التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف0%

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 368

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف:

الصفحات: 368
المشاهدات: 170927
تحميل: 5435

توضيحات:

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170927 / تحميل: 5435
الحجم الحجم الحجم
التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد، وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد، نحو: هلمّ وأقبل وتعال وعجّل وأسرع وقصدي ونحوي، فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد هو: طلب الإقبال.

وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث، منهم: سفيان، وابنه وهب، وابن جرير الطبري، والطحاوي».

قال: «إنّ أصحاب هذا القول - على جلالة قدرهم ونباهة شأنهم - قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق، لأنّ ترويجهم لمذهبهم اضطرّهم إلى أن يتورّطوا في أمور خطرها عظيم، إذ قالوا: إنّ الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل عليها القرآن، أمّا الستّة الاخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود ألبتّة، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوّعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم.

ثمّ حاولوا أن يؤيّدوا ذلك فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف السّتة التي يقولون بضياعها نسخاً ولا رفعاً، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة اخرى هي: دعوى إجماع الامّة على أن تثبت على حرف واحد وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه ما الاحرف الستّة، وأنّى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟!

هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة وهي: القول بأنّ استنساحخ المصاحف في زمن عثمان - رضي الله عنه - كان إجماعاً عن الامّة على ترك الحروف الستذة والإقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان المصاحف عليه.

إلاّ إنّ هذه ثغرة لا يمكن سدّها، وثلمة يصعب جبرها، وإلاّ فكيف يوافق أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ضياع ستّة

٢٠١

حروف نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنّها لم تنسخ ولم ترفع؟!

وقصارى القول: إنّنا نربأ بأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكونوا قد وافقوا أو فكّروا فضلاً في أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستّة دون نسخ لها، وحاشا عثمان - رضي الله عنه - أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعّمه ...»(1) .

قلت: ومثل هذا كثير، يجده المتتبّع لكلماتهم وآرائهم في كتب الفقه والحديث والتفسير والقراءات.

وعن الثوري(2) أنّه قال: «بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن»(3) .

وقال ابن الخطيب في كتابه (الفرقان)(4) تحت عنوان «لحن

__________________

(1) مناهل العرفان 1: 244.

(2) سفيان بن سعيد الثوري، الملقّب عندهم بـ «أمير المؤمنين في الحديث» والموصوف بـ «سيّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى» وغير ذلك. أنظر ترجمته في حلية الأولياء 6: 356، تهذيب التهذيب 4: 111، تاريخ بغداد 9: 151، وغيرها.

(3) الدرّ المنثور 5: 179.

(4) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1367 - 1948، وصاحبه من الكتاب المصريّين المعاصرين، وهو يشتمل على بحوث قرآنية في فصول تناول فيها بالبحث مسالة القرءآت، والناسخ والمنسوخ، ورسم المصحف وكتابته، وترجمة القرآن إلى اللغات. إلى غير ذلك، وله في هذا الكتاب آراء وأفكار أهمّها كثرة الخطأ في القرآن ووجوب تغيير رسمه وجعل ألفاظه كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان، فطلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب، فاستجابت له وصادرته، وسنذكر رأينا في خصوص ما ذكره حول خطأ الكتّاب، في بحوثنا الآتية.

٢٠٢

الكتّاب في المصحف»: «وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى:( إنّ هذان لساحران ) وقوله عزّ من قائل:( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وقوله جلّ وعزّ:( إنّ الذّين آمنوا والّذين هادوا والصابئون ) . قالت: هذا من عمل الكتّاب، أخطأوا في الكتاب.

وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي خلف - مولى بني جمع - أنّه دخل على عائشة فقال: جئت أسألك عن آية في كتاب الله تعالى كيف يقرؤها رسول الله؟ قالت: أيّة آية؟ قال: الّذين يأتون ما أتوا. أو: الّذين يؤتون ما آتوا! قالت: أيّهما أحبّ إليك؟ قال: والذي نفسي بيده، لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً. قالت: أيّتهما؟ قال: الّذين يأتون ما أتوا. فقالت: أشهد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كذاك كان يقرأها وكذلك انزلت، ولكنّ الهجاء حرّف.

