تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194089 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بهذه الصفة، و كذا علمه تعالى بأنّ الإنسان سيعمل باختياره و إرادته عملاً أو أنّه سيشقى لعمل اختياريّ كذا يوجب وجوب تحقّق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن و سواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتّى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه بأنّ إنساناً كذا سيشقى بكفره اختياريّاً يستوجب تحقّق الشقوة الّتي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.

فاتّضح أنّ علمه تعالى بعمل الإنسان لا يستوجب بطلان الاختيار و ثبوت الإجبار و إن كان معلومه تعالى لا يتخلّف عن علمه له الحكم لا معقّب لحكمه.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) قال في المجمع: الزفير أوّل نهاق الحمار و الشهيق آخر نهاقه انتهى. و قال في الكشاف: الزفير إخراج النفس و الشهيق ردّه انتهى. و قال الراغب في المفردات، الزفير تردّد النفس حتّى ينتفخ الضلوع منه. و قال: الشهيق طول الزفير و هو ردّه و الزفير مدّه، قال تعالى:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) (سمعوا لها تغيّظا و زفيرا) و قال تعالى:( سَمِعُوا لَها شَهِيقا ) و أصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى.

و المعاني - كما ترى - متقاربة و كأنّ في الكلام استعارة، و المراد أنّهم يردّون أنفاسهم إلى صدورهم ثمّ يخرجونها فيمدّونها برفع الصوت بالبكاء و الأنين من شدّة حرّ النار و عظم الكربة و المصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.

و كان الظاهر من سياق قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أن يقال بعده: فأمّا الّذي شقي ففي النار له فيها زفير و شهيق إلخ لكن السياق السابق عليه الّذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) مبنيّ على الكثرة و الجماعة، و مقتضاها المضيّ على هيئة الجمع: الّذين شقوا و الّذين سعدوا، و إنّما عبّر بقوله، شقيّ و سعيد لما قيل قبله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ) فاختير المفرد المنكّر ليفيد النفي بذلك الاستغراق و العموم فلمّا حصل الغرض بقوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) عاد السياق السابق

٢١

المبنيّ على الكثرة و الجماعة فقيل:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.

قوله تعالى: ( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) . بيان لمكث أهل النار فيها كما أنّ الآية التالية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) بيان لمكث أهل الجنّة فيها و تأييد لاستقرارهم في مأواهم.

قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبرّي الشي‏ء من اعتراض الفساد و بقاؤه على الحالة الّتي هو عليها، و كلّ ما يتباطأ عنه التغيير و الفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي(١) : خوالد و ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال: خلد يخلد خلودا قال تعالى:( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) و الخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الّذي يبقى من الإنسان على‏ حالته فلا يستحيل ما دام الإنسان حيّا استحالة سائر أجزائه، و أصل المخلّد الّذي يبقى مدّة طويلة، و منه قيل: رجل مخلّد لمن أبطأ عنه الشيب، و دابّة مخلّدة هي الّتي تبقى ثناياها حتّى تخرج رباعيّتها ثمّ أستعير للمبقي دائما.

و الخلود في الجنّة بقاء الأشياء على الحالة الّتي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى:( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) .

و قوله تعالى:( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، و قيل: مقرّطون بخلدة، و الخلدة ضرب من القرطة، و إخلاد الشي‏ء جعله مبقى و الحكم عليه بكونه مبقى، و على هذا قوله سبحانه:( وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ) أي ركن إليها ظانّا أنّه يخلد فيها. انتهى.

و قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود

____________________

(١) الأثافي، جمع الأثفية بضم الهمزة و هي الحجر الّذي توضع عليه القدر و هما أثفيتان.

٢٢

و المعنى دائمين فيها دوام السماوات و الأرض لكنّ الآيات القرآنيّة ناصّة على أنّ السماوات و الأرض لا تدوم دوام الأبد و هي مع ذلك ناصّة على بقاء الجنّة و النار بقاءً لا إلى فناء و زوال.

و من الآيات الناصّة على الأوّل قوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣، و قوله:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) الأنبياء: ١٠٤، و قوله:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) الزمر: ٦٧، و قوله:( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦.

و منها في النصّ على الثاني قوله تعالى:( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدا ) التغابن: ٩، و قوله:( وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيرا ) الأحزاب: ٦٥.

و على هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين:

إحداهما تحديد الخلود المؤبّد بمدّة دوام السماوات و الأرض و هما غير مؤبّدتين لما مرّ من الآيات.

و ثانيتهما تحديد الأمر الخالد الّذي تبتدئ من يوم القيامة و هو كون الفريقين في الجنّة و النار و استقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة و هو السماوات و الأرض، و هذا الإشكال الثاني أصعب من الأوّل لأنّه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنّة و النار معا بخلاف الأوّل.

و الّذي يحسم الإشكال أنّه تعالى يذكر في كلامه أنّ في الآخرة أرضا و سماوات و إن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم: ٤٨، و قال حاكياً عن أهل الجنّة:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤، و قال يعد المؤمنين و يصفهم:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد: ٢٢.

٢٣

فللآخرة سماوات و أرض كما أنّ فيها جنّة و ناراً و لهما أهلا و قد وصف الله سبحانه الجميع بأنّها عنده، و قال:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) النحل: ٩٦ فحكم بأنّها باقية غير فانية.

و تحديد بقاء الجنّة و النار و أهلهما بمدّة دوام السماوات و الأرض إنّما هو من جهة أنّ السماوات و الأرض مطلقاً و من حيث إنّهما سماوات و أرض مؤبّدة غير فانية، و إنّما تفنى هذه السماوات و الأرض الّتي في هذه الدنيا على النظام المشهود و أمّا السماوات الّتي تظلّ الجنّة مثلاً و الأرض الّتي تقلّها و قد أشرقت بنور ربّها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، و بذلك يندفع الإشكالان جميعاً.

و قد أشار في الكشّاف إلى هذا الوجه إجمالاً حيث قال: و الدليل على أنّ لها سماوات و أرضا قوله سبحانه:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ ) و قوله سبحانه:( وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) و لأنّه لا بدّ لأرض الآخرة ممّا تقلّهم و تظلّهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى أو يظلّهم العرش، و كلّ ما أظلك فهو سماء. انتهى.

و إن كان الوجه الّذي أشار إليه ثانياً سخيفاً لأنّه إثبات للسماء و الأرض من جهة الإضافة و أنّ الجنّة و النار لا بدّ أن يتصوّر لهما فوق و تحت فيكون الجنّة و النار أصلاً و سماؤهما و أرضهما تبعين لهما في الوجود، و لازمه تحديد بقاء سمائهما و أرضهما بمدّة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.

على أنّ لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقّق للجنّة و النار أرض و سماء و أمّا السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإشكال في السماوات على حاله.

و بما تقدّم يندفع أيضاً ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: و فيه نظر لأنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده و دوامه و من عرفه فإنّما عرفه بما يدلّ على دوام الثواب و العقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى.

و مراده أنّ الآية تشبّه دوام الجنّة و النار بأهلهما بدوام السماوات و الأرض

٢٤

فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة و أرضها و لا يعرف أكثر الخلق وجودها و دوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى و هو غير جائز في الكلام البليغ.

و جوابه: أنّا إنّما عرفنا دوام الجنّة و النار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات و أرض لهما و كذا أبديّة الجميع من كلامه فأيّ مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالاُخرى في كلامه، و إن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الاُخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.

و يندفع به أيضاً ما ذكره الآلوسيّ في ذيل هذا البحث أنّ المتبادر من السماوات و الأرض هذه الأجرام المعهود عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخّصا.

وجه الاندفاع أنّ الآيات القرآنيّة إنّما تتّبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلّيّة الّتي تعطيها اللّغة و العرف، و أمّا في مقاصدها و تشخيص المصاديق الّتي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتّبع فيها هو التدبّر الّذي أمر به الله سبحانه و إرجاع المتشابه إلى المحكم و عرض الآية على الآية فإنّ القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض و يصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنّه واحد أحد أو عالم قادر حيّ مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسّرها نفس كلامه تعالى و يكشفه التدبّر البالغ من معانيها، و قد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

و قد وردت في الروايات و في كلمات المفسّرين توجيهات اُخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه و ليكن الّذي أوردناه أوّلها.

الوجه الثاني: أنّ المراد سماوات الجنّة و النار و أرضهما أي ما يظلّهما و ما يقلّهما فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و ما استقرّت عليه قدمك فهو أرض، و بعبارة اُخرى المراد بهما ما هو فوقهما و ما تحتهما.

٢٥

و هذا هو الوجه الّذي ذكره الزمخشريّ في آخر ما نقلناه من كلامه آنفاً، و قد عرفت الإشكال فيه. على أنّ هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدّم.

الوجه الثالث: أنّ المراد ما دامت الآخرة و هي دائمة أبداً كما أنّ دوام السماء و الأرض في الدنيا قدر مدّة بقائها، و لعلّ المراد أنّ قوله: (ما دامت السماوات و الأرض) موضوع وضع التشبيه كقولك: كلّمته تكليم المستهزئ الهازى‏ء به أي مثل تكليم من يستهزئ و يهزأ به.

و فيه: أنّه لو اُريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، و لو اُريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.

