منهاج الصالحين ـ المعاملات الجزء ٢

منهاج الصالحين ـ المعاملات16%

منهاج الصالحين ـ المعاملات مؤلف:
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 491

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 491 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80590 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
منهاج الصالحين ـ المعاملات

منهاج الصالحين ـ المعاملات الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كان صادقا والا حرم ، والبيع في المكان المظلم الذي يستتر فيه العيب ، بل كل ما كان كذلك ، والربح على المؤمن زائدا على مقدار الحاجة ، وعلى الموعود بالإحسان ، والسوم ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وإن يدخل السوق قبل غيره والمعاملة مع من لم ينشأ في الخير والمحارفين ، وطلب تنقيص الثمن بعد العقد ، والزيادة وقت النداء لطلب الزيادة أما الزيادة بعد سكوت المنادي فلا بأس بها ، والتعرض للكيل أو الوزن أو العد أو المساحة إذا لم يحسنه حذرا من الخطأ ، والدخول في سوم المؤمن ، بل الأحوط استحباباً تركه. والمراد به الزيادة في الثمن الذي بذله المشتري ، أو بذل مبيع له غير ما بذله البائع ، مع رجاء تمامية المعاملة بينهما ، فلو انصرف أحدهما عنها أو علم بعدم تماميتها بينهما فلا كراهة ، وكذا لو كان البيع مبنيا على المزايدة ، وإن يتوكل بعض أهل البلد لمن هو غريب عنها بل الأحوط استحبابا تركه ، وتلقي الركبان الذين يجلبون السلعة وحده إلى ما دون أربعة فراسخ ، فلو بلغ أربعة فراسخ فلا كراهة ، وكذا لو اتفق ذلك بلا قصد. والظاهر عموم الحكم لغير البيع من المعاملة ، كالصلح والإجارة ونحوهما.

مسألة ٥٠ : الاحتكار وهو حبس السلعة والامتناع من بيعها ـ حرام إذا كان لانتظار زيادة القيمة مع حاجة المسلمين ومن يلحق بهم من سائر النفوس المحترمة إليها ، وليس منه حبس السلعة في زمان الغلاء إذا أراد استعمالها في حوائجه وحوائج متعلقيه أو لحفظ النفوس المحترمة عند الاضطرار ، والظاهر اختصاص الحكم بالطعام ، والمراد به هنا القوت الغالب لأهل البلد ، وهذا يختلف باختلاف البلدان ، ويشمل الحكم ما يتوقف عليه تهيئته كالوقود والات الطبخ أو ما يعد من مقوماته كالملح والسمن ونحوهما ، والضابط هو حبس ما يترتب عليه ترك الناس وليس لهم طعام. والأحوط استحبابا ترك الاحتكار في مطلق ما يحتاج إليه كالملابس والمساكن

٢١

والمراكب والأدوية ونحوها ، ويجب النهي عن الاحتكار المحرم بالشروط المقررة للنهي عن المنكر ، وليس للناهي تحديد السعر للمحتكر ، نعم لو كان السعر الذي اختاره مجحفا بالعامة ألزم على الأقل الذي لا يكون مجحفا.

٢٢

الفصل الأول

شروط العقد

البيع هو : نقل المال إلى الغير بعوض ، والمقصود بالعوض هو المال الذي يجعل بدلا وخلفا عن الآخر ، والغالب فيه في هذه الأزمنة أن يكون من النقود ، فالبيع متقوم بقصد العوضية والمعوضية ، وباذل المعوض هو البائع وباذل العوض هو المشتري ، ومن ذلك يتضح معنى الشراء ، وأما المعاوضة بين المالين من دون قصد العوضية والمعوضية فهي معاملة مستقلة صحيحة ولازمة سواء أكانا من الأمتعة أم من النقود ولا تترتب عليها الأحكام المختصة بالبيع كخياري المجلس والحيوان دون ما يشمل مطلق المعاوضات كحرمة الربا.

مسألة ٥١ : يعتبر في البيع الإيجاب والقبول ، ويقع بكل لفظ دال على المقصود ، وإن لم يكن صريحا فيه مثل : بعت وملكت ، وبادلت ونحوها في الإيجاب ، ومثل : قبلت ورضيت وتملكت وأشتريت ونحوها في القبول ، ولا تشترط فيه العربية ، كما لا يقدح فيه اللحن في المادة أو الهيئة إذا لم يمنع من ظهوره في المعنى المقصود عند أبناء المحاورة ، ويجوز إنشاء الإيجاب بمثل : اشتريت ، وأبتعت ، وتملكت وإنشاء القبول بمثل : شريت وبعت وملكت.

مسألة ٥٢ : إذا قال : بعني فرسك بهذا الدينار ، فقال المخاطب : بعتك فرسي بهذا الدينار فالأظهر صحته وترتب الأثر عليه بلا حاجة إلى ضم القبول من الآمر إذا كان المتفاهم منه عرفا إعطاء السلطنة للمخاطب في نقل الدينار إلى نفسه ونقل فرسه إليه ، والظاهر أن الأمر كذلك ، ومثله ما إذا كان

٢٣

لشخص واحد حق التصرف في المالين بأن كان ـ مثلا ـ وليا على المالكين أو وكيلا عنهما.

