تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء0%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

تذكرة الفقهاء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الحلي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466
المشاهدات: 136803
تحميل: 4829


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 136803 / تحميل: 4829
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء 17

مؤلف:
ISBN: 978-964-319-530-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعن القفّال تخريجه من أحد القولين في أنّ مَنْ قذف اللقيط بعد بلوغه لا يُحدّ ، ويُخرَّج من هذا مأخذٌ ثالث ، وهو دَرْء القصاص بشبهة الرقّ والكفر(١) .

ثمّ الأصحّ من القولين عندهم : وجوب القصاص بالاتّفاق(٢) .

فإن كانت الجناية على طرف اللقيط ، فعلى المأخذ الأوّل يُقطع وجوب القصاص ؛ لأنّ الاستحقاق فيه للّقيط وهو متعيّن ، لا للعامّة.

وعلى المأخذ الثاني إذا فرّعنا على قول المنع هناك يُتوقّف في قصاص الطرف ، فإن بلغ وأعرب بالإسلام تبيّنّا وجوبه ، وإلّا تبيّنّا عدمه.

وعلى المأخذ الثالث يجري القولان بلا فرق.

وإذا كان الجاني على النفس أو الطرف كافراً رقيقاً ، جرى القولان على المأخذ الأوّل ، دون الثاني والثالث.

هذا ما يتعلّق بوجوب القصاص.

مسألة ٤٤١ : أمّا استيفاء القصاص إذا قلنا بالوجوب فقصاص النفس يستوفيه الإمام لنفسه عندنا وللمسلمين عند العامّة(٣) إن رأى المصلحة فيه ، وإن رأى في أخذ المال عدل عنه إلى الدية مع رضا الجاني عندنا ، ومطلقاً عند الشافعي(٤) ، ولو لم نجوّز ذلك لالتحق هذا القصاص بالحدود المتحتّمة ، وليس له العفو مجّاناً عندهم(٥) ؛ لأنّه خلاف مصلحة المسلمين ، والحقّ لهم عند العامّة.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩.

(٣) المغني ٦ : ٤٠٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

٣٦١

وأمّا قصاص الطرف فإن كان اللقيط بالغاً عاقلاً فالاستيفاء إليه ، وإن لم يكن بالغاً عاقلاً بل انتفى عنه الوصفان أو أحدهما ، لم يكن للإمام استيفاؤه ؛ لأنّه قد يريد التشفّي ، وقد يريد العفو ، فلا يُفوّت عليه ، قاله بعض الشافعيّة(١) .

والأقوى عندي : إنّ له الاستيفاء ؛ لأنّه حقٌّ للمولّى عليه فكان للولي استيفاؤه ، كحقّ المال ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ؛ لأنّه أحد نوعي القصاص ، فكان للإمام استيفاؤه عن اللقيط ، كالقصاص في النفس(٢) .

وقال القفّال : له الاستيفاء في المجنون ؛ لأنّه لا وقت معيّن ينتظر لإفاقته ، والتأخير لا إلى غايةٍ قريبٌ من التفويت(٣) .

وهو بعيد عند الشافعيّة(٤) .

وأبعد منه عند الشافعيّة قول بعضهم بجواز الاقتصاص حيث يجوز له [ أخذ ](٥) الأرش ؛ لأنّه أحد البدلين ، فله استيفاؤه كالثاني(٦) .

والمشهور عندهم : الأوّل(٧) .

وعلى قول الشافعيّة بالمنع من استيفاء القصاص هل له أخذ أرش الجناية؟ يُنظر إن كان المجنيّ عليه مجنوناً فقيراً فله الأخذ ؛ لأنّه محتاج ، وليس لزوال علّته غاية تُنتظر.

وإن كان صبيّاً غنيّاً ، لم يأخذه ؛ لأنّه لا حاجة في الحال ، ولأنّ زوال‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

(٢) المغني ٦ : ٤٠٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٨ - ٤١٩.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

(٥) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣ - ٥٠٤.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

٣٦٢

الصبوة له غاية منتظرة.

وإن كان مجنوناً غنيّاً أو صبيّاً فقيراً ، فوجهان :

أحدهما : جواز الأخذ ؛ لبُعْد الإفاقة في الصورة الأُولى ، وقيام الحاجة في الثانية.

والثاني : المنع ؛ لعدم الحاجة في الأُولى ، وقرب الانتظار في الثانية(١) .

والظاهر في الصورتين : المنع ، واعتبار الجنون والفقر معاً لجواز الأخذ.

وحيث قلنا : لا يجوز أخذ الأرش أو لم نر المصلحة فيه فيُحبس الجاني إلى أوان البلوغ والإفاقة.

وإذا جوّزناه فأخذه ثمّ بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأراد أن يردّه أو يقتصّ ، فالوجه : إنّه لا يُمكَّن من ذلك - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّ فعل الولي حال الصغر والجنون كفعل البالغ العاقل.