الوجه الرابع: أنّ المراد به التبعيد و إفادة الأبديّة لا أنّ المراد به التحديد بمدّة بقاء السماوات و الأرض بعينها فإنّ للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأبيد من غير أن يريدوا بها المعاني الّتي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا و كذا ما اختلف الليل و النهار، و ما ذرّ شارق، و ما طلع نجم، و ما هبّت نسيم، و ما دامت السماوات و قد استراحوا إليها و إلى أشباهها ظنّا منهم أنّ هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبدا ثمّ استعملوها كأنّها موضوعة للتبعيد.

و فيه: أنّهم إنّما استعملوها في التأبيد و أكثروا منه ظنّا منهم أنّ هذه الأمور دائمة مؤبّدة، و أمّا من يصرح في كلامه بأنّها مؤجّلة الوجود منقطعة فانية و يعدّ الإيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأيّ صورة تصوّرت. كيف لا؟ و قد قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و كيف يصحّ مع ذلك أن يقال: إنّ الجنّة و النار خالدتان أبداً ما دامت السماوات و الأرض.

الوجه الخامس: أن يكون المراد أنّهم خالدون بمدّة بقاء السماوات و الأرض الّتي يعلم انقطاعها ثمّ يزيدهم الله سبحانه على ذلك، و يخلّدهم و يؤبّد مقامهم، و هذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا و كذا سنة، ثمّ يضيف تعالى إلى ذلك ما

٢٦

لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى:( لابِثِينَ فِيها أَحْقابا ) النبأ: ٢٣ أي أحقابا ثمّ يزادون على ذلك.

و فيه: أنّه على الظاهر مبنيّ على استفادة بعض المدّة من قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) و البعض الآخر الّذي لا يتناهى من قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) و دلالته على ذلك تتوقّف على تقدير اُمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا.

الوجه السادس: أنّ المراد بالنار و الجنّة نار البرزخ و جنّتها و هما خالدتان ما دامت السماوات و الأرض، و إذا انتهت مدّة بقاء السماوات و الأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر.

و فيه: أنّه خلاف سياق الآيات فإنّ الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة و توصيفها بما له من الأوصاف، و من المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنّه يوم مجموع له الناس، و أنّه يوم مشهود، و أنّه يوم إذا أتى لا تكلّم نفس إلّا بإذنه حتى إذا اتّصل بأخصّ أوصافه و أوضحها و هو الجزاء بالجنّة و النار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنّة و النار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.

على أنّ الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى:( وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) المؤمن: ٤٦.

الوجه السابع: أنّ المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان و بالكون في الجنّة الكون في ولاية الله فإنّ ولاية الله هي الّتي تظهر جنّة في الآخرة يتنعّم فيها السعداء. و ولاية الشيطان هي الّتي تتصوّر بصورة النار فتعذّب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال.

فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار و ربّما خرجوا منها إن أدركتهم العناية و التوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره و المجرم يتوب عن إجرامه، و السعداء يدخلون الجنّة بسعادتهم و ربّما خرجوا منها إن أضلّهم الشيطان و أخلدوا إلى الأرض و اتّبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتدّ كافرا و الصالح يعود طالحا.

٢٧

و فيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإنّ الآيات تعدّ ما ليوم القيامة من الأوصاف الخاصّة الهائلة المدهشة الّتي تذوب القلوب و تطير العقول باستماعها و التفكّر فيها لتنذر به اُولوا الاستكبار و الجحود من الكفّار و يرتدع به أهل المعاصي و الذنوب.

فيستبعد أن يذكر فيها أنّه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود و يوم لا تتكلّم فيه نفس إلّا بإذنه ثمّ يذكر أنّ الكفّار و أهل المعاصي في نار منذ كفروا و أجرموا إلى يوم القيامة، و أهل الإيمان و العمل الصالح في جنّة منذ آمنوا و عملوا صالحا فإنّ هذا البيان لا يلائم السياق- أوّلا- من جهة أنّ الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصّة به لا ما قبله المنتهي إليه، و- ثانياً- من جهة أنّ الآيات مسوقة للإنذار و التبشير، و هؤلاء الكفّار و المجرمون أهل الاستكبار و الطغيان لا يعبئون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسّهم، و لا يرون لها قيمة، و لا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة و الرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية و هو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.

و هاهنا وجوه اُخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) طوينا ذكرها هاهنا إيثاراً للاختصار لأنّها تشترك مع الوجوه الآتية الّتي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإشكال فلنكتف بذلك.

و قوله تعالى:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) استثناء ممّا سبقه من حديث الخلود في النار، و نظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنّة، و( ما ) في قوله:( ما شاءَ رَبُّكَ ) مصدريّة و التقدير- على هذا- إلّا أن يشاء ربّك عدم خلودهم و لكن يضعّفه قوله بعد:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) فإنّ( ما ) هاهنا موصولة، و المراد بقوله( ما شاءَ ) و قوله:( ما يُرِيدُ ) واحد.

و إمّا موصولة و الاستثناء من مدّة البقاء المحكوم بالدوام الّذي يستفاد من السياق، و المعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلّا ما شاء ربّك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين و المعنى هم جميعا خالدون

٢٨

فيها إلّا من شاء الله أن يخرج منها و يدخل في الجنّة فيكون تصديقاً لما في الأخبار أنّ المذنبين و العصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها و يدخلون الجنّة بالآخرة للشفاعة، فإنّ خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم و صحّة الاستثناء.

و يبقى الكلام في إيقاع( ما ) في قوله:( ما شاءَ ) على من يعقل، و لا ضير فيه و إن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) النساء- ٣.

و الكلام في الآية التالية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) إلخ نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أنّ الاستثناء في آية الجنّة يعقّبه قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) و لازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقّق الوقوع فإنّه لا يلائم كون الجنّة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع و المعنى أنّ أهل الجنّة فيها أبداً إلّا أن يخرجهم الله منها لكنّ العطيّة دائميّة و هم غير خارجين و الله غير شاء ذلك أبداً.

فيكون الاستثناء مسوقا لإثبات قدرة الله المطلقة، و أنّ قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة الخالدة و سلطنته لا تنفد و ملكه لا يزول و لا يبطل و أنّ الزمام بيده و قدرته و إحاطته باقية على ما كانت عليه قبل فله تعالى أن يخرجهم من الجنّة و إن وعد لهم البقاء فيها دائماً لكنّه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده، و الله لا يخلف الميعاد.

و الكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنّة لوحدة السياق بالمقابلة و المحاذاة و إن اختتمت الآية بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) و فيه من الإشارة إلى التحقّق ما لا يخفى.

فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنّة لا يخرجون منها أبداً إلّا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنّه على كلّ شي‏ء قدير و لا يوجب فعل من الأفعال: إعطاء أو منع، سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأنّ قدرته مطلقة غير

٢٩

مقيّدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى:( وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم- ٢٧ و قال:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) الرعد- ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات.

و لا منافاة بين هذا الوجه و بين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشيّة الله كما لا يخفى.

هذا وجه في الاستثناء و هنا وجوه اُخر أنهى الجميع في مجمع البيان، إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أوّلها.

و ثانيهما: أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنّة و التقدير إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلّا الألفين اللّذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ لأنّ الكثير لا يستثني من القليل، و على هذا فيكون إلّا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربّك كما يقال: ما كان معنا رجل إلّا زيد أي سوى زيد.

و فيه: أنّه مبنيّ على عدم إفادة قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) الدوام و الأبديّة و قد عرفت خلافه.

و ثالثها: أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنّهم ليسوا في جنّة و لا نار و مدّة كونهم في البرزخ الّذي هو ما بين الموت و الحياة لأنّه تعالى لو قال: خالدين فيها أبدا و لم يستثن لظنّ الظانّ أنّهم يكونون في النار و الجنّة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.

فإن قيل: كيف يستثني من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب أنّ ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل الدخول فيها.

و فيه: أنّه لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّ هذا الوجه بظاهره مبنيّ على إفادة قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) الشقاوة و السعادة الجبريّتين من غير اكتساب و اختيار و قد عرفت ما فيه.

و رابعها: أنّ الاستثناء الأوّل متّصل بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) و تقديره

٣٠

إلّا ما شاء ربّك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و لا يتعلّق الاستثناء بالخلود و في أهل الجنّة متّصل بما دلّ عليه الكلام فكأنّه قال: لهم فيها نعيم إلّا ما شاء ربّك من أنواع النعيم، و إنّما دلّ عليه قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .

و فيه: أنّه قطع لاتّصال السياق و وحدته من غير دليل، و فيه أخذ( إِلَّا ) الاُولى بمعنى سوى و( إِلَّا ) الثانية بمعنى الاستثناء على أنّه لا قرينة هناك على تعلّق( إِلَّا ) الاُولى بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) و لا أنّ قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) يدلّ على ما ذكره فإنّه إنّما يدلّ على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.

ثمّ أيّة فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم و إظهار ذلك للسامعين و المقام مقام التطميع و التبشير و الظرف ظرف الدعوة و الترغيب فهذا من أسخف الوجوه.

و خامسها: أنّ( إِلَّا ) بمعنى الواو و إلّا كان الكلام متناقضا و المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض و ما شاء ربّك من الزيادة على ذلك.

و فيه: أن كون( إِلَّا ) بمعنى الواو لم يثبت و إنّما ذكره الفرّاء لكنّهم ضعّفوه. على أنّ الوجه مبنيّ على عدم إفادة التقدير و التحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام. و قد عرفت ما فيه.

