تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 406194 / تحميل: 5177
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

[ ويلزمه كفن الزوجة ](١) وهو أحد قولي الشافعي(٢) .

وقال في الآخَر : لا يلزمه كفنها - وبه قال أحمد - لأنّ النفقة وجبت في مقابلة الاستمتاع وقد فات بالموت ، فسقطت النفقة ، بخلاف الأقارب ، فإنّ قرابتهم باقية(٣) .

وينتقض بالعبد ؛ فإنّ النفقة وجبت بالملك وقد زال بموته ومع هذا يجب تجهيز العبد.

إذا ثبت هذا ، فإنّه يكفّن الكفن الواجب ، وهو ثلاثة أثواب : مئزر ، وقميص ، وإزار عندنا.

ومَن اقتصر في الواجب على الواحد اقتصر عليه(٤) هنا.

ولا يجوز أن يكفّن أزيد ممّا تستحبّ زيادته ، إلّا بإذن الغرماء.

مسألة ٣٠٩ : لا يؤمر المفلس بتحصيل ما ليس بحاصلٍ له‌ وإن لم يُمكَّن من تفويت ما عنده حتى لو جنى على المفلس أو على عبده جانٍ ، فله القصاص ، ولا يلزمه أن يعفو على المال ؛ لأنّه اكتساب.

ولو أوجبت الجناية المالَ ، لم يكن له العفو مجّاناً ؛ لأنّه تفويت ، إلّا بإذن الغرماء.

وكذا لو قُتل المفلس ، لم يكن لوارثه العفوُ مجّاناً إن كان قُتل خطأً.

ولو أسلم في شي‌ء ، لم يكن له أن يقبض أدون صفةً أو قدراً ، إلّا بإذن الغرماء.

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٧.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٧ ، المغني ٤ : ٥٣٤ - ٥٣٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٩.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عليها ». والصحيح ما أثبتناه.

٦١

فإذا قُسّم ماله وقصر عن الديون أو لم يكن له مالٌ ألبتّة ، لم يؤمر بالتكسّب ولا بأن يؤاجر نفسه ليصرف الأُجرة والكسب في الديون أو في نفقتها - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لقوله تعالى :( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٢) .

ولما رواه العامّة عن أبي سعيد الخدري : أنّ رجلاً أُصيب في ثمار ابتاعها فكثر دَيْنه ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تصدّقوا عليه » فتصدّقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « خُذُوا ما وجدتم [ و ](٣) ليس لكم إلّا ذلك »(٤) .

ولأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا حجر على معاذ لم يزد على بيع ماله(٥) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن الباقرعليهما‌السلام : « أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يحبس في الدَّيْن ، فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً »(٦) .

واستعدت امرأة على زوجها عند أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه لا ينفق عليها وكان زوجها معسراً ، فأبى أن يحبسه وقال : « إنّ مع العسر يسراً »(٧) ولو كان التكسّب واجباً لأمر به.

ولأنّ هذا تكسّب للمال ، فلا يُجبر عليه ، كما لا يُجبر على قبول الهبة‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٢ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٤٢٢ ، المعونة ٢ : ١١٨٣ ، المغني ٤ : ٥٣٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٧.

(٢) البقرة : ٢٨٠.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٥٧ ، الهامش (٤)

(٥) راجع : الهامش (٤) من ص (٧)

(٦) التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٦.

(٧) التهذيب ٦ : ٢٩٩ - ٣٠٠ / ٨٣٧.

٦٢

والصدقة ولا تُجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر ، كذا هنا.

وعن مالك رواية أُخرى : أنّه إن كان ممّن يعتاد إجارة نفسه ، لزمه(١) .

وقال أحمد - في الرواية الشهيرة عنه - وإسحاق : يؤاجر ، فإن امتنع أجبره القاضي - وبه قال عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن الحسن العنبري وسوار القاضي - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله باع سرقاً في دَيْنه ، وكان سرق رجلاً دخل المدينة وذكر أنّ وراءه مالاً ، فداينه الناس ، فركبته الديون ولم يكن وراءه مال ، فأُتي به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسمّاه [ سرقاً ](٢) وباعه بخمسة أبعرة. قالوا : والحُرّ لا يجوز بيعه ، فثبت أنّه باع منافعه. رواه العامّة(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه السكوني عن الصادق عن الباقرعليهما‌السلام : « أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يحبس في الدَّيْن ثمّ ينظر فإن كان له مالٌ أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مالٌ دَفَعَه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم آجروه ، وإن شئتم استعملوه »(٤) وذكر الحديث.

ولأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحّة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة ، كالأعيان(٥) .

والحديث الذي رووه من طريق العامّة منسوخ بالإجماع ؛ لأنّ البيع وقع على رقبته ، ولهذا روي في الحديث أنّ غرماءه قالوا للّذي يشتريه :

____________________

(١) الوسيط ٤ : ١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) المغني ٤ : ٥٤٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٨.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٠٠ / ٨٣٨ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٥.

(٥) المغني ٤ : ٥٤٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٧ ، الوسيط ٤ : ١٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣.

٦٣

ما تصنع به؟ فقال : أعتقه ، فقالوا : لسنا بأزهد منك في إعتاقه ، فأعتقوه(١) .

وحديث الخاصّة ضعيف السند ؛ لأنّه رواية السكوني ، وهو عامّيّ المذهب.

والمنافع لا تجري مجرى المال في جميع الأحكام ، فإنّه لا يجب عليه الحجّ لأجل المنافع ، ولا الزكاة.