وعن سعيد بن جبير، قال: في القرآن أربعة أحرف لحن: والصّابئون. والمقيمين. فاصّدّق وأكن من الصالحين. إنّ هذان لساحران.

وقد سئل أبان بن عثمان كيف صارت:( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب؟ قال:من قبل الكاتب، كتب ما قبلها ثمّ سأل المملي: ما أكتب؟ قال: أكتب المقيمين الصلاة، فكتب ما قيل له لا ما يجب عربّيةً ويتعيّن قراءةً.

وعن ابن عبّاس في قول تعالى:( حتى تستأنسوا وتسلّموا ) قال: إنّما هي خطأ من الكاتب، حتى تستأذنوا وتسلّموا.

وقرأ أيضاً: أفلم يتبيّن الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس

٢٠٣

جميعاً. فقيل له: إنّها في المصحف:( أفلم ييأس ) ؟ فقال: أظنّ أن الكاتب قد كتبها وهو ناعس.

وقرأ أيضاً: ووصّى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وكان يقول: إنّ الواو قد التزقت بالصاد.

وعن الضحّاك: إنّما هي: ووصّى ربّك، وكذلك كانت تقرأ وتكتب، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد، ثمّ قرأ:( ولقد وصّينا الّذين اوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتّقوا الله ) .( ووصّينا الإنسان بوالديه ) . وقال: لو كانت «قضى» من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ تعالى. ولكنّها وصيّة أوصى بها عباده.

وقرأ ابن عبّاس أيضاً: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء. ويقول: خذوا الواو من هنا واجعلوها ها هنا عند قوله تعالى:( الّذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) يريد بذلك أن تقرأ: والّذين قال لهم الناس.

وقرأ أيضاً: مثل نور المؤمن كمشكاة، وكان يقول: هي خطأ من الكتاب، هو تعالى أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة.

وذكر ابن أشتة بأنّ جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحّته لغةً لا على رسمه، وذلك كما في «لا أوضعوا، لا أذبحنّه» بزياده ألف في وسط الكلمة. فلو قرء ذلك بظاهر الخطّ لكان لحناً شنيعاً يقلب معنى الكلام ويخلّ بنظامه، يقول الله تعال:( إنّا نحن الذكر وإنّا له لحافظون ) .

ومعنى حفظ القرآن: إبقاء شريعته وأحكامه إلى يوم القيامة وإعجازه أبد الدهر، بحيث يظلّ المثل الأعلى للبلاغة والرصانة والعذوبة، سهل النطق على اللسان، جميل الوقع في الآذان، يملك قلب القارئ ولبّ

٢٠٤

السامع.

وليس ما قدّمنا من لحن الكتّاب في المصحف بضائره أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاّء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله. وممّا لا شك فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر، يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان. والعصمة لله وحده، ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع، فلو أنّ إحدى المطابع طبعت مصحفاً به بعض الخطأ - وكثيراً ما يقع هذا - وسار على ذلك بعض قرّاء هذا المصحف، لم يكن ذلك متعارضاً مع حفظ الله تعالى له وإعلائه لشأنه»(1) .

قال: «وإنّما الذي يستسيغه العقل ويؤيّده الدليل والبرهان أنّه إذا تعلّم فرد الكتابة في امّة اميّة، فإنّ تعلّمه لها يكون محدوداً ويكون عرضة للخطأ في وضع الرسم والكلمات، ولا يصحّ والحال كما قدّمنا أن يؤخذ رسمه هذا انموذجاً تسير عليه الامم التي ابتعدت عن الاميّة بمراحل، وأن نوجب عليها أخذه على علاّته وفهمه على ما فيه من تناقض ظاهر وتنافر بيّن، وذلك بدرجة أنّ العلماء الّذين تخصّصوا في رسم المصحف لم يستطيعوا أن يعلّلوا هذا التباين إلاّ بالتجائهم إلى تعليلات شاذة عقيمة»(2) .