و سادسها: أنّ المراد بالّذين شقوا من اُدخل النار من أهل التوحيد و هم الّذين ضمّوا إلى إيمانهم و طاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنّهم معاقبون في النّار إلّا ما شاء ربّك من إخراجهم منها إلى الجنّة و إيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

و أمّا الاستثناء الّذي في أهل الجنّة فهو استثناء من خلودهم أيضاً لأنّ من ينقل من النّار إلى الجنّة و يخلد فيها لا بدّ في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم من حاله فكأنّه قال: إنّهم في الجنّة خالدين فيها إلّا ما شاء ربّك من الوقت الّذي أدخلهم فيه النار.

٣١

قالوا: و الّذين شقوا في هذا القول هم الّذين سعدوا بأعيانهم، و إنّما اُجري عليهم كلّ من الوصفين في الحال الّذي يليق به ذلك فإذا اُدخلوا في النار و عوقبوا فيها فهم أهل شقاء، و إذا اُدخلوا في الجنّة و اُثبتوا فيها فهم أهل سعادة، و نسبوا هذا القول إلى ابن عبّاس و جابر بن عبدالله و أبي سعيد الخدريّ من الصحابة و جماعة من التابعين.

و فيه: أنّه لا يلائم السياق فإنّه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنّه يوم مجموع له الناس قسّم أهل الجمع إلى قسمين بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و من المعلوم أنّ قوله:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) إلخ و قوله:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) مبدوّين بأمّا التفصيليّة مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و لازم ذلك كون المراد بالّذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصّة، و المراد بالّذين سعدوا جميع أصحاب الجنّة لا خصوص من اُخرج من النار و اُدخل الجنّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: المراد بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أيضاً وصف طائفة خاصّة بأعيانهم كما أنّ المراد بالّذين شقوا و الّذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم. و المعنى أنّ بعض أهل الجمع شقيّ و سعيد معا و هم الّذين اُدخلوا النار و استقرّوا فيها خالدين ما دامت السماوات و الأرض إلّا ما شاء ربّك أن يخرجهم منها و يدخلهم الجنّة و يسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات و الأرض إلّا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنّة.

لكن ينتقل ما قدّمناه من الإشكال حينئذ إلى ما ادّعي من معنى قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامّة لا يساعد على إرادة طائفة خاصّة منهم بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أوّلا ثمّ تفصيل حالهم بتفريقهم - و هم جماعة واحدة بعينهم - و إيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات و الأرض ثمّ استثناءين ليس المراد بهما إلّا واحد و أيّ فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى و تعقيدا في النظم؟

و يمكن أن يقرّر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال: المراد بقوله:

٣٢

( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) تقسيم عامّة أهل الجمع إلى الشقيّ و السعيد، و المراد بقوله:( الّذينَ شَقُوا ) جميع أهل النار و بقوله:( الّذينَ سُعِدُوا ) جميع أصحاب الجنّة و يكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفسّاق من أهل التوحيد الّذين يخرجهم الله تعالى من النار و يدخلهم الجنّة و حينئذ يسلم من جلّ ما كان يرد على الوجه السابق من الإشكال.

و سابعها: أنّ التعليق بالمشيّة إنّما هو على سبيل التأكيد للخلود و التبعيد للخروج لأنّ الله سبحانه لا يشاء إلّا خلودهم على ما حكم به فكأنّه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنّه لا يشاء أن يخرجهم منها.

و هذا الوجه يشارك الوجه الأوّل في دعوى أنّ الاستثناء في الموردين غير مسوق لنقض الخلود غير أنّ الوجه الأوّل يختصّ بدعوى أنّ الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهيّة و هذا الوجه يختصّ بدعوى أنّ الاستثناء لبيان أنّ الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلّا أن يشاء الله انتقاضه و لن يشاء أصلا.

و هذا هو وجه الضعف فيه فإنّ قوله: و لن يشاء أصلا لا دليل عليه هب أنّ قوله في أهل الجنّة:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) يشعر أو يدلّ على ذلك لكن قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) لا يشعر به و لا يدلّ عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.

و ثامنها: أنّ المراد به استثناء الزمان الّذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة و كذا في الطوائف الّذين يدخلون الجنّة فإنّه تعالى يقول:( وَ سِيقَ الّذينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) ( وَ سِيقَ الّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة و لا بدّ أن يقع بينهما تفاوت في الزمان و هو الّذي يستثنيه تعالى بقوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) و نقل الوجه عن سلام بن المستنير البصريّ.

و فيه: أنّ الظاهر من قوله:( فَفِي النَّارِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) و كذا في قوله:( فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ ) إلخ أنّ الوصف ناظر إلى مدّة الكون في النار أو الجنّة من جهة النهاية لا من جهة البداية.

٣٣

على أنّ المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنّة على أيّ حال هو يوم القيامة، و لا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة و التفاوت الزمانيّ الحاصل من ذلك.

و تاسعها: أنّ المعنى كونهم خالدين في النار معذّبين فيها مدّة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، و قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان، عن شيخنا أبي جعفر الطوسيّ في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم.

و فيه: أنّ مرجعه إلى الوجه الثاني المبنيّ على أخذ( إِلَّا ) بمعنى سوى مع اختلاف ما في التقرير، و قد عرفت ما يرد عليه.

و عاشرها: أنّ المراد إلّا من شاء ربّك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الّذين شقوا، و التقدير فأمّا الّذين شقوا فكائنون في النار إلّا من شاء ربّك، و الظاهر أنّ هذا القائل يوجّه الاستثناء في ناحية أهل الجنّة( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا - إلى قوله -إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) بأنّ المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنّة كما تقدّم في بعض الوجوه السابقة، و المعنى أنّ السعداء في الجنّة خالدين فيها إلّا الفساق من أهل التوحيد فإنّهم في النار ثمّ يخرجون فيدخلون الجنّة، و نسب الوجه إلى أبي مجلز.

و فيه: أنّ ما ذكره إنّما يجري في أوّل الاستثنائين فالثاني من الاستثنائين لا بدّ أن يوجّه بوجه آخر، و هو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.

على أنّ العصاة من المؤمنين الّذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا و إنّما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ ) إلخ من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثمّ يستثنوا لعدم دخولهم النار، و بالجملة هم ليسوا بأشقياء

٣٤

حتّى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنّة من أوّل.

و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) تعليل للاستثناء، و تأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) قرئ سعدوا بالبناء للمجهول و بالبناء للمعلوم و الثاني أوفق باللغة لأنّ مادّة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكنّ الأوّل و هو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون( شَقُوا ) في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أنّ السعادة و الخير من الله سبحانه و الشرّ الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدا ) النور: ٢١.

و الجذّ: هو القطع و عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعدّه تعالى الجنّة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) من أحسن الشواهد على أنّ مراده باستثناء المشيّة إثبات بقاء إطلاق قدرته و أنّه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قطّ.

و يجري في هذه الآية جميع ما تقدّم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلّا ما كان من الوجوه مبنيّا على كون المستثنى في قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) من دخل النار أوّلا ثمّ خرج منها إلى الجنّة ثانياً، و ذلك أنّ من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنّة الآخرة و هي جنّة الخلد أحد ممّن دخلها جزاء أبدا، و هو كالضروريّ من الكتاب و السنّة، و قد تكاثرت الآيات و الروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، و إن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح.

قال في مجمع البيان، في وجوب دخول أهل الطاعة الجنّة و عدم جواز خروجهم منها: لإجماع الاُمّة على أنّ من استحقّ الثواب فلا بدّ أن يدخل الجنّة، و أنّه لا يخرج منها بعد دخوله فيها. انتهى.

٣٥

مسألة (وجوب دخول أهل الثواب الجنّة) مبنيّة على قاعدة عقليّة مسلّمة و هي أنّ الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأنّ الّذي تعلّق به الوعد حقّ للموعود له، و عدم الوفاء به إضاعة لحقّ الغير و هو من الظلم و أمّا الوعيد فهو جعل حقّ للموعد على التخلّف الّذي يوعد به له، و ليس من الواجب لصاحب الحقّ أن يستوفي حقّه بل له أن يستوفي و له أن يترك و الله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنّة بإطاعتهم، و أوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنّة توفية للحقّ الّذي جعله لهم على نفسه، و أمّا عقاب العاصين فهو حقّ جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقّه و له أن يتركهم بترك حقّ نفسه.

و أمّا مسألة عدم الخروج من الجنّة بعد دخولها فهو ممّا تكاثرت عليه الآيات و الروايات، و الإجماع الّذي ذكره مبنيّ على الّذي تسلّموه من دلالة الكتاب و السنّة أو العقل على ذلك، و ليس بحجّة مستقلّة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور،: أخرج البخاري و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله سبحانه ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته. ثمّ قرأ:( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )

و فيه: أخرج الترمذيّ و حسّنه و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن عمر بن الخطّاب قال: لمّا نزلت:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‏ء قد فرغ منه أو على شي‏ء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شي‏ء قد فرغ منه، و جرت به الأقلام يا عمر، و لكن كلّ ميسّر لما خلق له‏.

٣٦

أقول: و هذا اللفظ مرويّ عنه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بطرق متعدّدة من طرق أهل السنّة كما في صحيح البخاريّ عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: (كلّ ميسّر لما خلق له)

و فيه أيضاً عن عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، أنّه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: ما منكم أحد إلّا كتب مقعده من الجنّة أو من النار. قالوا: أ لا نتّكل؟ قال: اعملوا (فكلّ ميسّر لما خلق له) و قرأ:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ ) إلخ.