مسألة ٥٣ : يعتبر في تحقق العقد الموالاة بين الإيجاب والقبول فلو قال البائع : بعت ، فلم يبادر المشتري إلى القبول حتى انصرف البائع عن البيع لم يتحقق العقد ، ولم يترتب عليه الأثر ، أما إذا لم ينصرف وكان ينتظر القبول ، حتى قبل صح ، كما أنه لا تعتبر وحدة المجلس فلو تعاقدا بالتليفون فأوقع أحدهما الإيجاب وقبل الآخر صح. أما المعاملة بالمكاتبة ففيها إشكال ، والأظهر الصحة ، إن لم ينصرف البائع عن بيعه حتى قبل المشتري.

مسألة ٥٤ : الظاهر اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول في الثمن والمثمن ، وفي سائر حدود البيع والعوضين ـ ولو بلحاظ من تضاف إليه الذمة فيما إذا كان أحد العوضين ذميا ـ فلو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار بشرط أن تخيط قميصي ، فقال المشتري : اشتريت هذا الدفتر بدينار أوهذا الكتاب بدرهم أو بشرط أن أخيط عباءتك أو بلا شرط شيء أو بشرط أن تخيط ثوبي أو اشتريت نصفه بنصف درهم ، أو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار في ذمتك فقال : اشتريته بدينار لي في ذمة زيد لم يصح العقد ، وكذا في نحو ذلك من أنحاء الاختلاف ، ولو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار فقال : اشتريت كل نصف منه بنصف دينار ففي الصحة إشكال ، وكذا إذا كان إنشاء أحد الطرفين مشروطا بشيء على نفسه وإنشاء الآخر مطلقا كما إذا قال : بعتك هذا الكتاب بدينار فقال : اشتريته بشرط أن أخيط لك ثوبا ، أو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار بشرط أن أخيط ثوبك فقال : قبلت بلا شرط فإنه لا ينعقد مشروطا بلا إشكال وفي انعقاده مطلقا وبلا شرط إشكال.

مسألة ٥٥ : إذا تعذر اللفظ لخرس ونحوه قامت الإشارة مقامه وإن

٢٤

تمكن من التوكيل ، وكذا الكتابة مع العجز عن الإشارة. أما مع القدرة عليها ففي تقديم الإشارة أو الكتابة وجهان بل قولان ، والأظهر الجواز بكل منهما ، بل لا يبعد ذلك حتى مع التمكن من اللفظ.

مسألة ٥٦ : الظاهر وقوع البيع بالمعاطاة ، بأن ينشئ البائع البيع بإعطائه المبيع إلى المشتري ، وينشئ المشتري القبول بإعطاء الثمن إلى البائع ، ولا فرق في صحتها بين المال الخطير والحقير ، وقد تحصل بإعطاء البائع المبيع وأخذ المشتري بلا إعطاء منه ، كما لو كان الثمن كليا في الذمة أو بإعطاء المشتري الثمن وأخذ البائع له بلا إعطاء منه ، كما لو كان المثمن كليا في الذمة.

مسألة ٥٧ : الظاهر أنه يعتبر في صحة البيع المعاطاتي جميع ما يعتبر في البيع العقدي من شرائط العقد والعوضين والمتعاقدين ، كما أن الظاهر ثبوت جميع الخيارات ـ الآتية إن شاء الله تعالى ـ على نحو ثبوتها في البيع العقدي حتى ما يتوقف منها على اشتراطه على كلام سيأتي في المسألة (٥٩).

مسألة ٥٨ : الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من سائر المعاملات بل الإيقاعات إلا في موارد خاصة ، كالنكاح والطلاق والنذر واليمين ، والظاهر جريانها في الرهن والوقف أيضا.

مسألة ٥٩ : في قبول البيع المعاطاتي للشرط سواء أكان شرط خيار في مدة معينة ، أم شرط فعل ، أم غيرهما : إشكال ، وإن كان القبول لا يخلو من وجه ، فلو أعطى كل منهما ماله إلى الآخر قاصدين البيع ، وقال أحدهما في حال التعاطي : جعلت لي الخيار إلى سنة ـ مثلا ـ وقبل الآخر صح شرط الخيار ، وكان البيع خياريا ، وكذا إذا ذكر الشرط في المقاولة ووقع التعاطي مبنيا عليه.

٢٥

مسألة ٦٠ : لا يجوز تعليق البيع على أمر غير حاصل حين العقد سواء أعلم حصوله بعد ذلك ، كما إذا قال : بعتك إذا هل الهلال ، أم جهل حصوله ، كما لو قال : بعتك إذا ولد لي ولد ذكر ، ولا على أمر مجهول الحصول حال العقد ، كما إذا قال : بعتك إن كان اليوم يوم الجمعة مع جهله بذلك ، أما مع علمه به فالوجه الجواز.