مسألة ٣١٠ : لو كانت له أُمّ ولدٍ أو ضيعةٌ موقوفة عليه ، ففي وجوب مؤاجرتهما نظر‌ : من حيث إنّ المنافع وإن لم تكن مالاً فإنّها تجري مجراها ، فيجعل بدلها للدَّيْن ، ومن حيث إنّ المنافع لا تُعدّ أموالاً حاضرة حاصلة ، ولو كانت تُعدّ من الأموال ، لوجب إجارة المفلس نفسه ، ولوجب بها الحجّ والزكاة. والثاني أقرب.

وللشافعيّة وجهان(٢) كهذين.

فعلى الأوّل يؤاجره مرّةً بعد أُخرى إلى أن يفنى الدَّيْن ، فإنّ المنافع لا نهاية لها ، وقضيّته إدامة الحجر إلى قضاء الدَّيْن. لكنّه كالمستبعد.

وفي جواز بيع أُمّ الولد نظرٌ ، أقربه ذلك إن كانت قد رُهنت قبل الاستيلاد ، فإنّها تُباع في الرهن ، أو كان ثمنها دَيْناً على مولاها ولا وجه له سواها.

مسألة ٣١١ : إذا قسّم الحاكمُ مالَ المفلس بين الغرماء ، انفكّ حجره ، ولا حاجة إلى حكم الحاكم بذلك ؛ لأنّ الحجر لحفظ المال على الغرماء وقد حصل الغرض ، فيزول الحجر ، وهو أحد قولي الشافعي.

____________________

(١) المغني ٤ : ٥٤٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٩.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٢ ، منهاج الطالبين : ١٢١.

٦٤

والأظهر عنده : أنّه لا بُدَّ من فكّ القاضي ؛ لأنّه حَجْرٌ لا يثبت إلّا بإثبات القاضي ، فلا يرفع إلّا برفعه ، كالسفيه. ولأنّه حجر يحتاج إلى نظر واجتهاد كحجر السفيه(١) .

ونمنع الملازمة الأُولى ؛ فإنّ الحجر هنا لمعنىً وقد زال ، بخلاف السفيه ، فإنّه لا يُعلم زواله إلّا بعد الاختيار المستند إلى الحاكم. ولأنّ هذا الحجر لتفريق ماله وقد حصل ، وذلك لحفظ ماله ، فتركه محجوراً عليه يزيد في الغرض. ولأنّه حجر للغرماء وقد اعترفوا بسقوطه.

هذا إذا اعترف الغرماء بأن لا مال له سواه ، ولو ادّعوا مالاً ، فسيأتي.

مسألة ٣١٢ : لو اتّفق الغرماء على رفع الحجر عنه ، فالأقوى رفعه‌ ؛ لأنّ الحجر لهم ، وهو حقّهم ، وهُمْ في أموالهم كالمرتهن في حقّ المرهون ، وهو أحد قولي الشافعي.

والآخَر : أنّه لا يرتفع ؛ لاحتمال أن يكون هناك غريمٌ آخَر - سواهم - غائب ، فلا بُدَّ من نظر الحاكم واجتهاده(٢) .

وإدامة العقوبة بالتجويز غير جائز ، ولهذا إذا قسّم المال ، لم يزل تجويز ورود غريمٍ.

ولو باع المفلس مالَه من غريمٍ بدَيْنه ولا يُعرف له غريمٌ سواه ، فالأقرب : صحّة البيع ؛ لأنّ الحجر عليه لدَيْن ذلك الغريم ، فإذا رضي وبرئت ذمّته ، وجب أن يصحّ ، وهو أحد قولي الشافعي(٣) .

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٥١٩ ، الوسيط ٤ : ١٥ ، الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٢.

(٢) الوسيط ٤ : ١٥ ، الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ - ٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.

(٣) الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.

٦٥

والأظهر عنده(١) : أنّه لا يصحّ من غير مراجعة القاضي ؛ لأنّ الحجر على المفلس لا يقتصر على الغريم الملتمس ، بل يثبت على العموم ، ومن الجائز أن يكون له غريمٌ آخَر(٢) .

والوجهان مفرَّعان على أنّ بيع المفلس من الأجنبيّ لا يصحّ ، فإن صحّ ، فهذا أولى(٣) .

ولو حجر لديون جماعة وباع أمواله منهم بديونهم ، فعلى الخلاف(٤) .

ولو باع ماله من غريمه الواحد بعين أو ببعض دَيْنه ، فهو كما لو باع من الأجنبيّ ؛ لأنّ ذلك لا يتضمّن ارتفاع الحجر ، بخلاف ما إذا باع [ بكلّ الدَّيْن ، فإنّه يسقط الدَّين ، فإذا سقط الدَّيْن ارتفع الحجر.

ولو باع ](٥) من أجنبيّ بإذن الغرماء ، لم يصح(٦) .

والوجه : الصحّة - وهو أحد قولي الشافعي(٧) - كما يصحّ بيع المرهون بإذن المرتهن.

وإذا قلنا : إنّه إذا فُرّقت أمواله وقُضيت الديون ارتفع الحجر عنه ، صحّ البيع من الغريم بالدَّيْن ؛ لتضمّنه البراءة من الدَّيْن.

ويمكن أن يقال : لا نجزم بصحّة البيع.

وإن قلنا : إنّ سقوط الدَّيْن يُسقط الحجر ؛ لأنّ صحّة البيع إمّا أن تفتقر إلى ارتفاع الحجر أو لا ، فإن افتقرت ، وجب الجزم بعدم الصحّة ، وإلّا لزم‌

____________________

(١) في « ج ، ر » : « عندهم ».