و لتوضيح ذلك نقول: إنّه لا يخفى على ذي مسكة أنّ كلّا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان و آثارها ما لم يلبس لباس التحقّق و الوجود فهو على حدّ الإمكان و للإمكان نسبة إلى الوجود و العدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان أن تصير رمادا و أن لا تصير، و المني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الإنسانيّة أي إنّها تحمل استعداد أن يصير إنساناً إن اجتمع معها بقيّة أجزاء العلّة الموجبة للإنسانيّة و استعداد أن يبطل فيصير شيئاً غير الإنسان.

و إذا تلبّس بلباس الوجود و صار مثلا رمادا بالفعل و إنساناً بالفعل بطل عند ذلك عنه الإمكان الّذي كان ينسبه إلى الرماد و غيره معا و إلى الإنسان و عدمه معا، و صار إنساناً فحسب يمتنع غيره و رمادا يمتنع مع هذه الفعليّة غيره.

و بهذا يتّضح أنّا إذا أخذنا الفعليّات و نسبناها إلى عللها الموجبة لها و هكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليّات لا يتغيّر شي‏ء منها عمّا هو عليه، و بطل الإمكانات و الاستعدادات و الاختيارات جميعاً، و إذا نظرنا إلى الاُمور من جهة الإمكانات و الاستعدادات الّتي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شي‏ء من الأشياء المادّيّة من حيّز الإمكان و مستقرّ الاختيار.

فللكون وجهان: وجه ضرورة و فعليّة يتعيّن فيه كلّ جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، و لا يقبل أيّ إبهام و تردّد، و أيّ تغيير و تبديل و هو الوجه الّذي تقوم فيه المسبّبات بأسبابها الموجبة و المعلولات بعللها التامّة الّتي لا تنفكّ عن مقتضياتها

٣٧

و لا تتخلّف معلولاتها عنها و لا تنفع في تغييرها عمّا هي عليه حيلة، و لا في تبديلها سعي و لا حركة.

و وجه آخر هو وجه الإمكان و صورة الاستعداد و القابليّة لا يتعيّن بحسبه شي‏ء إلّا بعد الوقوع، و لا يخرج عن الإبهام و الإجمال إلّا بعد التحقّق، و عليه يقوم ناموس الاختيار، و به يتقوّم السعي و الحركات، و يبتني العمل و الاكتساب، و إليه تركن التعاليم و التربية و الخوف و الرجاء و الأمانيّ و الأهواء، و به تنجح الدعوة و الأمر و النهي و يصحّ الثواب و العقاب.

و من الضروريّ أنّ الوجهين لا يتدافعان في الوجود و لا يبطل أحدهما الآخر فللفعليّة ظرفها و للإمكان و الاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانيّة تعيّنها بعد التحقّق، و لا تعيّنها بعده إبهامها قبله.

و الوجه الأوّل هو وجه القضاء الإلهيّ، و لا يبطل تعيّن الحوادث بحسبه عدم تعيّنها بحسب ظرف الدعوة و العمل و الاكتساب، و سنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام في القضاء و القدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى.

و لنرجع إلى الأحاديث:

التأمّل في سياقها يعطي أنّهم فهموا من كتابه السعادة و الشقاوة و الجنّة و النار و جريان القلم بذلك، الضرورة و الوجوب، و توهّموا من ذلك أوّلا لزوم بطلان المقدّمات الموصلة إلى الغايات، و ارتفاع الروابط بين المسبّبات و أسبابها، و أنّه إذا قضي للإنسان بالجنّة تحتّم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحاً أو اقترف سيّئا.

و توهّموا ثانياً أنّ تلك المقدّمات و الأسباب نظائر للغايات و المسبّبات واقعة تحت القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى و لا للسعي و الاكتساب مجال.

و الّذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: (يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‏ء قد فرغ منه أو على شي‏ء لم يفرغ منه؟) و قولهم: (يا رسول الله فيم يعمل

٣٨

العاملون؟) و قولهم: (أ لا نتّكل؟) أي ألا نترك العمل اتّكالا على ما كتبه الله كتابه لا تتغيّر و لا تتبدّل؟ كلّ ذلك يشير إلى التوهّم الأوّل، و كأنّ الّذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار و الاستطاعة صرفهم عن الإشارة إلى ثاني التوهّمين و إن كان ناشباً على قلوبهم فإنّهما متلازمان.

و قد أجاب (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن سؤالهم بقوله: (كلّ ميسّر لما خلق له) و هو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الإنسان:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠ أي إنّ كلّا من أهل الجنّة الّذي خلقه الله لها، و من أهل النار الّذي خلقه الله لها كما قال:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: ١٧٩. له غاية في خلقه و قد يسّره الله السبيل إلى تلك الغاية و سهّل له السلوك منه إليها.

فبين الإنسان الّذي كتبت له الجنّة و بين الجنّة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، و بينه و بين النار الّتي كتبت له كذلك، و سبيل الجنّة هو الإيمان و التقوى، و سبيل النار هو الشرك و المعصية، فالإنسان الّذي كتب الله له الجنّة إنّما كتب له الجنّة الّتي سبيلها الإيمان و التقوى فلا بدّ من سلوكه، و لم يكتب له الجنّة سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو سيّئا، و كذلك الّذي كتب له النار إنّما كتب له النار من طريق الشرك و المعصية لا مطلقا.

و لذلك أعقب (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قوله: (كلّ ميسّر لما خلق له) - على ما في رواية عليّ (عليه السلام) - بتلاوة قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) الليل: ١٠.

فالمتوقّع لإحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الريّ من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنّما الدار دار سعي و حركة لا تنال فيها غاية إلّا بسلوك و نقله، قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم، ٤١.

و لم يهمل (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الجواب عن ثاني التوهّمين حيث عبّر بالتيسير فإنّ

٣٩

التيسير هو التسهيل، و من المعلوم أنّ التسهيل إنّما يتحقّق في أمر لا ضرورة تحتمه و لا وجوب يعيّنه و يسدّ باب عدمه، و لو كان سبيل الجنّة ضروريّ السلوك حتميّ القطع على الإطلاق للإنسان الّذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغيّر، و لم يكن معنى لتيسيره و تسهيل سلوكه له و هو ظاهر.

فقوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): (كلّ ميسّر لما خلق له) يدلّ على أنّ لما يئول إليه أمر الإنسان من السعادة و الشقاء وجهين وجه ضرورة و قضاء حتم لا يتغيّر عن سبيل مثله، و وجه إمكان و اختيار ميسّر للإنسان يسلك إليه بالعمل و الاكتساب، و الدعوة الإلهيّة إنّما تتوجّه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الأوّل.

و قد تقدّم كلام في الجبر و الاختيار في تفسير قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة، ٢٦ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن قتادة: أنّه تلا هذه الآية:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) فقال: حدّثنا أنس أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: (يخرج قوم من النار) و لا نقول كما قال أهل حروراء.

أقول: و قوله: (و لا نقول كما قال أهل حروراء) هو من كلام قتادة، و أهل حروراء قوم من الخوارج، و هم يقولون بخلود من دخل النار فيها.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا - إلى قوله -إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): إن شاء الله أن يخرج اُناسا من الّذين شقوا من النار فيدخلهم الجنّة فعل‏.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد الأهوازيّ في كتاب الزهد بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الجهنّميّين فقال: كان أبوجعفر يقول: يخرجون منها فينتهي بهم إلى عين عند باب الجنّة تسمّى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم و جلودهم و شعورهم.

أقول: و رواه أيضاً بإسناده عن عمر بن أبان عنه (عليه السلام):

و المراد بالجهنّميّين طائفة خاصّة من أهل النار و هم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، و يسمّون

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ولو أقرّ المولى عليه ولم يُقر هو ، لم يُسمع ؛ لأنّه غيره وإقرار الشخص على غيره غير مسموعٍ. ولأنّ المولى لا يملك من العبد إلّا المال.

وقال بعض العامّة : يصحّ إقرار المولى عليه بما يوجب القصاص ، ويجب المال دون القصاص ؛ لأنّ المال تعلّق برقبته ، وهي مال السيّد ، فصحّ إقراره به كجناية الخطأ(١) .

ولو أقرّ بما يوجب القتل ، لم يُقبل عندنا.

وقال أحمد : لا يُقبل أيضاً ، ويُتبع به بعد العتق - وبه قال زفر والمزني وداوُد [ و ] ابن جرير الطبري - لأنّه يسقط حقّ سيّده بإقراره. ولأنّه متّهم في أن يُقرّ لرجلٍ ليعفو عنه ويستحقّ أخذه فيتخلّص بذلك من سيّده(٢) .

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يصحّ إقراره بما يوجب القتل أيضاً ؛ لأنّه أحد نوعي القصاص ، فصحّ إقراره به ، كما دون النفس(٣) .

وينبغي على هذا القول أن لا يصحّ عفو وليّ الجناية على مالٍ إلّا باختيار سيّده ؛ لئلّا يلزم إيجاب المال على سيّده بإقرار غيره.

وهذا كلّه عندنا باطل ، ولا شي‌ء ممّا يوجب القصاص في النفس أو‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٩ - ٢٨٠.

(٢) المغني ٥ : ٢٧٣ - ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٤١ ، الوسيط ٣ : ٣١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٣) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٤٩ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ١٤٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٤١ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٤ ، الوسيط ٣ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٢٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦ ، المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠.

٢٦١

الطرف أو الحدّ أو ا لمال بثابتٍ على العبد بإقراره على نفسه ولا بإقرار مولاه عليه.

