بحال مُورّثه وهو [ قد ](٢) يخفى عنه ولا يخفى عن الغرماء ، ولأنّ غرماء الميّت آيسون عن حلفه ، فمُكّنوا من اليمين لئلّا يضيع الحقّ ، وغرماء المفلس غير آيسين عن حلفه(٣) .

قال الجويني : الطريقة الثانية أصحّ. وحكى عن شيخه طرد الخلاف في ابتداء الدعوى من الغرماء(٤) .

وقطع أكثرهم بمنع الدعوى ابتداءً ، وتخصيص الخلاف باليمين بعد دعوى الوارث والمفلس(٥) .

ولا فرق بين أن تكون الدعوى بعينٍ أو بدَيْنٍ.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٩.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧١.

٤١

فروع :

أ - لو حلف بعض الغرماء - عند القائلين به - دون بعضٍ ، استحقّ الحالفون بالقسط‌ ، كما لو حلف بعض الورثة لدَيْن الميّت.

ب - ليس لمن امتنع من اليمين من الغرماء - إن جوّزنا لهم الحلف - مشاركة الحالف‌ ، كالوارث إذا حلف دون باقي الورثة ، لم يكن للباقين مشاركته ؛ لأنّ المقبوض باليمين ليس عينَ مال الميّت ولا عوضه بزعم الغريم.

ج - لو حلف الغرماء ثمّ أبرأوا عن ديونهم ، فالمحلوف عليه يُحتمل أن يكون للمفلس‌ ؛ لخروجه عن ملك المدّعى عليه بحلف الغرماء ، وعن ملك الغرماء بإبرائهم عن الدَّيْن ، فيبقى للمفلس. وأن يكون للغرماء ؛ لأنّه يثبت بحلفهم ، ويلغو الإبراء. وهو ضعيف. أو يبقى على المدّعى عليه ، ولا يستوفى أصلاً.

وللشافعي ثلاثة أوجُه(١) كهذه.

مسألة ٢٨٧ : الدَّيْن إن كان حالّاً أو حلّ بعد الأجل وأراد المديون السفر ، كان لصاحب الدَّيْن منعه من السفر حتى يقبض حقّه‌ ، وليس في الحقيقة هذا منعاً من السفر كما يمنع السيّدُ عبدَه والزوجُ زوجتَه ، بل يشغله عن السفر برفعه إلى الحاكم ومطالبته حتى يُوفي الحقّ ، وحبسه إن ماطَل.

وإن كان الدَّيْن مؤجَّلاً ، فإن لم يكن السفر مخوفاً ، لم يُمنع منه ؛ إذ ليس له مطالبته في الحال بالحقّ.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧١.

٤٢

وليس له أيضاً أن يطالبه برهن ولا كفيل ؛ لأنّه ليس له مطالبته بالحقّ فكيف يكون له المطالبة بالرهن أو الكفيل وهو المفرط في حظّ نفسه حيث رضي بالتأجيل من غير رهنٍ ولا كفيل!؟

وهل له أن يكلّفه الإشهاد؟ قال الشافعي : ليس له ذلك(١) .

والأقرب عندي أنّه يجب عليه الإشهاد ؛ لما فيه من إبراء الذمّة.

وإن كان السفر مخوفاً - كالجهاد ، وركوب البحر - لم يكن له المنع منه أيضاً ولا المطالبة برهن ولا كفيل ؛ إذ لا مطالبة له في الحال ، وهو أصحّ وجوه الشافعي.

والثاني : أنّه يمنعه إلى أن يؤدّي الحقّ أو يُعطي كفيلاً ؛ لأنّه في هذا السفر يُعرّض نفسه للهلاك فيضيع حقّه.

والثالث : إن لم يخلّف وفاءً ، مَنَعه. وإن خلّف ، لم يكن له منعه اعتماداً على حصول الحقّ منه(٢) .

مسألة ٢٨٨ : ولا فرق بين أن يكون الأجل قليلاً أو كثيراً‌ ، ولا بين أن يكون السفر طويلاً أو قصيراً ، فلو بقي للأجل نصف نهار ثمّ أراد إنشاء سفرٍ طويل في أوّله ، لم يكن لصاحب الدَّيْن منعه منه ، فإنه لا يجب عليه إقامة كفيل ولا دَفْع رهن ، وليس لصاحب الدَّيْن مطالبته بأحدهما ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال مالك : إذا علم حلول الأجل قبل رجوعه ، فله أن يطالبه بكفيل‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.

٤٣

- وهو قول بعض الشافعيّة - لأنّ عليه ضرراً في تأخّر حقّه(١) .

والضرر لحقه بواسطة التأجيل ، وهو من فعله ، ورضي به من غير كفيل ، فلم يكن له إزالته بعد ذلك ، وكما أنّه ليس له مطالبته بالحقّ في الحال ، كذا ليس له المطالبة بكفيلٍ ، كما لو لم يسافر.

ولو أراد صاحب المال أن يسافر معه ليطالبه عند الحلول ، فله ذلك بشرط أن لا يلازمه ملازمة الرقيب.