والثاني : إنّه يُمكَّن من ذلك(٣) .

والوجهان شبيهان بالخلاف فيما لو عفا الوليّ عن حقّ شفعة الصبي للمصلحة ثمّ بلغ وأراد أخذه.

والوجهان مبنيّان على أنّ أخذ المال عفو كلّيّ وإسقاط للقصاص ، أم شبيه الحيلولة لتعذّر استيفاء القصاص الواجب؟

وقد يرجّح التقدير الأوّل بأنّ التضمين للحيلولة إنّما ينقدح إذا جاءت الحيلولة من قِبَل الجاني ، كما لو غيّب الغاصب المغصوبَ ، أو أبق العبد من‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

٣٦٣

يده ، وهنا لم يأت التعذّر من قِبَله ، وأيضاً لو كان الأخذ للحيلولة لجاز الأخذ فيما إذا كان المجنيّ عليه صبيّاً غنيّاً.

وهذا الذي ذكرناه في أخذ الأرش للّقيط آتٍ في كلّ طفلٍ يليه أبوه أو جدّه.

وقال بعض الشافعيّة : ليس للوصي أخذه(١) .

واستحسنه بعضهم على تقدير كونه إسقاطاً ، فلا يجوز الإسقاط إلّا لوالٍ أو وليٍّ(٢) .

أمّا إذا جوّزناه للحيلولة ، جاز للوصي أيضاً.

إذا عرفت هذا ، فكلّ موضعٍ قلنا : ينتظر البلوغ ، فإنّ الجاني يُحبس حتى يبلغ اللقيط فيستوفي لنفسه.

البحث الثالث : في نسب اللقيط.

والنظر في أمرين :

الأوّل : أن يكون المدّعي واحداً.

مسألة ٤٤٢ : كلّ صبيٍّ مجهول النسب - سواء كان لقيطاً أو لا - إذا ادّعى بنوّته حُرٌّ مسلم ، أُلحق به ؛ لأنّه أقرّ بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه ، وليس في إقراره إضرار بغيره ، فيثبت إقراره.

وإنّما شرطنا الإمكان ؛ لأنّه إذا أقرّ بنسب مجهول مَنْ هو أكبر منه أو مثله أو أصغر منه بما لم تَجْر العادة بتولّده عنه ، عُلم كذبه ، وأبطلنا إقراره.

وإنّما شرطنا أن لا يعود بالضرر على غيره ؛ لأنّه إذا أقرّ بنسب عبد‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

٣٦٤

غيره لم يُقبل إقراره ؛ لأنّه يضرّ به ، لأنّه يقدّم في الإرث على المولى.

وقد عرفت فيما سبق شرائط الإلحاق ، فإذا حصلت هنا ألحقناه بالمدّعي ، وإلّا فلا.

قال الشافعي : ويستحبّ للحاكم أن يسأله عن سبب نسبه ؛ لئلّا يكون ممّن يعتقد أنّ الالتقاط والتربية يفيد النسب ، فإن لم يسأله فلا بأس(١) .

وقال مالك : إنّه إن استلحقه الملتقط لم يلحق به ؛ لأنّ الإنسان لا ينبذ ولده ثمّ يلتقطه إلّا أن يكون ممّن لا يعيش له ولد فيُلحق به ؛ لأنّه قد يفعل مثل ذلك تفاؤلاً ليعيش الولد(٢) .

ولا خلاف بين أهل العلم أنّ المدّعي الحُرّ المسلم يلحق نسب الولد به إذا أمكن منه ، فكذا في اللقيط ؛ لأنّه أقرّ له بحقٍّ ، فأشبه ما لو أقرّ له بالمال ، ولأنّ الإقرار محض نفعٍ للطفل ؛ لاتّصال نسبه ، والتزامه بتربيته وحضانته ، ولأنّ إقامة البيّنة على النسب ممّا يعسر ، ولو لم نثبته بالاستلحاق لضاع كثير من الأنساب.

مسألة ٤٤٣ : لو ادّعى أجنبيٌّ بنوّته ووُجدت شرائط الإلحاق ، أُلحق به ؛ لما تقدّم ، وينتزع اللقيط من يد الملتقط ، ويُسلَّم إلى الأب ؛ لأنّه لو ثبت أنّه أبوه فيكون أحقَّ بولده في التربية والكفالة من الأجنبيّ ، كما لو قامت به بيّنةٌ.

ولا فرق بين أن يكون المدّعي لبنوّته مسلماً أو كافراً ؛ لأنّ الكافر أقرّ بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه ، وليس في إقراره إضرار بغيره ،

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، البيان ٨ : ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

(٢) الوسيط ٤ : ٣١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢.