(٢) الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥.

(٥) ما بين المعقوفين أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز » و« روضة الطالبين ».

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.

٦٦

الدور ؛ لأنّه لا يصحّ البيع ما لم يرتفع الحجر ، ولا يرتفع الحجر ما لم يسقط الدَّيْن ، ولا يسقط الدَّيْن ما لم يصحّ البيع.

وإن لم تفتقر ، فغاية الممكن اقتران صحّة البيع وارتفاع الحجر ، فلتخرج الصحّة على الخلاف فيما إذا قال : كلّما ولدت ولداً فأنت طالق ، فولدت ولداً بعد ولد هل تطلّق بالثاني؟ وفيما إذا قال العبد لزوجته : إن مات سيّدي فأنتِ طالق طلقتين ، وقال السيّد لعبده : إذا متُّ فأنت حُرٌّ ، فمات السيّد ، هل له نكاحها قبل زوج وإصابة؟(١) .

وهذا عندنا لا يتأتّى.

البحث الثالث : في حبسه

مسألة ٣١٣ : مَنْ وجب عليه دَيْنٌ حالّ فطُولب به ولم يؤدّه ، نظر الحاكم فإن كان في يده مالٌ ظاهر‌ ، أمره الحاكم بالقضاء ، فإن ذكر أنّه لغيره ، حكم عليه بإقراره إن صدّقه المـُقرّ له أو لم يُعلم منه تصديق ولا تكذيب.

فإن كذّبه ، لم يقبل منه إقراره ، وألزمه بالخروج من الديون ، فإن امتنع مع قدرته على القضاء، حبسه الحاكم.

ويحلّ لصاحب الدَّيْن الإغلاظ له في القول بأن يقول : يا ظالم ، يا معتدي ، ونحو ذلك ؛ لقولهعليه‌السلام : « ليّ الواجد يُحلّ عقوبتَه وعِرْضَه »(٢) .

والليّ : المطل. والعقوبة : حبسه. والعرض : الإغلاظ له في القول.

وقالعليه‌السلام : « إنّ لصاحب الحقّ مقالاً »(٣) .

ولو ظهر عناده بإخفاء ماله وعلم يساره وتمكّنه ، كان للحاكم ضربه.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٥٥.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٥٥ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٥ / ١٦٠١.

٦٧

ولو لم يكن في يده مالٌ ظاهر ، فإن كان أصل الدعوى مالاً أو كان قد عُرف له أصلُ مالٍ ثمّ خفي أمره ، طُولب بالبيّنة على الإعسار. وإن كانت الدعوى غرامةً عن إتلافٍ أو جناية ولم يُعرف له قبل ذلك أصلُ مالٍ ، حكم بقوله مع اليمين.

مسألة ٣١٤ : إذا ثبت إعسار المديون عند الحاكم بالبيّنة أو بإقرار الغريم ، لم يجز حبسه ولا ملازمته‌ ، ووجب إنظاره ؛ لقوله تعالى :( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (١) .

ولما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لغرماء الذي كثر دَيْنه : « خُذُوا ما وجدتم ، وليس لكم إلّا ذلك »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام : « إنّ عليّاًعليه‌السلام كان يحبس في الدَّيْن ، فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً »(٣) .

ولأنّ الحبس إمّا لإثبات الإعسار أو لقضاء الدَّيْن ، والأوّل ثابت ، والقضاء متعذّر ، فلا فائدة في الحبس.

وقال أبو حنيفة : للغريم ملازمته ، لكن لا يمنعه من التكسّب(٤) .

مسألة ٣١٥ : إذا كان للمديون مالٌ ، أمره الحاكم ببيعه وإيفاء الدَّيْن من ثمنه مع مطالبة أربابها‌ ، فإن امتنع ، باع الحاكم متاعه عليه ، وقضى منه الدَّيْن ، وبه قال الشافعي وأحمد(٥) .‌

____________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٥٧ ، الهامش (٤)

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٦١ ، الهامش (٦)

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣ ، المغني ٤ : ٥٤٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٠.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٤٥ ، الهامش (١)

٦٨

وقال أبو حنيفة : لا يبيع الحاكم ، بل يحبس الغريم إلى أن يبيع هو بنفسه(١) .

وقد تقدّم(٢) البحث في ذلك.

وهل للحاكم أن يحجر عليه؟ الأقرب عندنا : المنع ؛ لأنّ التقدير أنّه متمكّن من الإيفاء ، فلا معنى للحجر ، بل يُحبس أو يُباع عليه ، وهو أحد وجهي الشافعي.

والثاني : أنّه يحجر عليه إذا التمسه الغرماء ؛ لئلّا يتلف ماله(٣) .

ولو أخفى ماله ، حبسه القاضي حتى يُظهره.

روي أنّهعليه‌السلام قال : [ « ليّ الواجد يُحلّ عِرْضَه وعقوبته »(٤) .

قال المفسّرون : أراد بالعقوبة الحبس و ](٥) الملازمة ، فإن لم ينزجر [ بالحبس ](٦) زاد في تعزيره بما يراه من ضرب وغيره.

ولو كان له مالٌ ظاهر ، فهل يحبسه لامتناعه؟ الأولى ذلك ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حبس رجلاً أعتق شقصاً له من عبد في قيمة الباقي(٧) .