إذا ثبت هذا ، فإنّه إذا حلّ الأجل وهو في السفر وتمكّن من الأداء ، وجب عليه إمّا برجوعه أو بإنفاذ وكيله أو ببعث رسالته(٢) أو بغيره من الوجوه.

مسألة ٢٨٩ : الهبة من الأدنى للأعلى لا تقتضي الثواب‌ ؛ للأصل ، وهو أحد قولي الشافعي(٣) .

فإن شرطه ، صحّ عندنا ؛ لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٤) .

وللشافعي قولان على تقدير عدم اقتضاء الثواب(٥) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « رسالة ».

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٥٤ ، التنبيه : ١٣٩ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٤٩ ، حلية العلماء ٦ : ٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٤٣ ، و ٦ : ٣٢٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٤٦ ، منهاج الطالبين : ١٧٢ ، المغني ٦ : ٣٣١.

(٤) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٥٤ ، التنبيه : ١٣٩ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٣٠ ، حلية العلماء ٦ : ٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٤٦ - ٤٤٧ ، منهاج الطالبين : ١٧٢ ، المغني ٦ : ٣٣٢.

٤٤

فإن قلنا بالاقتضاء ، أو شرطه مطلقاً ، ففيه ثلاثة أقوال للشافعي :

أحدها : قدر قيمة الموهوب.

والثاني : ما جرت العادة بأن يُثاب مثله في تلك الهبة.

والثالث : ما يرضى به الواهب(١) .

فإذا وهب المفلس هبة توجب الثواب ثمّ حُجر عليه ، لم يكن له إسقاطه ؛ لأنّه تصرّفٌ في المال بالإسقاط ، فيُمنع منه.

فإن قلنا بوجوب القيمة أو ما جرت العادة بمثله ، لم يكن له أن يرضى إلّا بذلك.

وإن قلنا : له ما يرضيه ، كان له أن يرضى بما شاء وإن قلّ جدّاً ، ولا يعترض عليه - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّ المال لا يثبت إلّا برضاه ، فلو عيّنّا عليه الرضا ، لكان تعييناً للاكتساب.

مسألة ٢٩٠ : قد بيّنّا أنّه لو أقرّ بعين ، دُفعت إلى المـُقرّ له على إشكال.

ويُحتمل عدم الدفع ، ويكون حقّ الغرماء متعلّقاً بها.

فعلى تقدير عدم القبول لو فضلت عن أموال الغرماء دُفعت إلى المـُقرّ له قطعاً ؛ عملاً بالإقرار.

أمّا البيع فلو باعها حالة الحجر وقلنا بعدم النفوذ ففضلت عن أموال الغرماء ، ففي إنفاذ البيع فيها إشكال.

وكذا الإشكال لو ادّعى أجنبيّ شراء عينٍ منه في يده قبل الحجر‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٥٥ ، التنبيه : ١٣٩ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٥٠ - ٥٥١ ، حلية العلماء ٦ : ٥٨ - ٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٣٠ - ٥٣١ ، الوسيط ٤ : ٢٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٤٦.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٢.

٤٥

فصدّقه.

ولو قال : هذا المال مضاربة لغائبٍ ، قيل : يُقرّ في يده ؛ عملاً بمقتضى إقراره ، كما لو أقرّ بدَيْنٍ أو بعينٍ.

ولو قال : لحاضرٍ ، فإن صدّقه ، دُفع إليه على إشكال. وإن كذّبه ، قُسّم بين الغرماء.

ويضرب المجنيّ عليه بعد الحجر بالأرش وقيمة المتلف ، ويُمنع من قبض بعض حقّه.

ولا يُمنع من وطئ مستولدته.

والأقرب : منع غير المستولدة من إمائه ، فإن فَعَل وأحبل ، صارت أُمَّ ولدٍ ، ولا يبطل حقّ الغرماء منها مع القصور دونها.

البحث الثاني : في بيع ماله وقسمته

مسألة ٢٩١ : كلّ مَن امتنع من قضاء دَيْنٍ عليه مع قدرته وتمكّنه منه وامتنع من بيع ماله فإنّ على الحاكم أن يُلزمه بأدائه‌ أو يبيع عليه متاعه ، سواء كان مفلساً محجوراً عليه أو لا ، ويقسّمه بين الغرماء - وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمّد(١) - لما رواه العامّة : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حجر على معاذ ، وباع ماله في دَيْنه(٢) .

وخطب عمر فقال في خطبته : ألا إنّ أُسيفع جُهَيْنة قد رضي من دينه‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٧ ، التنبيه : ١٠١ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٤ و ١٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٤ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٤ ، المغني ٤ : ٥٢٩ و ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٧ ، الهامش (٤)

٤٦

وأمانته أن يقال : سبق الحاجَّ ، فادّان معترضاً(١) فأصبح وقد رين به ، فمَنْ كان له عليه مالٌ فليحضر غداً فإنّا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه(٢) .