٣٦٥

فيثبت إقراره ، كالمسلم ؛ لاستوائهما في الجهات المثبتة للنسب ، وبه قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال أبو ثور : لا يلحق بالكافر ؛ لأنّه محكوم بإسلامه(٢) .

ولا نزاع فيه ، فإنّا نقول بموجبه ، ونلحقه به في النسب ، لا في الدين ، ولا حقّ له في حضانته ، ولأنّ الذمّي أقوى من العبد في ثبوت الفراش ، فإنّه يثبت له بالنكاح والوطؤ في الملك ، وسيأتي الإلحاق بالعبد.

إذا عرفت هذا ، فإنّ اللقيط يلتحق بالكافر في النسب ، لا في الدين عندنا وعند أحمد(٣) .

وللشافعي قولان :

أحدهما : قال في باب اللقيط : يلحق به فيه(٤) .

والثاني : قال في الدعوى والبيّنات : لا يلحق به فيه(٥) .

واختلف أصحابه في ذلك على طريقين.

قال أبو إسحاق : ليست المسألة على قولين ، وإنّما هي على اختلاف‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤ - ٥٠٥ ، المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٥ ، المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٣) المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٤) مختصر المزني : ١٣٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢ ، المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٥) نفس المصادر ، مضافاً إلى : الأُم ٦ : ٢٤٩.

٣٦٦

حالين ، فالموضع الذي قال : « يلحق به في الدين » أراد به إذا ثبت نسبه بالبيّنة ، والموضع الذي قال : « لا يلحق به في الدين » أراد به إذا ثبت بدعواه(١) .

وقال أبو علي من أصحابه : إنّه يلحقه في الدين إذا أقام البيّنة بنسبه قولاً واحداً ، وإذا ثبت نسبه بدعواه فقولان ، أحدهما : لا يلحق به في الدين ؛ لأنّه يجوز أن يكون ولده وهو مسلم بإسلام أُمّه ، وإذا احتمل ذلك لم يبطل ظاهر الإسلام بالاحتمال ، وإنّما قبلنا إقراره فيما يضرّه في النسب ، دون ما يضرّ غيره(٢) .

فعلى قولنا : « إنّه لا يلحقه في الدين » يفرّق بينه وبينه إذا بلغ ، فإن وصف الكفر لم يقر عليه.

وللشافعي قولان(٣) .

فإن قلنا : يلحق به في الدين - كما هو مذهب الشافعي(٤) - فإنّه يحال أيضاً بينه وبينه لئلّا يعوده الكفر والتردّد إلى البِيَع والكنائس ، إلّا أنّه إذا بلغ ووصف الكفر أُقرّ عليه عنده على هذا القول وجهاً واحداً(٥) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ - ٥٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢١.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٥٦٨ ، البيان ٨ : ٢٢ و ٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢.

(٤) راجع : الهامش (٤) من ص ٣٦٥.

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٥٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢.

٣٦٧

مسألة ٤٤٤ : لو ادّعى بنوّةَ [ اللقيط ](١) عبدٌ ، صحّ دِعوته ، بكسر الدال ، وهي ادّعاء النسب ، وبضمّها : الطعام الذي يدعى إليه الناس ، وبفتحها : مصدر « دعا ».

وإنّما حكمنا بصحّتها ؛ لأنّ لمائه حرمةً ، فلحقه(٢) نسب ولده ، كالحُرّ ، فصحّت دعوته إذا ادّعى نسب لقيطٍ ، فيلحقه(٣) نسبه ، سواء صدّقه السيّد أو كذّبه ، غير أنّه لا تثبت له حضانته(٤) ؛ لأنّه مشغول بخدمة سيّده.

ولا تجب عليه نفقته ؛ لأنّ العبد فقير لا مال له ، ولا تجب على سيّده ؛ لأنّ اللقيط محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار ، فتكون نفقته في بيت المال ، ويكون حكمه حكم مَنْ لم يثبت نسبه إلّا في ثبوت النسب خاصّةً.

وبه قال الشافعي إن صدّقه السيّد ، وأمّا إن كذّبه ، فله قولان :

أحدهما : قال في باب اللقيط : إنّه يلحق به ، كما قلناه.

والثاني : قال في الدعاوي : إنّ العبد ليس أهلاً للاستلحاق ، فحصل قولان :

أحدهما : المنع ؛ لما فيه من الإضرار بالسيّد بسبب انقطاع الميراث عنه لو أعتقه.

وأصحّهما : اللحوق ؛ لأنّ العبد كالحُرّ في أمر النسب ؛ لإمكان العلوق منه بالنكاح وبوطئ الشبهة ، ولا اعتبار بما ذكر من الإضرار ، فإنّ مَن استلحق ابناً وله أخ يُقبل استلحاقه وإن أضرّ بالأخ(٥) .

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) في « ث ، ر » : « فيلحقه ».