ولا يُقبل إقرار العبد بجناية الخطأ ولا شبيه العمد ولا بجناية عمدٍ موجَبها المال ، كالجائفة والهاشمة والمأمومة ؛ لأنّه إيجاب حقٍّ في رقبته ، وذلك يتعلّق بالمولى ، ويُقبل إقرار المولى عليه ؛ لأنّه إيجاب حقٍّ في ماله.

ولو أقرّ بسرقةٍ توجب المال ، لم يُقبل إقراره ، ويُقبل إقرار المولى عليه.

وإن أوجبت القطع في المال فأقرّ بها العبد ، لم يُقبل منه.

وعند العامّة يُقبل في القطع ، ولم يجب المال ، سواء كان ما أقرّ بسرقته باقياً أو تالفاً ، في يد العبد أو في يد السيّد ، ويُتبع بذلك بعد العتق(١) .

وللشافعي في وجوب المال في هذه الصورة وجهان(٢) .

ويحتمل أن لا يجب القطع عند العامّة ؛ لأنّه شبهة ، فيُدرأ بها القطع ، لكونه حدّاً يدرأ بالشبهات - وبه قال أبو حنيفة - وذلك لأنّ العين التي يُقرّ بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها ، فلا يثبت حكم القطع بها(٣) .

مسألة ٨٥١ : لو أقرّ العبد برقّيّته لغير مَنْ هو في يده ، لم يُقبل إقراره بالرق ؛ لأنّ إقراره بالرقّ إقرار بالملك ، والعبد لا يُقبل إقراره في المال بحال. ولأنّا لو قَبِلنا إقراره لضرّرنا بسيّده ؛ لأنّه إذا شاء أقرّ بنفسه لغير سيّده‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨١.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٤٣ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢١٩ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، حلية العلماء ٨ : ٣٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦ ، المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨١.

(٣) المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨١.

٢٦٢

فأبطل ملك سيّده.

ولو أقرّ به السيّد لرجلٍ وأقرّ هو بنفسه لآخَر ، فهو للّذي أقرّ له السيّد ؛ لأنّه في يد السيّد ، لا في يد نفسه. ولأنّ السيّد لو أقرّ به منفرداً قُبِل ، ولو أقرّ العبد منفرداً لم يُقبل ، فإذا لم يُقبل إقرار العبد منفرداً فكيف يُقبل في معارضة السيّد!؟ ولو قُبِل إقرار العبد لما قُبِل إقرار السيّد ، كالحدّ وجناية العمد عندهم(١) .

مسألة ٨٥٢ : المكاتَب المشروط كالقِنّ عندنا لا يُقبل إقراره‌ ؛ لأنّه إقرار في حقّ الغير.

وعند العامّة إنّ حكمه حكم الحُرّ في صحّة إقراره(٢) . ولا بأس به.

ولو أقرّ بجناية خطأ أو عمد توجب المال ، فكالإقرار بالمال يُتبع به بعد العتق.

وعند العامّة يُقبل إقراره(٣) .

فإن عجز عن الكتابة ، بِيع في الجناية إن لم يفده سيّده.

وقال أبو حنيفة : يستسعى في الكتابة ، فإن عجز بطل إقراره بها ، سواء قضي بها أو لم يقض(٤) .

وعن الشافعي(٥) كقولنا.

وعنه قولٌ آخَر : إنّه مراعى إن أدّى لزمه ، وإن عجز بطل(٦) .

وأمّا المطلق : فإذا تحرّر بعضه ، كان حكمُ نصيب الحُرّيّة حكمَ الأحرار ، وحكمُ نصيب الرقّيّة حكمَ العبيد.

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٧٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨١.

(٢ و ٣) المغني ٥ : ٢٧٥.

(٤ - ٦) مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٦ / ١٩١٦ ، المغني ٥ : ٢٧٥.

٢٦٣

مسألة ٨٥٣ : قد بيّنّا أنّ العبد إذا أقرّ بالسرقة أو غيرها ، لم يلتفت إليه‌ ، خلافاً للعامّة(١) .

فإن صدّقه المولى ، نفذ إقراره.

ثمّ المال إن كان باقياً ، يُسلَّم إلى المالك ، سواء كان في يد العبد أو في يد المولى. ولو كان تالفاً ، تُبع به بعد العتق.

ولو لم يصدّقه المولى ، فللشافعيّة قولان :

أحدهما : إنّه يُقبل إقراره ، ويتعلّق الضمان برقبته مع تلف العين ؛ لأنّ إقراره لـمّا تضمّن عقوبةً ، انقطعت التهمة عنه.

وأصحّهما عندهم : إنّه لا يُقبل ، كما لو أقرّ بمال ، ويتعلّق الضمان بذمّته ، إلّا أن يصدّقه السيّد(٢) .

وإن كان الـمُقرّ به باقياً ، فإن كان في يد السيّد ، لم ينتزع من يده إلّا بتصديقه ، كما لو قال حُرٌّ : سرقتُه ودفعتُه إليه. وإن كان في يد العبد ، لم ينتزع منه ، ولم يُقبل قوله بسرقته.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما عن ابن سريج : إنّ في انتزاعه قولين ، إن قلنا : لا ينتزع ، ثبت بدله في ذمّته ، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وأبو حنيفة لا يوجب القطع أيضاً والحال هذه.

ومن الشافعيّة مَنْ قَطَع بنفي القبول في المال ، كما لو كان في يد السيّد ؛ لأنّ يده يد السيّد ، بخلاف ما لو كان تالفاً ؛ لأنّ غاية ما في الباب فوات رقبته على السيّد ؛ إذ يتبع في الضمان ، والأعيان التي تفوت عليه لو‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ - ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

٢٦٤

قَبِلنا إقراره فيها لا تنضبط ، فيعظم ضرر السيّد.

ومنهم مَنْ عَكَس وقال : إن كان المال باقياً في يد العبد ، قُبِل إقراره ؛ بناءً على ظاهر اليد. وإن كان تالفاً ، لم يُقبل ؛ لأنّ الضمان حينئذٍ يتعلّق بالرقبة ، وهي محكوم بها للسيّد(١) .

فتلخّص من أقوال الشافعيّة أربعة أقوال :

أ : يُقبل مطلقاً.

ب : لا يُقبل مطلقاً.

ج : يُقبل إذا كان المال باقياً.

د : يُقبل إذا كان المال تالفاً.

ولو أقرّ ثمّ رجع عن الإقرار بسرقةٍ ، لم يجب القطع.

مسألة ٨٥٤ : لو أقرّ العبد بما يوجب القصاص على نفسه ، لم يُقبل.

وعند العامّة يُقبل(٢) .

فلو أقرّ فعفا المستحقّ على مالٍ أو عفا مطلقاً وقلنا : إنّه يوجب المال ، فوجهان :

أصحّهما عند الشافعيّة : إنّه يتعلّق برقبته وإن كذّبه السيّد ؛ لأنّه إنّما أقرّ بالعقوبة ، والمال توجّه بالعفو ، ولا يُنظر إلى احتمال أنّه واطأ المستحقّ على أن يقرّ ويعفو المستحقّ لتفوت الرقبة على السيّد ؛ لضعف هذه التهمة ، إذ المستحقّ ربما يموت أو لا يفي ، فيكون الـمُقرّ مخاطراً بنفسه.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٢) المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٤١ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٤ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، الوسيط ٣ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٢٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

٢٦٥

والثاني : إنّه كذلك إن قلنا : إنّ موجَب العمد القصاصُ ، أمّا إذا قلنا : موجَبه أحدُ الأمرين ، ففي ثبوت المال عندهم قولان ؛ بناءً على الخلاف في ثبوت المال إذا أقرّ بالسرقة الموجبة للقطع(١) .

مسألة ٨٥٥ : إذا أقرّ العبد بدَيْن خيانةٍ من جهة غصبٍ أو سرقةٍ لا توجب القطع أو إتلافٍ وصدّقه السيّد ، تعلّق بذمّته يُتبع به بعد العتق ؛ لأنّ ما يفعله العبد لا يلزم السيّد منه شي‌ء.

وقال الشافعي : يتعلّق برقبته ، كما لو قامت عليه بيّنة ، فيباع فيه ، إلّا أن يختار السيّد الفداء(٢) .

وإذا بِيع فيه وبقي شي‌ء من الدَّيْن ، فهل يُتبع به بعد العتق؟ قولان للشافعيّة(٣) .

وإن كذّبه السيّد ، لم يتعلّق برقبته عندنا وعنده(٤) ، بل يتعلّق بذمّته ، ويُتبع به بعد العتق.

ولا يُخرَّج عندهم على الخلاف فيما إذا بِيع في الدَّيْن وبقي شي‌ء ؛ لأنّه إذا ثبت التعلّق بالرقبة فكأنّ الحقّ انحصر فيها وتعيّنت محلّاً للأداء(٥) .

وقال بعضهم : إنّ القياسيّين خرّجوه على ذلك الخلاف ، وقالوا : الفاضل عن قدر القيمة غير متعلّقٍ بالرقبة ، كما أنّ أصل الحقّ غير متعلّقٍ بها هنا(٦) .

مسألة ٨٥٦ : لو أقرّ العبد بدَيْن معاملةٍ ، نُظر إن لم يكن مأذوناً له في التجارة ، لم يُقبل إقراره على السيّد ، ويتعلّق الـمُقرّ به بذمّته يُتبع به إذا‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ - ٢٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧.

٢٦٦

أُعتق ، سواء صدّقه السيّد أو كذّبه.