وهذا رجل من جُهَيْنة كان يشتري الرواحل ويُسرع السير فيسبق الحاجَّ فأفلس.

و« ادّان » يعني استقرض. وقوله : « معترضاً » أي اعترض الناس فاستدان ممّن أمكنه. و« رين به » أي وقع فيما لا يستطيع الخروج منه.

قال أبو عبيد : كلّ ما غلبك فقد ران بك ورانك(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عمّار عن الصادقعليه‌السلام قال : « كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثمّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى باعه فقسّمه بينهم ، يعني ماله »(٤) .

وقال أبو حنيفة : لا يُباع ماله ، بل يحبسه ليبيع بنفسه ، إلّا أن يكون ماله أحدَ النقدين وعليه الآخَر ، فيدفع الدراهم عن الدنانير ، والدنانير عن الدراهم ؛ لأنّه رشيد لا ولاية لأحدٍ عليه ، فلم يجز للحاكم أن يبيع ماله عليه ، كما لو لم يكن عليه دَيْنٌ(٥) .

____________________

(١) في المصادر : « معرضاً ».

(٢) الموطّأ ٢ : ٧٧٠ / ٨ ( الباب ٨ من كتاب الوصيّة ) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٤ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨ ، المغني ٤ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٥.

(٣) غريب الحديث - للهروي - ٣ : ٢٧٠ « رين » وفيه : « ران بك وران عليك ». وحكاه عنه - كما في المتن - الرافعي في العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨.

(٤) الكافي ٥ : ١٠٢ ( باب إذا التوى الذي عليه الدَّيْن على الغرماء ) ح ١ ، التهذيب ٦ : ١٩١ / ٤١٢ ، الاستبصار ٣ : ٧ / ١٥.

(٥) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٤ و ١٦٥ ، =

٤٧

وقياسهم يُنتقض ببيع الدراهم بالدنانير وبالعكس ، فإنّه عنده(١) جائز ، فجاز في غير النقدين. ويُمنع عدم الولاية ؛ لأنّه بمنعه ظالم ، فجاز أن تثبت الولاية عليه ، كما أنّ الحاكم يُخرج الزكاة من مال الممتنع من أدائها.

مسألة ٢٩٢ : إذا حجر الحاكم على المفلس ، استحبّ له المبادرة إلى بيع ماله وقسمته‌ ؛ لئلّا يتلف منه شي‌ء ، ولئلّا تطول مدّة الحجر ، ولا يفرط في الاستعجال ؛ لئلّا يطمع المشترون فيه بثمن بخس.

ويستحبّ إحضار المفلس أو وكيله ؛ لأنّه يحصي ثمنه ويضبطه. ولأنّه أخبرُ بمتاعه وأعرفُ من غيره بجيّده من رديئه وثمنِه ، فيتكلّم عليه ويُخبر بقدره ، ويعرف المعيب من غيره. ولأنّه يكثر الرغبة فيه ، فإنّ شراءه من صاحبه أحبّ إلى المشترين. ولأنّه أبعد من التهمة ، وأطيب لنفس المفلس ، وأسكن لقلبه ، وليطّلع على عيبٍ إن كان ليباع على وجهٍ لا يُردّ. وكذا يفعل إذا باع المرهون ، وليس ذلك واجباً فيهما.

ويستحبّ أيضاً إحضار الغرماء ؛ لأنّه يُباع لهم ، وربما رغبوا في شراء شي‌ء منه فزادوا في ثمنه فانتفعوا هُم والمفلس. ولأنّه أطيب لقلوبهم وأبعد من التهمة.

مسألة ٢٩٣ : وينبغي للحاكم أن يبدأ ببيع المرهون وصرف الثمن إلى المرتهن‌ ؛ لاختصاص حقّ المرتهن بالعين. ولأنّه ربما زادت قيمة الرهن على الدَّيْن فيضمّ الباقي إلى مال المفلس ، وربما نقصت عن الدَّيْن فيضرب‌

____________________

= النتف ٢ : ٧٥٢ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٤ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨ ، المغني ٤ : ٥٢٩ - ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٥.

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٦١.

٤٨

المرتهن بباقي دَيْنه مع الغرماء.

ثمّ إن كان له عبدٌ جانٍ ، قدّم بيعه أيضاً ؛ لما قلناه من تعلّق حقّ المجنيّ عليه برقبته واختصاصه به ، وربما فضل من قيمته شي‌ء فأُضيف إلى مال مولى الجاني. ولا يساوي الرهن ، فإنّه إن نقص قيمته عن حقّ الجناية ، لم يستحقّ الباقي. ولأنّ حقّه لا يتعلّق بالذمّة بل بالعين خاصّةً ، والمرتهن يتعلّق حقّه بالعين والذمّة معاً.

مسألة ٢٩٤ : ويقدّم بيع ما يخاف عليه الفساد كالفواكه وشبهها‌ ؛ لئلّا يضيع على المفلس وعلى الغرماء ، ثمّ الحيوان ؛ لحاجته إلى النفقة وكونه عرضةً للهلاك ، ثمّ سائر المنقولات ؛ لأنّ التلف إليها أسرع من العقارات ، ثمّ سائر العقارات ؛ لأنّه لا يخشى عليها التلف ولا السرقة ، إلّا(١) مسكنه فإنّه لا يباع.