(٣) في « ث ، ر » : « لحقه ».

(٤) في « ث ، ر » : « حضانة ».

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٥٦ - ٥٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

٣٦٨

وعن الشريف ناصر العمري طريقتان للشافعيّة أُخريان :

إحداهما : القطع بالقول الأوّل.

والثانية : القطع باللحوق إذا كان مأذوناً في النكاح ومضى من الزمان ما يحتمل حصول الولد ، وتخصيص القولين بما إذا لم يكن مأذوناً(١) .

ويجري الخلاف فيما إذا أقرّ العبد بأخٍ أو عمٍّ(٢) .

ولهم طريقة أُخرى قاطعة بالمنع هاهنا ؛ لأنّ لظهور نسبه طريقاً آخَر ، وهو إقرار الأب والجدّ(٣) .

ويجري الخلاف فيما إذا استلحق حُرٌّ عبدَ غيره ؛ لما فيه من قطع الإرث المتوهّم بالولاء(٤) .

وقال بعضهم بالقطع بثبوت النسب هنا ، وقال : الحُرّ من أهل الاستلحاق على الإطلاق(٥) .

ويجري الخلاف فيما إذا استلحق المعتق غيره(٦) .

والقول بالمنع هنا أبعد ؛ لاستقلاله بالنكاح والتسرّي.

وإذا جعلنا العبد من أهل الاستلحاق ، فلا يُسلّم اللقيط إليه كما تقدّم ؛ لأنّه لا يتفرّغ لحضانته وتربيته.

مسألة ٤٤٥ : لو ادّعت المرأة مولوداً ، فإن أقامت بيّنةً لحقها ولحق زوجها إن كانت ذات زوجٍ وكان العلوق منه ممكنا ، ولا ينتفى عنه إلّا باللعان.

هذا إن قيّدت البيّنة بأنّها ولدته على فراشه ، ولو لم تتعرّض للفراش‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣.

(٢ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

٣٦٩

ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان للشافعيّة(١) .

وعندنا لا يثبت نسبه من الزوج ، إلّا إذا شهدت بأنّها ولدته على فراشه.

ولو لم تُقم المرأة بيّنةً واقتصرت على مجرّد الدعوى ، قال بعض علمائنا : يثبت نسبه ، ويلتحق بها ، كالأب(٢) ، وهو أحد أقوال الشافعي ، وهو رواية عن أحمد ؛ لأنّها أحد الأبوين ، فصارت كالرجل بل أولى ؛ لأنّ جهة اللحوق بالرجل النكاح والوطؤ بالشبهة ، والمرأة تشارك الرجل [ فيهما ](٣) وتختصّ بجهةٍ أُخرى ، وهي الزنا(٤) .

والأظهر عندهم : المنع - وبه قال أبو حنيفة - لأنّها يمكنها إقامة البيّنة على الولادة ، فلا يُقبل قولها فيه ، ولهذا لو علّق الزوج طلاقها بولادتها ، فقالت : قد ولدتُ ، لم يقع الطلاق حتى تُقيم البيّنة ، وتفارق الرجل من حيث إنّه يمكنها إقامة البيّنة على الولادة من طريق المشاهدة ، والرجل لا يمكنه ، فمست الحاجة إلى إثبات النسب من جهته بمجرّد الدعوى ، ولأنّها إذا أقرّت بالنسب فكأنّها تقرّ بحقٍّ عليها وعلى غيرها ؛ لأنّها فراش‌ الزوج ، وقد بطل إقرارها في حقّ الزوج ، فيبطل الجميع ؛ لأنّ الإقرار الواحد

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٢) الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٥٩٧ ، المسألة ٢٦ ، والمبسوط ٣ : ٣٥٠.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه ». والصحيح ما أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، الوسيط ٤ : ٣١٧ - ٣١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ - ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ و ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ ، المغني ٦ : ٤٢١ و ٤٢٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٩.

٣٧٠

إذا بطل بعضه بطل كلّه(١) .

وفيه نظر ؛ لأنّ مَنْ أقرّ على نفسه وغيره بمالٍ يلزمه في حقّ نفسه وإن لم يُقبل في حقّ الغير.

والقول الثالث : إنّها إن كانت ذات زوجٍ لم يُقبل إقرارها ؛ لتعذّر الإلحاق بها دون الزوج ، وتعذّر قبول قولها على الزوج(٢) .

وعن أحمد روايتان كالوجه الأوّل والثالث(٣) .

وإذا قبلنا استلحاقها ولها زوج ، ففي اللحوق به عند الشافعيّة وجهان :

أحدهما : اللحوق ، كما إذا قامت البيّنة.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لاحتمال أنّها ولدته من وطئ شبهةٍ أو زوجٍ آخَر ، فصار كما لو استلحق الرجل ولداً وله زوجة ، فإنّه لا يلحقها(٤) .