فإن ادّعى أنّه قد تلف ماله وصار معسراً ، فعليه البيّنة ، فإن شهدوا على التلف ، قُبلت شهادتهم ولم يُعتبر فيهم الخِبْرة الباطنة. وإن شهدت على إعساره ، قُبلت إن كانوا من أهل الخِبْرة الباطنة.

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٦ ، الهامش (٥)

(٢) في ص ٤٥ ، المسألة ٢٩١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.

(٤) صحيح البخاري ٣ : ١٥٥.

(٥ و ٦) ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، وراجع سنن البيهقي ٦ : ٤٩.

٦٩

ويُحمل قولهم : « إنّه(١) معسر » على أنّهم وقفوا على تلف المال.

فإن ادّعى المديون أنّه معسر لا شي‌ء له ، أو قُسّم مال المحجور على الغرماء وبقي بعض الدَّيْن فزعم أنّه لا يملك شيئاً آخَر وأنكر صاحب الدَّيْن أو الغرماء إعسارَه ، فإن كان الدَّيْن لزمه في مقابلة مالٍ - كما إذا ابتاع أو استقرض ، أو باع سَلَماً - فهو كما لو ادّعى هلاك المال ، فعليه البيّنة. وإن لزم لا في مقابلة مالٍ ، قُبل قوله مع اليمين ؛ لأنّ الأصل العدم ، وهو أصحّ وجوه الشافعيّة.

والثاني : أنّه لا يُقبل ، ويحتاج إلى البيّنة ؛ لأنّ الظاهر من حال الحُرّ أنّه يملك شيئاً ، قلّ أم كثر.

والثالث : أنّه إن لزمه باختياره - كالصداق والضمان - لم يُقبل قوله ، وعليه البيّنة. وإن لزمه لا باختياره - كأرش الجناية وغرامة المتلف - قُبل قوله مع اليمين ؛ لأنّ الظاهر أنّه لا يشغل ذمّته اختياراً ، ولا يلتزم بما لا يقدر عليه(٢) .

مسألة ٣١٦ : إذا ادّعى المديون الإعسار وكان أصل الدعوى مالاً‌ ، أو كان له مالٌ فادّعى تلفه ، افتقر إلى البيّنة ؛ لأنّ الأصل بقاء المال في يده ، فإذا ادّعى خلاف الأصل ، كان عليه البيّنة. فإن لم تكن بيّنة ، حلف الغرماء على عدم التلف. فإذا حلفوا ، حُبس.

قال ابن المنذر : أكثر مَنْ يُحفظ عنه العلم من علماء الأمصار وقُضاتهم يرون الحبس في الدَّيْن ، منهم : مالك والشافعي وأبو عبيد‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ويُحمل على قولهم : إنّهم ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٣.

٧٠

والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن وشريح والشعبي(١) .

وقال عمر بن عبد العزيز : يُقسّم ماله بين الغرماء ، ولا يُحبس. وبه قال [ عبيد الله بن أبي ](٢) جعفر والليث بن سعد(٣) .

وإن شهدت البيّنة بتلف ماله ، سُمعت. فإن طلب الغرماء يمينه على ذلك مع البيّنة ، لم يُجابوا؛ لأنّ ذلك تكذيب للشهود.

وإن شهدت البيّنة بالإعسار وقد كان له مالٌ ، لم تُسمع إلّا أن تكون البيّنة من أهل الخِبْرة الباطنة ؛ لأنّ الإعسار أمر خفيّ ، فافتقرت الشهادة به إلى العِشرة الطويلة والاختبار في أكثر الأوقات.

فإن شهدت بذلك وكانت من أهل الخِبْرة الباطنة ، سُمعت الشهادة ، وثبت الإعسار عندنا - وبه قال الشافعي وأحمد(٤) - لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لقبيصة بن المخارق : « يا قبيصة إنّ المسألة لا تحلّ إلّا لأحد ثلاثة : رجل تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتى يؤدّيها ثمّ يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٤٥ - ١٤٦ ، المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٧ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٠٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣ ، التفريع ٢ : ٢٤٧ ، التلقين ٢ : ٤٢٩ ، الذخيرة ٨ : ٢٠٤ ، المعونة ٢ : ١١٨٢ ، النوادر والزيادات ١٠ : ١٥ ، التنبيه : ١٠١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٧ ، الوسيط ٤ : ١٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ - ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٠٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٤١.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عبد الله بن ». وما أثبتناه كما في الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٤٦ ، وتاريخ مدينة دمشق ٣٧ : ٤٠٨.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٤٦ ، المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٧.

(٤) المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٧.

٧١

قال : سداداً من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصاب فلاناً فاقة ، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال : سداداً من عيش »(١) .

وقال مالك : لا تُسمع البيّنة على الإعسار ؛ لأنّها شهادة على النفي ، فلا تُسمع ، كما لو شهدت أنّه لا حقّ لزيد على عمرو(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ هذه الشهادة وإن تضمّنت النفي إلّا أنّها تشهد بثبوت حال تظهر ويوقف عليها ، كما لو شهد أن لا وارث غير هذا ، فإنّه تُسمع شهادته ، بخلاف الشهادة بأنّه لا حقّ عليه ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصّل بها إلى معرفته ، بخلاف صورة النزاع.

مسألة ٣١٧ : تُسمع بيّنة الإعسار في الحال‌ - وبه قال الشافعي وأحمد(٣) - لأنّ كلّ بيّنةٍ جاز سماعها بعد مدّة جاز سماعها في الحال ، كسائر البيّنات.