وينبغي أن يشهر حال بيعها بين الناس فيظهر الراغبون.

مسألة ٢٩٥ : ينبغي للحاكم أن يقول للمفلس والغرماء : ارتضوا مَنْ ينادي على الأمتعة والأموال‌ ؛ لأنّ الحاكم لا يكلّف ذلك ، بل يردّه إليهم ، فإنّه أبعد من التهمة ، فإن اتّفقوا على رجل وكان مرضيّاً ، أمضاه الحاكم. وإن لم يكن ثقةً ، ردّه.

لا يقال : أليس إذا اتّفق الراهن والمرتهن على [ أن يبيع ] الرهنَ غيرُ ثقة(٢) ، لم يكن للحاكم الاعتراضُ عليهما؟

لأنّا نقول : الفرق أنّ الحاكم لا نظر له مع الراهن والمرتهن ، وفي‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ولا » بدل « إلّا ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في « ج ، ر » : « على بيع الراهن غير ثقة ». وفي « ث » : « على بيع الرهن لغير ثقة ». وفي الطبعة الحجريّة : « على بيع الرهن من غير ثقة ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

٤٩

صورة المفلس له نظر واجتهاد في مال المفلس. ولأنّه قد يظهر غريم فيتعلّق حقّه ، فلهذا نظر فيه ، بخلاف الرهن.

فإن اختار المفلس رجلاً واختار الغرماء غيره ، نظر الحاكم فإن كان أحدهما غير ثقة دون الآخَر ، أقرّ الثقة منهما. وإن كانا ثقتين فإن كان أحدهما متطوّعاً دون الآخَر ، أقرّ المتطوّع ؛ لأنّه أوفر(١) عليهما. فإن كانا متطوّعين ، ضمّ أحدهما إلى الآخَر ؛ لأنّه أحوط. وإن كانا غير متطوّعين ، اختار أوثقهما وأعرفهما وأقلّهما أُجرةً.

فإن كان المبيع رهناً أو جانياً ، أمر بدفع الثمن إلى المرتهن أو وليّ المجنيّ عليه. وإن لم يتعلّق به إلّا حقّ الغرماء ، أمرهم باختيار ثقة يكون المال عنده مجموعاً ليقسّم بينهم على قدر حقوقهم.

تذنيب : ينبغي أن يرزق المنادي من بيت المال‌ ، وكذا مَنْ يلي حفظه ؛ لأنّ بيت المال مُعدٌّ للمصالح ، وهذا من جملتها. فإن لم يكن في بيت المال سعة أو كان يحتاج إليه لما هو أهمّ من ذلك ، فإن وجد متطوّع ثقة ، لم يدفع أُجرة. وإن لم يوجد ، دفع الأُجرة من مال المفلس ؛ لأنّ البيع حقٌّ عليه.

مسألة ٢٩٦ : ينبغي أن يُباع كلّ متاع في موضع سوقه‌ ، فتباع الكتب في سوق الورّاقين ، والبزّ في البزّازين ، والحديد في الحدّادين ، وما أشبه ذلك ؛ لأنّ بيعه في سوقه أحوط له وأكثر لطُلّابه ومعرفة قيمته.

فإن باع شيئاً منه في غير سوقه بثمن مثله ، جاز ، كما لو قال لوكيله : بِعْ هذا المتاع في السوق الفلاني بكذا ، فباعه بذلك الثمن في غير ذلك‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وفر ». والصحيح ما أثبتناه.

٥٠

السوق وكان غرض الموكّل تحصيل ذلك القدر من الثمن لا غير ، فإنّه يصحّ ، كذا هنا ، بخلاف ما لو قال له : بِعْ من فلان بكذا ، فباع من غيره بذلك الثمن ، فإنّه يكون قد خالف ؛ لأنّه قد يكون له غرض في بيعه من واحدٍ دون واحدٍ.

فإذا باع بثمن المثل ثمّ جاءته الزيادة ، فإن كان في زمن الخيار ، فسخ البيع احتياطاً للمفلس والغرماء.

وهل يجب ذلك؟ إشكال أقربه : الوجوب ، كما لو جاءت الزيادة على ثمن المثل قبل البيع.

وإن جاءت بعد لزوم البيع وانقطاع الخيار ، سئل المشتري الإقالة ، ويستحبّ له الإجابة إلى ذلك ؛ لتعلّقه بمصلحة المفلس والغرماء وقضاء دَيْن المحتاج. فإن لم يفعل ، لم يُجبر عليه.

مسألة ٢٩٧ : ويجب أن يبيع المتاع بثمن مثله حالّاً من نقد البلد‌ ، فإن كان بقُرْب بلدِ ملك المفلس بلدٌ فيه قوم يشترون العقار في بلد المفلس ، أنفذ الحاكم إليهم وأعلمهم ليحضروا للشراء ليتوفّر الثمن على المفلس ، فإذا بلغ ثمن مثله ، باعه ، ويبيع بنقد البلد وإن كان من غير جنس حقّ الغرماء ؛ لأنّه أوفر.