مسألة ٦١ : إذا قبض المشتري ما اشتراه بالعقد الفاسد ، فإن علم برضا البائع بالتصرف فيه حتى مع فساد العقد جاز له التصرف فيه والا وجب عليه رده إلى البائع ، وأذا تلف ـ ولو من دون تفريط ـ وجب عليه رد مثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا ، وكذا الحكم في الثمن إذا قبضه البائع بالبيع الفاسد ، وأذا كان المالك مجهولا جرى عليه حكم المال المجهول مالكه ، ولا فرق في جميع ذلك بين العلم بالحكم والجهل به ، ولو باع أحدهما ما قبضه كان البيع فضوليا وتوقفت صحته على إجازة المالك وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

٢٦

الفصل الثاني

شروط المتعاقدين

مسألة ٦٢ : يشترط في كل من المتعاقدين أمور :

الأول : البلوغ ، فلا يصح عقد الصبي في ماله ، وإن كان مميزا ، إذا لم يكن بإذن الولي بل وإن كان بإذنه إذا كان الصبي مستقلا في التصرف إلا في الأشياء اليسيرة التي جرت العادة بتصدي الصبي المميز لمعاملتها فإن الصحة فيها لا تخلو من وجه وأما إذا كانت المعاملة من الولي ، وكان الصبي وكيلا عنه في إنشاء الصيغة فالأظهر الصحة ، وكذا إذا كان تصرفه في مال غيره بإذن المالك ، وإن لم يكن بإذن الولي.

الثاني : العقل ، فلا يصح عقد المجنون ، وإن كان قاصدا إنشاء البيع.

الثالث : الاختيار ـ بمعنى الاستقلال في الإرادة ـ فلا يصح بيع المكره وشراؤه ، وهو من يأمره غيره بالبيع أو الشراء على نحو يخاف من الإضرار به لو خالفه بحيث يكون لخوف الضرر من الغير دخل في صدور البيع أو الشراء منه ، وأما لولم يكن له دخل فيه وإن حصل له الخوف من تركه كما لولم يكن مباليا بالضرر المحتمل أو المعلوم فلا يضر بالصحة ، وكذا إذا اضطر إلى البيع أو الشراء فإنه يصح وإن اضطره الغير إليه كما لو أمره بدفع مقدار من المال ولم يمكنه إلا ببيع داره فباعها فإنه يصح بيعها ، نعم إذا حصل الاضطرار بمواطأة الغير مع ثالث ، كما لو تواطئا على أن يحبسه أحدهما في مكان ليضطر إلى بيع خاتمه ـ مثلا ـ على الثاني إزاء ما يسد به رمقه فالأظهر فساد المعاملة وضمانه لما اضطر إلى التصرف فيه بقيمته السوقية.

٢٧

مسألة ٦٣ : لو رضي المكره بالبيع بعد زوال الإكراه صح وإن كان الأحوط حينئذ تجديد العقد.

مسألة ٦٤ : إذا أكره أحد الشخصين على بيع داره ، كما لو قال الظالم : فليبع زيد أو عمرو داره فباع أحدهما داره خوفا منه بطل البيع ، وأما إذا علم إقدام الآخر على البيع وباعها صح البيع.

مسألة ٦٥ : لو أكره على بيع داره أو فرسه فباع أحدهما بطل ، ولو باع الآخر بعد ذلك صح ، ولو باعهما جميعا دفعة بطل فيهما جميعا إذا كان للإكراه دخل في بيعهما مجتمعين كما في بيع أحدهما منفردا والا فالظاهر صحة البيع بالنسبة إلى كليهما.

مسألة ٦٦ : لو أكرهه على بيع دابته فباعها مع ولدها بطل بيع الدابة ، وصح بيع الولد إلا إذا كان للإكراه دخل في بيعه معها ، كما لولم يمكن حفظه مع بيع أمه.

مسألة ٦٧ : يعتبر في صدق الإكراه عدم إمكان التفصي عنه بغير التورية ، وهل يعتبر فيه عدم إمكان التفصي بالتورية ولو من جهة الغفلة عنها أو الجهل بها أو حصول الاضطراب المانع عن استعمالها أونحو ذلك؟ وجهان ، لا يخلو أولهما عن وجه.

مسألة ٦٨ : المراد من الضرر الذي يخافه ، على تقدير عدم الإتيان بما أكره عليه ما يعم الضرر الواقع على نفسه وماله وشأنه ، وعلى بعض من يتعلق به ممن يهمه أمره فلولم يكن كذلك فلا إكراه ، فلو باع ـ حينئذ ـ صح البيع.

٢٨

البيع الفضولي :

الرابع : من شروط المتعاقدين ـ أن يكون مالكا للتصرف الناقل ، كأن يكون مالكا للشيء من غير أن يكون محجورا عن التصرف فيه لسفه أو فلس أو غيرهما من أسباب الحجر ، أو يكون وكيلا عن المالك أو مأذونا من قبله أو وليا عليه ، فلولم يكن العاقد مالكا للتصرف لم يصح البيع بل توقفت صحته على إجازة المالك للتصرف ، فإن أجاز صح والا بطل ، فصحة العقد الصادر من غير مالك العين تتوقف على إجازة المالك ، وصحة عقد السفيه على إجازة الولي ، وصحة عقد المفلس على إجازة الغرماء ، فإن أجازوا صح والا بطل ، وهذا هو المسمى بـ ( عقد الفضولي ) والمشهور أن الإجازة بعد الرد لا أثر لها ولكنه لا يخلو عن إشكال وأما الرد بعد الإجازة فلا أثر له جزما.