هذا ومن المناسب أن ننقل في المقام ما ذكره الحجّة شرف الدين بهذا الصدد، فقد قال ما نصه:

«وما أدري - والله - ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب

__________________

(1) الفرقان: 41 - 46 ملخصاً.

(2) الفرقان: 58.

٢٠٥

غير واحد من سلفهم الأعلام كالإمام أبي محمد بن حزم، إذ نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في ص 207 من الجزء الرابع من (الفصل) أنّه كان ويقول:

إنّ القرآن المعجز إنّما هو الذّي لم يفارق الله عزّ وجلّ قطّ، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه قطّ ولا سمعه جبرائيل ولا محمدعليهما‌السلام قطّ، وإلى آخر ما نقله عن الإمام الأشعري وأصحابه - وهم جميع أهل السنّة - حتى قال في ص 211 ما هذا لفظة:

«وقالوا كلّهم: إنّ القرآن لم ينزل به قطّ جبرائيل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، وإنّما نزل عليه شيء آخر هو العبارة عن كلام الله، وإنّ القرآن ليس عندنا ألبتّة إلاّ على هذا المجاز، وإنّ الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن ألبتّة، ولا شيء منه كلام الله ألبتة بل شيء آخر، وإنّ كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عزّ وجلّ».

ثمّ استرسل في كلامة عن الأشاعرة حتى قال في ص 210: «ولقد أخبرني علي بن حمزة المرادي الصقلي: أنّه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله، قال: فأكبرت ذلك وقلت له: ويحك! هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى؟! فقال لي: ويلك! والله ما فيه إلاّ السخام والسواد، وأمّا كلام الله فلا».

قال ابن حزم: «وكتب إليّ أبو المرحي بن رزوار المصري: أنّ بعض ثقات أهل مصر من طلاّب السنن أخبره: أنّ رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة: على من يقول: إنّ الله قال: قل هو الله أحد الله الصمد، ألف لعنة» إلى آخر ما نقله عنهم، فراجعه من ص 204 إلى ص 226 من

٢٠٦

الجزء الرابع من (الفصل) ...»(1) .

طائفة يروون ويردّون أو يؤوّلون

وهم الّذين لم يأخذوا بما دلّت عليه تلك الأحاديث ولم يتّبعوا الصحابة فيما تحكيه عنهم تلك الآثار، وهم بين رادّ عليها الردّ القاطع، وبين مؤوّل لها على بعض الوجوه وقد انصبّت كلمات الردّ والنقد - في الأغلب - على الآثار المحكيّة - التي ذكرنا بعضها في الفصل الأول تحت عنوان «كلمات الصحابة والتابعين في وقوع الحذف والتغيير والخطأ في القرآن المبين» - بالطعن في الراوي أو الرواية أو الصحابي على تفاوت فيما بينها في المرونة والخشونة ...

ردّ أحاديث الخطأ في القرآن

قال الطبري بعد ذكر مختاره: «وإنّما اخترنا هذا على غيره لأنّه قد ذكر أنّ ذلك في قراءة اُبيّ بن كعب (والمقيمين) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا، فلو كانذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كلّ المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا، وفي اتّفاق مصحفنا ومصحف اُبيّ ما يدلّ على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أنّ ذلك لو كان خطأ من جهة الخطّ لم يكن الّذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلّمون من علّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بالسنتهم ولقّنوه للامّة تعليماً على

__________________

(1) أجوبة مسائل جار الله: 36.

٢٠٧

وجه الصواب، وفي نقل المسلمين جميعاً ذلك - قراءة على ماهو به في الخطّ مرسوماً - أدلّ دليل على صحّة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب»(1) .

وقال الداني: «فإن قال قائل: فما تقول في الخبر الذي رويتمره عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عبّاس عن عثمان أنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: أتركوها فإنّ العرب ستقيمها - أو ستعربها - بلسانها. إذ ظاهره يدلّ على خطأ في الرسم.