واستلحاق الأمة كاستلحاق الحُرّة عند مَنْ يجوّز استلحاق العبد ، فإن‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، الوسيط ٤ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٢٠ - ٢٢١ ، النتف ٢ : ٩٠٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٧٨.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، الوسيط ٤ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ ، المغني ٦ : ٤٢٢ - ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠.

(٣) المغني ٦ : ٤٢١ - ٤٢٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

٣٧١

قبلناه فهل يُحكم برقّ الولد لمولاها؟ للشافعيّة وجهان(١) .

النظر الثاني : فيما إذا تعدّد المدّعي.

مسألة ٤٤٦ : لو ادّعى بنوّته اثنان ، فإن كان أحدهما الملتقط فإن لم يكن قد حُكم بنسب اللقيط للملتقط ، فقد استويا في الدعوى ، فالحكم فيه كما لو كانا أجنبيّين ، وسيأتي.

وإن كان قد حُكم بنسب اللقيط للملتقط بدعواه ثمّ ادّعاه أجنبيٌّ ، فإن أقام البيّنة كان أولى ؛ لأنّ البيّنة أقوى من الدعوى ، ولو أقام كلٌّ منهما بيّنةً تعارضت البيّنتان.

والشافعي وإن حكم في الملك لذي اليد عند تعارض البيّنتين(٢) ، ونحن وأبو حنيفة(٣) وإن حكمنا للخارج ، فهنا لا ترجيح باليد ولا تُقدّم بيّنة الملتقط باليد ولا بيّنة الأجنبيّ بخروجه ؛ لأنّ اليد لا تثبت على الإنسان ، وإنّما تثبت على الأملاك ، ولهذا يحصل الملك باليد ، كما في الاصطياد والاغتنام ، والنسب لا يحصل باليد ، بل يُحكم بالقرعة.

وإن لم يكن هناك بيّنة لأحدهما واستلحقاه معاً ، فعندنا يُحكم‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٢) الحاوي الكبير ١٧ : ٣٠٢ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣١٢ ، الوسيط ٧ : ٤٣٣ ، حلية العلماء ٨ : ١٨٧ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٢٠ ، البيان ١٣ : ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٢٣٣ ، روضة الطالبين ٨ : ٣٣٥ ، المغني ١٢ : ١٦٨ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٨٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٣٢.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٣٢ ، المبسوط - للسرخسي - ١٧ : ٣٢ ، الحاوي الكبير ١٧ : ٣٠٣ ، الوسيط ٤ : ٤٣٣ ، حلية العلماء ٨ : ١٨٨ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٢٠ ، البيان ١٣ : ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٢٣٣ ، المغني ١٢ : ١٦٨ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٨٢ - ١٨٣.

٣٧٢

بالقرعة ؛ إذ لا مرجّح هنا ، لأنّ اليد قد قلنا : إنّها لا تدلّ على النسب ، فعندنا أيضاً يقرع بينهما.

وعند الشافعي وأحمد أنّه يُعرض على القافة - وهو قول أنس وعطاء وزيد بن عبد الملك والأوزاعي والليث بن سعد - لأنّ عائشة روت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل عليها مسروراً تبرق أسارير وجهه ، فقال : « ألم تري أنّ مجزّزاً نظر آنفاً إلى زيد وأُسامة وقد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ »(١) فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سرّ به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا اعتمد عليه ، ولأنّ عمر بن الخطّاب قضى به(٢) .

والطريق عندنا ضعيف لا يُعتمد عليه ، مع أنّهم قد رووا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله في ولد الملاعنة : « انظروها فإن جاءت به حَمْش الساقين(٣) كأنّه وَحَرة(٤) فلا أراه إلّا قد كذب عليها ، وإن جاءت به أكحل جَعْداً جُماليّاً(٥) سابغ الأليتين(٦) خدلج الساقين(٧) فهو للّذي رميت به » فأتت به‌

____________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٩٥ ، صحيح مسلم ٢ : ١٠٨٢ / ٣٩ ، سنن أبي داوُد ٢ : ٢٨٠ / ٢٢٦٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٧ / ٢٣٤٩ ، سنن الترمذي ٤ : ٤٤٠ / ٢١٢٩ بتفاوتٍ.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، البيان ٨ : ٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ ، المغني ٦ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٢.

(٣) أي : دقيقهما. النهاية - لابن الأثير - ١ : ٤٤٠ « حمش ».

(٤) أي : الأسود الدميم القصير. العين ٣ : ٢٩٠ « وحر ».

(٥) الجماليّ - بالتشديد - : الضخم الأعضاء التامّ الأوصال. النهاية - لابن الأثير - ١ : ٢٩٨ « جمل ».

(٦) أي : تامّهما وعظيمهما. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ٣٣٨ « سبغ ».