وقال أبو حنيفة : لا تُسمع في الحال ، ويُحبس المفلس. واختلف أصحابه في الضابط لمدّة الحبس. فقال بعضهم : يُحبس المفلس شهرين ثمّ تُسمع البيّنة. وقال الطحاوي : يُحبس شهراً. وروي ثلاثة أشهر. وروي أربعة أشهر حتى يغلب على ظنّ الحاكم أنّه لو كان له مال لأظهره(٤) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٤٤ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠ ، سنن النسائي ٥ : ٨٩ ، ولا يخفى أنّ الحديث ورد في النسخ الخطّيّة والحجريّة بتفاوت وتقديمٍ وتأخيرٍ في بعض الكلمات والجملات. والمثبت قريب لما في المصادر.

(٢) النوادر والزيادات ١٠ : ١٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٨٦ ، الوسيط ٤ : ١٧ ، الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٣ ، المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨.

(٤) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٥ : ٢٢٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨.

٧٢

وليس بصحيح ، وإلّا لاستُغني بذلك عن البيّنة.

مسألة ٣١٨ : إذا أقام مدّعي الإعسار البيّنةَ ، شرط فيها أن يكونوا من أهل الخِبْرة الباطنة‌ والعشرة المتقادمة وكثرة الملابسة سرّاً وجهراً وكثرة المجالسة وطول الجوار ، فإنّ الأموال قد تخفى ولا يُعرف تفصيلها إلّا بأمثال ذلك. فإن عرف القاضي أنّهم من أهل الخِبْرة ، فذاك ، وإلاّ جاز له أن يعتمد على قولهم إذا كانوا بهذه الصفة.

ويكفي شاهدان على ذلك ، كما في سائر الأموال.

وقال بعض الشافعيّة : لا تُقبل هذه الشهادة إلّا من ثلاثة(١) ؛ لأنّ رجلاً ذكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جائحة أصابت مالَه ، وسأله أن يُعطيه من الصدقة ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه »(٢) .

وهو محمول على الاحتياط والاستظهار.

وإذا لم يُعرف له أصل مالٍ ولم يكن أصل الدعوى مالاً ، قُدّم قوله فيحلف وتسقط عنه المطالبة.

وإن أقام بيّنةً بالإعسار ، قُبلت.

فإن طلب غريمه يمينه مع البيّنة ، لم يُجب إليه ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر »(٣) .

وقال الشافعي : يحلف(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٣.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، وراجع المصادر في الهامش (١) من ص ٧١.

(٣) سنن البيهقي ١٠ : ٢٥٢ ، وفيه : « على مَنْ أنكر ».

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٤ ، المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٩.

٧٣

وهل الإحلاف واجب أو مستحبّ؟ قال في حرملة : إنّه واجب ؛ لجواز أن يكون له مال لم تقف عليه البيّنة ، فإذا ادّعى ذلك ، حلف له(١) .

وقال في الأُمّ : إنّه مستحبّ ؛ لأنّ ذلك قدح في الشهادة فلم يُسمع ، كما إذا شهد شاهدان على رجل أنّه أقرّ لزيد بكذا ، فقال المـُقرّ له : احلفوا لي المـُقرّ أنّني أقررت له ، لم يلزم ؛ لأنّه قدح في الشهادة ، كذا هنا(٢) .

مسألة ٣١٩ : صورة الشهادة بالإعسار يجب أن تكون على الإثبات المتضمّن للنفي‌ ، ولا يجعل الشهادة على النفي صرفة خالصةً عن الإثبات ، فيقول الشهود : إنّه معسر لا يملك إلّا قوت يومه وثياب بدنه. وإن قالوا مع ذلك : « إنّه ممّن تحلّ له الصدقة » كان جيّداً ، وليس شرطاً.

ولا يقتصرون على قولهم : لا شي‌ء له ، لئلّا تتمحّض شهادتهم نفياً لفظاً ومعنى. فإن طلب الغرماء إحلافه مع البيّنة ، لم يلزم ، خلافاً للشافعي في أحد قوليه. وفي الثاني : أنّه مستحبّ(٣) .

نعم ، لو ادّعى أنّ له مالاً لا يعرفه الشاهد ، فالأقوى عندي أنّ له إحلافه على ذلك ؛ لإمكان صدقه في دعواه ، وحينئذٍ تتوقّف اليمين على استدعاء الخصم ؛ لأنّها حقّه :

ويجوز أن يعفو عنها ، فلا يتبرّع الحاكم بإحلافه.

والشافعي لمـّا أثبت اليمين مطلقاً إمّا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب - على اختلاف قوليه - تردّد في أنّه هل يتوقّف الحلف‌

____________________

(١) لاحظ : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٦ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.

(٢) لاحظ الأُمّ ٣ : ٢١٢ ، والتهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٦ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.

٧٤

على استدعاء الخصم؟ على وجهين :

أحدهما : لا ، كما لو كانت الدعوى على ميّت أو غائب ، وعلى هذا فهو من آداب القضاء.

وأظهرهما : نعم ، كيمين المدّعى عليه(١) .

مسألة ٣٢٠ : قد بيّنّا أنّه يُقبل قوله في الإعسار إذا لم يُعرف له سابقة مال‌ ، مع يمينه ، فحينئذٍ نقول : إنّه يُقبل في الحال ، كما لو أقام البيّنة تُسمع في الحال ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) .

وقال بعضهم : يتأنّى القاضي ويبحث عن باطن حاله ، ولا يقنع بقوله ، بخلاف ما إذا أقام البيّنة(٣) .