قلت: هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجّة، ولا يصحّ به دليل من جهتين، إحداهما: أنّه - مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه - مرسل، لأنّ ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئاً، ولا رأياه، وأيضاً، فإنّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان، لما فيه من الطعن عليه، مع محلّة من الدين ومكانه من الإسلام، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأمّة. فغير متمكّن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقيار الأبرار نظراً لهم ليرتفع الإختلاف في القرآن بينهم، ثمّ يترك لهم فيه مع ذلك لحناً وخطأً يتولّى تغييره من يأتي بعده، ممّن لا شكّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهد. هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحلّ لأحد أن يعتقده.

فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان؟

قلت: وجهه أن يكون عثمان أراد باللحن المذكور فيه التلاوة

__________________

(1) تفسير الطبري 6: 19.

٢٠٨

دون الرسم»(1) .

وقال الزمخشري: «( والمقيمين ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثله وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خطّ المصحف، وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الإختصاص من الإفتنان، وغبّي عليه أنّ السابقين الأوّلين الّذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم ...»(2) .

وقال الرازي: «وأمّا قوله:( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ففيه أقوال؛ الأول: روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. واعلم: أنّ هذا بعيد، لأنّ هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!»(3) .

وقال الزمخشري في الآية( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل الرواية عن ابن عبّاس فيها: «ولا يعول على هذه الرواية»(4) .

وقال الرازي فيها: «واعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر، لأنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ في كل

__________________

(1) تاريخ القرآن - لمحمد طاهر الكردي - ص 65 عن المقنع.

(2) الكشّاف 1: 582.

(3) التفسير الكبير 11: 105 - 106.

(4) الكشاف 3: 59.

٢٠٩

القرآن، وأنّه باطل»(1) .

وقال النيسابوري: «روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، ولا يخفى ركاكة هذا القول، لأنّ هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!»(2) .

وقال ابن كثير في( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل قول ابن عبّاس: «وهذا غريب جدّاً عن ابن عبّاس»(3) .

وقال الخازن في( ... والمقيمين ... ) : «اختلف العلماء في وجه نصبه، فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان: أنّه غلط من الكتّاب، ينبغي أن تكتب: والمقيمون الصلاة. وقال عثمان بن عفّان: إنّ في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له: أفلا تغيّره؟! فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحّرم حلالاً. وذهب عامّة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره.

واجيب عمّا روي عن عثمان بن عفّان وعن عائشة وأبان بن عثمان: بأنّ هذا بعيداً جدّاً، لأنّ الّذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدوة على ذلك، فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا لهم، قال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصحّ لأنّه غير متصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره. وقال الزمخشري في الكشّاف: ولا يلتفت إلى ما

__________________

(1) التفسير الكبير 23: 196.

(2) تفسير النيسابوري 6 | 23 هامش الطبري.

(3) تفسير ابن كثير 3: 280.

٢١٠

زعموا ...»(1) .

وقال في( ... حتى تستأنسوا ... ) «وكان ابن عبّاس يقرأ: حتى تستأذنوا. ويقول: تستأنسوا خطأ من الكاتب، وفي هذه الرواية نظر لأنّ القرآن ثبت بالتواتر»(2) .

وقال الرازي في الآية( إن هذان لساحران ) :

«القرءة المشهورة إنّ هذان لساحران. ومنهم من ترك هذه القراءة، وذكروا وجوهاً اخر [ فذكرها ووصفها بالشذوذ، ثمّ قال: ] واعلم أنّ المحقّقين قالوا: هذا القراءات ال يجوز تصحيحها، لأنّها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر، إذ لو جوّزنا إثبات زيادة في القرآن بطرق الآحاد لما أمكننا القطع بأنّ هذا الذي هو عندنا كل القرآن، لأنّه لمّا جاز في هذه القراءات أنّه مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك، فثبت أنّ تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن، وذلك يخرج القرآن عن كونه حجّة، ولمّا كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدّى إليه، وأمّا الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ ممّا تقدّم من وجوه:

أحدها: أنّها لمّا كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كلّ القرآن، وأنّه باطل، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.