مسألة ٦٩ : لو منع المالك من بيع ماله فباعه الفضولي ، فإن أجازه المالك صح ، ولا أثر للمنع السابق في البطلان.

مسألة ٧٠ : إذا علم من حال المالك أنه يرضى بالبيع فباعه لم يصح وتوقفت صحته على الإجازة.

مسألة ٧١ : إذا باع الفضولي مال غيره عن نفسه لاعتقاده أنه مالك ، أو لبنائه على ذلك ، كما في الغاصب ، فأجازه المالك لنفسه صح البيع ويكون الثمن له.

مسألة ٧٢ : لا يكفي في تحقق الإجازة الرضا الباطني ، بل لابد في تحققها من قول مثل : رضيت ، وأجزت ، ونحوهما ، أو فعل مثل : أخذ الثمن ، أو بيعه ، أو الأذن في بيعه أو إجازة العقد الواقع عليه أونحو ذلك.

مسألة ٧٣ : الظاهر أن الإجازة كاشفة عن صحة العقد من حين وقوعه كشفا انقلابيا بمعنى اعتبار الملكية من حين تحقق العقد في زمن حدوث

٢٩

الإجازة ، فنماء الثمن من حين العقد إلى حين الإجازة ملك لمالك المبيع ونماء المبيع ملك للمشتري.

مسألة ٧٤ : لو باع اعتقاد كونه وليا أو وكيلا فتبين خلافه فإن أجازه المالك صح وإن رد بطل ، ولو باع باعتقاد كونه أجنبيا فتبين كونه وليا أو وكيلا صح ، ولم يحتج إلى الإجازة ، ولو تبين كونه مالكا ففي صحة البيع ـ من دون حاجة إلى إجازته ـ إشكال والأظهر هو الصحة فيما لو كان البيع لنفسه.

مسألة ٧٥ : لو باع مال غيره فضولا ، ثم ملكه قبل إجازة المالك أما باختياره كالشراء أو بغير اختياره كالأرث. ففي صحته ـ بلا حاجة إلى الإجازة ـ أو توقفه على الإجازة أو بطلانه رأسا ـ وجوه أقواها الأخير.

مسألة ٧٦ : لو باع مال غيره فضولا فباعه المالك من شخص آخر صح بيع المالك ، وبطل بيع الفضولي ولا تنفع في صحته إجازة المالك ولا المشتري.

مسألة ٧٧ : إذا باع الفضولي مال غيره ولم تتحقق الإجازة من المالك ، فإن كانت العين في يد المالك فلا إشكال ، وإن كانت في يد البائع جاز للمالك الرجوع بها عليه ، وإن كان البائع قد دفعها إلى المشتري جاز له الرجوع على كل من البائع والمشتري ، وإن كانت تالفة رجع على البائع إن لم يدفعها إلى المشتري ، أو على أحدهما إن دفعها إليه بمثلها ، إن كانت مثلية ، وبقيمتها إن كان قيمية.

مسألة ٧٨ : المنافع المستوفاة مضمونة ، وللمالك الرجوع بها على من استوفاها ، وكذا الزيادات العينية ، مثل اللبن والصوف والشعر والسرجين ونحوها ، مما كانت له مالية ، فإنها مضمونة على من استولى عليها كالعين ، أما المنافع غير المستوفاة ففي ضمانها إشكال ، ولا يبعد التفصيل فيها بين المنافع المفوتة والفائتة بثبوت الضمان في الأول دون الثانية والمقصود

٣٠

بالمنافع المفوتة ما تكون مقدرة الوجود عرفا كسكنى الدار وبالفائتة ما لا تكون كذلك كمنفعة الكتب الشخصية غير المعدة للإيجار.

مسألة ٧٩ : المثلي : ما يكثر وجود مثله في الصفات التي تختلف باختلافها الرغبات ـ والقيمي : ما لا يكون كذلك ، فالآلات والظروف والأقمشة المعمولة في المعامل في هذا الزمان من المثلي ، والجواهر الأصلية من الياقوت والزمرد والألماس والفيروزج ونحوها من القيمي.

مسألة ٨٠ : إذا تفاوتت قيمة القيمي من زمان القبض إلى زمان الأداء بسبب كثرة الرغبات وقلتها فالأظهر أن المدار في القيمة المضمون بها قيمة زمان التلف وإن كان الأحوط الأولى التراضي والتصالح فيما به التفاوت بين قيمة زمان القبض والتلف والأداء.