(٧) أي : عظيمهما. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ١٥. « خدلج ».

٣٧٣

على النعت المكروه ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو لا الإيمان لكان لي ولها شأن »(١) وهو يدلّ على أنّه لم يمنعه من العمل بالشبه إلّا الإيمان ، فكان العمل بالشبه منافياً للإيمان ، فكان مردوداً.

والسرور الذي وجده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إن ثبت فلأنّه طابق قوله وحكمهعليه‌السلام في أنّ زيداً ولد أُسامة ، لا ما يستدلّون به من العرض على القافة.

إذا عرفت هذا ، فالقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه ، ولا يختصّ ذلك بقبيلةٍ معيّنةٍ ، بل مَنْ عرف منه المعرفة بذلك وتكرّرت منه الإصابة فهو قائف.

وقيل : أكثر ما يكون هذا في بني مدلج رهط مجزّز المدلجي الذي رأى أُسامة وأباه زيداً قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ(٢) .

وكان إياس بن معاوية قائفاً(٣) ، وكذلك قيل في شريح(٤) .

[ و ] لا يُقبل قول القائف إلّا أن يكون ذكراً عَدْلاً مجرّباً في الإصابة حُرّاً ؛ لأنّ قوله حكم ، والحكم تُعتبر فيه هذه الشروط.

قال بعض العامّة : وتُعتبر معرفة القائف بالتجربة ، وهو أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير مَنْ يدّعيه ويرى إيّاهم ، فإن ألحقه بواحدٍ منهم سقط قوله ؛ لأنّا نتبيّن خطأه ، وإن لم يلحقه بواحدٍ منهم أريناه إيّاه مع عشرين فيهم مدّعيه ، فإن ألحقه لحق عند العامّة(٥) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٣ ، وفي سنن أبي داوُد ٢ : ٢٧٦ - ٢٧٨ / ٢٢٥٦ بتفاوتٍ.

(٢ و ٣) كما في المغني ٦ : ٤٢٨ ، والشرح الكبير ٦ : ٤٣٥ و ٤٤٢.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٢٨ ، والشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

(٥) المغني ٦ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٢.

٣٧٤

ولو اعتبر بأن يرى صبيّاً معروف النسب مع قومٍ فيهم أبوه أو أخوه ، فإذا ألحقه بقريبه عُلمت إصابته ، وإن ألحقه بغيره سقط قوله ، جاز.

وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته ، وإن لم نجرّبه في الحال بعد أن يكون مشهور الإصابة في مرّاتٍ كثيرة جاز.

وقد روت العامّة : إنّ رجلاً شريفاً شكّ في ولدٍ له من جاريته وأبى أن يستلحقه ، فمرّ به إياس بن معاوية في المكتب وهو لا يعرفه ، فقال له : ادع لي أباك ، فقال المعلّم : ومَنْ أبو هذا؟ قال : فلان ، قال : من أين قلت : إنّه أبوه؟ فقال : إنّه أشبه به من الغراب بالغراب ، فقام المعلّم مسرعاً إلى أبيه فأعلمه بقول إياس ، فخرج الرجل وسأل إياساً من أين علمتَ أنّ هذا ولدي؟ فقال : سبحان الله وهل يخفى هذا على أحدٍ؟ إنّه لأشبه بك من الغراب بالغراب ، فسر الرجل واستلحق ولده(١) .

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ لأنّ تعلّم القيافة حرام ، ولا يجوز إلحاق الإنسان بها ، وسيأتي.

وظاهر كلام أحمد أنّه لا بدّ من قول اثنين ؛ لأنّهما شاهدان ، فإن شهد اثنان من القافة أنّه لهذا ، فهو لهذا ؛ لأنّه قول يثبت به النسب ، فأشبه الشهادة(٢) .

وعنه رواية أُخرى : إنّه يُقبل قول الواحد ؛ لأنّه حكم ، ويكفي في الحكم قول الواحد ، وهو قول أكثر أصحابه(٣) .

وحملوا الأوّل على ما إذا تعارض أقوال القائفين ، فإذا تعارض اثنان‌ تساووا ، وإن عارض واحد اثنين حُكم بقولهما ، وسقط قول الواحد ؛ لأنّهما

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٢ - ٤٤٣.

(٢ و ٣) المغني ٦ : ٤٢٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٣.

٣٧٥

شاهدان ، فقولهما أقوى من قول الواحد ، ولو عارض قول الاثنين قول اثنين تساقطا ، ولو عارض قول الاثنين قول الثلاثة وأكثر سقط الجميع عنده ، كالبيّنات لا يعتبر فيها زيادة العدد عنده(١) .

ولو ألحقته القافة بواحدٍ ثمّ جاءت قافة أُخرى فألحقته بآخَر ، كان لاحقاً بالأوّل عندهم ؛ لأنّ القائف جرى مجرى الحاكم ، ومتى حكم الحاكم بحكمٍ لم ينتقض بمخالفة غيره له(٢) .