وحيث قلنا : إنّه لا يُقبل قوله إلّا بالبيّنة لو ادّعى أنّ الغرماء يعرفون إعساره ، كان له إحلافهم على نفي المعرفة ، فإن نكلوا ، حلف ، وثبت إعساره. وإن حلفوا ، حُبس. وكلّما ادّعى ثانياً وثالثاً وهلُمّ جرّاً أنّه قد ظهر لهم إعساره ، كان له تحليفهم ، إلّا أن يعرف القاضي أنّه يقصد الإيذاء واللجاج. فإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلّيّة.

ولو كان غريباً لا يتمكّن من إقامة البيّنة ، وكّل به القاضي مَنْ يبحث عن منشئه ومنتقله ويفحص عن أحواله بقدر الطاقة ، فإذا غلب على ظنّه إفلاسه ، شهد به عند القاضي ؛ لئلّا تتخلّد عليه عقوبة السجن.

مسألة ٣٢١ : إذا ادّعى الإعسار وأقام البيّنة عليه ، لم يكن للغرماء مطالبته باليمين مع البيّنة على ما تقدّم‌(٤) ، سواء شهدت البيّنة بالإعسار أو‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.

(٤) في ص ٧٢ ، ضمن المسألة ٣١٨.

٧٥

بتلف المال الذي كان في يده ، وهو أحد قولي الشافعي ، وظاهر كلام أحمد(١) .

ولهما قولٌ آخَر : إنّه يستحلف ؛ لاحتمال أن يكون له مالٌ لا يعرفه الشهود(٢) .

ويُحتمل قويّاً إلزامه باليمين على الإعسار إن شهدت البيّنة بتلف المال ، وسقوطها عنه إن شهدت بالإعسار ؛ لأنّها إذا شهدت بالتلف ، صار كمن ثبت له أصل مالٍ واعترف الغريم بتلفه وادّعى مالاً غيره ، فإنّه يلزمه اليمين ، كذا هنا إذا قامت البيّنة بالتلف ، فإنّها لا تزيد على الإقرار.

مسألة ٣٢٢ : لو ثبت الإعسار ، خلّاه الحاكم على ما تقدّم‌(٣) ، فإن عاد الغرماء بعد أوقات وادّعوا أنّه استفاد مالاً ، وأنكر ، قُدّم قوله مع اليمين وعدم البيّنة ، وعليهم إقامة البيّنة ، فإن جاؤا بشاهدَيْن شهدا بأنّهما رأيا في يده مالاً يتصرّف فيه ، أخذه الغرماء.

فإن قال : أخذته من فلان وديعةً أو مضاربةً ، وصدّقه المـُقرّ له ، حُكم عليه بذلك ، وليس للغرماء فيه حقٌّ.

وهل للغرماء إحلافه على عدم المواطأة مع المـُقرّ له وأنّه أقرّ عن تحقيقٍ؟ الأقرب : المنع ؛ لأنّه لو رجع عن إقراره لم يُقبل ، فلا معنى لتحليفه.

ويُحتمل إحلافه ؛ لجواز المواطأة ، فإذا امتنع من اليمين ، حُبس حتى يسلّم المال ، أو يحلف. ولأنّه لو أقرّ بالمواطأة ، حُبس على المال مع تصديق الغير.

____________________

(١ و ٢) المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨ - ٤٩٩.

(٣) في ص ٦٧ ، المسألة ٣١٤.

٧٦

ولو طلب الغرماء يمين المـُقرّ له ، فالأقرب : أنّ لهم إحلافَه ؛ لأنّه لو كذّب المـُقرّ ثبت المال لهم ، فإذا صدّقه ، حلف.

وللشافعي الوجهان(١) .

وإن كذّبه المـُقرّ له ، صرف إليهم ، ولم يُفدْ إقراره شيئاً.

ولو أقرّ به ثانياً لغير الأوّل ، لم يلتفت إليه.

ولو أقرّ به لغائبٍ ، وقف حتى يحضر الغائب ، فإن صدّقه ، أخذه ، ولا حقّ فيه للغرماء. وإن كذّبه ، أخذه الغرماء ، أو يحلف بأنّه للغائب ، وتسقط المطالبة عنه ؛ لأصالة العسرة ، وإمكان صدقه.

مسألة ٣٢٣ : لو ادّعى الغرماء بعد فكّ الحجر أنّه قد استفاد مالاً ، كان القولُ قولَه مع اليمين وعدم البيّنة‌ ؛ لأنّ الأصل بقاء العسرة.

وإن أقرّ بالمال أنّه استفاده وطلب الغرماء الحَجْرَ عليه ، نظر الحاكم فإن كان ما حصل له يفي بالديون ، لم يحجر عليه. وإن كان أقلّ ، حجر عليه ، وقسّم ماله بين الغرماء.

وإن كان قد تجدّد له غرماء قبل الحجر الثاني ، قسّم بينهم وبين الأوائل - وبه قال الشافعي(٢) - لاستواء حقوقهم في الثبوت في الذمّة حال الحجر ، فأشبه غرماء الحجر الأوّل.

وقال مالك : يختصّ به الغرماء المتأخّرون ؛ لأنّه استفاده من جهتهم(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّا لا نعلم ذلك. ولأنّا نقسّم مال المفلس بين غرمائه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٥.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٥٢.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٥١.

٧٧

وزوجته وإن كان حقّها ثبت لا بمعاوضةٍ.

مسألة ٣٢٤ : لو ثبت للولد على والده مالٌ وكان الأب معسراً ، لم تحلّ مطالبته‌. وإن كان موسراً ، كان له مطالبته إجماعاً.