مسألة ٨١ : إذا لم يمض المالك المعاملة الفضولية فعلى البائع الفضولي أن يرد الثمن المسمى إلى المشتري ، فإذا رجع المالك على المشتري ببدل العين من المثل أو القيمة فليس للمشتري الرجوع على البائع في مقدار الثمن المسمى. ويرجع في الزائد عليه إذا كان مغرورا وأذا رجع المالك على البائع رجع البائع على المشتري بمقدار الثمن المسمى إذا لم يكن قد قبض الثمن ، ولا يرجع في الزائد عليه إذا كان غارا. وأذا رجع المالك على المشتري ببدل نماء العين من الصوف واللبن ونحوهما أو بدل المنافع المستوفاة أو غير ذلك ، فإن كان المشتري مغرورا من قبل البائع ، بأن كان جاهلا بأن البائع فضولي ، وكان البائع عالما فأخبره البائع بأنه مالك ، أو ظهر له منه أنه مالك رجع المشتري على البائع بجميع الخسارات التي خسرها للمالك ، وإن لم يكن مغرورا من البائع كما إذا كان عالما بالحال ، أو كان البائع أيضا جاهلا لم يرجع عليه بشيء من الخسارات المذكورة ، وأذا رجع المالك على البائع ببدل النماءات ، فإن كان المشتري مغرورا من قبل

٣١

البائع لم يرجع على المشتري ، وإن لم يكن مغرورا من قبل البائع رجع البائع عليه في الخسارة التي خسرها للمالك وكذا الحال في جميع الموارد التي تعاقبت فيها الأيدي العادية على مال المالك ، فإنه إن رجع المالك على السابق رجع السابق على اللاحق إن لم يكن مغرورا منه ، والا لم يرجع على اللاحق ، وإن رجع المالك على اللاحق لم يرجع إلى السابق إلا مع كونه مغرورا منه ، وكذا الحكم في المال غير المملوك لشخص خاص كالزكاة المعزولة ، ومال الوقف المجعول مصرفا في جهة معينة أو غير معينة ، أو في مصلحة شخص أو أشخاص فإن الولي يرجع على ذي اليد عليه ، مع وجوده ، وكذا مع تلفه على النهج المذكور.

مسألة ٨٢ : لو باع إنسان ملكه وملك غيره صفقة واحدة صح البيع فيما يملك ، وتوقفت صحة بيع غيره على إجازة المالك ، فإن أجازه صح ، والا فلا ، وحينئذ يكون للمشتري خيار تبعض الصفقة ، فله فسخ البيع بالإضافة إلى ما يملكه البائع.

مسألة ٨٣ : طريق معرفة حصة كل واحد منهما من الثمن : أن يقوم كل من المالين بقيمته السوقية ، فيرجع المشتري بحصة من الثمن نسبتها إلى الثمن نسبة قيمة مال غير البائع إلى مجموع القيمتين ، فإذا كانت قيمة ماله عشرة وقيمة مال غيره خمسة ، والثمن ثلاثة يرجع المشتري بواحد وهو ثلث الثمن ، ويبقى للبائع اثنان. وهما ثلثا الثمن ، هذا إذا لم يكن للاجتماع دخل في زيادة القيمة ونقصها ، أما لو كان الأمر كذلك وجب تقويم كل منهما في حال الانضمام إلى الآخر ثم تنسب قيمة كل واحد منهما إلى مجموع القيمتين ، فيؤخذ من الثمن بتلك النسبة. مثلا إذا باع الفرس ومهرها بخمسة ، وكانت قيمة الفرس في حال الانفراد ستة ، وفي حال الانضمام أربعة ، وقيمة المهر بالعكس فمجموع القيمتين عشرة ، فإن كانت الفرس

٣٢

لغير البائع رجع المشتري بخمسين ، وهما اثنان من الثمن ، وبقي للبائع ثلاثة أخماس ، وإن كان المهر لغير البائع رجع المشتري بثلاثة أخماس الثمن ، وهو ثلاثة وبقي للبائع اثنان.

مسألة ٨٤ : إذا كانت الدار مشتركة بين شخصين على السوية فباع أحدهما نصف الدار ، فإن قامت القرينة على أن المراد نصف نفسه ، أو نصف غيره ، أو نصف في النصفين عمل على القرينة ، وإن لم تقم القرينة على شيء من ذلك حمل على نصف نفسه لا غير.

مسألة ٨٥ : يجوز للأب والجد للأب وإن علا التصرف في مال الصغير بالبيع والشراء والإجارة وغيرها ، وكل منهما مستقل في الولاية فلا يعتبر الإذن من الآخر ، كما لا تعتبر العدالة في ولايتهما ، ولا أن تكون مصلحة في تصرفهما ، بل يكفي عدم المفسدة فيه نعم إذا دار الأمر بين الصالح والأصلح لزم اختيار الثاني إذا عد اختيار الأول ـ في النظر العقلائي ـ تفريطا من الولي في مصلحة الصغير ، كما لو اضطر إلى بيع مال الصغير ، وأمكن بيعه بأكثر من قيمة المثل ، فلا يجوز له البيع بقيمة المثل ، وكذا لو دار الأمر بين بيعه بزيادة درهم عن قيمة المثل ، وزيادة درهمين ، لاختلاف الأماكن أو الدلالين ، أونحو ذلك لم يجز البيع بالأقل ، وإن كانت فيه مصلحة إذا عد ذلك تساهلا عرفا في مال الصغير ، والمدار في كون التصرف مشتملا على المصلحة أو عدم المفسدة على كونه كذلك في نظر العقلاء ، لا بالنظر إلى علم الغيب فلو تصرف الولي باعتقاد المصلحة فتبين أنه ليس كذلك في نظر العقلاء بطل التصرف ، ولو تبين أنه ليس كذلك بالنظر إلى علم الغيب صح ، إذا كانت فيه مصلحة بنظر العقلاء.