وإن كان مأذوناً له في التجارة ، ففي قبوله إشكال.

وقال الشافعي : يُقبل ويؤدّي من كسبه وما في يده ، إلّا إذا كان ممّا لا يتعلّق بالتجارة ، كالقرض(١) .

ولو أطلق المأذون الإقرارَ بالدَّيْن ولم يبيّن جهته ، احتُمل عندهم أن يُنزَّل على دَيْن المعاملة(٢) .

والأظهر : إنّه يُنزَّل على دَيْن الإتلاف.

ولا فرق في دَيْن الإتلاف بين المأذون وغيره.

ولو حجر عليه مولاه فأقرّ بعد الحجر بدَيْن معاملةٍ أسنده إلى حال الإذن ، فللشافعيّة وجهان مبنيّان على القولين فيما لو أقرّ المفلس بدَيْنٍ لزمه قبل الحجر ، هل يُقبل في مزاحمة الغرماء؟

والأظهر عندهم هنا : المنع ؛ لعجزه عن الإنشاء في الحال ، ويمكن التهمة(٣) .

قال الجويني : وجوب القطع على العبد في مسألة الإقرار بالسرقة إذا لم نقبله في المال مُخرَّج على الخلاف فيما إذا أقرّ الحُرّ بسرقة مال زيدٍ ، هل يُقطع قبل مراجعة زيد؟ لارتباط كلّ واحدٍ منهما بالآخَر(٤) .

مسألة ٨٥٧ : مَنْ نصفه حُرٌّ ونصفه رقيقٌ إذا أقرّ بدَيْن جنايةٍ ، لم يُقبل في حقّ السيّد ، إلّا أن يصدّقه ، ويُقبل في نصفه ، وعليه قضاؤه ممّا في يده.

وإن أقرّ بدَيْن معاملةٍ ، قضى نصفه - نصيب الحُرّيّة - ممّا في يده ،

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٩.

٢٦٧

وتعلّق نصيب الرقّيّة بذمّته.

وقال الشافعيّة : إن صحّحنا تصرّفه ، قَبِلنا إقراره عليه ، وقضيناه ممّا في يده. وإذا لم نصحّحه ، فإقراره كإقرار العبد(١) .

وإقرار السيّد على عبده بما يوجب عقوبةً مردود ، وبدَيْن الجناية مقبول ، إلّا أنّه إذا بِيع فيه وبقي شي‌ء ، لم يُتبع به بعد العتق ، إلّا أن يصدّقه.

وأمّا إقراره بدَيْن المعاملة فلا يُقبل على العبد ؛ لأنّه لا ينفذ إقرار رجلٍ على آخَر.

مسألة ٨٥٨ : المريض مرضَ الموت يُقبل إقراره بالنكاح وبموجبات العقوبات.

ولو أقرّ بدَيْنٍ أو عينٍ لأجنبيٍّ ، فالأقوى عندي من أقوال علمائنا : إنّه ينفذ من الأصل إن لم يكن متّهماً في إقراره. وإن كان متّهماً ، نفذ من الثلث ؛ لأنّه مع انتفاء التهمة يريد إبراء ذمّته ، فلا يمكن التوصّل إليه إلّا بالإقرار عن ثبوته في ذمّته ، فلو لم يُقبل منه بقيت ذمّته مشغولةً ، وبقي الـمُقرّ له ممنوعاً عن حقّه ، وكلاهما مفسدة ، فاقتضت الحكمة قبول قوله. أمّا مع التهمة فإنّ الظاهر أنّه لم يقصد الإخبار بالحقّ ، بل قَصَد منعَ الوارث عن جميع حقّه أو بعضه والتبرّعَ به للغير ، فأُجري مجرى الوصيّة.

ويؤيّده ما رواه العلاء بيّاع السابري عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن امرأة استودعت رجلاً مالاً فلمّا حضرها الموت قالت له : إنّ المال الذي دفعتُه إليك لفلانة ، وماتت المرأة ، فأتى أولياؤها الرجل وقالوا له : إنّه كان لصاحبتنا مال لا نراه إلّا عندك ، فاحلف لنا ما قِبَلك شي‌ء ، أفيحلف لهم؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧.

٢٦٨

فقال : « إن كانت مأ مونةً عنده فليحلف ، وإن كانت متّهمةً فلا يحلف ، ويضع الأمر على ما كان ، فإنّما لها من مالها ثلثه »(١) .

وقال الشافعي : يصحّ إقراره للأجنبيّ(٢) ، وأطلق ، وهو إحدى الروايات عن أحمد(٣) .

وعنه رواية أُخرى : إنّه لا يُقبل ؛ لأنّه إقرار في مرض الموت ، فأشبه الإقرار لوارثٍ(٤) .

وعنه ثالثة : إنّه يُقبل في الثلث ، ولا يُقبل في الزائد ؛ لأنّه ممنوع من عطيّة ذلك للأجنبيّ ، كما هو ممنوع من عطيّة الوارث عندهم ، فلم يصحّ إقراره بما لا يملك عطيّته ، بخلاف الثلث فما دون(٥) .

والحقّ ما قلناه من أنّه إذا لم يكن متّهماً ، صحّ إقراره ، كالصحيح ، بل هنا أولى ؛ لأنّ حال المريض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وإبراء ذمّته وتحرّي الصدق ، فكان أولى بالقبول ، أمّا الإقرار للوارث فإنّه متّهم فيه.

مسألة ٨٥٩ : لو أقرّ لأجنبيٍّ في مرضه وعليه دَيْنٌ ثابت بالبيّنة أو بالإقرار في الصحّة وهناك سعة في المال لهما ، نفذ إقراره من الأصل مع نفي التهمة ، ومطلقاً عند العامّة(٦) .

ولو ضاق المال عنهما ، فهو بينهما بالحصص - وبه قال مالك‌

____________________

(١) الكافي ٧ : ٤٢ / ٣ ، الفقيه ٤ : ١٧٠ / ٥٩٥ ، التهذيب ٩ : ١٦٠ / ٦٦١ ، الاستبصار ٤ : ١١٢ / ٤٣١ بتفاوت يسير.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ٣٤٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٤.

(٥) المغني ٥ : ٣٤٢ - ٣٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٤.

(٦) المغني ٥ : ٣٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٥.

٢٦٩

والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور(١) . قال أبو عبيد : إنّه قول [ أكثر ] أهل المدينة(٢) - لأنّهما حقّان تساويا في وجوب القضاء من أصل المال لم يختص أحدهما برهنٍ فاستويا ، كما لو ثبتا ببيّنةٍ.

وقال النخعي : إنّه يُقدَّم الدَّيْن الثابت بالبيّنة - وبه قال الثوري وأصحاب الرأي ، وعن أحمد روايتان كالمذهبين - لأنّه أقرّ بعد تعلّق الحقّ بتركته ، فوجب أن لا يشارك الـمُقرّ له مَنْ ثبت دَيْنه ببيّنةٍ ، كغريم المفلس الذي أقرّ له بعد الحجر عليه(٣) .

وإنّما قلنا : إنّه تعلّق الحقّ بتركته ؛ لأنّ الشارع مَنَعه من التصرّف في أكثر من الثلث ، ولهذا لم تُنفذ هباته وتبرّعاته من الأصل ، فلم يشارك مَنْ أقرّ له قبل الحجر ومَنْ ثبت دَيْنه ببيّنةٍ الذي أقرّ له المريض في مرضه.

ولو أقرّ لهما جميعاً في المرض ، فإنّهما يتساويان ، ولا يُقدَّم السابق منهما.

مسألة ٨٦٠ : لو أقرّ المريض لوارثه بمال ، فالأقوى عندي اعتبار‌

____________________

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٧ - ٦١٨ / ١٠٥٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٩٦ / ١١٩٤ ، الذخيرة ٩ : ٢٦٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٨ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، حلية العلماء ٨ : ٣٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٠ / ١٩٠٥ ، المغني ٥ : ٣٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٥.

(٢) المغني ٥ : ٣٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٥ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) المغني ٥ : ٣٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٠٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢١٨ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٢٦ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٢٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٦٠ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٨ / ١٠٥٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٩٦ / ١١٩٤.

٢٧٠

العدالة.

فإن كان عَدْ لاً غير متّهمٍ في إقراره ، نفذ من الأصل ، كالأجنبيّ.

وإن لم يكن مأموناً وكان متّهماً في إقراره ، نفذ من الثلث ؛ لما تقدّم في الأجنبيّ.

ولما رواه منصور بن حازم عن الصادقعليه‌السلام أنّه سأله عن رجل أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه دَيْناً ، فقال : « إن كان الميّت مريضاً فأعطه الذي أوصاه(١) له »(٢) .

وقال بعض علمائنا : إنّ إقرار المريض من الثلث مطلقاً(٣) .

وبعضهم قال : إنّه من الثلث في حقّ الوارث مطلقاً ؛ لأنّ الوراثة موجبة للتهمة(٤) .

ولما رواه هشام [ بن سالم عن إسماعيل بن جابر قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام ](٥) عن رجل أقرّ لوارثٍ له - وهو مريض - بدَيْنٍ عليه ، قال : « يجوز إذا كان الذي أقرّ به دون الثلث »(٦) .

وقال بعضهم : إنّ إقرار المريض مطلقاً من الأصل(٧) . ولم يعتبر التهمة.

____________________

(١) في المصادر : « أوصى » بدل « أوصاه ».