فإن امتنع من الأداء ، فالأقرب عندي : أنّه لا يُحبس لأجل ولده ؛ لأنّ الحبس نوع عقوبةٍ ، ولا يعاقب الوالد بالولد.

ولأنّ الله تعالى قد بالغ في الوصيّة في الأبوين حتى أنّهما لو أمراه بالكفر لم يُطعهما ومع ذلك يقول لهما قولاً حسناً(١) .

ولقولهعليه‌السلام : « أنت ومالك لأبيك »(٢) أي في حكم مال الأب ، فكما أنّه لا يُحبس في ماله ، كذا في مال ولده الذي هو في حكم ماله.

ولما رواه الحسين بن أبي العلاء عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : ما يحلّ للرجل من مال ولده؟ قال : « قوته بغير سرف إذا اضطرّ إليه » قال : فقلت له : فقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للرجل الذي أتاه فقدّم أباه فقال : « أنت ومالك لأبيك » فقال : « إنّما جاء بأبيه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا رسول الله هذا أبي قد ظلمني ميراثي من أُمّي ، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شي‌ء ، أفكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحبس الأب للابن؟ »(٣) وهذا استفهام في معرض الإنكار ، وهو يدلّ على المراد.

____________________

(١) العنكبوت : ٨.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٦٩ / ٢٢٩١ و ٢٢٩٢ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ١١٥ / ٢٢٩١ و ٢٢٩٢ ، سنن البيهقي ٧ : ٤٨١ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ١٥٨ / ٢٧٣٦ و ٢٧٤٢ و ٢٧٥٠.

(٣) الكافي ٥ : ١٣٦ / ٦ ، الفقيه ٣ : ١٠٩ / ٤٥٦ ، التهذيب ٦ : ٣٤٤ / ٩٦٦ ، الاستبصار ٣ : ٤٩ / ١٦٢.

٧٨

وهو أحد قولي الشافعي(١) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يُحبس ، وإلّا لعجز الابن عن الاستيفاء ، ويضيع حقّه(٢) .

وهو ممنوع ، بل إذا أثبت الابن الدَّيْنَ عند القاضي ، أخذه القاضي منه قهراً من غير حبس ، وصرفه إلى دَيْنه. ولأنّه قد يتمكّن من أخذه غيلةً ، فلا يكون عاجزاً.

ولا فرق بين دَيْن النفقة وغيرها ، ولا بين أن يكون الولد صغيراً أو كبيراً ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إنّه لا يُحبس ، إلّا في نفقة الولد إذا كان صغيراً أو زَمِناً(٤) .

مسألة ٣٢٥ : لو استؤجر المديون إجارة متعلّقة بعينه ووجب حبسه ، ففي منع الإجارة المتعلّقة بعينه نظر‌ ينشأ : من جواز الحبس مطلقاً ؛ عملاً بإطلاق الأمر ، ومن كون عينه مستحقّةَ المنافع للغير ، فلا يجوز حبسه ؛ لئلّا يتعطّل شغل الغير.

والأقرب : الأوّل.

هذا فيما إذا لم يمكن الجمع بين الحبس واستيفاء المنافع ، أمّا لو لم يمتنع الجمع ، فإنّه يجوز حبسه قطعاً.

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٧ ، الوسيط ٤ : ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٥.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٥.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠.

٧٩

البحث الرابع : في الاختصاص

مسألة ٣٢٦ : مَنْ أفلس وحجر عليه الحاكم وكان من جملة ماله عينٌ اشتراها من غيره ولم يُقبضه الثمن فوجدها بائعها ، كان بالخيار‌ بين أن يفسخ البيع ويأخذ عينه بالشرائط الآتية ، وبين الضرب مع الغرماء بالثمن - وبه قال في الصحابة : عليّعليه‌السلام وعثمان وأبو هريرة ، وفي التابعين : عروة ابن الزبير ، ومن الفقهاء : مالك والأوزاعي والشافعي والعنبري وأحمد وإسحاق(١) - لما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إذا أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء »(٢) .

وعن ابن خلدة الزرقي(٣) قاضي المدينة قال : أتينا أبا هريرة في صاحبٍ لنا أفلس ، فقال أبو هريرة : هذا الذي قضى فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه »(٤) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عمر بن يزيد - في الصحيح - عن أبي الحسنعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٤٩٣ - ٤٩٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١١٩٤ / ٢٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٠ / ٢٣٥٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٤٦ بتفاوت.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « أبي حلوة الفروفي ». وفي « ث ، ج » : « البروقي ». وفي « ر » : « حلوة البروقي ». وكلّها خطأ ، والصحيح ما أثبتناه كما في المصادر. واسمه : عمر بن خلدة ، كما في المستدرك - للحاكم - ٢ : ٥٠ ، وتهذيب التهذيب ٧ : ٣٨٨ / ٧٢٩.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٠ / ٢٣٦٠ ، سنن الدار قطني ٣ : ٢٩ / ١٠٧ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٥٠ - ٥١.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول :( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) .

إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

١٦١

الآيتان

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمرا :

تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) .

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (٢١) من سورة (ق) ، إذ تقول :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

١٦٢

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).

ثم تضيف( حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (١) .

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا الحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجانا وتوبيخا لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله(٢) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّا إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين :( قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا( كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (٣٩) من سورة البقرة( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

(٢) «يتلون» و «ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.