ثمّ إن كان الثمن من جنس مال الغرماء ، دفع إليهم. وإن كان من غير جنسه ، فإن لم يرض المستحقّون إلّا بجنس حقّهم ، صرفه إلى جنس حقّهم ، وإلّا جاز صَرفه إليهم.

ولو كان سَلَماً ومنعنا من المعاوضة عليه قبل قبضه ، اشترى الحاكم لهم من جنس حقّهم ، ودَفَعه إليهم.

ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع ، وقال المفلس : لا أُوفيك‌

٥١

إلّا من جنس مالك ، قُدّم قول المفلس ؛ لأنّه معاوضة ، ولا يجوز إلّا بتراضيهما عليه.

مسألة ٢٩٨ : لا يدفع السلعة إلى المشتري حتى يقبض الثمن ؛ حراسةً لمال المفلس عن التلف.

وقد سبق(١) للشافعيّة أقوال ثلاثة في البداءة بالبائع أو لا؟ فقولٌ : إنّه يبدأ بالبائع ، فيسلّم المبيع ثمّ يقبض الثمن. وقولٌ : إنّهما يُجبران على التسليم إلى عَدْلٍ. والثالث : أنّهما لا يُجبران.

وهذا الأخير لا يتأتّى هنا ؛ لتعلّق حقّ الغرماء بالثمن وهو حالّ ، فلا سبيل إلى تأخيره ، بل إمّا يُجبر المشتري على التسليم أوّلاً ، أو يُجبران معاً ، ولا يجي‌ء جبر البائع أوّلاً ؛ لأنّ مَنْ يتصرّف للغير لا بُدَّ وأن يحتاط. فإن خالف الواجب وسلّم المبيع قبل قبض الثمن ، ضمن.

وما يقبضه الحاكم من أثمان المبيع من أموال المفلس على التدريج إن كان الغريم واحداً ، سلّم إليه من غير تأخير. وكذا إن أمكنت قسمته بسرعة ، لم يؤخّر. وإن كان يعسر قسمته ؛ لقلّته وكثرة الديون ، فله أن يؤخّر ليجتمع. فإن امتنعوا من التأخير ، قسّمه عليهم.

وقال بعض الشافعيّة : يُجبرهم الحاكم على التأخير(٢) .

وليس بجيّد.

وإذا تأخّرت القسمة فإن وجد الحاكم مَنْ يقترضه من الأُمناء ذوي اليسار أقرضهم إيّاه ، فإنّه أولى من الإيداع ؛ لأنّ القرض مضمون على‌

____________________

(١) في ج ١٠ ص ١٠٨ - ١٠٩ ( النظر الثاني في وجوب القبض ).

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٧ - ٣٧٨ ، وفيهما : « فإن أبوا التأخير ، ففي النهاية إطلاق القول بأنّه يجيبهم. والظاهر خلافه ».

٥٢

المقترض ، بخلاف الوديعة ، فإنّها غير مضمونة على المستودع ، وهي أمانة في يده لا يؤمن تلفها ، فلا يرجع المفلس والغرماء إلى شي‌ء. فإن لم يجد مَنْ يُقرضه إيّاه ، جَعَله وديعةً عند أمين. ولو أودع مع وجود المقترض الأمين المليّ ، كان جائزاً ، لكنّه يكون قد ترك الأولى.

إذا ثبت هذا ، فإنّه يقرض المال من المليّ الثقة حالّاً غير مؤجَّل ؛ لأنّ الديون حالّة.

ولو أجّله بأن شرط الأجل في بيعٍ وشبهه عندنا ومطلقاً عند مالك(١) ، لم يجز.

قال الشافعي : مال الصبي يودع ولا يقرض(٢) .

وفرّق بعض أصحابه بأنّ مال الصبي يُعدّ لمصلحة تظهر له من شراء عقار ، أو تجارة ، وقرضه قد يتعذّر معه المبادرة إلى ذلك ، ومال المفلس مُعدٌّ للغرماء خاصّةً ، فافترقا(٣) .

مسألة ٢٩٩ : إذا لم يوجد المقترض ، أودعه الحاكم عند الثقة ، ولا يشترط فيه اليسار ، بل إن حصل كان أولى.

وينبغي أن يودع ممّن يرتضيه الغرماء ، فإن اختلفوا أو عيّنوا مَنْ ليس بعَدْلٍ ، لم يلتفت الحاكم ، وعيّن هو مَنْ أراد من الثقات ، ولا يودع مَنْ ليس بعَدْلٍ.

ولو تلف شي‌ء من الثمن في يد العَدْل ، فهو من ضمان المفلس ، وبه‌

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٣١٨.

(٢) لم نعثر على نصّه ، وانظر : المهذّب - للشيرازي - ٣ : ٣٣٦ ، وحلية العلماء ٤ : ٥٢٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٣ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٢٦.