وثانيها: أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله

__________________

(1) تفسير الخازن 1: 422.

(2) تفسير الخازن 3: 323.

٢١١

تعالى، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أن فيه لحناً وغلطاً.

وثالثها: قال ابن الأنباري: إنّ الصحابة هم الأئمة والقدوة، فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوّضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم، مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الإتّباع ..»(1) .

وقال أبو حيّان الأندلسي في( ... والمقيمين ... ) بعدما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها: «ولا يصحّ عنهما ذلك، لأنّهما عربيّان فصيحان»(2) .

وقال القنوجي: «وعن عائشة أنّها سئلت عن( المقيمين ) وعن قوله( إنّ هذان لساحران ) و( الصابئون ) في المائدة، قالت: يا ابن أخي، الكتّاب أخطأوا.

وروي عن عثمان بن عفّان أنّه فرغ عن المصحف واتي به قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيّره؟! فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً.

قال ابن الأنباري: وما روي عن عثمان لا يصحّ، لأنّه غير متّصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره، ولأنّ القرآن منقول بالتواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!

وقال الزمخشري في الكشّاف: ولا يلتفت ...»(3) .

__________________

(1) التفسير الكبير 22: 74.

(2) البحر المحيط 3: 394.

(3) فتح البيان 6: 407 - 408.

٢١٢

وقال في( إنّ هذان لساحران ) : «فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة بوجه تصحّ به وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنّه غلط من الكاتب للمصحف»(1) .

وقال الآلوسي في( والمقيمين ) : «ولا يلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن وأنّ الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبدالله وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي، إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً فلا يجوز اللحن فيه أصلاً. وأمّا ما روي أنّه لمّا فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال: قد أحسنتم وأجملتم فقد قال السخاوي: إنّه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، فإنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدّة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلاً إلاّ فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع - وهم هم - كيف يقيمه غيرهم؟!»(2) .

أقول: فهذه كلمات في ردّ هذه الأحاديث، ويلاحظ أنّ بعضهم يكتفي «بالاستبعاد»، وآخر يقول: «فيه نظر»، وثالث يقول: «لا يخفى ركاكة هذا القول»، ورابع يقول: «لا يلتفت ...»، وخامس يقول: «غريب»

ومنهم من يتجرّأ على التضعيف بصراحة فيقول: «لا يصحّ» وفي( الإتقان ) عن ابن الانباري أنّه جنح إلى تضعيف هذه الروايات(3)

__________________

(1) فتح البيان 6: 49.

(2) روح المعاني 6: 13 - 14.

(3) الإتقان 2: 329.

٢١٣

وعليه الباقلاني في «نكت الإنتصار»(1) وجماعة.

لكنّ بعضهم يستدلّ ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث، لأنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل

وجماعة ذهبوا إلى أبعد من كل هذا، وقالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها، من قبل أعداء الإسلام

فيقول الحكيم الترمذي(2) : «... ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة ...»(3) .

ويقول أبو حيّان الأندلسي: «ومن روى عن ابن عبّاس أنّ قوله:( حتى تستأنسوا ) خطأ أو وهم من الكاتب، وأنّه قرأ حتى (تستأذنوا) فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عبّاس بريء من هذا القول»(4) .

وهكذا عالج بعض العلماء والكتّاب المتأخّرين والمعاصرين هذه الأحاديث، فنرى صاحب «المنار» يقول:

«وقد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن، وعدّ رفع «الصابئين» هنا من هذا الغلط. وهذا جمع بين السخف والجهل، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من

__________________

(1) نكت الانتصار: 127.

(2) وهو الحافظ أبو عبدالله محمد بن علي، صاحب التصانيف، من أئمّة علم الحديث، له ترجمة في تذكرة الحفّاظ 2: 645 وغيرها.

(3) نوادر الاصول: 386.

(4) البحر المحيط 6: 445.

٢١٤

قواعد النحو، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ...»(1) .