١٦٣

وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميع إلّا عبادك المخلصين ، فأجابه البارئعزوجل ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وأنكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس)( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.

وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(٢) .

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

__________________

(١) الم السجدة ، ١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (٢٧).

١٦٤

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.

نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(١) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث. ٦.

١٦٥

الآيات

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة أفواجا!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد ، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة ، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم ، لتتوضح الأمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) .

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل ، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين ، لأنّ هذا

١٦٦

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه ، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم ، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض : إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال : إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء البارئعزوجل يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض : إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أنّ هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينهما ، إلّا أنّ هناك نقطة اخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة ، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة ، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف ، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظة أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة ، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم : إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب ، ويقول بشأن أهل الجنّة ، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

__________________

(١) ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة ، أنسبها الذي يقول : إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف ، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها ، والبعض قال : (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.

١٦٧

من قبل ، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة ، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم ، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين ، عند ما يقولون لهم : قد هيئت لكم أسباب الهداية ، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل ، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخول الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة ، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية ، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا ، وتعني : لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اخرى : طابت لكم هذه النعم الطاهرة ، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها ، وقالوا : إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث ، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم ، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي ، ونقل البعض رواية تقول : إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة ، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان ، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم ، ويغتسلون بماء العين الأخرى فيتطهر ظاهرهم ، و، هنا يقول خزنة الجنّة لهم :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار ، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية ، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

__________________

(١) تفسير القرطبي المجلد (٨) الصفحة. ٥٧٣.

١٦٨

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم ، حيث تقول :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

وتضيف في العبارة التالية( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) .

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا ، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه ، إذ ـ كما هو معروف ـ فإنّ الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم ، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره ، وإن عمل عملا صالحا استحق به الجنّة ، فيمنح مكانا في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الإرث ، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (٦٣) من سورة مريم( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) .

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة ، إذ تقول :( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) .

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (٧٢) من سورة التوبة عبارة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وأهل الجنّة وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها ، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الأخيرة فتقول :( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.

١٦٩

وهنا يطرح هذه السؤال وهو : هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة ، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين ، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول : إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله ، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية ، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي ، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئعزوجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء ، فإنّ الجملة الأخيرة تقول :( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة ، أم عن أهل الجنّة المتقين ، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره ، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب ، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين ، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *

١٧٠
١٧١

سورة

المؤمن

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١٧٢

«سورة المؤمن»

نظرة مختصرة في محتوى السورة :

سورة المؤمن هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضا ، نزلت جميعا في مكّة ، وهي تبدأ بـ «حم».

هذه السورة كسائر السور المكّية ، تثير في محتواها قضايا العقيدة و، تتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.

ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف ، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة السورة ـ إذا ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين ، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.

وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى ، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسىعليه‌السلام ، وقصد مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».

إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون ، ومحسوب ـ ظاهرا ـ من حاشيته ـ لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسىعليه‌السلام ، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن موسىعليه‌السلام وعن دينه ، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسىعليه‌السلام

١٧٣

للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.

إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده ، أي ما يقارب ربع السورة.

يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة ، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالإسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين ، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس عليهما غبار.

لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها ، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالبعليه‌السلام عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من جملة هؤلاء ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

القسم الأوّل : وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى ، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ ) و( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

القسم الثّاني : تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواما اخرى في ماضي التأريخ ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

القسم الثّالث : بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

__________________

(١) الغدير ، المجلد الثامن ، ص ٣٨٨.

١٧٤

اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسىعليه‌السلام من كيدها.

القسم الرّابع : تعود السورة مرّة اخرى للحديث عن مشاهد القيامة ، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.

القسم الخامس : تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

القسم السّادس : تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحمل والصبر ، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد ، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية ، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا ، ليكون ذلك تهديدا للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة :

في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.

ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الحواميم تاج

١٧٥

القرآن»(١) .

وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «الحواميم ريحان القرآن ، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها ، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(٣) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : الّلهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(٤) .

وفي قسم من حديث مروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له»(٥) .

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والالتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة ، فإنّ التلاوة المعنية هي التي

__________________

(١) هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.

(٢) المصدر السابق

(٣) مجمع البيان أثناء تفسير السورة

(٤) البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ٣٦.

(٥) مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.

١٧٦

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح ، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل ، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكر – المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».

* * *

١٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

التّفسير

صفات تبعث الأمل في النفوس :

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة بـ «جاء» و «ميم».

وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها ، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة» ، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اخرى.

الشيء الذي تضيفه هنا ، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها ، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك

١٧٨

عن الامام الصادقعليه‌السلام (١) .

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.

عن ابن عباس ، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(٢) .

ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يتشكّل في مادته الخام من حروف الألف باء وهنا يمكن معنى الإعجاز.

يقول تعالى :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمسا من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.

ويقول تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) .

( قابِلِ التَّوْبِ ) (٣) .

__________________

(١) يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق ، صفحة ٢٢ ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٢) تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.

(٣) «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).

١٧٩

( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

( ذِي الطَّوْلِ ) (١) .

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

* * *

ملاحظات

تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات ، نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

أولا : في الآيات أعلاه (آية ٢ و ٣) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية ، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب ، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.

أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحدة الأحد.

ثانيا : ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيرا ، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ

__________________

(١) «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل ، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول : إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين ، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510