(٣) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر المتوفّرة.

٥٣

قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال مالك : العروض من ماله ، والدراهم والدنانير من مال الغرماء(٢) .

وقال المغيرة : الدنانير من مال أصحاب الدنانير ، والدراهم من مال أصحاب الدراهم(٣) .

وليس بشي‌ء ؛ لأنّ المال للمفلس ، وإنّما يملكه الغرماء بقبضه ، لكن تعلُّق حقِّهم به يجري مجرى الرهن حيث تعلّق حقّ المرتهن به ، وكما أنّ تلف الرهن من الراهن وإن كان في يد المرتهن ، كذا هنا.

واعلم أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الضياع في حياة المفلس أو بعد موته ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال أبو حنيفة : ما يتلف بعد موته فهو من ضمان الغرماء(٥) .

مسألة ٣٠٠ : إذا ثبتت الديون عند الحاكم وطلب أربابها القسمةَ عليهم ، لم يكلّفهم الحاكمُ إقامةَ البيّنة‌ على أنّه لا غريم سواهم ، ويكتفي الحاكم في ذلك بالإعلان والإشهاد بالحجر عليه ؛ إذ لو كان هناك غريم لظهر وطالَب بحقّه.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣١٧ و ٣٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٨ ، المغني ٤ : ٥٣٨ - ٥٣٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٩.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٠ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٣٩.

(٣) المغني ٤ : ٥٣٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٠.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ١٤١ و ٣٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٨.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ١٤١ و ٣٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠.

٥٤

ولا فرق بين القسمة على الغرماء والقسمة على الورثة ، إلّا أنّ الورثة يحتاجون إلى إقامة البيّنة على أنّه لا وارث غيرهم ، بخلاف الغرماء.

والفرق : أنّ الورثة أضبط من الغرماء ، وهذه شهادة على النفي يعسر تحصيلها ومدركها ، فلا يلزم من اعتبارها حيث كان الضبط أسهل اعتبارُها حيث كان أعسر(١) .

مسألة ٣٠١ : إذا قسّم الحاكمُ مالَ المفلس بين غرمائه ثمّ ظهر غريمٌ آخَر ، احتُمل عدم نقض القسمة‌ ، بل يشاركهم الغريم الظاهر بالحصّة ؛ لأنّ المقصود يحصل به.

وقال الشافعي : تُنقض القسمة ، فيستردّ المال من الغرماء ، وتُستأنف القسمة ، كالورثة إذا قسّموا التركة ثمّ ظهر دَيْنٌ ، فإنّه تُنقض القسمة ؛ لأنّ الغريم لو كان حاضراً قاسَمهم ، فإذا ظهر بعد ذلك ، كان حقّه باقياً. ولا يلزم من ذلك نقض حكم الحاكم بالقسمة ؛ لأنّ ذلك ليس حكماً منه ، كما لو زوّج الصغيرة ، لم يصح نكاحه. ولو حكم بالتزويج حاكمٌ آخَر ، نفذ عند الشافعي(٢) .

وأمّا عندنا فالجواب أن نقول : إنّه قسّم على أنّه لا غريم هناك ، فإذا ظهر غريمٌ آخَر ، كان ذلك خطأً ، فلهذا نُقضت القسمة.

وعن مالك روايتان : إحداهما : تُنقض. والثانية : لا تُنقض ، ولا يخاصمهم الغريم الظاهر ؛ لأنّه نقضٌ لحكم الحاكم(٣) .

____________________

(١) أي : حيث كان الضبط أعسر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠ ، و ٧ : ٥٣٣ و ٥٤٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٨ ، و ٥ : ٣٩٩ و ٤٣٦.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٥٢٢ ، المغني ٤ : ٥٣٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٦.

٥٥

ووافقنا أحمد(١) على أنّه يشارك.

مسألة ٣٠٢ : لو قسّم الغريمان المالَ - وهو خمسة عشر ، ولأحدهما عشرون ، وللآخَر عشرة - أثلاثاً ، فأخذ صاحبُ العشرين عشرةً‌ ، وصاحبُ العشرة خمسةً ، ثمّ ظهر غريمٌ ثالث وله ثلاثون ، فإن قلنا بالنقض ، نقضت القسمة ، وبُسط المال على نسبة ما لكلّ واحدٍ منهم. وإن قلنا بعدم النقض ، استردّ الظاهرُ من كلّ واحدٍ منهما نصفَ ما حصل له.

ولو كان [ دين كلّ واحدٍ منهما عشرة وقسّم المال بينهما نصفين وكان ](٢) الذي ظهر له عشرةٌ ، رجع على كلّ واحدٍ منهما بثلث ما أخذ. فإن أتلف أحدهما ما أخذ وهو معسر لا يحصل منه شي‌ء ، احتُمل أن يأخذ الغريم الذي ظهر من الآخَر شطر ما أخذ ، فكأنّه كلّ المال ، ثمّ إن أيسر المتلف ، أخذ منه ثلث ما أخذه وقسّماه بينهما. وأن لا يأخذ منه إلّا ثلث ما أخذه ، وثلث ما أخذه المتلف دَيْنٌ عليه له.