(٢) الكافي ٧ : ٤١ - ٤٢ / ١ ، الفقيه ٤ : ١٧٠ / ٥٩٤ ، التهذيب ٩ : ١٥٩ / ٦٥٦ ، الاستبصار ٤ : ١١١ / ٤٢٦.

(٣) المختصر النافع : ١٦٨.

(٤) المقنع : ١٦٥.

(٥) ما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.

(٦) الكافي ٧ : ٤٢ / ٤ ، الفقيه ٤ : ١٧٠ / ٥٩٢ ، التهذيب ٩ : ١٦٠ / ٦٥٩ ، الاستبصار ٤ : ١١٢ / ٤٢٩.

(٧) السرائر ٢ : ٥٠٦ ، و ٣ : ٢١٧.

٢٧١

قال ابن المنذر من ا لعامّة : أجمع كلّ مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ إقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز(١) .

وللشافعيّة في الإقرار للوارث طريقان :

أحدهما : إنّه على قولين :

أحدهما : إنّه لا يُقبل - وبه قال شريح وأبو هاشم وابن أُذينة والنخعي والثوري ويحيى الأنصاري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل - لأنّه موضع التهمة بقصد حرمان بعض الورثة ، فأشبه الوصيّة للوارث. ولأنّه إيصال لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته ، فلم يصح بغير رضا بقيّة ورثته ، كهبته. ولأنّه محجور عليه في حقّه ، فلم يصح إقراره له ، كالصبي.

وأصحّهما : القبول - كما ذهبنا إليه ، وبه قال الحسن البصري وعمر ابن عبد العزيز ، ومن الفقهاء أبو ثور وأبو عبيد - كما لو أقرّ لأجنبيٍّ ، وكما لو أقرّ في حال الصحّة ، والظاهر أنّه لا يُقرّ إلّا عن حقيقةٍ ، ولا يقصد حرماناً ، فإنّه انتهى إلى حالةٍ يصدق فيها الكاذب ويتوب الفاجر.

الطريق الثاني : القطع بالقبول ، وحَمْلُ قول الشافعي : « فمَنْ أجاز الإقرار لوارثٍ أجازه ، ومَنْ أبى ردّه » [ على ](٢) حكاية مذهب الغير(٣) .

____________________

(١) الإجماع - لابن المنذر - : ٣٨ / ٣٤٤ ، المغني ٥ : ٣٤٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٤.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٣٠ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، بحر المذهب ٨ : ٢٤٩ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، الوسيط ٣ : ٣٢٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٢ ، البيان ١٣ : ٣٩٣ - ٣٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٠ - ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٣١ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٠٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢١٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٩٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٠ / ١٩٠٦ ، المغني ٥ : ٣٤٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٥ - =

٢٧٢

وقال مالك : إن كان الـمُقرّ متّهماً ، بطل الإقرار. وإن لم يكن متّهماً ، صحّ ونفذ ، ويجتهد الحاكم فيه(١) .

مسألة ٨٦١ : الأصل في إخبار المسلم الصدقُ ، فلا يُحمل على غيره إلّا لموجبٍ.

فإذا أقرّ المريض لوارثٍ أو لغيره واعتبرنا التهمة ، كان الأصل عدمها ؛ لأصالة ثقة المسلم وعدالته.

فإن ادّعاها(٢) الوارث وقال الـمُقرّ له : إنّه غير متّهم ، فالقول قول المُقرّ له مع اليمين ؛ لالتزامه بالظاهر ، فلا يُقبل قول الوارث إلّا بالبيّنة.

وإن اعتبرنا التهمة في الوارث خاصّةً وجعلنا الوراثة موجبةً للتهمة وأمضينا إقراره من الثلث كالوصيّة ، فالاعتبار في كونه وارثاً بحال الموت أم بحال الإقرار؟ الأقوى : الثاني - وبه قال مالك والشافعي في القديم ، وهو قول عثمان البتّي(٣) - لأنّ التهمة حينئذٍ تعرض.

وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد : إنّ الاعتبار بحال الموت ، كما في الوصيّة ، وهذا لأنّ المانع من القبول كونه وارثاً ، والوراثة تتعلّق بحالة‌

____________________

= ٢٧٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٨ / ١٠٥١ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٩٧ و ١٦٩٨ / ١١٩٤ و ١١٩٥.

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٨ / ١٠٥١ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٩٦ - ١٦٩٨ / ١١٩٤ و ١١٩٥ ، بحر المذهب ٨ : ٢٤٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٠ / ١٩٠٥ ، المغني ٥ : ٣٤٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٦.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « ادّعاها » : « ادّعاه ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٢٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨ ، المغني ٥ : ٣٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٨ ، الخلاف - للشيخ الطوسي - ٣ : ٣٦٩ ، المسألة ١٤ من كتاب الإقرار.

٢٧٣

الموت (١) .

وليس بمعتمدٍ .

فعلى ما اخترناه لو أقرّ لزوجته ثمّ طلّقها أو لأخيه ثمّ ولد له ولد ، صحّ الإقرار.

ولو أقرّ لأجنبيّةٍ ثمّ نكحها أو لأخيه وله ابن فمات ، لم يصح من الأصل ، وعلى الآخَر بالعكس فيهما.

ولو أقرّ في المرض أنّه كان قد وهب من وارثه وأقبض في الصحّة ، فالأقوى أنّه لا ينفذ من الأصل.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : القطع بالمنع ؛ لذكره ما هو عاجز عن إنشائه في الحال.

والثاني : إنّه على القولين في الإقرار للوارث [ و ] رجّح بعضهم القبولَ ؛ لأنّه قد يكون صادقاً فيه ، فليكن له طريق إلى إيصال الحقّ إلى المستحقّ(٢) .

ولو أقرّ لمتّهمٍ وغير متّهمٍ ، نفذ في حقّ غير المتّهم من الأصل ، وفي المتّهم من الثلث.

وعند الشافعيّة لو أقرّ لوارثه وأجنبيٍّ معاً ، هل يصحّ في حصّة الأجنبيّ إذا لم يُقبل للوارث؟ قولان ، والظاهر عندهم : الصحّة(٣) .

مسألة ٨٦٢ : لو أقرّ في صحّته أو مرضه بدَيْنٍ ثمّ مات فأقرّ وارثه عليه‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣١ ، بحر المذهب ٨ : ٢٥٠ ، الوسيط ٣ : ٣٢٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٢ ، البيان ١٣ : ٣٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨ ، المغني ٥ : ٣٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٨.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨.

٢٧٤

بدَيْنٍ لآخَر وقصرت التركة عنهما ، احتُمل تساويهما وأنّهما يتضاربان في التركة ، كما لو ثبت الدَّيْنان بالبيّنة ، وكما لو أقرّ بهما في حياته ، فإنّ الوارث خليفته ، فإقراره كإقراره.

ويحتمل أنّه يقدَّم ما أقرّ به المورّث ؛ لأنّه تعلّق بالتركة ، فليس للوارث صَرف التركة عنه. وفي الثاني قوّة.

وللشافعيّة وجهان(١) كهذين.

والوجهان جاريان فيما لو أقرّ الوارث بدَيْنٍ عليه ثمّ أقرّ لآخَر بدَيْنٍ عليه(٢) .

وهُما مبنيّان على أنّ المحجور عليه بالفلس إذا أقرّ بدَيْنٍ أسنده إلى ما قبل الحجر هل يُقبل إقراره في زحمة الغرماء؟ للشافعي فيه قولان ، فالتركة كمال المحجور عليه من حيث إنّ الورثة ممنوعون عن التصرّف فيها(٣) .

ولو ثبت عليه دَيْنٌ في حياته بالبيّنة ثمّ مات فأقرّ وارثه عليه بدَيْنٍ ، جرى الخلاف أيضاً ، كما تقدّم.

مسألة ٨٦٣ : لو ثبت عليه دَيْنٌ في حياته أو بعد موته بأن تردّت بهيمة في بئرٍ كان قد احتفرها في محلّ عدوان ، زاحم صاحبُ البهيمة ربَّ الدَّيْن القديم ؛ لأنّ وجود السبب كوجود المسبّب.

وللشافعي قولان تقدّما فيما إذا جنى المفلس بعد الحجر عليه(٤) .

ولو مات وخلّف ألف درهم فجاء مُدّعٍ وادّعى أنّه أوصى بثلث ماله ، فصدّقه الوارث ثمّ جاء آخَر وادّعى عليه ألف درهم دَيْناً ، فصدّقه الوارث ،

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٢١ - ٣٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨ - ٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٢.

(٤) الوسيط ٣ : ٣٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٩ ، وراجع ج ١٤ - من هذا الكتاب - ص ٢٩ - ٣٠ ، المسألة ٢٧٦.

٢٧٥

احتُمل صَرفُ الثلث إلى الوصيّة ؛ لتقدّمها ، وتقدُّمُ الدَّيْن ، لأنّه في وضع الشرع مقدَّم على الوصيّة.

وللشافعيّة قولان مخرَّجان على قولهم : إنّ إقرار الوارث والموروث سواء(١) .

ولو صدّق الوارث مدّعي الدَّيْن أوّلاً ، فالأقوى صَرف المال إليه.

ولو صدّق المدّعيَيْن دفعةً ، قسّم الألف بينهما أرباعاً ؛ لأنّا نحتاج إلى ألف للدَّيْن وإلى ثلث ألف للوصيّة ، فيزاحم على الألف الألف وثلث الألف ، فيخصّ الوصيّة ثلث عائل ، فيكون ربعاً ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) .

وقال بعضهم : تبطل الوصيّة ، ويُقدّم الدَّيْن كما لو ثبتا بالبيّنة(٣) .