وكذا لو ألحقته بواحدٍ ثمّ عادت فألحقته بغيره لذلك.

ولو أقام الآخَر بيّنةً أنّه ولده ، حُكم له به ، وسقط قول القائف ؛ لأنّه بدل ، فسقط مع وجود الأصل ، كالتيمّم مع الماء.

ولو ألحقته القافة بكافرٍ أو رقيقٍ ، لم يُحكم بكفره ولا برقّه ؛ لأنّ الحُرّيّة والإسلام ثبتا له بحكم الدار ، فلا يزول ذلك بمجرّد الشبه أو الظنّ ، كما لم يزل ذلك بمجرّد الدعوى من المنفرد بها ، وقبول قول القافة في النسب للحاجة إلى إثباته ، ولأنّه غير مخالفٍ للظاهر ، ولهذا اكتفي فيه بمجرّد الدعوى في المنفرد ، ولا حاجة إلى إثبات رقّه وكفره ، وإثباتهما يخالف الظاهر(٣) .

وهذا كلّه عندنا وعند أبي حنيفة باطل ؛ لأنّا لا نثبت النسب بقول القافة ، ولا حكم لها عندنا ولا عنده ، إلّا أنّ أبا حنيفة يقول : إذا تعارضت البيّنتان أُلحق بالمدّعيين جميعاً(٤) ، ونحن نقول بالقرعة ؛ لأنّه موضع‌

____________________

(١ و ٢) المغني ٦ : ٤٢٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٣.

(٣) المغني ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٣.

(٤) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠ ، المحيط البرهاني ٥ : ٤٢٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٧ ، المغني ٦ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٢.

٣٧٦

الإشكال والاشتباه ، وقد روى علماؤنا عن أهل البيتعليهم‌السلام : « كلّ أمرٍ مشكلٍ ففيه القرعة »(١) .

وقول أبي حنيفة باطل ؛ لأنّه لا يمكن تولّده منهما ، واتّفقنا نحن وإيّاه على عدم اعتبار القافة ؛ لأنّ الحكم بها حكمٌ بمجرّد الشبه والظنّ والتخمين ، وقد نهى الله تعالى عن اتّباع الظنّ(٢) ، والشبه يوجد بين الأجانب كما يوجد بين الأقارب ، فلا يبقى دليلاً على النسب ، بل قد يثبت الشبه بين الأجانب وينتفى عن الأقارب ، ولهذا روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ رجلاً أتاه فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود ، فقالعليه‌السلام : « هل لك من إبل؟ » قال : نعم ، قال : « فما ألوانها؟ » قال : حمر ، قال : « هل فيها من أورق؟ » قال : نعم ، قال : « أنّى أتاها ذلك؟ » قال : لعلّ عرقاً ينزع ، قال : « وهذا لعلّ عرقاً ينزع »(٣) .

وأيضاً لو كان الشبه كافياً ، لاكتفى به في ولد الملاعنة وفيما إذا أقرّ أحد الورثة بأخٍ وأنكره الباقون.

مسألة ٤٤٧ : لو ادّعاه اثنان ولا بيّنة أو وُجدت بيّنتان متعارضتان ، فالحكم القرعة عندنا ، وعند الشافعي وأحمد يُعرض على القائف على ما تقدّم(٤) .

فإن ألحقته القافة بهما ، سقط اعتبار القائف عند الشافعي ، ولم يعتبر‌

____________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣ ، الاستبصار ٣ : ٨٣ ، ذيل ح ٢٧٩.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.

(٣) المغني ٦ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٢ ، ونحوه في صحيح البخاري ٨ : ٢١٥ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٦٤٥ - ٦٤٦ / ٢٠٠٢ و ٢٠٠٣ ، وسنن أبي داوُد ٢ : ٢٧٩ / ٢٢٦٠ ، وسنن النسائي ٦ : ١٧٨.

(٤) في ص ٣٧٢.

٣٧٧

بقولها ولم يُحكم به ، ويُترك اللقيط حتى يبلغ ، فإذا بلغ أُمر بالانتساب إلى أحدهما ، ولا ينتسب بمجرّد التشهّي ، بل يعوّل فيه على ميل الطبع الذي يجده الولد إلى الوالد ، والقريب إلى القريب بحكم الجبلّة(١) .

وعنه وجهٌ آخَر : إنّه لا يشترط البلوغ ، بل يرجع إلى اختياره إذا بلغ سنّ التميز ، كما يخيّر حينئذٍ بين الأبوين في الحضانة(٢) .

لكن المشهور عندهم : الأوّل.