مسألة ٨٦ : يجوز للأب والجد التصرف في نفس الصغير بإجارته لعمل ما أو جعله عاملا في المعامل ، وكذلك في سائر شؤونه مثل تزويجه نعم

٣٣

ليس لهما طلاق زوجته ، وهل لهما فسخ نكاحه عند حصول المسوغ للفسخ ، وهبة المدة في عقد المتعة وجهان ، والثبوت أقرب. ويشترط في نفوذ تصرفهما في نفس الصغير خلوه عن المفسدة وتقديم الأصلح عند دوران الأمر بينه وبين الصالح على نحو ما تقدم في تصرفهما في ماله.

مسألة ٨٧ : إذا أوصى الأب أو الجد إلى شخص بالولاية بعد موته على القاصرين نفذت الوصية ، وصار الموصى إليه وليا عليهم بمنزلة الموصي تنفذ تصرفاته مع الغبطة والمصلحة في جميع ما يتعلق بهم مما كان للموصي الولاية فيه ـ على كلام في تزويجهم يأتي في محله ـ إلا أن يعين تولي جهة خاصة وتصرفا مخصوصا فيقتصر عليه ، ويشترط في الوصي الرشد والوثاقة ، ولا تشترط فيه العدالة على الأقوى. كما يشترط في صحة الوصية فقد الآخر ، فلا تصح وصية الأب بالولاية على الطفل مع وجود الجد ، ولا وصية الجد بالولاية على حفيده مع وجود الأب ، ولو أوصى أحدهما بالولاية على الطفل ، بعد فقد الآخر لا في حال وجوده ، ففي صحتها إشكال.

مسألة ٨٨ : ليس لغير الأب والجد للأب والوصي لأحدهما ولاية على الصغير ، ولو كان عماً أوأما أو جداً للأم أو أخاً كبيراً ، فلو تصرف أحد هؤلاء في مال الصغير ، أو في نفسه ، أو سائر شؤونه لم يصح ، وتوقف على إجازة الولي.

مسألة ٨٩ : إذا فقد الأب والجد والوصي لأحدهما يكون للحاكم الشرعي ـ وهو المجتهد العادل ـ ولاية التصرف في أموال الصغار مشروطا بالغبطة والصلاح ، بل الأحوط له الاقتصار على ما إذا كان في تركه الضرر والفساد ، كما لو خيف على ماله التلف مثلا فيبيعه لئلا يتلف ، ومع فقد الحاكم أو تعذر الرجوع إليه فالولاية لعدول المؤمنين مشروطاً بما تقدم ، ولو تعذر وجود العادل لم يبعد ثبوت الولاية لسائر المؤمنين. ولو اتفق احتياج

٣٤

المكلف إلى دخول دار الأيتام والجلوس على فراشهم ، والأكل من طعامهم ، وتعذر الاستئذان من وليهم لم يبعد جواز ذلك ، إذا عوضهم عن ذلك بالقيمة ، ولم يكن فيه ضرر عليهم وإن كان الأحوط استحباباً تركه ، وأذا كان التصرف مصلحة لهم جاز من دون حاجة إلى عوض. والله سبحانه العالم.

٣٥

الفصل الثالث

شروط العوضين

يشترط في المبيع أن يكون عينا ، سواء أكان موجودا في الخارج أم في الذمة ، وسواء أكانت الذمة ذمة البائع أم غيره ، كما إذا كان له مال في ذمة غيره فباعه لشخص ثالث ، فلا يجوز بيع المنفعة ، كمنفعة الدار ، ولا بيع العمل كخياطة الثوب ولا بيع الحق كحق التحجير ـ على إشكال فيه أحوطه ذلك ـ ، وأما الثمن فيجوز أن يكون عينا أو منفعة أو عملا أو حقا كما سيأتي.

مسألة ٩٠ : المشهور على اعتبار أن يكون المبيع والثمن مالا يتنافس فيه العقلاء ، فكل ما لا يكون مالا كبعض الحشرات لا يجوز بيعه ، ولا جعله ثمنا ، ولكن هذا لا يخلو عن إشكال وإن كان هو الأحوط.

مسألة ٩١ : إذا كان الحق قابلا للنقل والانتقال كحق التحجير جاز جعله ثمنا على الأظهر ، كما يجوز جعل متعلقه بما هو كذلك ثمنا ، ويجوز جعل شيء بإزاء رفع اليد عن الحق ، حتى فيما إذا لم يكن قابلا للنقل والانتقال ، وكان قابلا للإسقاط ، كما يجوز جعل الإسقاط ثمنا ، بأن يملك البائع عليه فعل الإسقاط فيجب عليه الإسقاط بعد البيع.