ولو أنّ الغريم الثالث ظهر وقد ظهر للمفلس مالٌ قديم أو حادث بعد الحجر ، صُرف منه إلى مَنْ ظهر بقسط ما أخذه الأوّلان ، فإن فضل شي‌ء ، قُسّم على الثلاثة.

وإنّما يشارك الغريم الظاهر لو كان حقّه سابقاً على الحجر ، أمّا لو كان حادثاً بعد الحجر ، فلا يشارك الأوّلين في المال القديم.

وإن ظهر مالٌ قديم وحدث مال باتّهابٍ(٣) أو احتطابٍ وشبهه ، فالقديم للقدماء خاصّةً ، والحادث للجميع.

____________________

(١) المغني ٤ : ٥٣٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٦.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « اتّهاب ». والصحيح ما أُثبت.

٥٦

مسألة ٣٠٣ : إذا باع المفلس شيئاً من ماله قبل الحجر وتلف الثمن في يده بإتلافه‌ أو بغير إتلافه ثمّ حَجَر عليه الحاكمُ ، كان ذلك كدَيْنٍ ظهر على المفلس ، والحكم ما تقدّم.

ولو باع الحاكمُ مالَه وظهر الاستحقاق بعد قبض الثمن وتلفه ، رجع المشتري في مال المفلس ، ولا يطالب الحاكم به. ولو نصب الحاكم أميناً حتى باعه ، ففي كونه طريقاً إشكال ، كما في العَدْل الذي نصبه القاضي لبيع الرهن.

ثمّ رجوع المشتري في مال المفلس ورجوع الأمين إن قلنا : إنّه طريقٌ للضمان وغرم ، للشافعي فيه قولان :

أحدهما : أنّه يضارب مع الغرماء ؛ لأنّه دَيْنٌ في ذمّة المفلس ، كسائر الديون.

والثاني : أنّه يُقدَّم على الغرماء ؛ لأنّا لو قلنا بالضمان به ، لرغب الناس عن شراء مال المفلس ، فكان التقديم من مصالح الحَجْر ، كأُجرة الكيّال ونحوها من المـُؤن(١) .

والثاني عندي أقوى.

مسألة ٣٠٤ : يجب على الحاكم أن يُنفق على المفلس إلى يوم الفراغ من بيع ماله وقسمته‌ ، فيعطيه نفقة ذلك اليوم له ولعياله الواجبي النفقة من الزوجات والأقارب ؛ لأنّه موسر ما لم يزل ملكه. وكذا يكسوهم بالمعروف. وكلّ هذا إذا لم يكن له كسب يصرف إلى هذه الجهات.

وهل ينفق على الزوجات نفقة المعسرين أو الموسرين؟ الأقرب عندي : الأوّل.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٩.

٥٧

ويُحتمل الثاني ؛ لأنّه لو أنفق نفقة المعسر لما لزمه نفقة الأقارب.

وللشافعي قولان(١) .

مسألة ٣٠٥ : لا يُباع على المفلس مسكنه ولا خادمه ولا فرس ركوبه ، وقد تقدّم(٢) ذلك في باب الدَّيْن.

وقد وافقنا على عدم بيع المسكن أبو حنيفة وأحمد وإسحاق ؛ لأنّه ممّا لا غنى للمفلس عنه ، ولا يمكن حياته بدونه ، فلم يصرف في دَيْنه ، كقوته وكسوته(٣) .

وقال الشافعي : يُباع جميع ذلك - وبه قال شريح ومالك - ويستأجر له بدلها - واختاره ابن المنذر - لقولهعليه‌السلام في المفلس : « خُذُوا ما وجدتم »(٤) وقد وجد عقاره(٥) .

وهو قضيّة شخصيّة جاز أن يقع في مَنْ لا عقار له ، مع أنّ الشافعي قال : إنّه يُعدل في الكفّارات المرتّبة إلى الصيام وإن كان له مسكن وخادم ، ولا يلزمه صرفهما إلى الإعتاق(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٠.

(٢) في ج ١٣ ، ص ١٦ ، المسألة ١٣.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٨ ، المغني ٤ : ٥٣٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٦.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٩١ / ١٥٥٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٩ / ٢٣٥٦ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٧٦ / ٣٤٦٩ ، سنن النسائي ٧ : ٢٦٥ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٠٥ ، و ٦ : ٥٠ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٣١٩ / ٣٣٠٢ ، مسند أحمد ٣ : ٤٦١ / ١١١٥٧ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٤١.

(٥) الأُمّ ٣ : ٢٠٢ ، مختصر المزني : ١٠٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٦ ، الوسيط ٤ : ١٥ ، الوجيز ١ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٠ ، منهاج الطالبين : ١٢١.