وفرّقوا بأنّ اختياره في الحضانة لا يلزم ، بل له الرجوع عن الاختيار الأوّل ، وهنا إذا انتسب إلى أحدهما لزمه ، ولم يقبل رجوعه ، والصبي ليس يتحقّق في طرفه قول ملزم(٣) .

وقال أحمد : إذا ألحقته القافة بهما لحق بهما ، وكان ابنهما يرثهما ميراث ابن وزيادة ، ويرثانه ميراث أبٍ واحد(٤) ، ونقله عن عليٍّعليه‌السلام (٥) ، وهو افتراء عليه ، ونقله أيضاً عن عمرَ ، وهو قول أبي ثور(٦) .

وقال أصحاب الرأي : يلحق بهما بمجرّد الدعوى(٧) .

والكلّ باطل ؛ لعدم إمكان تولّد الطفل من اثنين ، والحوالة على الأمر المستحيل باطلة ؛ لأنّه لا يتصوّر كونه متولّداً من رجلين ، فإذا ألحقته القافة‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، البيان ٨ : ٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦ ، المغني ٦ : ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، البيان ٨ : ٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ و ٤١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٤) المغني ٦ : ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥ ، البيان ٨ : ٢٥.

(٥ - ٧) المغني ٦ : ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

٣٧٨

بهما تبيّنّا كذبهما ، فيسقط قولهما ، كما لو ألحقته [ بأُمّين لو اتّفقتا ](١) على ذلك لم يثبت.

ولو ادّعاه [ كلّ ](٢) واحدٍ منهما وأقام بيّنةً ، سقطتا ، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت لهما باتّفاقهما ، وأُلحق بهما عند تعارض بيّنتهما ، بل جاز أن يلحق بهما بمجرّد دعواهما ؛ لعدم التنافي بين الدعويين حينئذٍ ، ولما قدّم في الحكم البيّنة على الدعوى ولا على القافة ، ولا قُدّمت القافة على الدعوى.

واحتجّ أحمد : بما روي عن عمر في امرأةٍ وطئها رجلان في طهرٍ ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعاً ، فجعله بينهما.

وبما رواه الشعبي عن عليٍّعليه‌السلام أنّه كان يقول : « هو ابنهما وهُما أبواه يرثهما ويرثانه ».

وعن سعيد بن المسيّب في رجلين اشتركا في وطئ امرأةٍ فولدت غلاماً يشبههما ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطّاب ، فدعا القافة فنظروا فقالوا : نراه يشبههما ، فألحقه بهما ، وجعله يرثهما ويرثانه(٣) .

وقول عمر لا حجّة فيه ، والنقل عن عليٍّعليه‌السلام لم يثبت ؛ لأنّ أهل البيت أعرف بمذهبه ومقالتهعليه‌السلام من غيرهم ، مع أنّهم اتّفقوا على إبطال هذا القول ، والعقل أيضاً دلّ عليه.

مسألة ٤٤٨ : لو ادّعاه أكثر من اثنين أو من ثلاث ، حُكم بالقرعة مع‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « باثنين لو اتّفقا ». والمثبت هو الصحيح.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « رجل ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) المغني ٦ : ٤٣١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

٣٧٩

عدم البيّنة ومع تعارضهما عندنا.

والقائلون بالقافة اختلفوا ، فعن أحمد روايتان :

إحداهما : إنّه يلحق بالثلاثة فما زاد ؛ لوجود المقتضي للإلحاق عندهم.

والثانية : إنّه لا يلحق بأكثر من اثنين ، وهو قول أبي يوسف ؛ اقتصاراً على ما ورد به [ الأثر ](١) عن عمر(٢) .

وقال بعض أصحابه : لا يلحق بأكثر من ثلاثة ، وهو قول محمّد بن الحسن ، وروي ذلك عن أبي يوسف أيضاً(٣) .

والكلّ باطل عندنا.

ثمّ لو جوّزنا الأكثر ، فأيّ دليلٍ دلّ على الحصر في الثلاثة؟ وهل هو إلّا تحكّمٌ محض؟ فإنّ القائل به لم يقتصر على المنصوص عن عمر ولا قال بتعدية الحكم إلى كلّ ما وُجد فيه المعنى ، وليس في الثلاثة معنىً [ خاصٌّ ](٤) يقتضي إلحاق النسب بهم ، فلا يجوز الاقتصار عليه بالتحكّم.

مسألة ٤٤٩ : إذا تداعياه اثنان أو ما زاد ، وجب عليهما النفقة في مدّة الانتظار إمّا إلى أن يثبت بالبيّنة أو بالقرعة التحاقه بأحدهما ، أو بالقافة عند القائلين بها ، أو بإقراره عند بلوغه ، كما هو قول الشافعي في الجديد ، أو‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « الأمر ». والمثبت كما في المغني والشرح الكبير.

(٢) المغني ٦ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٩٩ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠.

(٣) المغني ٦ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة : « خاصّاً ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٨٠