مسألة ٩٢ : يشترط في كل من العوضين أن يكون معلوما مقداره المتعارف تقديره به عند البيع من كيل أو وزن أو عد أو مساحة ، فلا تكفي المشاهدة في مثله ، ولا تقديره بغير المتعارف فيه عند البيع كبيع المكيل بالوزن أو بالعكس وكبيع المعدود بالوزن أو بالكيل أو بالعكس ، نعم لا بأس بجعل الكيل وسيلة لاستعلام الوزن أو العدد ونحو ذلك ، كأن يجعل كيل

٣٦

يحوي كيلو غراما من السكر مثلا فيباع السكر به ، وأذا كان الشيء مما يباع في حال بالمشاهدة ، وفي حال أخرى بالوزن أو الكيل ، كالثمر يباع على الشجر بالمشاهدة وفي المخازن بالوزن ، والحطب محمولا على الدابة بالمشاهدة وفي المخزن بالوزن ، واللبن المخيض يباع في السقاء بالمشاهدة وفي المخازن بالكيل فصحة بيعه مقدراً أو مشاهداً تابعة للمتعارف.

مسألة ٩٣ : يكفي في معرفة التقدير إخبار البائع بالقدر ، كيلاً أو وزناً ، أو عداً ، ولا فرق بين عدالة البائع وفسقه ، والأحوط وجوباً اعتبار حصول اطمئنان المشتري بإخباره ، ولو تبين الخلاف بالنقيصة كان المشتري بالخيار في الفسخ والإمضاء ، فإن فسخ يرد تمام الثمن وإن أمضاه ينقص من الثمن بحسابه ، وإن تبين الزيادة كانت الزيادة للبائع وكان المشتري بالخيار بين الفسخ والإمضاء بتمام الثمن.

مسألة ٩٤ : لابد في مثل القماش والأرض ونحوهما ـ مما يكون تقديره بالمساحة دخيلاً في زيادة القيمة ـ معرفة مقداره ، ولا يكتفى في بيعه بالمشاهدة إلا إذا تعارف بيعه بها كما في بيع بعض الدور والفرش ونحوهما.

مسألة ٩٥ : إذا اختلفت البلدان في تقدير شيء ، بأن كان موزوناً في بلد ، ومعدوداً في آخر ، ومكيلاً في ثالث ، فالظاهر أن المدار في التقدير بلد المعاملة.

مسألة ٩٦ : قد يؤخذ الوزن شرطاً في المكيل أو المعدود ، أو الكيل شرطاً في الموزون ، مثل أن يبيعه عشرة أمنان من الدبس ، بشرط أن يكون كيلها صاعاً ، فيتبين أن كيلها أكثر من ذلك لرقة الدبس ، أو يبيعه عشرة أذرع من قماش ، بشرط أن يكون وزنها ألف مثقال ، فيتبين أن وزنها تسعمائة ، لعدم إحكام النسج ، أو يبيعه عشرة أذرع من الكتان ، بشرط أن يكون وزنه مائة مثقال ، فيتبين أن وزنه مائتا مثقال لغلظة خيوطه ونحو ذلك مما كان

٣٧

التقدير فيه ملحوظاً صفة كمال للمبيع لا مقوماً له ، والحكم أنه مع التخلف بالزيادة أو النقيصة يكون الخيار للمشتري ، لتخلف الوصف ، فإن أمضى العقد كان عليه تمام الثمن ، والزيادة إن كانت فهي له.

مسألة ٩٧ : يشترط معرفة جنس العوضين وصفاتهما التي تختلف القيمة باختلافها ، كالألوان والطعوم والجودة والرداءة والرقة والغلظة والثقل والخفة ونحو ذلك ، مما يوجب اختلاف القيمة ، أما ما لا يوجب اختلاف القيمة منها فلا تجب معرفته ، وإن كان مرغوباً عند قوم ، وغير مرغوب عند آخرين ، والمعرفة أما بالمشاهدة ، أو بتوصيف البائع ، أو بالرؤية السابقة.

مسألة ٩٨ : يشترط أن يكون كل واحد من العوضين ملكاً ، مثل أكثر البيوع الواقعة بين الناس ، أو ما هو بمنزلته ، كبيع الكلي في الذمة فلا يجوز بيع ما ليس كذلك ، مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء ، وشجر البيداء قبل أن يصطاد أو يحاز ، ولا فرق في ما يكون ملكا بين أن يكون ملكا لشخص أو لجهة فيصح بيع ولي الزكاة بعض أعيان الزكاة وشراؤه العلف لها.

مسألة ٩٩ : يشترط أن يكون كل من العوضين طلقاً ، بأن لا يتعلق به لأحد حق يقتضي بقاء متعلقه في ملكية مالكه ، والضابط فوت الحق بانتقاله إلى غيره ، ومن هذا القبيل حق الرهانة على الأظهر ، فلا يجوز بيع العين المرهونة إلا إذا أذن المرتهن أو أجاز أو فك الرهن فإنه يصح بيعها حينئذ.

مسألة ١٠٠ : لا يجوز بيع الوقف إلا في موارد :

منها : أن يخرب بحيث لا يمكن الانتفاع به في جهة الوقف مع بقاء عينه ، كالحيوان المذبوح ، والجذع البالي ، والحصير المخرق.