(٦) الأُمّ ٥ : ٢٨٣ ، مختصر المزني : ٢٠٥ ، الحاوي الكبير ١٠ : ٤٩٦ ، الوجيز ١ : =

٥٨

فبعض أصحابه خرّج منه قولين في الديون. وبعضهم قرّر القولين ، وفرّقوا من وجهين :

أحدهما : أنّ الكفّارة لها بدل ينتقل إليه ، والدَّيْن بخلافه.

وثانيهما : أنّ حقوق الله تعالى مبنيّة على المساهلة ، وحقوق الآدميّين على الشُّحّ والمضايقة.

ثمّ قالوا : المسكن أولى بالإبقاء من الخادم ، فينتظم أن يرتّب الخلاف ، فيقال : فيهما ثلاثة أوجُه ، في الثالث يبقى المسكن دون الخادم.

فإن قلنا بالإبقاء ، فذاك إذا كان الإبقاء لائقاً بالحال ، دون النفيس الذي لا يليق به ، ويشبه أن يكون المراد ذلك : أنّه إن كان ثميناً ، بِيع ، وإلّا فلا(١) .

مسألة ٣٠٦ : يجب على الحاكم أن يترك له دَسْت ثوبٍ يليق بحاله وقميص وسراويل ومنديل ومكعَّب‌(٢) ، ويزيد في الشتاء جبّة ، ويترك له العمامة والطيلسان والخُفّ ودراعة يلبسها فوق القميص إن كان لُبْسها يليق بحاله ؛ لأنّ حطّها عنه يزري بحاله.

وفي الطيلسان والخُفّ نظر.

والأولى الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه ، لا في حال ثروته.

ولو كان يلبس قبل الإفلاس أزيد ممّا يليق بحاله ، رُدّ إلى اللائق. وإن كان يلبس دون اللائق تقتيراً ، لم يزد عليه في الإفلاس. ويترك لعياله من الثياب ما يترك له ، ولا تُترك الفُرُش والبُسُط ، بل يسامح باللبد والحصير القليل القيمة.

____________________

= ١٧١ ، و ٢ : ٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢ ، و ٩ : ٣١٤ - ٣١٥ ، الوسيط ٤ : ١٥ ، روضة الطالبين ٦ : ٢٧٠.

(١) الوسيط ٤ : ١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٠.

(٢) المكعَّب : البُرْدُ الموشى بوشْيٍ مربّع. ويقال : ثوبٌ مكعَّب : أي مطوي شديد الأدراج. شمس العلوم ٩ : ٥٨٥٢.

٥٩

مسألة ٣٠٧ : يجوز أن يترك له نفقة يوم القسمة‌ ، وكذا نفقة مَنْ عليه نفقته ؛ لأنّه موسر في أوّل ذلك اليوم. ولا يزيد على نفقة ذلك اليوم ، فإنّه لا ضبط بعده. وكلّ ما يُترك له إذا لم يوجد في ماله ، اشتري له ؛ لقولهعليه‌السلام : « ابدأ بنفسك ثمّ بمَن تعول »(١) ومعلومٌ أنّ في مَنْ يعوله مَنْ تجب نفقته عليه ، ويكون دَيْناً عليه ، وهي الزوجة ، فإذا قدّم نفقة نفسه على نفقة الزوجة ، فكذا على حقّ الغرماء ؛ لأنّ حرمة الحيّ آكد من حرمة الميّت ؛ لأنّه مضمون بالإتلاف ، ويتقدّم تجهيز الميّت ومؤونته على دَيْنه ، فكذا نفقة الحيّ.

وتُقدّم أيضاً نفقة أقاربه ، كالوالدين والولد ؛ لأنّهم يجرون مجرى نفسه ؛ لأنّ النفقة لإحيائهم. ولأنّهم يعتقون عليه إذا ملكهم ، كما يعتق إذا ملك نفسه ، فكانت نفقتهم كنفقته.

وكذا زوجته تُقدّم نفقتها ؛ لأنّ نفقتها آكد من نفقة الأقارب ؛ لأنّها تجب على طريق المعاوضة ، ويجب قضاؤها ، بخلاف نفقة الأقارب ، وفيها معنى الإحياء ، كما في الأقارب.

وتجب كسوتهم أيضاً ؛ لأنّ البقاء لا يتمّ بدونه. فإن كان ممّن عادته الثياب الخشنة ، دُفع إليه من الخشن. وإذا كانت عادته الناعم ، دُفع إليه أوسط الناعم. وإن كان لباسه من فاخر الثياب الجيّدة ، اشتري له من ثمنها أقلّ ما يلبس أقصد مَنْ هو في مثل حاله.

ولو كان ذا كسب ، جُعلت نفقته في كسبه ، فإن فضل الكسب ، فالفاضل للغرماء. وإن أعوز ، أُخذ من ماله.

مسألة ٣٠٨ : ولو مات ، كُفّن من ماله‌ ؛ لأنّ نفقته كانت واجبةً في ماله حالة الحياة فوجب تجهيزه إذا مات ، كأقاربه.

____________________

(١) نوادر الأُصول في أحاديث الرسول ١ : ٢٤٦.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510