ويقول: «وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصحّ كلام وأبلغه، وقيل: إنّ (المقيمين) معطوف على المجرور قبله وما ذكرناه أولاً أبلغ عبارة وإن عدّة الجاهل غلطاً ولحناً. وروي أنّ الكلمة في مصحف عبدالله بن مسعود مرفوعة، فإن صحّ ذلك عنه وعمّن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءةً، وإلاّ فهي كالعدم.

وروي عن عثمان أنّه قال: إنّ في كتابة المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، وقد ضعّف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع. فالصواب أنّها موضوعة، ولو صحّت لما صحّ أن يعدّ ما هنا من ذلك اللحن، لأنّه فصيح بليغ ...»(2) .

وهو رأي الرافعي ومحمد أبو زهرة، فقد وصف محمد أبو زهرة هذه الأحاديث المنافية لتواتر القرآن بـ: «الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم، التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، التي تجمع كما يجمع حاطب ليل، يجمع الحطب والأفاعي، مع أنّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار».

ثمّ استشهد بكلام الرافعي القائل: «... ونحسب أنّ أكثر هذا ممّا افترته الملحدة» وقال: «وإنّ ذلك الذي ذكره هذا الكاتب

____________

(1) المنار 6: 478.

(2) المنار 6: 64.

٢١٥

الإسلامي الكبير حقّ لا ريب فيه»(1) .

تأويل أحاديث الخطأ في القرآن

فهذا موقف هؤلاء من هذا القسم من الأحاديث والآثار، وعليه آخرون ممن لم نذكر كلماتهم هنا اكتفاءً بمن ذكرناه

وقد اغتاظ من هذا الموقف جماعة واستنكر بشدّة ومن أشهرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي تحامل على الزمخشري ومن كان على رأية قائلاً بعد الحديث عن ابن عبّاس «كتبها وهو ناعس»: «وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته - إلى أن قال - وهي والله فرية بلا مرية، وتبعه جماعة بعده، والله المستعان.

وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى:( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ) أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه.

وهذه الأشياء - وإن كان غيرها المعتد - لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق»(2) .

لكنّ العجب من ابن حجر لماذا أحال التأويل اللائق إلى غيره وقد كان عليه أن يذكره بنفسه وهو بصدد الدفاع عن الأحاديث الصحاح؟!

نعم، نظر بعضهم في تأويله وذكرت وجوه، فقال الداني

__________________

(1) المعجزة الكبرى: 43.

(2) فتح الباري 8: 301.

٢١٦

بالنسبة إلى ما روي عن عثمان - على فرض صحّته -: «وجهه أن يكون أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم».

وأجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها بأنّ المراد: «أخطأوا في الإختيار وما هو الأولى للجمع عليه من الأحرف السبعة، لا أنّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.

فمعنى قول عائشة: «حرّف الهجاء» القي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة، وكذا معنى قول ابن عبّاس: «كتبها وهو ناعس» يعني: فلم: فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولى من الآخر. وكذا سائرها»(1) .

وأتعب السيوطي نفسه في هذا المقام، فإنّه بعد أن أورد الآثار بيّن وجه الإشكال فيها وتصدّى لتأويلها ولننفل عبارته كاملة لننظر هل جاء «بما يليق»؟!

قال: «هذه الآثار مشكلة جدّاً، وكيف يظنّ بالصحابة أولاً: أنّهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن، وهم الفصحاء اللدّ؟! ثمّ كيف يظنّ بهم ثانياً: في القرآن الذي تلقّوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما انزل، وحفظوه وضبطوه واتقنوه؟! ثم كيف يظنّ بهم ثالثاً: اجتماعهم كلّهم على الخطأ وكتابته ثمّ كيف ظنّ بهم رابعاً: عدم تنبّههم ورجوعهم عنه؟!

ثمّ كيف يظنّ بعثمان: أنّه ينهى عن تغييره؟! ثمّ كيف يظنّ أنّ القراءة استمرّت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلفاً عن سلف؟! هذا ممّا يستحيل عقلاً وشرعاً وعادة.