ومنها : أن يخرب على نحو يسقط عن الانتفاع المعتد به ، مع كونه ذا منفعة يسيرة ملحقة بالمعدوم عرفا.

ومنها : ما إذا اشترط الواقف بيعه عند حدوث أمر ، من قلة المنفعة أو

٣٨

كثرة الخراج ، أو كون بيعه أنفع ، أو وقوع خلاف بين الموقوف عليهم أو احتياجهم إلى عوضه ، أونحو ذلك.

ومنها : ما إذا طرأ ما يستوجب أن يؤدي بقاؤه إلى الخراب المسقط له عن المنفعة المعتد بها عرفا ، واللازم حينئذ تأخير البيع إلى آخر أزمنة إمكان البقاء.

مسألة ١٠١ : إذا وقع الاختلاف الشديد بين الموقوف عليهم بحيث لا يؤمن من تلف النفوس والأموال ففي صحة بيع الوقف حينئذ إشكال فلا يترك مراعاة مقتضى الاحتياط فيه.

مسألة ١٠٢ : ما ذكرناه من جواز البيع في الصور المذكورة لا يجري في المساجد ، فإنها لا يجوز بيعها على كل حال. نعم يجري في مثل الخانات الموقوفة للمسافرين ، وكتب العلم والمدارس والرباطات الموقوفة على الجهات الخاصة.

مسألة ١٠٣ : إذا جاز بيع الوقف فإن كان له متول خاص قد عهد إليه الواقف بجميع شؤونه فله بيعه من دون حاجة إلى إجازة غيره ، والا فاللازم ـ مطلقا على الأحوط ـ مراجعة الحاكم الشرعي والاستئذان منه في البيع.

وإذا بيع الوقف لطرو الخراب عليه أو ترقب طروه فالأحوط لزوماً أن يشتري بثمنه ملك ويوقف على نهج وقف الأول ـ بل الأحوط أن يكون الوقف الجديد معنوناً بعنوان الوقف الأول مع الإمكان والا فيما هو أقرب إليه فالأقرب ـ نعم لو خرب بعض الوقف جاز بيع ذلك البعض وصرف ثمنه في مصلحة المقدار العامر إن أمكن والا ففي وقف آخر إذا كان موقوفاً على نهج وقف الخراب ، وأذا خرب الوقف ولم يمكن الانتفاع به في الجهة الموقوف عليها وأمكن بيع بعضه وتعمير الباقي بثمنه فالأحوط الاقتصار على بيع بعضه فيعمر الباقي بثمنه.

٣٩

مسألة ١٠٤ : لا يجوز بيع رقبة الأرض الخراجية. وهي : الأرض المفتوحة عنوة العامرة ـ لا بالأصالة ـ حين الفتح ، فإنها ملك للمسلمين من وجد ومن يوجد ٠ ولا فرق بين أن تكون فيها آثار مملوكة للبائع من بناء أو شجر أو غيرهما ، وإن لا تكون. بل الظاهر عدم جواز التصرف فيها إلا بإذن الحاكم الشرعي ، ولو ماتت فلا يبعد بقاؤها على ملك المسلمين وعدم تملكها بالإحياء ، وأما الأرض العامرة بالأصالة حين الفتح فهي ملك للإمامعليه‌السلام ، وأذا حازها أحد كان أولى بها من غيره ما لم يمنع عنه مانع شرعي وأذا كان مؤمنا لم يجب عليه دفع عوض إزاء ذلك ، وكذا الأرض الميتة في زمان الفتح فإنها ملك للإمامعليه‌السلام ، وأذا أحياها أحد كان أحق بها من غيره ـ لولا طرو عنوان ثانوي يقتضي خلافه ـ مسلماً كان المحيي أو كافراً ، وليس عليه دفع الخراج وأجرة الأرض إذا كان مؤمناً ، وأذا تركها لمنع ظالم ونحوه حتى ماتت فهو على أحقيته بها ، ولكنه إذا ترك زرعها وأهملها ولم ينتفع بها بوجه ، جاز لغيره زرعها ، فيكون أحق بها منه وإن كان الأحوط استحباباً عدم زرعها بلا إذن من الأول إذا عرفه أو تمكن من معرفته ، إلا إذا علم أنه قد أعرض عنها ، وأذا أحياها السلطان المدعي للخلافة على أن تكون للمسلمين لحقها حكم الأرض الخراجية.

مسألة ١٠٥ : في تعيين أرض الخراج إشكال ، وقد ذكر العلماء والمؤرخون مواضع كثيرة منها. وأذا شك في أرض أنها كانت ميتة أو عامرة ـ حين الفتح ـ تحمل على أنها كانت ميتة ، فيجوز إحياؤها وحيازتها إن كانت حية ، كما يجوز بيعها من حيث كونها متعلقة لحقه وكذا نحوه من التصرفات.

مسألة ١٠٦ : يشترط في كل من العوضين أن يكون مقدوراً على تسليمه فلا يصح بيع الجمل الشارد ، أو الخاتم الواقع في البحر مثلاً ولا فرق بين العلم بالحال والجهل بها ، نعم لو كان من انتقل إليه قادراً على تسلمه

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491