وهو الأقوى ، سواء قدّمنا عند الترتيب الأوّلَ منهما أو سوّينا بينهما.

مسألة ٨٦٤ : لو أقرّ المريض بعين ماله لإنسان ثمّ أقرّ بدَيْنٍ لآخَر مستغرق أو غير مستغرقٍ ، سُلّمت العين للمُقرّ له‌ ، ولا شي‌ء للثاني ؛ لأنّ المُقرّ مات ولا شي‌ء له.

ولو أقرّ بالدَّيْن أوّلاً ثمّ أقرّ بعين ماله ، احتُمل مساواة هذه للأُولى - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٤) - لأنّ الإقرار بالدَّيْن لا يتضمّن حَجْراً في العين ، ولهذا تنفذ تصرّفاته فيه.

ويحتمل تزاحمهما - وهو الثاني للشافعيّة ، وبه قال أبو حنيفة ٥ - لأنّ لأحد الإقرارين قوّةَ السبق ، وللآخَر قوّة الإضافة إلى العين ، فاستويا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٩.

(٢ و ٣) الوسيط ٣ : ٣٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٩.

(٤ و ٥) الوجيز ١ : ١٩٥ ، الوسيط ٣ : ٣٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٩.

٢٧٦

البحث الثالث : في المُقرّ له

وله شروط ثلاثة : أهليّته للاستحقاق ، وأن لا يكذّب المـُقرّ له ، والتعيين ، فهنا مطلبان :

الأوّل : أهليّة الـمُقرّ له للاستحقاق للحقّ المـُقرّ به‌ ، وإلّا كان الكلام لغواً لا عبرة به ، فلو قال: لهذا الحمار أو الحائط أو لدابّة فلان علَيَّ ألف ، بطل إقراره.

ولو قال : لفلان علَيَّ بسببها ألف ، صحّ ، وحُمل على أنّه جنى عليها أو استعملها أو اكتراها.

وقال بعض الشافعيّة : لا يصحّ ؛ لأنّ الغالب لزوم المال بالمعاملة ، ولا تتصوّر المعاملة معها(١) .

ولو قال : لعبد فلان علَيَّ أو عندي ألف ، صحّ ، وكان الإقرار لسيّده ، بخلاف الدابّة ؛ لأنّ المعاملة معها لا تُتصوّر ، وتُتصوّر مع العبد ، والإضافة إليه كالإضافة في الهبة وسائر الإنشاءات.

ولو قال : علَيَّ ألف بسبب الدابّة ، ولم يقل : لمالكها ، فالأقرب : إنّه لا يلزمه لمالكها شي‌ء ؛ لجواز أن يلزمه بسببها ما ليس لمالكها بأن ينفرها على راكبٍ أجنبيّ فيسقط ، أو يركبها ويجني بيديها على أجنبيٍّ.

نعم ، إنّه يُسأل ويُحكم بموجب بيانه ، فإن امتنع من البيان وادّعى المالك قصده ، حلف له ، وإلّا فلا.

مسألة ٨٦٥ : الحمل يصحّ أن يملك ، ولهذا يُعزل له في الميراث‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١١.

٢٧٧

نصيبٌ ، وتصحّ الوصي ّة به وله.

فإذا قال : لحمل فلانة علَيَّ ألف ، أو عندي له ألف ، فأقسام أحواله ثلاثة :

فإن أسنده إلى جهةٍ صحيحة بأن يقول : ورثه من أبيه ، أو أوصى به فلان له ، صحّ(١) إقراره.

ثمّ إن انفصل الحمل ميّتاً ، فلا حقّ له ، ويكون لورثة مَنْ قال : إنّه ورثه منه ، أو للموصي ، أو لورثته إن أسنده إلى الوصيّة.

وإن انفصل حيّاً لدون ستّة أشهر من يوم الإقرار ، استحقّ ؛ لأنّا تبيّنّا وجوده يومئذٍ.

وإن انفصل لأكثر من مدّة الحمل - وهي سنة على روايةٍ(٢) ، وعشرة على أُخرى(٣) ، وتسعة على ثالثةٍ(٤) عندنا ، وعند الشافعي أربع سنين(٥) - فلا شي‌ء له ؛ لتيقّن عدمه حينئذٍ.

وإن انفصل لستّة أشهر فما زاد إلى السنة أو العشرة الأشهر أو التسعة عندنا أو إلى أربع سنين عند الشافعي ، فإن كانت فراشاً فالأقرب : صحّة الإقرار ؛ عملاً بأصالة الصحّة.

ويحتمل البطلان ؛ لاحتمال تجدّد العلوق بعد الإقرار ، والأصل عدم الاستحقاق ، وعدم المُقرّ له عند الإقرار.

والثاني قول الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة : « فيصحّ ».

(٢) الكافي ٦ : ١٠١ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٣٣٠ / ١٦٠٠.

(٣) لم نعثر عليها في المصادر الحديثيّة ، ونسبها إلى الرواية أيضاً ابن حمزة في الوسيلة : ٣١٨.

(٤) الكافي ٦ : ٥٢ / ٣ ، التهذيب ٨ : ١١٥ / ٣٩٦ ، و ١٦٦ - ١٦٧ / ٥٧٨.

(٥) الأُم ٥ : ٢٢٢ ، الحاوي الكبير ١١ : ٢٠٥ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ١٤٣ ، البيان ١٠ : ٣٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٩ : ٤٥١ ، روضة الطالبين ٦ : ٣٥٤.

(٦) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١١.

٢٧٨

وإن لم تكن مستفرشةً ، فللشافعي قولان :

أحدهما : إنّه لا يستحقّ ؛ لأنّا لا نتيقّن وجوده عند الإقرار.

وأظهرهما عندهم : الاستحقاق - وهو المعتمد - إذ لا سبب في الظاهر يتجدّد به العلوق ، فالظاهر وجوده وقت الإقرار ، ولهذا يُحكم بثبوت نسبه ممّن كانت فراشاً له(١) .

فإن ولدت المرأة ذكراً ، فهو له.

وكذا لو ولدت ذكرين فصاعداً ، فلهم بالسويّة.

وإن ولدت أُنثى ، فلها.

وإن ولدتهما معاً ، فهو بينهما بالسويّة إن [ أسنده ](٢) إلى الوصيّة ، وإلّا فهو بينهما أثلاثاً إن أسنده إلى الإرث.

ولو اقتضى جهة الوراثة التسويةَ بأن يكونا ولدي الأُمّ ، كان ثلثه بينهما بالسويّة.

ولو أطلق الإرث حكمنا بما يجب به عند سؤالنا إيّاه عن الجهة.

مسألة ٨٦٦ : لو أسند الإقرار إلى جهةٍ فاسدة بأن يسند الاستحقاق إلى القرض منه أو البيع عليه ، فالوجه عندي : الصحّة - وهو أظهر قولَي الشافعيّة(٣) - لأنّه عقّبه بما هو غير معقولٍ ولا منتظم ، فأشبه ما إذا قال :

لفلان علَيَّ ألف لا تلزمني.

والثاني للشافعيّة : البطلان(٤) .

ولهم طريقٌ آخَر : إنّ المطلق إن كان فاسداً ، فهنا أولى بالبطلان. وإن

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١١.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أسند ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣ و ٤) بحر المذهب ٨ : ٢٥٤ ، البيان ١٣ : ٣٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٢.

٢٧٩

قلنا : المطلق صحيح ، كانت المسألة على قولين(١) .

ولو أطلق الإقرار ، فالأقوى عندي الصحّة أيضاً ؛ عملاً بمقتضى إقراره ، وحملاً للأقارير على الصحّة والجهة الممكنة في حقّه وإن كانت نادرةً ، وهو أصحّ قولَي الشافعي ، وبه قال أبو حنيفة ومحمّد(٢) .

والثاني للشافعي : البطلان - وبه قال أبو يوسف - لأنّ المال في الغالب إنّما يثبت بمعاملةٍ أو جنايةٍ ، ولا مساغ للمعاملة معه ولا للجناية عليه(٣) .

مسألة ٨٦٧ : لو انفصل الحمل ميّتاً وقلنا بصحّة الإقرار حالة ما إذا نسب الإقرار إلى المستحيل أو أطلق ، لم يكن له حق ؛ لأنّه إن كان عن وصيّةٍ ، فقد ظهر بطلانها ؛ لأنّه لا تصحّ الوصيّة إلّا بعد أن ينفصل حيّاً. وإن كان ميراثاً ، فلا يثبت له إذا انفصل ميّتاً.

ويُسأل المـُقرّ عن جهة إقراره من الإرث أو الوصيّة ويُحكم بموجبها.

قال بعض الشافعيّة : ليس لهذا السؤال والبحث طالبٌ معيّن ، وكان‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣٤ ، الوسيط ٣ : ٣٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٢.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ - ٣٤٦ ، بحر المذهب ٨ : ٢٥٣ - ٢٥٤ ، الوجيز ١ : ١٩٥ - ١٩٦ ، الوسيط ٣ : ٣٢٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦١ ، البيان ١٣ : ٣٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٩ - ٢٢٠ / ١٩٢٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢١٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٧ : ١٩٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٣ ، المغني ٥ : ٢٧٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٩٢.

(٣) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢١٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٧ : ١٩٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٩ / ١٩٢٢ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ - ٣٤٦ ، بحر المذهب ٨ : ٢٥٣ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، الوسيط ٣ : ٣٢٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٠ ، البيان ١٣ : ٣٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٢.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501