__________________

(1) الإتقان 2: 329.

٢١٧

وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة:

أحدها: أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، فإذا كان الّذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهو الخيار فكيف يقيمه غيرهم؟! وأيضاً: فإنّه لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدّة مصاحف.

فإن قيل: إنّ اللحن إن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها على ذلك، أو في بعضها. فهو اعتراف بصحّة البعض، ولم يذكر أحد من الناس أنّ اللحن كا في مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلاّ فيما هو من وجوه القراءة، وليس ذلك باللحن.

الثاني: على تقدير صحّة الرواية، فإنّ ذلك محمول على الرمز والإشارة.

الثالث: أنّه مؤوّل على أشياء خالف لفظها رسمها وبهاذا الجواب وما قبله جزم ابن اشتة في كتاب «المصاحف».

وقال ابن الأنباري في كتاب (الردّ على من خالف مصحف عثمان) في الأحاديث المرويّة عن عثمان في ذلك: «لا تقوم بها حجّة، لأنّها منقطعة غير متّصلة، وما يشهد عقل بأنّ عثمان وهو إمام الامّة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبيّن فيه خللاً ويشاهد في خطّه زللاً فلا يصلحه، كلاّ والله ما يتوهّم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز، ولا يعتقد أنّه أخّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه.

ومن زعم - أنّ عثمان أراد بقوله: أرى فيه لحناً: أرى في خطّه

٢١٨

إذا أقمناه بألسنتنا كا الخطّ غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب - فقد أبطل ولم يصب، لأنّ الخطّ منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخّر فساداً في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتبٍ ولانطق، ومعلوم أنّه كان مواصلاً لدرس القرآن، متقناً لألفاظه، موفقاً على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي

ثم قال ابن أشتة. أنبأت محمد بن يعقوب، أنبأنا أبو داود سليمان بن الاشعث، أنبأنا أحمد بن مسعدة، أنبأنا إسماعيل، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر، قال: لمّا فرغ من المصحف اتي به

عثمان فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه، وبه يتّضح معنى ما تقدّم، فكأنّه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى فيه شيئاً كتب على لسان قريش، كما وقع لهم في (التابوة) و(التابوت)، فوعد بأنّه سيقيمه على لسان قريش، ثمّ وفى بذلك عند العرض والتقويم، ولم يترك فيه شيئاً. ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك. ولله الحمد.

وبعد، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء عن حديث عائشة. أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة يطابقه، فقد أجاب عنه ابن أشته - وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية - بأنّ معنى قولها «أخطأوا» أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه، لا أنّ الذي

٢١٩

كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز

وأقول: هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها، وأمّا والقراءة على مقتضى الرسم فلا.

وقد تكلّم أهل العربية عن هذه الأحرف ووجّهوها أحسن توجيه، أمّا قول:( إنّ هذان لساحران ) ففيه أوجه وأمّا قوله:( والمقيمين الصلاة ) ففيه أيضاً أوجه وأمّا قوله:( والصابئون ) ففيه أيضاً أوجه ...»(1) .

فهذا ما يتعلّق بـ «كلمات الصحابة والتابعين ...».

أحاديث جمع القرآن بين الردّ والتأويل

وأمّا الأحاديث التي رووها حول جمع القرآن، المتضاربة فيما بينها، والتي اعترف بعضهم كمحمد أبو زهرة بوجود روايات مدسوسة مكذوبة فيها(1) فقد يمكن الجمع بينها، ثمّ رفع التنافي بينها وبين أدلّة عدم التحريف والبناء على أنّ القرآن مجموع في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمرٍ منه وإليك بيان ذلك بالتفصيل:

مراحل الجمع

لقد تضاربت روايات أهل السنّة حول جمع القرآن، وعلى ضوئها اختلفت كلمات علمائهم والمتحصّل من جيمعها: أنّ الجمع للقرآن كان على مراحل ثلاث؛ الاولى: على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(1) الاتقان 2: 320 - 326.

(2) المعجزة الكبرى: 33.

٢٢٠